رحم الله كاظم الأحمدي، القصاص والروائي والمربي والصديق، فقد جعلنا الموت نستذكره ونستحضره، وكنا قبل موته نتذكره ونفتقده، بعد أن يغيب عنا أياماً وشهوراً. نلتقيه فجأة ثم يختفي، وكانت بين حضوره وغيابه درجات من الرضا والغضب، والسؤال والجواب، والعافية والذبول، حتى جفّت الدماء في العروق، وختمت سلسلة لقاءات متقطعة، كما تختم نهاية رواية لم نكن نعرف ما خاتمتها وما طولها.
أتذكر إني التقيته لمحاً بعد صدور مجموعة قصصه الأولى (هموم شجرة البمبر) عام 1975 طافحاً بالبشر والكبرياء، ثم التقيته جليساً في المقاهي سريع الانفعال، ثم رأيته جوالاً في الأسواق صبوراً على أعباء الأسرة والحياة، ثم زاهداً بطاقية وعكاز، ثم رأيته واهناً بإبرة وريدية مشكوكة في كفه. كان سابحاً ضد تيار زمانه الجارف، مرتقياً سلّم الأدب عكس اتجاه حياته النازلة، فزاد رصيده القصصي ثلاث روايات في أعلى درجات عسره ومرضه حرجاً وارتفاعاً.
هكذا سارت أوقاتنا على درجات، كما سارت رواياته الثلاث الأخيرة على مراحل من الاستذكار، ففي تلك الأوقات التي سجلت ساعته البيولوجية هبوط نبضه حتى الصفر المحتوم، تصاعدت ذكرياته عن أبطاله الذين تركهم وراءه في أسفل السلّم بانتظار خاتمة أقواله في الأعلى. إننا نجاري في استذكاره اليوم طريقته في كتابة هذه الروايات: تناقل الأقوال من أمس الأفعال، وانجرافها اللفظي البطيء ( باتجاه القلب) الواقف عن الحركة. نقف اليوم مع بطله (عقيل) في قعر السلّم ، لا يتناهى إلى أسماعنا من جهة مؤلف الأقوال إلا رفرفة جناح اختطف الروح الصاعدة ، بلا قول أو كلام.
في أول السلّم كان (عقيل) أو (أوتللو العراقي) صبيّ الأمس الذي تلقى من زوجة مدير معمل النجارة الانجليزي أسرار الجسد وهواجس الانقسام بين الطاعة والتمرد. ثم ارتقى (أوتللو) المنقسم درجات حتى جمع أوصاله في شخصية ثائر من جيل الرابع عشر من تموز، وما زال هذا الشاب في رقيّه حتى انقسم ثانية بين حبيبته وعائلته والسلطة المستبدة، وصار محوراً لعدد كبير من الأقوال التي تلوكها عجائز محلة (المعقل) وجلساء المقهى وأفراد الشرطة. أما قرينه الروائي، الصاعد مثله في ثلاثيته الروائية، فيناله الجهد الجهيد لنقله هذه الأقوال من أمس المكان والزمان إلى مستقبل (الحروف الخمسة) التي بنيت عليها رواية (تجاه القلب)، بلا تعديل أو تأويل، إلا ما تقتضيه لغة الرواية القائمة على النقل والاسناد. ( نلاحظ استفادة الأحمدي من تقنية نقل الأخبار في التراث واسنادها إلى رواة متتابعين، من مثل: قال فلان عن فلان، أو سمعت فلان يقول..الخ). وإذا ما صحّت قراءتي لثلاثية الأحمدي الروائية، فإني أبشّر هنا بولادة خطاب (رواية الأقوال) talking fiction مقابل خطاب (رواية الأفعال) acting fiction وتطوير تقنياتها الحوارية الموروثة من خطاب المقامات والسير الشعبية.
سأجاري أيضاً طريقة الأحمدي في إجراء حوار رواياته، فأنسب درجات من تخاطب شخصياته إلى نفسينا اللتين تلازمتا طويلاً في مدينة واحدة، وتحاورتا حتى كلّتا وافترقنا. أذكر أن حواراتنا الفعلية حين اللقاء كانت تجري على درجات من البوح المبتور، فكأننا نحاكي حواراً روائياً ورد في رواية (تجاه القلب) بهذه الكلمات:” حقاً وأنت حقاً.. لقد كنتُ اعتقد بأنني.. ربما، كيف يمكنني أن أقول، إنني.. لا امتلك الجرأة .. حتى..” ص52
لا بدّ إننا كنا نختتم حديثنا المتواصل على رصيف الشارع، ساعات طويلة، بهذا البوح الذي لا يؤدي إلى فهم مشترك لحياتنا الاجتماعية والسياسية ولأدبنا القصصي المحمول على الظن والتكتم والاستنتاج الخاطئ أكثر من حمله على القراءة المتأنية والتحليل الدقيق والمكاشفة الصريحة. باعدَ بيننا الحوار المبتور، ثم الموت الصامت،ثم الاستذكار المتدرج لسيرة صاعدة بدأب وكبرياء، وما زلتُ بانتظار أقواله في قعر السلّم. كان صلداً ، جلداً، صارماً، ثم حنوناً، متآخياً، كريماً، ثم مستسلماً لقدره القريب من وريده، ثم راحلاً بعيداً، وعلى كل هذه الدرجات كان أديباً مثابراً لا يشق له غبار، وليته سمح لي أخيراً بإضافة صفة نهائية لا نزاع عليها قبل الوداع الأخير.
أتذكر إني التقيته لمحاً بعد صدور مجموعة قصصه الأولى (هموم شجرة البمبر) عام 1975 طافحاً بالبشر والكبرياء، ثم التقيته جليساً في المقاهي سريع الانفعال، ثم رأيته جوالاً في الأسواق صبوراً على أعباء الأسرة والحياة، ثم زاهداً بطاقية وعكاز، ثم رأيته واهناً بإبرة وريدية مشكوكة في كفه. كان سابحاً ضد تيار زمانه الجارف، مرتقياً سلّم الأدب عكس اتجاه حياته النازلة، فزاد رصيده القصصي ثلاث روايات في أعلى درجات عسره ومرضه حرجاً وارتفاعاً.
هكذا سارت أوقاتنا على درجات، كما سارت رواياته الثلاث الأخيرة على مراحل من الاستذكار، ففي تلك الأوقات التي سجلت ساعته البيولوجية هبوط نبضه حتى الصفر المحتوم، تصاعدت ذكرياته عن أبطاله الذين تركهم وراءه في أسفل السلّم بانتظار خاتمة أقواله في الأعلى. إننا نجاري في استذكاره اليوم طريقته في كتابة هذه الروايات: تناقل الأقوال من أمس الأفعال، وانجرافها اللفظي البطيء ( باتجاه القلب) الواقف عن الحركة. نقف اليوم مع بطله (عقيل) في قعر السلّم ، لا يتناهى إلى أسماعنا من جهة مؤلف الأقوال إلا رفرفة جناح اختطف الروح الصاعدة ، بلا قول أو كلام.
في أول السلّم كان (عقيل) أو (أوتللو العراقي) صبيّ الأمس الذي تلقى من زوجة مدير معمل النجارة الانجليزي أسرار الجسد وهواجس الانقسام بين الطاعة والتمرد. ثم ارتقى (أوتللو) المنقسم درجات حتى جمع أوصاله في شخصية ثائر من جيل الرابع عشر من تموز، وما زال هذا الشاب في رقيّه حتى انقسم ثانية بين حبيبته وعائلته والسلطة المستبدة، وصار محوراً لعدد كبير من الأقوال التي تلوكها عجائز محلة (المعقل) وجلساء المقهى وأفراد الشرطة. أما قرينه الروائي، الصاعد مثله في ثلاثيته الروائية، فيناله الجهد الجهيد لنقله هذه الأقوال من أمس المكان والزمان إلى مستقبل (الحروف الخمسة) التي بنيت عليها رواية (تجاه القلب)، بلا تعديل أو تأويل، إلا ما تقتضيه لغة الرواية القائمة على النقل والاسناد. ( نلاحظ استفادة الأحمدي من تقنية نقل الأخبار في التراث واسنادها إلى رواة متتابعين، من مثل: قال فلان عن فلان، أو سمعت فلان يقول..الخ). وإذا ما صحّت قراءتي لثلاثية الأحمدي الروائية، فإني أبشّر هنا بولادة خطاب (رواية الأقوال) talking fiction مقابل خطاب (رواية الأفعال) acting fiction وتطوير تقنياتها الحوارية الموروثة من خطاب المقامات والسير الشعبية.
سأجاري أيضاً طريقة الأحمدي في إجراء حوار رواياته، فأنسب درجات من تخاطب شخصياته إلى نفسينا اللتين تلازمتا طويلاً في مدينة واحدة، وتحاورتا حتى كلّتا وافترقنا. أذكر أن حواراتنا الفعلية حين اللقاء كانت تجري على درجات من البوح المبتور، فكأننا نحاكي حواراً روائياً ورد في رواية (تجاه القلب) بهذه الكلمات:” حقاً وأنت حقاً.. لقد كنتُ اعتقد بأنني.. ربما، كيف يمكنني أن أقول، إنني.. لا امتلك الجرأة .. حتى..” ص52
لا بدّ إننا كنا نختتم حديثنا المتواصل على رصيف الشارع، ساعات طويلة، بهذا البوح الذي لا يؤدي إلى فهم مشترك لحياتنا الاجتماعية والسياسية ولأدبنا القصصي المحمول على الظن والتكتم والاستنتاج الخاطئ أكثر من حمله على القراءة المتأنية والتحليل الدقيق والمكاشفة الصريحة. باعدَ بيننا الحوار المبتور، ثم الموت الصامت،ثم الاستذكار المتدرج لسيرة صاعدة بدأب وكبرياء، وما زلتُ بانتظار أقواله في قعر السلّم. كان صلداً ، جلداً، صارماً، ثم حنوناً، متآخياً، كريماً، ثم مستسلماً لقدره القريب من وريده، ثم راحلاً بعيداً، وعلى كل هذه الدرجات كان أديباً مثابراً لا يشق له غبار، وليته سمح لي أخيراً بإضافة صفة نهائية لا نزاع عليها قبل الوداع الأخير.