أنطون سعاده - الإثم الكنعانيّ

تحديد المتّحد(1)
إذا كانت الدّولة مظهراً سياسيّاً من مظاهر الاجتماع البشريّ فالأمّة واقع اجتماعيّ بحت. ودرس الأمم ونشوئها هو درس اجتماعيّ، لا درس سياسيّ، وإن كان لا غنى للعلم السّياسيّ عن درس الأمّة والقوميّة لأهميتهما في النّظريّات السّياسيّة وفعلهما في تغيير مجرى الشّؤون السّياسيّة وإصلاح المعتقدت والمبادىء السّياسيّة، كما مرّ في الفصل السّابق.
وإذا كانت الأمّة واقعاً اجتماعيّاً، وإنّها لكذلك، فما تحديد هذا الواقع الاجتماعيّ وما أسبابه وخصائصه ومميّزاته؟ وما هي روحيّته أو عصبيّته، الّتي نسميّها القوميّة(2) وكيف نفهمه؟
قد رأينا في “بحثنا الاجتماع البشريّ”، في الفصل الرّابع من هذا الكتاب، أنّ الحياة البشريّة، ككلّ حياة أخرى، تجري وفاقاً لناموس عامّ هو ناموس العلاقة البيولوجيّة المثلّثة الأضلاع: الجسم ــــ النّفس (الدّماغ) ــــ المحيط فهل يعني ذلك أنّ اشتراك الكائنات الحيّة في هذا النّاموس العامّ يمكن أن يولّد اجتماعاً عامّاً بين الإنسان والحيوان وأن يكوّن متّحدات عامّةً أو مشتركةً بين أنواع الحيوان والإنسان؟ وهل، إذا وجدنا في عالم الحيوان أنواعاً اجتماعيّةً تجمهريّة قائمةً على أساس هذا النّاموس المشترك، كالنّمل والنّحل والذّئاب وغيرها، يصحّ أن نبحث في إنشاء متّحدات من هذه الأنواع والإنسان بناءً على إضافة ناموس آخر مشترك هو ناموس الاجتماع؟ وإذ كان الجواب على كلّ هذه الأسئلة نفياً فما هو السّبب المنطقيّ، الّذي نحتاج إليه دائماً في إقناع عقولنا المنطقيّة؟
السّبب هو أنّ النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة، لا أن الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموساً أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع. وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسةً وهميّةً تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة.
إنّ القياس كان ولا يزال مصيبةً كبيرةً في الأبحاث العلميّة الاجتماعيّة، خصوصاً في الأبحاث الّتي لا تجرّد علم الاجتماع من النّظريّات الفلسفيّة، من الفلسفة الاجتماعيّة، وهو الالتجاء إلى القياس ما أوجد شيئاً كثيراً من الخلط في المسائل الاجتماعيّة عموماً ومسألة الأمّة والقوميّة خصوصاً. فالكلام السّياسيّ عن الأمّة، مثلاً، أنّها مجموع ذو إرادة واحدة، قد قاد إلى جعل الإرادة غرضاً معيّناً من أغراض الحياة الاجتماعيّة، أو تمثّلها بصورة الإردة الفرديّة كما في القول: أريد السّفر إلى أميركة أو أريد أن أشرب. والحقيقة أنّ الإرادة الاجتماعيّة ليست في هذه البساطة، فلا تكفي إرادة عدد من النّاس، من مجتمع واحد أو من مجتمعات متعدّدة، السّفر إلى أميركة لإنشاء متّحد. بل إنّ الاشتراك الفعليّ في تنفيذ هذه الإرادة لا يولّد متّحداً. إنّ ركّاب السّفينة لا يشكّلون متّحداً، لأنّهم يشتركون في مصلحة واحدة هي السّفر وإرادة واحدة هي الانتقال، فإن لم يكونوا متّحداً من قبل فهم ليسوا متّحداً.
ولقد أشرنا في غير موضع من هذا الكتاب إلى أنّ الاجتماع البشريّ ليس اجتماعاً مطلقاً أو اختياريّاً مطلقاً. فإذا كان الاجتماع صفةً عامّةً في الإنسانيّة فهذا لا يعني أنّ الإنسانيّة مجتمع واحد يسري فيه الاجتماع بمجرّد الإنسانيّة. فالسّوريّ المسافر إلى أميركة ليس كالمنتقل من دمشق إلى بيروت أو القدس، من وجهة الاتّحاد الاجتماعيّ ويعظم التّباين في انتقاله إلى الصّحراء مثلاً. وقد نجد في بعض الدّروس العلميّة الاجتماعيّة أوضاعاً تصنيفيّةً عامّةً كالاصطلاح على نعت مرتبة الرّابطة الاجتماعية الاقتصاديّة بمرتبة أو مظهر العلاقة الاختياريّة(3) بالنّسبة إلى العلاقة الدّمويّة الأوّليّة. فمثل هذا الاصطلاح قد يحمل على تصوّر اختيار استبداديّ أو اختيار مطلق والواقع غير ذلك. لا يختار الإنسان المجتمع الّذي يعيش فيه أكثر ممّا يختار والديه، ولكنّه قد يخيّر أمّه على أبيه أو العكس، ليس المجتمع Contrat Social [تعاقد اجتماعي] أساسه الفرد. وفي المجتمع يختار المرء من ينشىء علاقات معهم اختياراً لا يخلو من تقيّد ولا نريد أن نبني هنا فلسفةً اجتماعيّةً كالفلسفة الّتي يقول بها تكاتا اليابانيّ أو شمالنبخ الألماني(4) اللّذان يذهبان إلى أنّ رابطة الاجتماع في المستقبل ستكون رابطة الميل أو العاطفة. فذلك طور لا نعرف متى يكون، على افتراض أنّه كائن لا محالة، ولا كيف يكون.
إذا كانت البشريّة ليست مجتمعاً أو متّحداً فما هي إذاً؟ هي مجتمعات ومتّحدات. ولماذا هي كذلك؟ ولنوضح أكثر ونسأل: ما هي العوامل والأسباب الّتي تولّد المجتمعات وتكوّن المتّحدات؟
إنّ الجواب على بعض هذا السّؤال قد أعطي في «المجتمع وتطوّره»، ففي هذا البحث تكّلمنا عن الرّوابط الاجتماعيّة الاقتصاديّة الفاعلة في تطوير المجتمع عموماً، أي كلّ مجتمع تتناوله هذه الرّوابط نفسها. ولكنّ المجتمع عموماً ليس المتّحد الخاصّ المعيّن. فكيف نعيّن المتّحد بالنّسبة إلى ما نسميّه أحياناً المجتمع الإنسانيّ إلى الإنسانيّة؟
هل مجرّد انتشار ثقافة ماديّة وروحيّة واحدة بين عدد من الجماعات البشريّة يولّد من هذه الجماعات متّحداً رابطته الثّقافة؟ إذا كان الجواب نفياً ولم تكن الثّقافة الواحدة أساساً للمتّحد فما هي عوامل المتّحد وروابطه؟
إنّ الثّقافة العامّة تفرّق بين أنواع المتّحدات، لا بين المتّحدات، فهي أولّ شاطر بين الجماعات الأوليّة والفطريّة الجاهليّة وبين المجتمعات العمرانيّة الرّاقية، ولكنّ الثّقافة ليست من الصّفات الطّبيعيّة الشّخصيّة الّتي لا تنتقل وسنعود إلى درسها فيما يلي. أمّا الآن فنريد أن نضع قاعدةً عامّةً للمتّحد ندرسه عليها.
أريد أن أجاري هنا مكيور في إيضاحه المتّحد أنّه كلّ مساحة تشتمل على حياة مشتركة وتكون متميّزةً عن المساحات الأخرى تميّزاً لا تصحّ بدونه تسمية المتّحد(5). فالقرية متّحد، والمدينة متّحد، والمنطقة متّحد، والقطر متّحد، ولكلّ متّحد خصائص تميّزه عمّا سواه ممّا هو أصغر منه أو أوسع منه، أقلّ منه أو أكثر منه. فإذا سلّمنا بالافتراض أنّ المرّيخ مأهول وأنّ فيه نوعاً من البشر يحيون في جوّه وأرضه حياةً توافق ذلك الجوّ وتلك الأرض، صحّ أن يكون النّاس على هذه الدّنيا متّحداً مشتركاً، على ما فيه من متناقضات، في خصائص تميّزه عن متّحد سكّان المرّيخ، الّذين، على ما قد يكون لهم من فوارق متناقضة، لا بدّ أن يشتركوا في خصائص حياتهم العامّة المميّزة لهم عن سكان كلّ سيّار آخر، الموجدة لهم إمكانيّات تفاعل داخليّ تحدّد مجموعهم بالنّسبة لمجموع هذه الدّنيا ويكون أساس هذه الإمكانيّات خصائص النّوع، ويكون معنى هذا المتّحد منتهى التّوسّع في استعمال هذه اللّفظة الّتي تفيد التّجانس والتّلاحم والّتي أريد بعد الآن أنّ أقتصر فيها على الواقع الاجتماعيّ، على الجماعة المشتركة في حياة واحدة تكسبها صفات مشتركةً بارزةً وتسبغ عليها ما يمكننا أن نسمّيه شخصيّةً ووحدةً خاصّةً بالنّسبة إلى الوحدة الإنسانيّة العامّة. فإنّ شرط المتّحد ليس أن يكون مجموعاً عدديّاً من ناس مشتركين في صفات النّوع الإنسانيّ العامّة فحسب، بل مجموعاً متّحداً في الحياة متشابهاً أفراده في العقول والأجسام تشابهاً جوهريّاً. ولا نقصد بهذا التّشابه شيئاً سلاليّاً بحتاً ولكنّنا نقصد ما عناه بواس في الإجابة العضويّة على محرّضات البيئة الّتي تحدّد المتّحد. ومن إيضاح بواس نعلم أنّ التّشابه العقليّ والفيزيائيّ نتيجة، لا سبب. فهو ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة فالنّقاد الخبير يقدر أن يميّز بين الدّمشقيّ والبغداديّ والبيروتيّ أو بين الجبليّ والسهليّ من بعض الصّفات الّتي يتحلّى بها كلّ من هؤلاء وتنطبع فيهم بعامل متّحد كلّ منهم. كذلك يمكنك حإلا أن ترى الفوارق المميّزة بين السّوريّ والمصريّ وتدرك في مقابلتهما أن الواحد منهما ينتمي إلى غير متّحد الآخر. فمتّحد المدينة والمنطقة واقع اجتماعيّ وكذلك متّحد القطر.

إنّ الاشتراك في الحياة يوّلد اشتراكاً في العقليّة والصّفات كالعادات والتّقاليد واللّهجات والأزياء وما شاكل. وعدم الاشتراك في الحياة يوهي أشدّ الرّوابط متانةً كالرّابطة الدّمويّة وهو ما تنّبه له وذكره ابن خلدون في مقدّمته [ص 142] ومنه القول: «النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضرّ»، أي إنّ النّسب متى صار من باب العلم وفقد الاشتراك في الحياة الواحدة أصبح لا تنفع معرفته ولا يضرّ نسيانه أو جهله.
الاشتراك في الحياة هو ما يعمى عنه عدد وافر من الكتّاب والدّارسين حين يتكلّمون عن المتّحد أنّه جماعة لها صفات مشتركة من عادات وتقاليد ولهجات، حتّى إنّهم يجعلون هذه الصّفات الأساس الّذي يقوم عليه المتّحد، فيأخذون عدداً من الصّفات العامة المشتركة ويحاولون أن يجعلوا من الّذين تنطبق عليهم هذه الصّفات متّحداً واحداً لا يتقيّد بمساحة ولا تربطه بيئة. وهم في فعلهم هذا ينسون أو يجهلون أنّ هنالك صفات عامّةً تسري على جميع البشر من غير أن تجعل منهم متّحداً. فالمتحد هو دائماً أمر واقع اجتماعيّ. وأنّ من الصّفات ما قد يميّز جماعات من النّاس عنّ جماعات أخرى من غير أن يعني ذلك وجود متّحد منها. فإنّ الصّفات تتبع المتّحد لا المتحد الصّفات.
لنتوسّع في درس هذا الموضوع ولننظر في التّخبّط الّذي يجرّنا إليه حسبان صفات مشتركة أساساً للمتّحد. إذا سلّمنا بهذه النّظريّة، سلّمنا بأنّ الصّفات من عادات وتقاليد ومناقب هي صفات ثابتة لا تتغيّر ولا تتحوّل ولا تنتقل ولا تكتسب، بحيث يتحتّم على المشتركين في مجموعة معيّنة منها أن يكوّنوا متّحداً خاصاً محدّداً بهذه الصّفات كلّ التّحديد أو يمتنع عليهم الدّخول في متّحد تسري عليه صفات تتميّز عن صفاتهم ويكون الاختلاف في الصّفات بمثابة اختلاف طبيعيّ وراثيّ. وهذا يعني إلا يؤمّل السوريون والإنكليز والطليان والألمان إنشاء متّحد في نيويورك أو في الولايات المتّحدة عامةً، أو الدّخول في المتّحد الأميركانيّ، لأنهم أقوام لكلّ منها صفات خاصّة تميّزه عن القوم الآخر، أو تختلف عن الصّفات السّارية على محيط المتّحد الأميركانيّ، ولكنّنا كلّنا نعلم أنّ السّوريّ الّذي يهاجر إلى أميركة لا يلبث، إذا أقام، أن تتبدّل صفاته الخاصّة ويكتسب صفات المتّحد الأميركانيّ الخاصّة. فكيف زالت صفاته الأولى الثّابتة الّتي كانت تميّزه عن الأميركان، ومن أين جاءته الصّفات الأميركانيّة الّتي أصبحت تميّزه عن السّوريّين؟ أليس في هذا الواقع برهان مفحم على أنّ الصّفات ليست أساس المتّحد وأنّ أساس المتّحد والصّفات هو الاشتراك في الحياة الواحدة؟ بلى. فحيثما اجتمع جمهور كبير من السّوريّين في أميركة وقلّ اختلاطهم مع الأميركان وظلّوا محافظين على اشتراكهم في حياتهم، في متّحدهم، فهم يكتسبون كثيراً من طابع البيئة ولكنّهم يظلّون متّحداً متميّزاً عن الأميركان بنسبة إقلالهم من الاشتراك في الحياة الأميركانيّة وعكفهم على حياتهم السّوريّة. وكلّما قلّ تعاشرهم فيما بينهم وازداد اشتراكهم في الحياة الأميركانيّة ازداد تخلّقهم بأخلاق الأميركان واكتسابهم صفاتهم. وإذا كانت أميركة بعيدةً على القارىء في سورية فلنأخذ مصر مثلاً. ألسنا نرى اشتراك السّوريّين المقيمين في مصر في الحياة المصريّة يكسبهم، تدريجاً، صفات مصريّةً فيعود واحدهم إلى سورية يخاطبك بلهجة «ازيّك» بدلاً من «كيف حالك» و«خبر إيه؟» بدلاً من «شو صار» إلخ. أو ليس عدم حصول هذه الصّفات لهم إلا بعد إقامتهم في مصر دليل على أنّ صفات المتّحد قائمة على أساس الاشتراك في الحياة، لا أنّ الاشتراك في الحياة قائم على أساس الصّفات؟
لنأخذ متّحداً صغيراً يمكننا أن نراقبه في جزئياته أكثر من المتّحد الكبير كالشّوير، مثلاً، أو صوفر أو مشغرة أو بلودان أو معلولا أو بيروت أو دمشق أو نابلس أو بغداد. إذا أخذنا الشّوير مثلاً وجدنا أنّ للشّويريّين لهجةً خاصّةً في النّطق، واشتراكاً في صفات نفسيّة أو خلقيّة خاصّة كاشتهارهم بالصّلابة والعناد، وعادات ومظاهر خاصّة في نوع معيشتهم والحرف الّتي يحترفونها، ناتجة عن اختباراتهم الخاصّة. ولا بدّ لمن هو غير شويريّ من ملاحظة بعض مظاهر خاصّة من حياة الشّويريّين اليوميّة. ومع أنّ عادات ومظاهر أهل بكفيّا تقرب كثيراً من عادات ومظاهر أهل الشّوير فإنّ لكلّ واحدة من هاتين البلدتين بعض الصّفات الخاصّة الّتي لا بدّ أن يظهر أثرها وفرقها في المعاشرة لتدلّ على أنّ ابن الشّوير وابن بكفيّا من متّحدين لا من متّحد واحد. فهل يعني ذلك أنّهما من متّحدين، لأنّهما متميّزان الواحد عن الآخر، أو أنّهما متميّزان، لأنّهما من متّحدين اثنين؟ ولا شكّ أنّ الوجه الثّاني هو الصّواب في بحثنا عن السّبب في حين أنّ الوجه الأوّل صواب في الاستدلال، لأنّنا نرى الشوّيريّ والبكفيــيّ يفقدان خصائصهما المميّزة إذا تركا متّحديهما وسكنا بيروت، مثلاً، مدةً طويلةً تسمح للبيئة الاجتماعيّة بالتّأثير عليهما أو إذا جيء بهما إلى بيروت طفلين وربيا فيها. وليس من ينكر الفوارق بين متّحدي بيروت ودمشق، مثلاً، فلهجة البيروتيّ ومظهره الخارجيّ ونوع حياته، من الوجهة الخاصّة، وبعض اتّجاهاته النّفسيّة، كلّ هذه تميّزه عن الدّمشقيّ. ولكنّ جميع هذه المتّحدات الصّغيرة وألوفاً مثلها تؤلّف متّحداً واحداً هو المتّحد القوميّ أو متّحد الأمّة أو متّحد القطر، أسماء لمسمًى واحد. وهي في مجموعها تشكّل وحدةً يعمّ في أفرادها التّجانس العقليّ والتّجانس في الهيئة والمظهر، التّجانس الّذي هو أكثر وأقوى من الفوارق الجزئيّة. وشرط كلّ متّحد يصحّ أن نسمّيه متّحداً أن يكون تجانسه أقوى وأكثر من تباينه.
عند هذا الحدّ يمكننا أن نعيّن المتّحد بالنّسبة إلى صفاته بأنّه اتّحاد مجموع من النّاس في حياة واحدة على مساحة محدودة يكتسب من بيئته ومن حياته المشتركة الخاصّة صفات خاصّةً به إلى جانب الصّفات العامّة المشتركة بينه وبين المحيط الّذي هو أوسع منه، بينه وبين جميع البشر، وبينه وبين المتّحدات الأخرى. أمّا تحديد المتّحد بأنّه صفات مشتركة تشتمل على عدد من النّاس بصرف النّظر عن حدود المساحة والاشتراك في الحياة، فمن الأخطاء الّتي أدّت إلى كثير من البلبلة والهذر.
لنترك هنا تحليل المتّحد من حيث صفاته ولنأخذ في تحليله من وجهة أعمق من وجهة الصّفات: من وجهة العلاقات، من وجهة الأغراض والمصالح والإرادة. فممّا لا شكّ فيه أنّ وضع عدد من المشدوهين أو المجانين في بقعة محدّدة من الأرض لا يكوّن متّحداً اجتماعيّاً، كما أنّ اجتماع عدد من المسافرين على باخرة أو في عربة قطار لا يكوّن متّحداً. ولقد تكلمنا عن الإرادة والمسافرين في بداءة هذا الفصل ونزيد هنا أنّه إذا كانت الإرادة خاصّةً ملازمةً لكلّ متّحد فلا يحسن أن نتجاهل الواقع فنظنّ أنّ التّوافق في إرادة معيّنة أو إرادات معيّنة يكفي لإيجاد المتّحد. فإذا تكلّم العلماء عن عوامل الاجتماع ووصفوها بأنّها قوى أو توافق المصلحة والإرادة فيجب إلا يبادر إلى تكوين اعتقادات سطحيّة بشأن المصلحة والإرادة بحيث تستعمل المصلحة بالمعنى التّجاريّ البحت وتستعمل الإرادة بالمعنى الفرديّ أو الاستبدادي. فلا يتصوّرنّ أحد أنّ تأليف شركة تجاريّة من سوريّين وإنكليز لاستثمار بعض أسواق الصّين أو البرازيل يؤلّف متّحداً اجتماعيّاً من أفراد الشّركة بناءً على تعريف الشّركة بأنّها هيئة تجمع المصلحة والإرادة، والمصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع أو المتحد. ومن تصوّر شيئاً من ذلك فقد اختلط عليه ما هو شأن المتّحد وما هو شأن الجمعيّة أو الشّركة.
نتكلّم عن المصلحة والإرادة متابعةً للاصطلاح العامّ، ولأنّ المصلحة والإرادة أوفى بالتّعبير وأوضح. فالحبّ الجنسيّ، مثلاً، هو أشدّ من مصلحة، هو حاجة بيولوجيّة، والجوع كذلك حاجة بيولوجيّة ولكنّ سدّ الجوع مصلحة ترتقي أو تنحطّ، وإرواء الحبّ مصلحة ترتقي إلى أعلى مراتب النّفسيّة وتنخفض إلى أدنى مراتب الحيوانيّة ــــ البيولوجيّة، والتّوسّع في معنى المصلحة يشمل كلّ ما تنطوي عليه النّفس الإنسانيّة في علاقاتها. وبهذا المعنى نتكلّم عن المصلحة الاجتماعيّة. وإذا كانت المصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع فواحدها سلبيّ وهو المصلحة والآخر إيجابي وهو الإرادة، فالمصلحة هي الّتي تقرّر العلاقات جميعها والإرادة هي الّتي تحقّقها. وبديهيّ أنّه لا إرادة حيث لا مصلحة، فحين يجوع الإنسان يريد أن يأكل وحين يعطش يريد أن يشرب وحين يشتاق يريد أن يحبّ. فالمصلحة هي طلب حصول ارتياح النفس. وتحقيق ارتياح النّفس هو غرض الإرادة. وهكذا نرى أنّ المصلحة غير المنفعة أو الفائدة، وليست هي دائماً وليدة الشّعور بالحاجة ولا هي والحاجة شيئاً واحداً. إنّنا نعني بالمصلحة في هذا البحث كلّ ما يولّد أو يسبّب عملاً اجتماعيّا وبناءً على هذا التّعريف يمكننا أن نقول إنّ رابطة المتّحد هي رابطه المصلحة، فالمصلحة وراء كلّ متّحد. وكلّما نمت الحياة وازدادت ازدادت المصالح الّتي تولّد الاجتماع وقلّت المصالح المفرّقة.
كما أدّى استعمال الأمثال في الكلام على المجتمع إلى شيء كثير من الهذر، كذلك أدّى الكلام غير المنقود إلى إساءة فهم وإساءة استعمال المقصود من المصلحة والإرادة. وتجنّباً للوقوع في فوضى الاصطلاحات الّتي عمّمتها لغة الجرائد في قطرنا تعميماً فاضحاً يجعل كلّ دراسة جدّية لوضع الأشياء في مواضعها عملاً شاقاً، رأيت أن أعرض هنا للمحة من المصالح الاجتماعيّة الّتي يمكننا أن نسميها مصالح المتّحد، أو مصالح لها خصائص ربط النّاس في متّحد.

إنّ المصالح، مبدئياً، صنفان يجب إلا يصير بينهما خلط وتداخل كما يحدث عادةً في تعميم المصطلحات الفنيّة. فهنالك المصالح المتشابهة أو الشّكليّة التي هي لكلّ فرد مثلما هي لكلّ فرد آخر، كتحصيل المعاش أو ربح الصّيت أو جمع الثّروة، أو أيّ مصلحة أخرى شخصيّة خاصّة. فهذه المصالح هي شكليّة أو متشابهة ولكنّها لا تقتضي اتّحاد من يريدونها أو إيجاد علاقة اجتماعيّة ثابتة فيما بينهم. وهنالك المصلحة العامّة أو المشتركة الّتي يجمع عدد من النّاس على الاشتراك في تحقيقها لأنّها تشمل الكلّ، كمصلحة خير القرية أو المدينة أو القطر. ومهما كان الباعث على العمل لهذه المصلحة، فالمصلحة نفسها تظلّ مصلحة الجميع لأنّها تشملهم، أي إنّه قد يكون حبّ المجد هو الموحي أو الدافع لبعض الأشخاص على العمل للمصلحة العامّة، فتكون المصلحة في هذا المثل مركّبةً بالنّسبة إلى الشّخص، ولكنّها بالنّسبة إلى العموم عامّة بسيطة، وهنا نضطرّ إلى التّمييز بين المصلحة العامّة الأوّليّة بالنّسبة إلى الكلّ وبين المصلحة العامّة الثّانويّة بالنّسبة إلى الشّخص الّذي يتّخذ من المصلحة العامّة وسيلةً لمصلحة شكليّة شخصيّة هي المصلحة الأوليّة له. فالأساس الاجتماعيّ للمصلحتين واحد هو خير المجتمع وهو وحده يوجد علاقة المصلحة الاجتماعيّة الثّابتة. ومهما يكن من الأمر في هذه المسألة فمصلحة المتّحد تظلّ قائمةً لأنّها دائمة وهي تختلف عن مصلحة قريبة منها هي مصلحة الشّركة، فهذه المصلحة تقوم على أساس المصلحة الشّخصيّة البحت، وكلّ اعتباراتها العامّة مقرّرة بالمصلحة الشّكليّة لكلّ شخص فهي خصوصيّة قبل كلّ شيء، لأنّ غرضها خصوصيّ، معيّن ومحدّد. فإذا رجعنا إلى مثل الشّركة السّوريّة ــــ الإنكليزيّة المتاجرة بصنف معيّن وجدنا أنّه متى وجدت شركة من هذا النّوع نفسها تجاه حالة لا تسمح بالإثراء الّذي هو غرضها، لم يبق للشّركاء أيّة مصلحة أخرى يجب اعتبارها، والشّركة تزول بزوال غرضها. الشّركة وسيلة مصالح خصوصيّة متماثلة. أمّا المتّحد فهو مجمع الحياة الاجتماعيّة. هو مقرّ الأحياء المتّحدين في الحياة بكلّ مصالحها. الشّركة أو الجمعيّة هي شيء جزئيّ أمّا المتّحد فشيء شامل كامل فيه تقوم جمعيّات من كلّ نوع وتزول وهو مرجعها. هو أكبر وأوسع من أيّة جمعيّة ومصلحة عموميّة وبعضها ثابت لا يزول إلا بزوال الحياة، باندثار المتّحد كما بنكبة من النّكبات.
يجب إلا يفهم من هذا الإيضاح أيّ تناقض بين ما نقوله هنا وبين ما قلناه في الفصل الخامس من أنّ رابطة الاجتماع الأساسيّة هي الرّابطة الاقتصاديّة. فيجب أن لا نتصوّر الرّابطة الاقتصاديّة عبارةً عن عمليّة اقتصاديّة أو غرض من أغراض الرّبح الاقتصاديّ، بل مصلحة تأمين حياة الجماعة وارتقائها. ولذلك يمكننا أن نعدّ المصالح المتشابهة الجوهريّة من أهمّ المصالح الاجتماعيّة. فتأمين سدّ حاجة الجوع والبرد يسهل جداً في الاجتماع، وكلّ مجتمع لا يؤمّن سدّ هذه الحاجات لا يمكنه أن يثبت، ولهذا السّبب نرى الأفراد الذّين لا يجدون تأميناً لمصالحهم الحيويّة في متّحدهم يهجرونه حالما يتمكّنون من ذلك، إلى بيئة جديدة يجدون فيها غرضهم الأوّليّ. حيثما وجد متّحد كانت مصلحة حياة كلّ فرد من أفراده، مصلحة حياته العامّة، أولى مصالحه. إنّ مصالح الحياة هي مصالح كلّ متّحد ولكن ليست مصالح أي متحد مصالج كل متحد، لأنّ مصالح المتّحد ليست بيولوجيّةً فقط، بل هي مصالح نفسيّة (عقليّة) ومصالح حيويّة نوعيّة أيضاً. وقديماً ميّز أرسطو بين «الحياة» و«الحياة الجيّدة»(6) ، فإذا كانت مصالح الحياة الجيّدة كذلك، فإنّ مصالح الحياة الجيّدة هي الّتي تتنوّع وتتّحد بتنوّع المتّحدات وتحدّدها، مولّدةً أنواعاً جديدةً من الاشتراك في الحياة. ولكنّ جميع هذه المصالح لا تقوم إلا على أساس المصلحة الاقتصاديّة، وقد رأينا في درسنا «المجتمع وتطوّره» كيف ارتقى المجتمع وفاقاً لنجاح المصلحة الاقتصاديّة.
إذا كانت المصلحة الاقتصاديّة أساسيّةً في كلّ مجتمع فهو لأنّها تخدم كلّ مصلحة أخرى حيويّة أو نفسيّة. والمتّحدات جميعها تتماثل في أنّ لها مصالح حيويّةً ولكنّها تتفاوت في هذه المصالح وفي مصالح الحياة الجيّدة بالنّسبة إلى المرتبة الثّقافيّة والدّرجة الاقتصاديّة. ففي القبائل الّتي لا تزال على درجة الرّابطة الدّمويّة نجد المصالح القائمة على الحاجات الحيويّة العضويّة أكثرها من نوع المصالح الجنسيّة وهي المصالح الّتي تتعلّق بالزّواج والعائلة والنّسب، أمّا مصالح الحاجات الحيويّة اللاجنسيّة، أي مصالح الطّعام والشّراب واللّهو وغيرها فهي بسيطة جداً من رعاية وجمع نبات وثمر. وأمّا مصالح الحاجات النّفسيّة (العقليّة) فقليلة وضعيفة جداً وهي تنحصر في بعض القصائد أو الأغاني وكلّها تدور على محور العلاقات الجنسيّة والحرب أو الغزو وفي الدّين الّذي يعني التّسليم لإرادة عليا أو لقوّة خارقة، لله القدير العلام، خالق السموات والأرض. وجميع هذه المصالح عامّة في المجتمع الفطريّ ومتداخلة، فهي مركّب.
الحقيقة أنّ المصالح لا تتعدّد وتتعيّن إلا في المجتمعات الرّاقية وفي هذه المجتمعات تتحدّد المصالح وتولّد جمعيّات معيّنةً. والمصالح وجمعيّاتها تتميّز وتتنوّع بحيث تجعل وحدتها أتمّ وأوضح.
في المتّحد الرّاقي نجد المصالح جميعها تتنوّع وتتعيّن بتنوّعها، وتؤدّي إلى إنشاء جمعيات من كلّ نوع منها، تجمع كلّ جمعيّة الأفراد العاملين لمصلحتها. وهذه المصالح على ثلاثة أنواع: النّوع الأساسيّ وهو يشمل المصالح الحيويّة والمصالح النّفسيّة (العقليّة). والمصالح الحيويّة هي.
أوّلاً: الجنسيّة، وجمعيّاتها العائلة في أشكالها.
ثانياً: اللاجنسيّة، وهي ما تعلّق بالغذاء واللّباس والمدرأ وتؤدّي إلى إنشاء الجمعيّات الزّراعيّة والصّناعيّة والتّجاريّة وجمعيّات الصّحة والطّبّ والجراحة. والمصالح النّفسيّة هي.
أوّلاً: المنطقيّة من علميّة وفلسفيّة ودينيّة وتهذيبيّة، وتتّحد في الجمعيّات العلميّة والفلسفيّة والدّينيّة، (الكنيسة) والتّربويّة. وفي المدارس والمعاهد التّهذيبيّة.
ثانياً: الفنّيّة. وتتناول جمعيّات الرّسم والدّهان والموسيقى والتّمثيل والأدب.
ثالثاً: المصالح الخصوصيّة، مصالح السّلطة والجاه. والعاملون لها ينشئون الأندية الخاصّة والجمعيّات العسكريّة والقوميّة. ثمّ تأتي المصالح الاقتصاديّة البحتة (تمييزاً لها عن المصالح الاقتصاديّة الحيويّة الّتي تبعث الجمعيّات الحيويّة في نوعيها الجنسيّ واللاجنسيّ) وهذه تتناول الجمعيّات الماليّة والتّجاريّة الكبرى والمصارف والشّركات المتّحدة كــ «التّرسط» [trust] وغيرها والاتّحادات التّجاريّة وجمعيّات المستخدمين وجمعيّات المستخدمين الخ. وتأتي في أرقى المراتب المصالح السياسيّة وأكبر جمعيّاتها، الدّولة، تشمل جميع مصالح المتّحد الأتمّ الّذي هو الأمّة ويتفرّع من الدّولة جمعيات أخرى أصغر منها تختصّ بالمتّحدات الّتي هي أصغر من الأمّة هي الحكومات المحليّة للمناطق والمدن. وبعد الدّولة نجد الأحزاب السّياسيّة الّتي هي جمعيات تختصّ بمصالح الفئات. ثمّ تأتي الجمعيّات السّياسيّة للقيام على مصالح معيّنة. ثمّ الجمعيّات القانونيّة والقضائيّة وغيرها. وهنالك أيضاً المصالح الاجتماعيّة العموميّة وهي تشكّل جمعيّات التّعارف والصّحبة وأندية السّمر والتّسلية البريئة أو المفيدة.
هذه صورة غير تامّة من مصالح أيّ متّحد راق، وهي على ما بها من نقص تمثّل جلياً بُعد المرحلة بين مصالح الجماعات الفطريّة والمجتمعات المتمدّنة الرّاقية. وكلّما ارتقى المتّحد في ثقافتيه الماديّة والعقليّة ازدادت المصالح المعيّنة الّتي من شأنها ترقية الحياة الجيّدة وتجميلها.
قد عرّفنا المتّحد بالنّسبة إلى الصّفات الخاصّة الّتي تميّزه عن غيره ونرى أن نعرّفه بالنّسبة إلى مصالحه وإرادته، فهو من هذه الوجهة وحدة اجتماعيّة حاصلة لأعضائها القناعة الدّاخليّة الإجماعيّة أنّ لهم مصالح تكفي لتفاعل أعمالهم، تفاعل مصالحهم وإراداتهم، في حياة عموميّة مشتركة على مستوًى ثقافيّ معيّن، ضمن حدود مساحة معيّنة. وبعد هذين التّعريفين، هل ندرك الفارق المعيّن الرّئيسي بين كلّ متّحد وكلّ متّحد آخر؟ أم هو الصّفات المميّزة، وقد رأينا أنّ هذا الفارق ليس من الثّبات والتّحدّد بحيث يصحّ أن يكون الفارق الرّئيسيّ المعيّن؟ أم هو المصلحة ومصلحة عدد كبير من المتّحدات تتماثل إلى درجة يستحسن معها توحيدها؟ أم هو الثّقافة، ونحن نعلم أنّ متّحدات عديدةً كبيرةً وصغيرةً تأخذ بثقافة واحدة عامّة؟ كلا. ليس واحداً من هذه الفوارق الفارق الأساسيّ، بل الفارق الأساسيّ هو وحدة الحياة المتجمّعة ضمن حدود معيّنة. فالمتّحد الاجتماعيّ ليس مجرّد أوصاف أو مصالح، بل هو أمر واقع. هو جماعة من النّاس تحيا حياةً مشتركةً في بقعة معيّنة ذات حدود.
كلّ متّحد، مهما كثرت صفاته أو قلّت، ومهما تعدّدت مصالحه، هو متّحد قائم بنفسه. كلّ قرية متّحد ولا يعكس وكلّ مدينة متّحد ولا يعكس وكلّ منطقة متّحد ولا يعكس وكلّ قطر متّحد ولا يعكس. والقطر الّذي هو متّحد الأمّة أو المتّحد القوميّ هو أكمل وأوفى متّحد. فالمصالح تنشأ في المجتمع، لا خارجه. والصّفات تتكوّن من حياة جماعة مشتركة وكلّ جماعة لها حدود، حتّى البدو الرّحل لهم حدود لرحلتهم. فهم يتنقّلون أبداً ضمن نطاق تجري حياتهم ضمنه فإن خرجوا منه إلى بيئة جديدة خرجت حياتهم عن محورها. ولو كانت بيوت أهل دمشق قائمةً إلى جانب بيروت من جهة صيدا والشّويفات مثلاً، وملتحمةً ببيوت هذه المدينة أكان يجوز حينئذ التّحدّث عن مدينتين متميّزتين، عن متّحدين؟
يَعرف المتجوّل المتّحد قبل أن يعرف مصالحه وخصائصه وصفاته فهو إذا أطلّ على بلدة كمشغرة يدرك حإلا أنّ هنالك متّحداً من النّاس قبل أن يعرف أنّ أهل مشغرةً كانوا زرّاعاً وأنّهم اليوم صناعيّون متخصّصون في دباغة الجلود، وأنّ هذا التّطوّر الاقتصاديّ قد طوّر مستوى مصالحهم وعدّل أخلاقهم. وهكذا الّذي ينتقل من قطره إلى قطر آخر يدرك أنّه قد أصبح في متّحد جديد سواء أكان يعرف ما هي لغة أهله أم لا يعرف، سواء أكان يجهل أخلاقهم أم لا يجهل. يميّز الإنسان المتّحد أوّلاً ثمّ يميّز خصائصه فهو يرى البلدة أوّلاً ثمّ يرى أشكال بيوتها وجنائنها وبساتينها ونسبة ترتيبها إلى طبيعة البيئة. وهو في تنقّله من قطر إلى قطر يرى برّيّة ذلك القطر وأماكن إقامة أهله واتصال قراه ومدنه بعضها ببعض ومدنه الكبرى، الّتي هي الكتل المغنطيسيّة الّتي تتوجه إليها الكتل الصّغرى ثمّ يتعرّف إلى جمعّياته الّتي تمثّل مصالحه ومؤسساته وإلى أخلاق أهله وصفاتهم. أمّا المصالح فهي مصالح هذه المتّحدات وأمّا الصّفات فهي صفاتها، وأمّا الإرادة ففي كلّ منها وما الإرادة إلا التعّبير عن الحياة. ما نريد هو ما نحن(7). نحن نريد مصالحنا لأنّنا نريد حياتنا والإرادة على قدر المصلحة، وكلّما كانت المصلحة أساسيّةً دائمةً كانت الإرادة كذلك.

تحديد الأمّة
الأمّة هي أتمّ متّحد، كما قلنا. ولكن لا بدّ لنا من درس هذا المتّحد درساً خاصّاً به، لأنّه أوسع وأكثر تعقّداً من كلّ متّحد آخر. ومع أنّه ليس من الصّعب إيضاح الواقع الاجتماعيّ والحقائق الاجتماعيّة، فإنّ الأمّة كانت ولا تزال محور كثير من النّظريّات الّتي قد تبدو متعارضةً وأحياناً متناقضةً. والسّبب في ذلك أنّ الأمّة تنطوي على عنصر عامّ، بل حيويّ لها، مفقود من المتّحدات الأخرى، هو العنصر السّياسيّ. فالكلام على الأمّة يكاد لا يخلو من عصبيّة القوميّة أو الوطنيّة، أو من الأغراض السّياسيّة، وهو لذلك عرضة لاختلاف النّظريّات وتعدّد المذاهب فيه.
كلّ أمّة تشعر بضرورة سيادتها على نفسها وحماية مصالحها من إجحاف وتعدّيات الأمم الأخرى. وفي هذا التّنازع، الّذي كثيراً ما يكون عنيفاً، يلجأ سياسيّو الأمّة ومفكّروها إلى نظريّات توافق ظروف أممهم وتكسبها معنويّات قويّةً. فبعضهم يبحث عن حقيقة تاريخيّة أو مثال حقيقيّ أو موهوم من التّاريخ، أو عن نزعة دينيّة أو سلاليّة، ولا يقتصر تنازع البقاء على تنازع النّظريات بين الأمم، بل يمتدّ إلى تنازع النّظريات ضمن الأمّة الواحدة، لما تشتمل عليه الأمّة من طبقات وجماعات يكون لبعضها مطامع ومصالح خاصّة، كما حدث للنّظريّات القوميّة الفرنسيّة، مثلاً. فإنّ الأمّة الفرنسيّة الّتي ابتدأت تتكوّن من امتزاج عنصرين رئيسيّين هما الجلالقة أهل البلاد الأصليّون والفرنك المغيرون على بلادهم، وهؤلاء شطر من القبائل الجرمانيّة، تعرّضت في مجرى تاريخها للنّزاع الخارجيّ الّذي جعل رجالها الشّاعرين بمصالحها الخاصّة يبحثون عن ممسك روحيّ، حقيقيّ أو خياليّ، يجمع الفرنسيّون من فرنك وجلالقة على التّمسّك به صيانةً لمصالحهم، الّتي أصبحت مصالح متّحد واحد، من أخطار التّقلّبات السّياسيّة والحربيّة. وقد توهّم بعضهم أنّ إنقاذ وحدة المتّحد الفرنسيّ من كلّ اختلاط خارجيّ، خصوصاً مع جيرانهم الألمان الذين هم شطر آخر من القبائل الجرمانيّة، وتقويتها يتمّان بجعل الفرنسيّين سلالةً واحدةً من نسب واحد. ويجب أن يكون هذا النّسب عريقاً في المجد والبطولة، عظيماً بخوارق قوّته يحبّب الانتساب إليه والالتفاف حوله. وأيّ نسب أعرق وأحبّ من أبطال طروادة الّذين خلّدهم هوميرس. [Homer حوالى 850 ق. م.]. ألم يقلّد ورجيل [Virgil, 71-19 B. C.] هوميرس وينظم أناشيد «الإنيادة» في البطل إنياس Eneas الّذي تحدّر منه الرّومان؟ إذاً يجب أن لا يقلّ بناء باريس عظمةً عن بناء رومة. وكما وجد في إيطاليا ورجيل ليخلّد ذكر أبي الرّومان الوهميّ كذلك يجب أن يوجد لفرنسة من يخلّد ذكر البطل العظيم الّذي خرج من صلبه الفرنسيّون: فرنقس أو فرنسيون بن هكتور! وقد وجد «رنسار» Ronsard الّذي اهتدى إلى هذا الحلم الضّائع وأخذ يؤلّف أناشيد «الفرنسيادة»(8) مجاراةً لورجيل في الإنيادة فنشر سنة 1572 الأناشيد الأربعة الأولى الوحيدة الّتي ظهرت. ولكنّ رنسار عدل عن متابعة هذا العمل الشّاقّ العقيم، ومع ذلك فإنّ الاعقاد بالأصل الطّرواديّ للفرنسيّين ظلّ معشّشاً حتّى أواخر القرن السّابع عشر. وقد حمل السّبب نفسه الّذي من أجله وضعت نظريّة الأصل الطرواديّ للفرنسيّين، فرنكاً وجلالقةً وروماناً، كتّاباً آخرين على البحث عن ممسك آخر مخترع يكون أقرب إلى المعقول، فذهب بعضهم (Etienne Forcadel) إلى أنّ الفرنك ليسوا سوى جلالقة هاجروا في زمن قديم ثم عادوا إلى وطنهم وميراثهم وعلى هذا يكون كلّ الفرنسيّين جلالقةً. فلمّا أثبت ليبتز جرمانيّة الفرنك، ولم يعد في الإمكان دحضها، ذهب عدد من الكتّاب إلى وحدة الشّعب المؤلّفة من المزيج الجلالقيّ والفرنكيّ وواحد منهم جعل اسم فرنسة «فرنكوغاليا» (Francogallia) واتّخذه عنواناً لمؤلّفه(9).
تراوحت النّزعات القوميّة في فرنسة بين أن تكون الأمّة من أصل جلالقيّ أو طرواديّ أو جرمانيّ. واشتدّ نزاع النّظريّات في الأصل بين مختلف الكتّاب والمؤرخين الّذين عالجوا هذه القضيّة القوميّة الفرنسيّة. وبديهيّ أنّ تكون الأنظار اتّجهت في البدء إلى الوجهة السّلاليّة من الموضوع، لأنّ اصطلاحات الرّابطة الدّمويّة الموروثة من العهد البربريّ كانت لا تزال مسيطرةً، وهي الاصطلاحات الّتي تسيطر على كلّ موضوع قوميّ في كلّ أمّة لا يزال عهدها بالبربريّة قريباً أو خضعت، لعهد قريب، لعوامل موجة بربريّة. واشتدّ النّزاع الدّاخليّ في فرنسة حول هذه النّقطة لأنّها كانت تهمّ طبقتي الأشراف والعامّة في تنازعهما حقوق السّيادة والحريّة. وقد أولع عدد من أشهر كتّاب الفرنسيّين بالمفاخرة بالعنصر الجرمانيّ الفاتح مزدرين كلّ فكرة جلالقيّة، لأنّ الفتح شيء لامع محبوب عند كلّ الأقوام، حتّى حسبه هؤلاء الكتّاب مغنياً عن روعة الواقع في نشوء الأمم. وقد أشرنا إلى ما كان من شأن العقائد السّلاليّة في فرنسة في الفصل الثّاني من هذا الكتاب فليراجع هناك.
سيطرت كلّ نزعة من هذه النّزعات السّلاليّة القوميّة على عصر من عصور حياة الأمّة الفرنسيّة، وفاقاً لظروف كلّ عصر ومطاوعةً لمصالح الطّبقات والفئات الخاصّة. فسرى الاعتقاد بالأصل الطرواديّ مدّةً من الزّمن ثمّ قويت العقيدة الجلالقيّة ثمّ سيطر المذهب الجرمانيّ الفرنكيّ، في التّعليم المدرسيّ، الّذي يجعل الفرنك أسلاف الفرنسيّين حتّى مئة وخمسين سنةً خلت. أمّا الآن فالتّعليم العموميّ في فرنسة يجعل الجلالقة، أهل البلاد قبل مجيء الفرنك، أسلاف الفرنسيّين(10). أمّا الأمّة الفرنسيّة والقوميّة الفرنسيّة فتتمثلان في كلمة كانت استعمإلا لم يحظ منذ البدء بمرتبته العالية، ولكنّها أخذت تنحت موقعها في القلوب حتّى أصبحت أوضح صورةً للأمّة الفرنسيّة والقوميّة الفرنسيّة هي: الوطن (Patrie) (11) الّذي جعل اسمي «فرنسيا» و«غليا» مترادفين. ومع أنّ اسم فرنسة هو الّذي غلب على البلاد بالاستعمال فإنّ الكيان الفرنسيّ ظلّ دائماً يطمح إلى جعل حدوده حدود الجلالقة القديمة.
نكتفي بهذا المقدار للدّلالة على أنّ تحديد الأمّة قد يتعرّض للتّأثّر بعوامل العقائد والأغراض قبل أن تنجلي في الذّهن حقيقة الواقع الاجتماعيّ. فالأمّة الفرنسيّة التي بقيت هي هي كانت أوّلاً نسباً بعيداً ثمّ سلالةً ثمّ أصبحت وطناً.
كما يجد الدّارس الاجتماعيّ صعوبةً في فهم حقيقة المتّحد من الأمثال والتّسبيهات، كذلك هو يجد صعوبةً في فهم المتّحد القوميّ أو الوطنيّ من وراء التّحديدات الّتي قد تبدو متعارضةً، وتكون كذلك أحياناً إن لم يكن غالباً، لأنّ الّذين حدّدوا الأمّة حدّدوها على ما سطع لكلّ منهم من نورها ووحيها في بيئته الخاصّة. فرينان [J. E. Renan, 1823-1892] يحدّد الأمّة متأثّراً بتاريخ فرنسة والرّوحيّة الفرنسيّة حين قال: «ليس تكلّم لغة واحدة أو الانتساب إلى مجموع شعبيّ Ethnographique واحد هو ما يؤلّف الأمّة بل يكوّنها الاشتراك في فعل أمور عظيمة في الماضي والرّغبة في فعلها في المستقبل» هذه صورة الأمّة الفرنسيّة من خلال تاريخ دولة الكبتيّين وما بعدها. ولمّا كان دارس العلم السّياسيّ يتناول موضوع الأمّة ويحاول فهمها من الأقوال الّتي ذهبت أمثإلا في هذا الشّأن، أرى أن أتناول هذه التّحديدات وأنّ أحللّ أجزاءها، لكي أسهّل على الطالب السّياسيّ أو الاجتماعيّ متابعة درس هذه القضيّة بالأسلوب الّذي تعوّده.
إنّ أوّل تحديد وضع لتعيين ماهيّة الأمّة وإيجاد صورة ذهنيّة منطقيّة لها هو التّحديد الّذي أعلنه بسكال منتشيني Pascal Mancini في خطابه الشّهير الّذي افتتح به فرع الحقوق الأترنسيونيّة في جامعة تورينو، في الثّاني والعشرين من كانون الثاني سنة 1851 وهذا نصه الحرفيّ:
Nszione è una Società naturale di Uomini, dà unità di territorio, di origine, di costumi, di lingua conformata à communanza di vita e di coscienza sociale.
وترجمته: «الأمّة هي مجتمع طبيعيّ من النّاس ذو وحدة أرضيّة (جغرافيّة) وأصليّة ووحدة عادات ولغة خاضع للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ». وقد جلب هذا التّصريح على منتشيني نقمة النّمسا، الّتي سعت إلى منع خطبه، ومصادرة أملاكه بأمر ملك نابولي.
منذ صرّح منتشيني بتحديده المشار إليه ونشره في السّنة نفسها، في Prelezioni تنبّه المفكرون الحقوقيّون والسّياسيّون والاجتماعيّون إلى وجوب تعريف الأمّة تعريفاً خالياً من الغرض ومن حريّة القول الاستبداديّ أو غير المنقود. فتعاقبت التّصريحات والتّعاريف الّتي لم يكن بعضها سوى توسيع أو تعديل لتعريف منتشيني. فشدّد بعضها على عنصر معين من عناصر الأمّة وتشبّث البعض الآخر بعنصر غيره أو بمجموعة عنصريّة خاصّة. ويحسن هنا، قبل البدء بتحليل عناصر الأمّة، أن نذكر تعاريف أخرى بألوانها الخاصّة لنرى تنّوعات الفكرة الواحدة ونموّها وتطوّرها.
بعد منتشيني ببضع سنوات عرّف الأمّة متشرع آخر فرنسيّ Pradier Fodéré ــــ بأنّها «مجتمع يشكّله سكّان بلاد معيّنة لهم لهجة معيّنة (Mème Langage) وترعاهم قوانين معيّة وتوحّدهم هويّة الأصل والتّوافق الفيزيائيّ والاستعدادات المناقبيّة واتّحاد طويل العهد في المصالح والشّعور، وتدامج في العيش على مرّ القرون. وما يفهم من القوميّة هو أنّها حصول حالة الأمّة في الواقع»(12). وفي سنة 1915 عرّف أميل دركهيم Durkheim القوميّة بأنّها «جماعة إنسانيّة تريد، لأسباب إثنيّة أو تاريخيّة فقط، أن تحيا في ظلّ قوانين معيّنة وأنّ تشكّل دولةً سواء أكانت صغيرةً أم كبيرةً، وهو الآن مبدأ مقرّر عند الأمم المتمدّنة أنّه متى ثبّتت هذه الإرادة الموحّدة نفسها باستمرار حقّ لها أن تعتبر الأساس الثّابت الوحيد للدّول»(13). وفي سنة 1919 ألّف م. أيوانوف كتاباً بعنوان البلغاريّون أمام مؤتمر الصّلح عدّد فيه العناصر التي تؤلّف الشّخصيّة القوميّة وتحفظها فإذا هي: «وحدة السّلالة، الحدود الجغرافيّة، اللّغة الدّين، الوحدة السّياسيّة، التّاريخ والتّقاليد، الأدب، طريقة الحياة والمظاهر الثّقافيّة العموميّة، وكلّما ازداد ظهور العناصر في قوميّة ما، ازداد إحياؤها وحدةً وازداد الشّعور القوميّ، الّذي يحرّكهم، توقّداً واندفاعاً»(14). وإنّنا نرى رنان يشدّد على «المبدأ الرّوحيّ» للأمّة ولكنّه يعود فيقول:
Une nation resulte du mariage d’un groupe d’hommes avec une terre . (15)
الأمّة تتولّد من زواج جماعة من النّاس وبقعة أرضيّة. ويأتي أيضاً شبنقلر فيقول «ليست الأمم وحدات لغويّةً ولا سياسيّةً ولا بيولوجيّةً، بل وحدات روحيّة ومع ذلك نرى مبدأ السّلالة يسيطر على معنى الأمّة في ألمانية في حين أنّ هنالك تعاريف أخرى تعزّز أهميّة الأرض كقول فن ايرن Fon Ihren «الأرض هي القوم» وما ذهب إليه هردر Herder بهذا الصّدّد.
إذا تركنا الآن التّحديدات الجزئيّة أو الفرعيّة أو الموضوعة من وجهة نظر واحدة أو خاصّة، وعمدنا إلى درس عناصر الأمّة استناداً إلى التّحديدات الشّاملة غير المتميّزة، أو المقصود منها أن تكون مجرّدةً، وجدنا هذه العناصر معدّدةً على أتمّ وجه موضوع حتّى الآن في تعريفي منتشيني وإيوانوف. ومن مقابلة هذين التّعريين نجد إيوانوف يستعمل «وحدة السّلالة» حيث يستعمل منتشيني «وحدة الأصل» ونراه يضيف إلى عناصر منتشيني الدّين والوحدة السّياسيّة والتّاريخ والأدب ويضع التّقاليد في محلّ العادات، وطريقة الحياة والمظاهر الثّقافيّة العموميّة في محلّ الاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ. فلنأخذ كلّ عنصر كما ورد في كلّ من هذين التّعريفين ولندرسه ونقابله مع مشابهه.

نبدأ بتعريف منتشيني ونتناول قوله إنّ الأمّة هي Società naturale di Uomini مجتمع طبيعيّ من النّاس. فواضح من هذا القول إنّ المجتمع الطّبيعيّ هو نقيض المجتمع الاصطناعيّ وبهذا القول وضع منتشيني حدّاً فاصلاً بين الأمّة من حيث هي مجتمع بطبيعة الواقع، إذ ترى النّاس مشتركين في أسباب حياتهم الواحدة في مجرًى طبيعيّ من التّفاعل والتّرابط، والدّولة من حيث هي نطاق قد يتّسع حتى يشمل ما هو أوسع من المجتمع الطّبيعيّ فيكون مجتمعاً مصطنعاً من مجتمعين طبيعيّين أو أكثر. نأخذ مثلاً سورية وبلاد العرب فنرى سورية متّحداً تامّاً، مجتمعاً طبيعيّاً تجري ضمنه حياة أفراده في ترابط وتفاعل تامّين واشتراك في مصير واحد. فالسّوريّون يشتبكون اشتباكاً متيناً في جميع المصالح كالزّواج والتّعاشر والتّعاون الاقتصاديّ والجمعيات والأندية والأحزاب والنّقابات والمدارس إلخ. كذلك نرى بلاد العرب مجتمعاً، بل مجتمعات طبيعيةً. فالعرب تجري حياتهم ضمن دوائر قبائلهم ولهم مصالحهم الخاصّة في الزّواج والرحلة والغزو والسّلب. وليس لهم مصالح عمرانيّة إلا في أسفل الجنوب في اليمن وهناك مصالحهم خاصّة وضعيفة. والمصالح النّفسيّة هي بالإجمال معدومة. ففي زمن الدّولة الإسلاميّة أصبح هذان المجتمعان الطّبيعيّان مجتمعاً واحداً مصطنعاً هو مجتمع الدّولة فاشتركا في دولة واحدة ولكنّهما ظلا مجتمعين طبيعيّين منفصلين في الحياة، فمن استقرّ من العرب في سورية أصبح جزءاً من المجتمع السّوريّ الطّبيعيّ وطلّق البادية بالمرّة. وهذا ما حدث مراراً في مجرى التّاريخ، ليس لسورية وبلاد العرب فقط، بل لأقطار عديدة كالمجتمعات الّتي ضمّتها رومة إلى نطاقها الشّرعيّ والدّوليّ وبسطت عليها لغتها كجلالقة عبر الألب وأقطار أخرى فإنّ هذه المجتمعات اشتركت في حياة الدّولة الرّومانيّة، ولكنّا لم تكوّن وإيطاليا مجتمعاً طبيعيّاً واحداً. وكان من البديهيّ أن تنقم النّمسا على منتشيني لأنّه يوقظ في الطّليان فكرة مجتمعهم الطبيعيّ فيكون فيها القضاء على سلطتهم في إيطاليا. فالأمّة إذاً مجتمع طبيعيّ، لا بالقوّة الخارجيّة ولا بالاستبداد ولا بأيّ شكل من أشكال الاصطناع. أمّا قوام الأمّة (المجتمع الطّبيعيّ) فيعطينا منتشيني عنصرها الأوّل: الوحدة الأرضيّة، أو الحدود الجغرافيّة في تعريف إيوانواف.
كان منتشيني موفّقاً كلّ التّوفيق حين قدّم العنصر الأرضيّ على جميع عناصر المجتمع الطّبيعيّ الأخرى. فقد رأينا في فصل سابق (الثالث) أنّ الأرض هي أولى إمكانيّات الحياة على الإطلاق، واليابسة عموماً هي أولى إمكانيّات حياة الحيوانات ذات الجهاز التّنفسيّ وأولى إمكانيّات حياة الإنسان. وأشرنا هناك إلى تنوّع البيئات وإمكانيّاتها. فالبيئة الجغرافيّة ضروريّة لحياة المتّحد أو المجتمع ضرورة الأرض للحياة. وأيّ متّحد أخذناه وجدناه محدّداً بالمساحة أو البيئة، لأنّ الإقامة في الأرض والعمران لهما شروط سابقة لا يتمّان إلا بها وقد عرضنا لها في الفصل الثّالث.
وإذا أعدنا النّظر في البيئة الجغرافيّة، في القطر وما يتعلّق به، وجدنا أنّ الحدود ليست من التّمام بحيث تفصل فصلاً تاماً، بين أيّ قطر وكلّ قطر، بين أيّ متّحد وكلّ متّحد، وإلا لوجب أن نسمّي كلّ قطر دنياً قائمةً بنفسها. وحيث الفصل تامّ كما في الجزر يلجأ المجتمع إلى إيجاد طرق وأساليب للمواصلة وهو لا ينفكّ يحسّن هذه الطّرق والأساليب حتّى يجعل الاتّصال على أفضل حالة ممكنة. لأنّ العزلة التّامة منافية للتّمدّن والارتقاء الثّقافيّ. ولكنّ الحدود تقلّل الاتّصال، سواء أكان سلميّاً أم حربياً، وتصعّب التداخل والاختلاط الاجتماعيّين مع الخارج بقدر ما تسهّل اشتباك الجماعات في الدّاخل واتّحادها. فالبيئة المحدّدة هي البوتقة الّتي تصهر حياة هذه الجماعات وتمزجها مزجاً يكسبها شخصيّةً خاصّةً، كالشّخصيّة الّتي يكتسبها الشّبهان (البرنز) من مزج النّحاس والتّنك والرّصاص، وهي الّتي توجهد الإمكانيات لنشوء المراكز العمرانيّة الّتي تتألّب عليها قوّات المجتمع ويحتشد فيها نتاجه الثّقافيّ، فتتكوّن البيئة الاجتماعيّة الّتي تصبح ذات مناعة تكمل ما نقص من الحدود الطّبيعيّة. والحقيقة أنّ البيئة من حيث هي مركز الاجتماع والتّكتّل هي أهمّ من الحدود لتكوّن البيئة الاجتماعيّة ولكنّ الحدود الطّبيعيّة ضروريّة لوقاية المجتمع وحماية نموّه حتّى يستكمل قوّته الشّخصيّة. فبعض الأمم جنت عليها قلّة حدودها الطّبيعيّة أو رخاوتها وطلاقتها كبولونيا، وأرمينيا وإلى درجة أقلّ الإغريق والأراضي السّفلى (هولندا) وبلجيكا. وكذلك سورية فقد جنت عليها كثيراً طلاقة تخومها من جهة الصّحراء، فالصّحراء حدّ للبيئة السّوريّة يقف عنده عمرانها وتمدّنها وثقافتها ولكنّها لم تكن حداً للقبائل المتحيّنة الفرص للاستيلاء على أرض آمن من الصّحراء وأضمن للعيش منها، والاستقرار فيها.
لعلّ سورية أفضل مثال للبيئة الّتي تصهر الجماعات المختلفة النّازلة بها وتحوّلها إلى مزاج واحد وشخصيّة واحدة. فنحن نعلم أنّ سورية كانت مأهولةً في العصر الحجريّ المتوسّط، كما دلّت البقايا المكتشفة في فلسطين، وأنّها على الأرجح مصدر الثّقافة المغالثية(16). ونعلم أيضاً أنّ جماعات شماليّةً كالحثّيين وغيرهم قطعت طوروس وهبطت سورية لتلتقي فيها بالجماعات الجنوبيّة الخارجة من الصحراء، فتمتزج هذه الجماعات كلها وما أضيف إليها ممّا جاء من الغرب كالفلسطينيّين، بعضها بالبعض الآخر وببقايا جماعات العصر الحجريّ وتكوّن مزيجاً خاصاً. ومع أنّنا نتمكّن، بالأدلّة الرّأسيّة والدّمويّة من تقصّي مختلف السّلالات الموجودة حالياً في سورية فإنّنا نرى لها كلّها طابع البيئة الخاصّ الّذي يكسبها تشابهاً قوّياً وتجانساً شديداً(17). وقد رأينا أنّ هذا المزيج السّوريّ تمكّن من إنشاء امبراطورية قويّة بسطت سيطرتها على مصر واتّخذت مصر قاعدةً لها، كما رأينا مصر تبسط نفوذها على سورية، وكما رأينا امبراطورية الفرس تبسط ظلّها على سورية ومصر. ولكن لم يؤثّر شيء من ذلك على تحديد البيئة المتّحد. وهنا تبدو لنا صحة قول فن أيرن «الأرض هي القوم» وقول رنان في كيف تتكوّن الأمّة (راجع ص 134) والفرق الواضح بين المجتمع الطّبيعيّ القوميّ والمجتمع المصطنع السّياسيّ. وويدال دلابلاش الّذي أشرت مراراً إلى مؤلّفه الهامّ في الجغرافية الإنسانية، يقول(18) «إنّ ظواهر الجغرافية الإنسانيّة (توزيع البشر) تنسب إلى الوحدة الأرضيّة الّتي لا يمكن تعليل تلك الظّواهر بدونها. إنّها (الظّواهر) تعزى، في كلّ مكان، إلى البيئة الّتي هي بدورها وليدة توافق حالات فيزيائيّة» وهو يوافق «لواصور» في أنّ سكّان أيّة بقعة كانت، يتألّفون من عدد معيّن من النّوايا (جمع نواة) المذرورة المحاطة بمناطق مشتركة المركز تقلّ كثافتها في ابتعادها عن مركزها(19). فكلّ متّحد له مراكز تجمّع مشتركة تضعف عوامل الحياة وظواهرها وتقلّ كثافة السّكان كلّما ابتعدت عنها، فهي الكتل المغنطيسيّة الّتي تجذب ما حولها إليها.
ما أصدق هذا القول على سورية فهو يصدق عليها كما يصدق على فرنسة وعلى أيّ بلاد أخرى. خذ النّوى المذرورة في سورية، في التّاريخ القديم، تجد أنّها قد أصبحت كتلاً مغنطيسيّةً قويّةً كدمشق وبغداد (بابل) وأورفه وحمص وحلب وبيروت والقدس. إلا تقلّ كثافة السّكان ومظاهر الحياة كلّما ابتعدت عن القدس جنوباً وعن دمشق شرقاً وجنوباً حتّى تكاد تنعدم، ثمّ إلا تقل عن حلب شمإلا وشرقاً وماذا [عن] غرب بيروت؟ أوليست سورية كلّها تجمّعات صغيرةً حول كتل مغنطيسيّة كبيرة؟ ولو كانت القاهرة واقعةً بين القدس ودمشق، مثلاً، أو بين القدس وقناة السّويس، وقرى مصر ومزارعها واقعةً في شبه جزيرة سيناء وما حولهما بحيث يكون هنالك عمران واحد في بيئة واحدة، هي بيئة القطر السّوريّ، أكان في الإمكان حينئذ التّكلّم عن القطرين سورية ومصر؟ ولو كانت بغداد واقعة قرب “الرتبة” أو بين هذه ودمشق، أو لو كانت الصحراء بين سورية والعراق بلاداً عمرانية آهلة بالسكان، أما كانت البيئة الموحدة وحدت المجتمع أيضاً؟ وإنّ جفاف الإقليم بسبب محق الحرجات والغابات، الّذي ساعد الصّحراء على اقتحام التّخوم السّوريّة الجنوبيّة، وتجويف الصّحراء السّوريّة كاد يفصل بين الشّام والعراق أو بين شرق سورية وغربها لولا النّهران السّوريان العظيمان الفرات ودجلة اللّذان حفظا استمرار العمران السّوريّ وإمكانية تكاثره وتوثيق الحياة القوميّة ضمنه.

لا أمّة على الإطلاق بدون قطر معيّن محدود. أمّا ما ذهب إليه إسرائيل زنويل Israêl Zangwill من أنّ الشّعب اليهودي تمكّن من الاحتفاظ بنفسه بدون بلاد(20) ، فمن الأغلاط الاجتماعيّة الفاضحة. فاليهود قد احتفظوا بيهوديّتهم الجامدة من حيث هم مذهب دينيّ. وقد أكسبهم دينهم الشّخصيّ عصبيّةً لا تلتبس بالعصبيّة القوميّة إلا على البسطاء والمتغرّضين. اليهود ليسوا أمّةً أكثر ممّا هم سلالة (وهم ليسوا سلالةً مطلقاً)، إنّهم كنيس وثقافة(21). لا يمكننا أن نسمّي اليهود أمّةً أكثر مما يكننا أنّ نسمّي المسلمين أمّةً والمسيحيّين أمّةً أو السنّيين أمّة والشّيعة أمّةً والأرثوذكس والكاثوليك أمّة الخ. ولجميع هذه المذاهب عصبيّاتها وتقاليدها الّتي تتميّز بها.
الأمّة تجهد أساسها، قبل كلّ شيء آخر، في وحدة أرضيّة معيّنة تتفاعل معها جماعة من النّاس وتشتبك وتتّحد ضمنها. ومتى تكوّنت الأمّة وأصبحت تشعر بشخصيّتها المكتسبة من إقليمها وموادّ غذائها وعمرانها ومن حياتها الاجتماعيّة الخاصّة وحصلت من جميع ذلك على مناعة القوميّة أصبحت قادرةً على تكميل حدودها الطّبيعيّة أو تعديلها، على نسبة حيويّتها وسعة مواردها وممكناتها. وبقدر ما هي الحدود جوهريّة لصيانة المجتمع من تمدّد المجتمعات الأخرى القريبة منه كذلك هي، إلى درجة أعلى، طبيعة البيئة ومواردها. فالأمّة تكون قويّة أو ضعيفةً، متقدّمةً أو متأخّرةً، على نسبة ممكنات بيئتها الاقتصاديّة ومقدرتها على الانتفاع بهذه الممكنات. إنّ وجود موارد كافية لتأمين التّبادل الدّاخليّ ومعادلة التّبادل الخارجيّ، أو زيادة الصّادر على الوارد، هو من شروط البيئة الصّالحة لنشوء الأمّة. القطر والجماعة، وإن شئت فقل القطر الصّالح والقوم المؤهّلون، هذان هما العنصران الأساسيّان لنشوء الأمّة.
يعرّف منتشيني العنصر الثاني بوحدة الأصل (العرق) للجماعة، أمّا إيوانوف فيعرّفه بوحدة السّلالة. وفي هذين التّعريفين، على ما بهما من تشابه في المرمى، اختلاف قد لا يكون يسيراً، وهذا الاختلاف هو في اختيار إيوانوف لفظة السّلالة الّتي قد لا تخلو من مغزًى في استثارة نعرة معيّنة. يمكن أن تتّفق هاتان اللّفظتان: الأصل والسّلالة، إذا عني بالسّلالة تعاقب أجيال شعب معيّن بصرف النّظر عن الحقائق الأنتربولوجيّة ــــ الحيوانيّة (زولجيّة). فإنّ من المؤلّفين في السّلائل كمرتيله (Mortillet) من يميّز بين السّلالات التّاريخيّة والسّلالات الحيوانيّة الفيزيائيّة. وهذه نظرة تذهب إلى أنّ اختلاط سلالات أمّة معيّنة وتمازج نسلها قد يولّدان، على التّعاقب، سلالةً فرعيّةً أو ثانويّةً، بحيث يصبح في الإمكان التّكلّم عن السّلالة السّوريّة والسّلالة الألمانيّة والسّلالة الإنقليزيّة. وقد ورد ذكر السّلالة السّوريّة على أقلام الكتّاب كما جرت على أقلامهم السّلالة الأنقلوسكسونيّة الّتي يسخر منها كثيراً ولز في مجتزإه التّاريخيّ. والفرنسيّون، الّذين ينتقدون الألمان كثيراً في مذهبهم السّلاليّ في القوميّة المؤسّس على نظريّة قوبنو وتشمبرلين الآريّة، يعتنقون هذا النّوع الفرعيّ من السّلالة فتقوم السّلالة التّاريخيّة لهم مقام السّلالة الفيزيائيّة. ومع أنّ هذه السّلالة قد تراوحت عندهم بين أن تكون فرنكيّةً جرمانيّةً أو جلالقيّةً فهي قد رست على السّلالة الفرنسيّة الّتي تتّخذ الجلالقة أسلافاً لها، محافظةً على الارتباط التّاريخيّ بين القوم والأرض.
الحقيقة أنّه ليس لأمّة من الأمم الحديثة أصل سّلاليّ واحد، حتّى ولا أصل شعبيّ واحد، إذا أردنا أن نعود إلى الأصل الفيزيائيّ أو التاريخيّ. فلست أخال منتشيني يعتقد أنّ الطّليان من أصل سلاليّ واحد أو من أصل شعبيّ واحد. فإذا تتبّعنا تاريخ تكوّن الأمّة الإيطاليّة كان الأصل الوحيد الثّابت الّذي نتمكّن دائماً من تقريره هو الأرض إيطاليا. أمّا الأصل الشّعبيّ فهو مشترك في عدّة أصول. فقد نشأت رومة من ثلاث قبائل وجدت نفسها محاطةً بشعوب قويّة مختلفة اللّغات والثّقافات كالأتروربّين (الأترسكيّين) الّذين أخذ الرّومان عنهم فنونهم واللاتّين الّذين أخذوا عنهم لغتهم واللّوكانيّين واللّيقوريّين والجلالقة أمام الألب وغيرهم، ثمّ جاء فيما بعد اللّمبرديّون. ومن اختلاط هذه الشّعوب في إيطاليا نشأت الأمّة الإيطاليّة (لا الأمّة الرّومانيّة). وقد أشرنا إلى سلالات إيطاليا الأتربولوجيّة (راجع ص 44). وسواء أأخذنا السّلالات الإيطاليّة من الوجهة الأنتربولوجيّة أم من الوجهة التّاريخيّة، وجدناها غير موحّدة الأصل.
إنّ الأمّة من الوجهة السّلاليّة أو من وجهة الأصل، هي مركّب أو مزيج معيّن كالمركّبات الكيماويّة الّتي يتميّز كلّ مركّب منها بعناصره وبنسبة بعضها إلى البعض الآخر . وهذه الأمّة السّوريّة فأيّ أصل واحد لها؟ أهو الأصل الكنعانيّ (الفينيقيّ) والكنعانيّون جاؤوا طبقةً فوق طبقة أهل العصر الحجريّ، أم الأمّوريّ أم الحثيّ أم الآراميّ؟ أو ليست سورية مزيجاً أو مركّباً معيّناً من هذه الشّعوب مضافاً إليها العرب بعد الإسلام وغيرهم. وإذا أخذنا الوجهة الأنتربولوجيّة من الأصل السّوريّ وجدنا أنّه كذلك مزيج من مفلطحي الرّؤوس ومعتدليها ومستطيليها كما أثبتت ذلك الأبحاث الأنتربلوجيّة(22) وكما سنسهب ذلك في الكتاب الثّاني. وقد رأينا أن فرنسة لا تختلف عن سورية وإيطاليا بهذا الصّدد. وإذا وجّهنا نظرنا إلى إنكلترة والجزر البريطانيّة عموماً فإنّنا نجد الحالة نفسها من المزيج. ففي إنكلترة وحدها شعبا «الإنكليز والسّكسون» ثمّ ما جاءهم من رومان ونرمان، وهؤلاء الأخيرون كان لهم التّأثير في تغيير لغة الإنكليز حتّى أصبحت لاتينيّةً أكثر منها جرمانيّةً، حتّى أنشد تنسون «من نرمان وسكسون ودنماركيّين نحن». وليس الأصل الإنكليزيّ سوى ما جعل شكسبير هنري الخامس يحثّ به جنوده: Yeomen whose limbs were made in England «الرّجال الّذين صنعت أعضاؤهم في إنقلتر» وماذا نقول في ألمانية. أليست هي خليط من نحو ثلاث سلالات أنتربولوجيّة وتختلف أشكالها السّلاليّة في الشّمال والجنوب والوسط، مع كلّ ما يحكى هنالك عن نقاوة الدّم الآريّ؟ وهذه أميركة أمامنا، فأيّة وحدة سلاليّة، تاريخيّة أو أنتربلوجيّة لها؟ أليست الولايات المتّحدة خليطاً من إنقليز وألمان وأرلنديين وطليان وسوريّين وفرنسيّين وأسوجيّين، الخ. والبرازيل أيضاً هي خليط من برتغاليين وسوريين وألمان وطليان وزنوج وهنود أصليين وإسبان. وعلى هذا، قس أيّة أمّة أميركيّة أخرى. أكرّر أنّ الأصل الإنسانيّ الوحيد للأمّة هو وحدة الحياة على تعاقب الأجيال وهي الوحدة الّتي تتمّ دورتها ضمن القطر. المزيج المتجانس أصل كاف للأمّة وهذا المزيج هو ما يعبّر عنه أحياناً بلفظة السّلالة.

يضع منتشيني بعد وحدة الأصل وحدة العادات وإذا بحثنا عن مرادفها أو مقابلها في تعريف إيوانوف وجدنا التّقاليد، ولعلّ منتشيني يحعل العادات تشمل التّقاليد ولعلّ إيوانوف يجعل التّقاليد تشمل العادات، والفرق بين العادات والتّقاليد أنّ الأولى لا يجب أن تكون موروثة من الأجيال الماضية والثّانية وراثية في الأجيال. تتناول التّقاليد ما هو بمعنى الطّقس أو القانون غير المكتوب لما يكون لها من المساس بالحالات النّفسيّة العميقة وشؤون الحياة الهامّة كالزّواج وأحواله والمآتم وطريقة دفن الموتى ونظام العائلة، وهي لذلك أثبت وأصلب من العادت. فقد يجوز، في العرف، أن تترك عادةً من العادات ولكن الخروج على التّقليد يعتبر تمرّداً وثورةً. أمّا العادات فتناول ما هو بمعنى الأزياء والتّصرّف في حالات وظروف معيّنة كحالات الأكل والشّراب واللّباس و المعاشرة والأعياد. فمن العادات عادة تقبيل الأيدي، مثلاً، وشرب قدح من العرق قبل الأكل وعادة التّقبيل عند الوداع أو اللّقاء وعادة السّلام والتّعارف والرّقص. وبالإجمال العادة تتعلّق، على الأكثر، بالذّوق وما هو مستحسن وما هو مكتسب في الحياة الجيّدة اليوميّة، والتّقليد يختصّ بما هو جوهريّ في الحياة الاجتماعيّة وما يتعلّق بالاعتقادات الخفيّة المتوارثة ومنها ما صار اعتقادات دينيّةً أو نصف دينيّة. ولا ينفي ما قلته بشأن وراثيّة التّقاليد أن يكون هنالك عادات وراثيّة أيضاً فإنّ من الأشياء الّتي تصبح مستحبّةً ما يظلّ كذلك أجيالاً.
تنشأ التّقاليد من اختبارات الحياة والاعتقادات بشأنها، وتنشأ العادات من ظروف الحياة واستحسان بعض أساليبها ورموزها. وهذا يعني أنّ التّقاليد والعادات تنشأ بعامل الاجتماع في المجتمع، فهي شأن من شؤون المجتمع ونتيجة من نتائجه أي انّها ليست سبباً من أسبابه، كما يظنّ عادةً بعض الدّارسين سطحيّاً، الّذين يتوهّمون أنّ توافق بعض عادات عند عدد من الأمم سبب يكفي لإلغاء واقع هذه الأمم والتّعويض عنه باستنتاج أمّة واحدة موهومة من عادات أو تقاليد معيّنة. فإنّ من التّقاليد والعادات ما هو مشترك بين عدّة أمم أو بين عدد كبير من الأمم، خصوصاً الأمم الّتي كانت قديماً قبائل أو شعوباً متجاورةً كالشّعوب الساميّة. فإنّ هذه الشّعوب جميعها تشترك في تقاليد وعادات بعضها دينيّ وبعضها اجتماعيّ، ولكنّ هذه التّقاليد والعادات ليست كلّ تقاليدها وعاداتها موحّدةً، بل إنّنا نجد لكلّ أمّة من هذه الأمم تقاليد وعادات خاصّةً بها ناتجةً عن اختباراتها الخاصّة الشّخصيّة وعن نموّ أذواقها بتفاعلها مع بيئتها وباتّصالها بالعالم الخارجيّ. ووحدة هذه التّقاليد والعادات الشّخصيّة، الّتي تظهر وجهاً من نفسيّة الأمّة في مجرى حياتها، هي العنصر الهامّ من عناصر وجود الأمّة.
كلّ أمّة تنشأ بعامل ارتباط جماعة من النّاس، مهما كانت تقاليدها وعاداتها ومهما كان مصدرها، ببقعة من الأرض لا بدّ من أن تكون في مجرى حياتها تقاليد جديدة وعادات جديدة. فالتّقاليد مع أنّها وراثيّة، تنشأ وتندثر بعامل الحياة لتحلّ محلّها تقاليد جديدة وكذلك العادات، وهي أسرع تبدّلاً من التّقاليد. كلّ ارتقاء في أمّة يحدث تعديلاً في التّقاليد والعادات. والأمّة الّتي تتحجّر تقاليدها وعاداتها تكون هي نفسها في حالة تحجر. هكذا الصّين، مثلاً، فإنّ صلابة تقاليدها حرمتها التّقدّم بقدر ما فصلتها عن تقاليد العالم المتمدّن. إنّ التّقاليد تصبح في مثل هذه الحالة كالأغلال والقيود لا يمكّن الأمّة أن تحيا حرّةً إلا بتحطيمها. يجب أن تكون حياة الأمّة أقوى من تقاليدها وإلا قتلتها التّقاليد. التّقاليد والعادات تكسب حياة الأمّة لوناً خاصاً تتميّز به ولكنّها لا تكوّن الأمّة.
كلّ تطوّر ثقافيّ في أمّة من الأمم يولّد تقاليد جديدةً. وشرط التّقاليد المميّزة الأمّة أن تكون متولّدةً من حياة الأمّة. فهنالك تقاليد مشتركة بين عدد من الأمم ولكن ليست هذه التّقاليد هي الّتي تميّز الأمّة.
يشترك منتشيني وإيوانوف في اعتبار وحدة اللّغة عنصراً أساسيّاً في تكوين الأمّة. والحقيقة أنّ اللّغة (أيّة لغة كانت) من حيث هي وسيلة للتّخاطب والتّفاهم البشريّ في المجتمع هي من ضرورات الاجتماع الإنسانيّ الدّاخل فيه العقل والنّفس. وإنّ وسيلةً من وسائل التفاهم ضروريّة أيضاً للتّجمهر الحيوانيّ الرّاقي كأصوات بعض الطّيور وتنبيهات بعض الحيوانات الصّوتيّة كنباح الكلاب وهريرها، أو الصّامتة كإشعارات العثّ أو الدّئاب.
كلّ مجتمع يجب أن يكون له وسيلة أو وسائل، لغة أو لغات، لهجة أو لهجات يتخاطب بها أفراده ويتفاهمون ويتفاعل تفكيرهم وتزداد ثروتهم العلميّة. وهكذا نرى أنّ اللّغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سبباً من أسبابه. إنّها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا انّ الاجتماع أمر حادث باللّغة.
ثمّ إنّ اللّغة متى صارت لغة جماعة أو جماعات معيّنة أصبحت حاملةً الميراث الأدبيّ الثّقافيّ لهذه الجماعة أو هذه الجماعات. وفي هذه الحقيقة يكمن سرّ أنّ اللّغة عنصر من عناصر الأمّة. فالأمّة من حيث هي متّحد اجتماعيّ ذو نوع من الحياة خاصّ به في بيئته لا بدّ لها من لغة واحدة تسهّل الحياة الواحدة وتؤمّن انتشار روحيّة واحدة تجمع آدابها وفنونها وعواملها النّفسيّة وأهدافها ومثلها العليا. ولا فرق بين أن تكون اللّغة الواحدة مختصّةً بالأمّة الواحدة أو مشتركةً بين عدد من الأمم، لأنّ الهامّ للأمّة في اللّغة هو ما تحمله من صور حياتها وحاجاتها النّفسية والماديّة وما هو من خصوصيّاتها، لا أشكال ألفاظها القاموسيّة. فليس الفرق عظيماً بين أن يكون اسم الباب «باباً» والحجر «حجراً» وأن يكون اسم الباب door أو Porte أو Tuer واسم الحجر Stone أو Pierre أو Stein . وأن يعرف الإنسان أو القوم لغةً لا تعبّر عن احتياجاته واشتياقاته كأن لا يعرفها. وبهذا المعنى فقط يجب أن يفهم قول بلنتشلي (Bluentschli) : «متى استبدل المرء لغةً جديدةً بلغته خسر قوميّته» أي متى كانت اللّغة الجديدة لغةً راقيةً غنيّةً بأدبها الخاصّ حاملةً مجاري نفسيّةً وفكريّةً قويّةً تجرف معها النّفسيّات الجديدة الدّاخلة فيها. أمّا حيث تكون النّفسيّات الدّاخلة في لغة جديدة قويّةً فإنّها تفعل في اللّغة وتكسبها من نفسيّاتها وتوجّهها في التّعبير عن احتياجاتها ومثلها العليا شأن السّوريّين في اللّغة العربيّة فإنّهم أخذوها من الفاتحين العرب ولكنّهم نقلوا إلى هذه اللّغة علومهم وأدبهم ومجاري فكرهم فأصبحت اللّغة العربيّة لغتهم القوميّة تسيطر نفسيتهم ومواهبهم فيها في بيئتهم وتجاوزها. وإنّ من الأسئلة الّتي تنبّه الفكر إلى هذه الحقيقة: ماذا كانت تكون الثّقافة العربيّة لولا ما نقله السّوريّون من السّريانيّة واليونانيّة إلى اللّغة العربيّة؟
لا يصحّ قول بلنتشلّي المشار إليه إلا في الأقوام الغافلة عن نفسها ووحدة اجتماعها أمّا الأقوام المتنبّهة الحيّة الوجدان القوميّ أو الاجتماعيّ فيمكنها أن تقبل لغةً جديدةً ولا تفقد خصائصها القوميّة الأخرى. وهذه إرلندة يعود إليها تنبّهها القوميّ وعصبيّتّها بعد قرون من سيطرة اللّغة الإنكليزيّة.
إنّ وحدة اللّغة لا تقرّر الأمّة ولكنّها ضروريّة لتماسك الأمّة وحيث تتّخذ اللّغة أساساً للقوميّة يكون القصد من ذلك التّعبير عن حاجة التّوسع والامتداد، كما هي الحال في ألمانية الّتي يلجأ مفكّروها أحياناً إلى وحدة السّلالة وأحياناً إلى وحدة اللّغة(23) لسدّ حاجتها إلى التّوسّع ولضمّ أقليّاتها الدّاخلة في أمم أخرى تعمل على إذابتها.
وإنّ من أكبر الأغلاط تحديد الأمّة باللّغة. فليس عالم اللّغة العربيّة أمّة واحدةً وليس عالم اللّغة الإنكليزيّة إو اللّغة الإسبانيّة أمّةً واحدةً. وكلّ أمّة من أمم هذين العالمين تنشىء أدبها الخاصّ الّذي يعالج حاجاتها ويظهر نفسيّتها وذوقها بلغة هي مشترك بينها وبين غيرها. وبعض الجماعات لا تفتقر إلى لغة واحدة لتكوين أمّة. فهذه سويسرا يطلق عليها كلّ ما يطلق على الأمّة إلا وحدة اللّغة ولكنها بدون لغة واحدة تظلّ ضعيفة الوحدة الرّوحيّة، قابلةً للتّفسّخ بعامل التّأثيرات الثّقافيّة الّتي تمتدّ إليها بواسطة لغاتها المتعدّدة المتّصلة وراء الحدود بأمم عظيمة ذات مراكز ثقل ضخمة وجاذبيات قويّة.
إنّه ضروريّ أن تتكلّم الأمّة لغةً واحدةً وليس ضروريّاً أن تنفرد بهذه اللّغة. على أنّ أهمّ ما في اللّغة للأمّة الأدب الّذي تنشئه هذه الأمّة ليعبّر عن روحيّتها ويحفظ روحيّتها ومثلها العليا.
يزيد إيوانوف على عناصر منتشيني عناصر منها الدّين فهو يرى الدّين لازماً للشّخصيّة القوميّة ومن صفاتها الأساسيّة وما يقصده من الدّين هو الاعتقاد الدّينيّ الواحد العام في المتّحد الاجتماعيّ.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الدّين ظاهرة نفسية عظيمة الخطورة من ظواهر الاجتماع البشريّ. إنّه ظاهرة قد نشأت وارتقت بعامل تطوّر الإنسانيّة نحو سيطرة النّفس وحاجاتها في شؤون الحياة. وهو قد تطوّر مع تطوّر البشريّة ولن ينّفكّ يتطوّر بتطوّرها. ولكنّ تطوّره بطيء جدّاً وفي هذا البطء سرّ خطورته.
إذا مثّل الدّين وحدة العقيدة في شعب كان من العوامل على تقوية التّجانس الدّاخليّ الرّوحيّ فيه. وكلّما كان الشّعب متأخّراً في الارتقاء الفكريّ الفلسفيّ كلّما كان الدّين أفعل في السّيطرة على العقليّة.
الحقيقة أنّ الدّين في أصله لا قوميّ ومناف للقوميّة وتكوين الأمّة، لأنه إنسانيّ ذو صبغة عالميّة. ففي التّعاليم الدّينيّة، المسيحيّ أخو المسيحيّ باعتبار المسيحيّين جماعةً واحدةً، والمسلم المحمّديّ أخو المسلم المحمّديّ باعتبار المسلمين المحمّديّين جماعةً واحدةً. ورابطة المسيحيّين دم الفادي وتعاليمه ورابطة المسلمين المحمّديّين القرآن المنزّل. وكلّ دين إلهيّ في العالم يزعم أنّه للعالم كلّه لا فرق بين سوريّه وإغريقيّه ويسعى لتوحيد العالم تحت ظلّه.
ولكنّ الدّين، إلهيّاً كان أو غير إلهيّ، لم يشذ عن قواعد الشّؤون الإنسانيّة ولم يخرج على مقتضيات أنواع الحياة البشريّة وحاجاتها المتباينة أو المتقاربة. فحيثما تضاربت مصلحة المجتمع، الدّولة أو الأمّة، ومصلحة الدّين كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النّزاع. هكذا أخذت السّور القرآنيّة المدنيّة تتطوّر لتوافق حاجة الجماعة فصارت جهاداً وتشريعاً، بينما كانت السّور المكّيّة فكراً متسامياً إلى «الله» وروحاً متجرّدةً من الأصنام والدّنيويّات. وهكذا صارت تعاليم لوثر [M. Luther, 1483-1536] المصلح وسيلةً لتحرّر ألمانية من ربقة رومة. والكنيسة الأنقليكانيّة (الإنكليزيّة) الّتي أنشئت وأزيلت ثمّ أعيدت لتفي بغرض المجتمع الإنقليزيّ فظلّت في طقوسها كأنّها كاثويكيّة أو أرثوذكسيّة ولكنّها استقلّت عن هذين المذهبين.
إنّ الدين واحد ولكنّ الأمم متعدّدة. وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسّك كلّ واحدة بكلّ عقيدة أو بأية عقيدة، سواء أكانت دينيّةً أو غير دينيّة، لتحافظ على استقلالها الرّوحيّ فلا تخضع لأمّة أخرى بواسطة السّلطة الرّوحيّة الدّينيّة ولذلك ظلّت إسكتلندة كاثوليكيّةً لكي تحتفظ بشخصيّتها القوميّة، فلا تذوب في إنقلترا، وما يقال في إسكتلندة يقال في إرلندة. وهكذا لجأ الفرس إلى الشّيعة ليحدثوا انقساماً يتخلّصون فيه من سيطرة سورية الأمويّة وليستعيدوا استقلالهم ونفوذهم الرّوحيّين والماديّين، وتابع العراق الفرس لتصبح السّيطرة فيه، وتمسّكت سورية بالسنّة لكي لا تذوب في العراق وبلاد فارس.
أمّا الدين من الوجهة العقليّة فهو نوع من أنواع الفلسفة في تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفّس البشريّة. ومع أنّ جميع الأديان الكبرى تجمع على فكرة أساسيّة واحدة، هي فكرة الله وخلود النّفس والعقاب والثّواب فهي تختلف في جزئيّات تتعلّق بالمناقب والأخلاق بالنّسبة إلى البيئة الّتي ينشأ فيها كلّ دين وحاجة الحياة لتلك البيئة. ثمّ تأتي المذاهب والشّيع لتعدّل الدّين من هذه الوجهة ليلائم حاجات ومصالح مجتمع خاصّ أو مجتمعات خاصّة. ونحن نعتقد أنّ إيوانوف قصد المذهب حين قال الدّين فجعل المذهب ديناً قائماً بذاته وهو من باب تسمية الجزء بالكلّ أو الفرع بالأصل.
إنّ في المجتمعات الإنسانيّة نزعةً إلى إكساب العقائد العامّة صبغات وألواناً وأذواقاً من خصوصيّات شخصيّاتها. فكلّ مجتمع يحبّ أن يرى نفسيّته وشؤونه الخصوصيّة في معتقداته ومذاهبه، أي أن يطبع المذهب العامّ أو المشترك بطابع شخصيّ. فالمجتمع الرّوسيّ، مثلاً، قد أدخل في الأرثوذكسيّة الشيء الكثير من شخصيّته وخصوصيّاته الاجتماعيّة. فالتّرانيم والأجواق الكنسيّة وتقبيل الأقارب والأحباب ثلاثاً، والأعياد ومظاهرها القوميّة، هذه الأشياء الثّانويّة بالنّسبة إلى الاعتقاد بالله والخلود والمسيح لها الشأن الأوّل في نفسيّة المجتمع وهي هذه الأسياء الّتي لها قيمة قوميّة في حياة المجتمع، أشياء تقليديّة صبغ المجتمع الدّين بها فأصبحت تقاليد دينيّةً قوميّةً.
أرادت الجامعة الدّينية أن تحول دون نشوء الأمم ولكنّ الأمم عدّلت الدّين ليوافق نزعاتها القوميّة. وبهذا المعنى صار الدّين ويصير عنصراً من عناصر القوميّة. وفي الأمم، الّتي تتعدّد فيها الأديان أو المذاهب تكون القوميّة الدّين الجامع ويعود الدّين إلى صبغته العامّة وعقائده الأساسيّة المتعلّقة بما وراء المادة.
إنّ شرط كون الدّين عنصراً قوميّاً أن لا يتضارب مع وحدة الأمّة ونشوء روحها القوميّة فإذا فقد هذا الشّرط زالت عنه صبغته القوميّة وعادت له طبيعته العامّة.
ومن العناصر الّتي يعدّدها إيوانوف الوحدة السّياسيّة والتّاريخ والأدب وطريقة الحياة والمظاهر الثّقافيّة العامّة. أمّا الوحدة السّياسيّة فهي التّاج الّذي تتوّج به الأمّة نفسها وتحصل به على اعتراف الأمم الأخرى بحقّها في الحياة وكرامتها الشّخصيّة. ولكنّ الوحدة السّياسيّة ليست شرطاً للأمّة ولا عنصراً من عناصرها ولكنّها ضرورة من ضرورات الأمّة ليكون لكيانها الاجتماعيّ ــــ الاقتصاديّ قيمة حيويّة عمليّة. كلّ أمّة تتجه بطبيعة وجودها إلى إنشاء دولة تضمن لها سيادتها وحقوقها الأنترنسيونيّة.
وأمّا التّاريخ فهو سجل مجرى حياة الأمّة، وخطورته هي في القوميّة، في روحيّة الأمّة ووجدانها، لا في الأمّة بعينها. فإنّ ذكريات ما قامت به الأمّة وما عانته تقوّي الوجدان القوميّ. ووحدة الأمّة هي الّتي تعيّن التّاريخ القوميّ. فلولا ما حدث من وحدة الإغريق بعد الإسكندر لظلّ تاريخ الإغريق تواريخ أثينة وإسبرطة وطيبة ومكدونيا أو تواريخ الدّوريّين واليونانين والهلينيين، إلخ.
وأمّا الأدب فقد ذكرناه في باب اللّغة .
وأمّا طريقة الحياة فمن مميّزات الأمّة النّاشئة في بيئة معيّنة تقدّم إمكانيّات معيّنةً من زراعة وصناعة وسلك بحار وتجارة وتفصيلها في باب العادات والتّقاليد.
وأمّا المظاهر الثّقافيّة العموميّة فتشمل جميع ما ذكر من لغة ودين وعادات وتقاليد وتاريخ وأدب وهي كلّها من مظاهر المتّحد الاجتماعيّ الأتمّ الّذي هو الأمّة.
ومع أنّ تفصيل المظاهر الثّقافيّة قد مرّ معنا فيحسن بنا أن نعرض هنا لشيء أدقّ من المظاهر الثّقافيّة ولم يذكره إيوانوف ولا منتشيني ولكنّ الكتّاب الاجتماعيّين يوردونه في أدلّتهم على الأمّة، وهو الثّقافة أو وحدة الثّقافة. والثّقافة هنا بمعنى Culture وهي مجمل العلوم والفلسفات الّتي تتناول الحياة وما له علاقة بها، وما يحصل من ذلك من مستوًى عقليّ واتّجاهات فكريّة واعتقادات مناقبيّة وإدراك للشّؤون النّفسيّة والمادّيّة.
الحقيقة أنّ طبيعة الثّقافة عامّة كطبيعة الدّين. وإنّما قد مرّ على العالم أدوار ثقافيّة سمّي كلّ دور منها باسم الشّعب الّذي قام به أو اللّغة الّتي كانت واسطته. فإذا تكلّمنا عن الثّقافة السّوريّة عنينا بها الدّور الذّي قام به السّوريون في ترقية الثّقافة العامّة وهو دور الجمع بين الزّرع والغرس وسلك البحار والتّجارة وإنشاء الحروف الهجائيّة والدّولة المدنيّة وخصوصاً العناصر الأربعة الأخيرة، كما تقدّم معنا آنفاً. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة الإغريقيّة عنينا بها الفلسفة والفنّ اللّذين أنشأهما الإغريق وأعطوهما للعالم. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة العربيّة عنينا بها ترقية العلوم التي اشتركت فيها العناصر الداخلة في نطاق اللغة العربية، كالحساب والهندسة والطّبّ والكيمياء. وإذا تكلمنا عن الثقافة العصريّة عنينا بها الدّور الأخير الّذي تشترك فيه الأمم المتمدّنة واللّغات الحيّة كلّها مع الاحتفاظ بالألوان أو الصبغات القومية لبعض نواحي الثّقافة.

إذن، ليست الثّقافة شيئاً خاصّاً، بل شيئاً عامّاً يتفاوت في الدّرجات بين الأقوام. فالسّوريّون والإنقليز والألمان والفرنسيّون والمصريّون وجميع الأقوام المتمدّنة يشتركون في ثقافة واحدة عامّة دورها هو الدّور العصريّ. ولكنّ كلّ أمّة من هذه الأمم تحتفظ لنفسها بأسلوبها الأدبيّ أو الفنيّ الخاصّ في ما تعطيه لهذه الثّقافة. ويجوز أن يكون لكلّ أمّة بعض مظاهر ثقافيّة خاصّة.
إذن لا تعيّن الثّقافة الأمّة ولكنّ درجة الثّقافة تكون فارقاً بين أمم وأمم. والسّبب في هذا الفارق اقتصاديّ جغرافيّ قبل كلّ سيء، حيثما وجدت المؤهّلات الرّوحيّة.
بقي في تحديد منتشيني عبارة قويّة هي كون الأمّة مجتمعاً طبيعيّاً من أبرز صفاته خضوعه للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ.
هذه هي نقطة الابتداء الحقيقيّة الأساسيّة لوجود الأمّة ولتعريف الأمّة. شرط المجتمع، ليكون مجتمعاً طبيعيّاً أن يكون خاضعاً للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة تشمل المجموع كلّه وتنبّه فيه الوجدان الاجتماعيّ، أي الشّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير فتتكوّن من هذا الشّعور الشّخصيّة الاجتماعيّة بمصالحها وإرادتها وحقوقها.
كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ (انظر ص 122 و123).
الأمّة متّحد اجتماعيّ أو مجتمع طبيعيّ من النّاس قبل كلّ شيءّ آخر. وكلّ ما مرّ آنفاً من العناصر هي أوصاف للأمّة ناشئة من مجرى حياتها وتاريخها وهي قابلة التّطوّر والتّكيّف. فقد تتعاقب الأديان ويتحوّل الأدب وتتبدّل العادات وتتعدّل التّقاليد وترتقي الثّقافة في أمّة من الأمم من غير أن يشوب سنّة نشوء الأمم شائبة، ومن غير أن ينتفي وجود الأمّة، إلى أن تزول الأمم والقوميّات من الوجود ويصبح العالم كلّه متّحداً اجتماعيّاً واحداً لا تفصل ببينه فواصل أرضيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة.
لقد عرّفنا المتّحد الاجتماعيّ في مكان آخر (ص 181 و186 و187) فراجعه هناك. وممّا مرّ في بحثنا في تعريف الأمّة وعناصرها يمكننا أن نستخلص قاعدةً عامّةً لتعريف الأمّة تعريفاً غير خاضع لتأثير واحد معيّن من تاريخ أو أدب وهي:
الأمّة جماعة من البشر تحيا حياةً موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة ــــ الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات.

الإثم الكنعاني
ما دمنا قد بلغنا حدّ الوجدان القوميّ الّذي هو أبرز الظّواهر الاجتماعيّة العامّة العصريّة فقد بلغنا هذا الدّين الاجتماعيّ الخصوصيّ الّذي أعطى الكنعانيّون فكرته الأساسيّة للعالم ونُعت في بعض الظّروف بالخديعة الكنعانيّة(24) أو الإثم الكنعانيّ. ومن الهامّ جداً للعلم الاجتماعيّ أن نستقصي سبب نسبة الرّابطة القوميّة المؤسّسة على فكرة الوطن إلى السّوريّين الكنعانيّين، لأنّ هذا الاستقصاء يساعدنا على فهم هذه الرّابطة الرّوحيّة المتينة. ولا بدّ لنا من الاعتراف بأنّنا لم نقف في ما طالعناه من كتب التّاريخ والاجتماع على سوى هذه الإشارة السّريعة إلى أصل الوطنيّة الكنعانيّ ومع ذلك فلن يصعب علينا اكتشاف السّبب بدرس أحوال الكنعانيّين الاجتماعيّة والسّياسيّة.
إنّ الكنعانيّين، من بين جميع شعوب التّاريخ القديم، كانوا أوّل شعب تمشّى على قاعدة محبّة الوطن والارتباط الاجتماعيّ وفاقاً للوجدان القوميّ، للشّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، فارتحلت جماعة منهم من حوالي البحر الميت إلى الشّمال الغربيّ ونزلت على السّاحل أمام لبنان وعرفت في التّاريخ باسم الفينيفيّين الذي أصبح أشهر من اسم كنعان ولكنّها ظلّت محافظةً على نسبها الكنعانيّ فظلّ الفينيقيّون يسمّون أنفسهم كنعانيّين.
أنشأ الفينيقيّون (الكنعانيّون) الدّولة المدنيّة فكانت طرازاً جرى عليه الإغريق والرّومان. ومع ما نشأ عندهم من الدّول فإنّهم لم يتحاربوا وظلّوا محافظين على صفة الشّعب الواحد المتضامن في الحياة وكانت زعامة فينيقية تنتقل من مدينةً إلى مدينة، من دولة إلى دولة بعامل التّقدّم والكبر وازدياد المصالح والنّفوذ كانتقال الزّعامة من مدينة صيداء إلى مدينة صور الّتي أسّست أوّل امبراطوريّة بحريّة في التّاريخ.
وباكراً أسّس الفينيقيّون الملكيّلآ الانتخابيّة وجعلوا المَلك منتخَباً لمدّة الحياة فسبقوا كلّ الشّعوب والدّول التاريخيّة إلى تأسيس الدّولة الدّيمقراطيّة. وما الدّولة الدّيمقراطيّة سوى دولة الشّعب أو دولة الأمّة. هي الدّولة القوميّة المنبثقة من إرادة المجتمع الشّاعر بوجوده وكيانه.
وإنّ [مبدأ] المحافظة على الرّباط الوطنيّ القوميّ عند الفينيقيّين ظلّ ملازماً لهم في انتشارهم في طول البحر السّوريّ وعرضه وفي المستعمرات والامبراطوريّات الّتي أنشأوها فظلّت الحقوق المدنيّة في الزّواج والاختلاط وجميع المظاهر الاجتماعيّة والثّقافيّة واحدةً لهم جميعاً ولم يكن هنالك استثناء إلا في الحقوق السّياسيّة.
ومع أنّ الفينيقيّين (الكنعانيّين) أنشأوا الامبراطوريّة البحريّة فإنّ انتشارهم كان انتشاراً قوميّاً بإنشاء جاليات استعماريّة تظلّ مرتبطةً بالأرض الأمّ، وتتضامن معها في السّرّاء والضّرّاء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتّساع دولة. وإنّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالرّوابط الوطنيّة والدّمويّة والاجتماعيّة كان الظّاهرة القوميّة الأولى في العالم الّتي إليها يعود الفضل في نشر المدنيّة في البحر السّوريّ والّتي خبت نارها قبل أن تكتمل بما هبّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرّومان. ومن دلائل هذه الظّاهرة الّتي امتاز بها الكنعانيّون أنّهم لم يدخلوا الأقوام الغريبة الّتي أخضعوها بالفتح كاللّيبيين والإسبان القدماء (الأيبريين) في نظام حقوقهم المدنيّة والسّياسيّة. ومع أنّ ذلك كان من مصادر ضعفهم تجاه تقدّم رومة فإنّه كان دليلاً على روحهم القوميّة ومحافظتهم على وحدة مجتمعهم.
القوميّة، إذن، هي يقظة الأمّة وتنبّهها لوحدة حياتها ولشخصيّتها ومميّزاتها ولوحدة مصيرها. إنّها عصبيّة الأمّة. وقد تلتبس أحياناً بالوطنيّة الّتي هي محبّة الوطن، لأنّ الوطنيّة من القوميّة ولأن الوطن أقوى عامل من عوامل نشوء الأمّة وأهمّ عنصر من عناصرها. إنّها الوجدان العميق الحيّ الفاهم الخير العامّ، المولّد محبّة الوطن والتّعاون الدّاخليّ بالنّظر لدفع الأخطار الّتي قد تحدق بالأمّة ولتوسيع مواردها، الموجد الشّعور بوحدة المصالح الحيويّة والنّفسيّة، المريد استمرار الحياة واستجادة الحياة بالتّعصّب لهذه الحياة الجامعة الّتي يعني فلاحها فلاح المجموع وخذلانها خذلانه.
القوميّة هي الرّوحيّة الواحدة أو الشّعور الواحد المنبثق من الأمّة، من وحدة الحياة في مجرى الزّمان. ليست القوميّة مجرّد عصبيّة هوجاء أو نعرة متولّدة من اعتقادات أوّليّة أو دينيّة. إنّها ليست نوعاً من الطّوطميّة أو نعرة دمويّةً سلاليّةً، بل شعور خفيّ صادق وعواطف حيّة وحنوّ وثيق على الحياة التي عهدها الإنسان. إنّها عوامل نفسيّة منبثقة من روابط الحياة الاجتماعيّة الموروثة والمعهودة، قد تطغي عليها، في ضعف تنبّهها، زعازع الدّعاوات والاعتقادات السّياسيّة، ولكنّها لا تلبث أن تستيقظ في سكون اللّيل وساعات التّأمل والنّجوى أو في خطرات الإنسان في بريّة وطنه أو متى تذكّر برّيّة وطنه.
وإنّ الوطن وبريّته، حيث فتح المرء عينيه للنّور وورث مزاج الطّبيعة وتعلّقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظّاهرة النّفسيّة الاجتماعيّة الّتي هي القوميّة. ماذا تعني القوميّة للسّويسريّ إذا أزلت جبال الألب وبحيراتها؟ وماذا تعني القوميّة للفرنسيّ إذا اختفت سهول فرنسة وتحوّلت أنهرها عن مجاريها؟
والسّوريّ هل يخفق قلبه لجبال الألب أو لصحاري بلاد العرب على ما فيها من مشاهد جميلة؟ أليست سورية هي الّتي ترتاح إليها نفسه ويحنّ إليها فؤاده إذا غاب عنها؟
إنّ شاعراً سورياً مهاجراً ظنّ أنّه قد وجد قوميّته في لدعوة السّياسيّة ــــ الدّينيّة إلى الامبراطوريّة العربيّة أو الوحدة العربيّة أو إعادة مجد العرب. ولكنّه، في ساعة سعيدة من ساعات يقظته النّفسيّة، تنبّه شعوره الدّاخليّ المجرّد عن العوامل السّياسيّة فأدركه الحنين إلى الوطن. على أنّ هذا الحنين لم يكن إلى وطن لا عهد له به، إلى الصّحراء أو مصر أو المغرب، بل إلى سورية. هو الشّاعر إلياس فرحات فانظر كيف تتدفّق عواطفه الصّادقة وشعوره السّليم الفطريّ:

نازح أقعده وجد مقيم في الحشا بين خمود واتّقاد
كلّما افترّ له البدر الوسيم عضّه الحزن بأنياب حداد
يذكر العهد القديم فينادي
أين جنّات النّعيم من بلادي
زانها المبدع بالفنّ الرّفيع منصفاً بين الرّوابي والبطاح
ملقياً من نسج أبكار الرّبيع فوق أكتاف الرّبى أبهى وشاح
حبّذا راعي القطيع في المراح
ينشد اللّحن البديع للصّباح
موطني يمتدّ من بحر المياه ممعناً شرقاً إلى بحر الرّمال
بين طوروس وبين التّيه تاه بجمال فائق حدّ الجمال
ذكره يغري فتاه بالمعالي
أنا لا أبغي سواه فهو مالي
وأيّ سوريّ لا يشعر بهزّة نفسيّة حين يقرأ قصيدة «ربّ صُنْ سورية» لأمين تقي الدّين وبأنّ في هذا المقطع روعة الحقيقة:

يا بلادي نعشي غداً سيسير فتغطّيه من رباك الزّهور
ومتى حثّ بي لقبري المسير فلنعشي على الأكفّ صرير
كلّ معناه: ربّ صن سورية
وهنالك شاعر سوريّ آخر كبير هو سليمان البستانيّ مترجم الإلياذة. هذا الشّاعر اغترب وساح كثيراً وأدركته أوصاب الهرم فذهب يستشفي في سويسرة الجميلة. ولكنّ سويسرة لا ترتبط بحياته فهو لا يرى فيها صور نفسيّته ومزاجه وروابط حياته وروحيّته. تأمّل حنينه إلى سورية ومقابلته بين تلول لبنان وجوّه وجبال الألب وهواء سويسرة:
أفقْ ولو حيناً قبيل الرّحيل لم يبق من صحوك إلا القليل
أفقْ فذي شمسك رأد الأصيل
إن آذنت بالعبور
عمّ الظلام
ونمت عاري الشّعور بين النّيام
وفاتك الحسّ وسمع الكلام والمنطق العذب ومرأى الجميل
……………..
ذكرت لبنان وهاج الحنين فؤادي العاني لذاك العرين
قد عزّ منياه طوال السّنين
فأين تلك الفصول
بلا انحراف
وأين تلك التّلول
والجوّ صاف
وأين ماء فيه محي وشاف وأين ذيّاك النّسيم العليل
فهل ترى يفسح آتي الأجل حتّى به تغمض منك المُقل
وأرض سورية محطّ الأمل
ولو زماناً تسير
قبل الفوات
إلى حماها تسير
تلقي الرّفات
وأهلها نلفي قبيل الممات بمرتع الرّغد وعيش خضيل

إنّ الإثم الكنعانيّ لا يزال فاعلاً فينا وقد أصبح فاعلاً في العالم كلّه.

أنطون سعاده

كتاب نشوء الأمم – الفصل السّابع – الإثم الكنعانيّ

بيروت-1938 1939


هوامش الفصل السابع

(1) قد اصطلحنا على ترجمة: Gemeinschaft, Communauté, Community متحد.
(2) إن اختلاف اللفظ في النسبة إلى الأمة في اللغة العربية قد أدى إلى التباس في المعنى كثيراً ما انتهى بتشويش في الأبحاث. فيجب على القارىء أن يتحاشى ها الالتباس.
(3) غيغر، ص 292 و293.
(4) المصدر نفسه.
(5) [مكيور]، Community ص 22، 23 .
(6) المصدر نفسه ، ص 109.
(7) المصدر نفسه، ص 136.
(8)Franciade ، نظر جوانبه ص 37. وفيما يلي مثال من الفرنسيادة:
Muse, enten – moy des Sommets de parnasse
Guide na langue et me chante la race
De rois françois issus de Francin
Enfant d’Hcotor, Troyen de nation
Qu’on appeloit en sa jeunesse tendre
Astyanax et du nom e Scamandre.
De ce Troyen conte – moy les travaux,
Guerres, desseings, et combien sur les eaux.
Il a de fois (en despit de Neptune
Et de Junon) surmonté la fortune
Et sur la terre eschapé de peris (perils)
Ains que avant que) bastir les grands murs de paris.
(9) هو المتشرع الكبير هطمن Hotman .
(10) جوانيه ص 34.
(11)Maurice Barrés يقول في كتابه: Les traits eternels de la France Nous sommes la nation aui, la premiére de toute l’Europe, a eu l’idée qu’elle formait une patrie نقلاً عن جوانيه، ص 32.
(12) جوانيه، ص 226. انظر أيضاً: مكيور Modern State الدولة الحديثة ص 123.
(13) جوانيه، ص 9.
(14) المصدر نفسه، ص 10.
(15) المصدر نفسه، ص 9.
(16) المصدر نفسه، ص 386.
(17) مكيور، Modern State، ص 123
(18) المسند.
(19) سنعود إلى هذا الموضوع بإسهاب في الكتاب الثاني.
(20) [دلابلاش]، ص 7.
(21) المصدر نفسه، ص 15.
(22) نقلاً عن جوانيه ص 385.
(23) باركر ص 15.
(24) انظر بهذا الصدد أبحاث كبرس، وأبحاث الدكتور شنكلن في الجامعة الأمير كانية.
(25) مثال ذلك غناء موريس أرنط M, Arndt :
So weit die deutsche Zung Klingt
Und Gott in Himmel Lieder singt,
Das soll es sein! Da soll es sein!
Das ganze Deutschland soll es sein.
معناه: يجب أن تشمل ألمانية الكاملة مدى مايرن اللسان الألماني وما يترنم الله في السماء!
(26) هرتس، ص 162 نقلاً عن قوبنو. انظر أيضاً أفلاطون، الجمهورية، الفصل الثالث.
(27) إن حكاية مجيء الفينيقيين من خليج العجم أو البحر الأحمر ليست موثوقاً بصحتها وقد أصبحت ساقطة بعد الأدلة الجديدة المثبتة ما ذكرناه آنفاً. ماير (ج 2 ف 356 الحاشية) يذكر نفي مجيء الفينيقيين من البحر الأحمر أو جزائر البحرين وإن كان كيتاني قبل القول بمجيء الفينيقيين من خليج العجم (كيتاني، ج 1. ص 185).



ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...