مقدمة
في شهر مايو/أيار من هذه السنة 1942 وقعت في يدي نسخة من العدد الثاني، السنة الأولى، من مجلة العصبة التي كانت تصدر في سان باولو، البرازيل، وهو العدد المخصص لشهر فبراير/شباط سنة 1935. كانت نخسة وسخة الغلاق وقد انتزعت من صفحات عديدة والصفحات الباقية مخلخلة ومهددة بالعطب. مع ذلك رأيت أن أنظر في هذه الصفحات وأقف على ما فيها، فوجدت نص مراسلة أدبية بين ثلاثة أدباء سوريين، هم: أمين الريحاني ويوسف نعمان معلوف وشفيق معلوف. والمراسلة المذكورة عبارة عن ثلاثة كتب مشتملة على آراء ونظريات في الشعر والشاعر. والشعر والشاعر يدخلان في موضوع الأدب الذي كان قد استلفت نظري ما يجري من تخبط وتخليط فيه.
قرأت الكتب الثلاثة المشار إليها وقرأت التعليق الأخير الذي ألحقه بها شفيق معلوف، حين دفعها للنشر في المجلة المذكورة. فشعرت بالنقص الفكري الكبير، الذي مثلته تلك الكتب في هذا الموضوع، وبالحاجة إلى درس يتناول موضوع الأدب في أساسه ويجلو الغوامض الكثيرة، التي أشوت فيها سهام الرماة وضاعت مجهودات الكتّاب. على أني لم أجد منفسحاً من الوقت للقيام بهذا الدرس، على الوجه الذي أريده. فحاجات صحيفة الزوبعة، التي كان لا بدّ من قيامي على إدارتها وكتابة أهم مواضيعها وأبحاثها السياسية والاجتماعية، والفلسفية، مضافة إلى حاجات إدارة فروع الحزب السوري القومي الاجتماعي، عبر الحدود ومعالجة المسائل والقضايا الكثيرة التي تعرض لها، وإلى حاجات الإذاعة القومية الاجتماعية في أوساط السوريين عبر الحدود، فضلاً عن الاهتمام بتتبع السياسة الإنترناسيونية وعلاقتها بالأمة السورية ونهضتها القومية الاجتماعية، كانت أكثر مما يمكنني وحدي سد ثغراته، فكيف أعمد إلى توسيع دائرة الأعمال وزيادة القضايا التي تشغل فكري، من غير إلحاق عجز كبير بشؤون كثيرة.
بعد استعراض مستعجل لهذه الحالة، قرّرت إرجاء الموضوع الأدبي إلى وقت مؤات. ومضت بضعة أشهر أنجزت فيها بعض المطاليب الهامة. ولكن المسائل المتعلقة بطبيعة عملي لم تنقص، بل زادت. وفي هذه الأثناء كان موضوع الأدب يلوح أمام ناظري ويطل من وراء المشاكل الإدارية والنفسية والسياسية التي تعرض أمامي. ولم أكن أجهل علاقة الأدب بهذه المشاكل وإمكانيات تذليلها بإنشاء أدب جديد، حي. وكم كنت أتألم من تفاهة الأدب السائد في سورية وأشعر أنّ فوضى الأدب وبلبلة الأدباء تحملان نصيباً غير قليل من مسؤولية التزعزع النفسي والاضطراب الفكري والتفسخ الروحي المنتشرة في أمتي. وكان هذا التألم يحفزني لانتهاز كل فرصة عارضة للفت نظر الأدباء الذين يحدث بيني وبينهم اتصال إلى فقر الأدب السوري وشقاء حاله وفداحة ضرره ولتوجيههم نحو مطالب الحياة وقضاياها الكبرى وخطط النفس السورية في سياق التاريخ. ومن الذين اتصلوا بي في سان باولو، البرازيل، وأفضيت إليهم برأيــي ثلاثة من أفراد «العصبة الأندلسية» بينهم مدير مجلة العصبة التي نشرت المراسلة الأدبية المذكورة آنفاً. كان ذلك في أحد أيام يناير/كانون الثاني 1939، على الأرجح، بمناسبة قيام الأدباء الثلاثة المذكورين بزيارة رسمية لي. فقد سألت أولئك الأدباء عن السبب الموجب لنشوء «العصبة الأندلسية» وهل لها غرض أو مذهب أدبي يجمع بين أفرادها ويوحّد اتجاههم. فأجاب مدير مجلة العصبة جواباً استوثقت منه أنه لا يوجد شيء واضح من هذا القبيل. فأبديت للزائرين رأيــي في الأمر وقد اشتمل على نظريات توجيهية جعلت أحدهم يقول، فيما بعد، «إنّ الزعيم محدّث ممتاز». فتأسفت كثيراً، لأن ذاك الأديب قصر همّه على مزايا المحدّث دون أفكاره وآرائه، والعهدة على الناقل. ومثل هذه السابقة جعلني أزداد شعوراً بالحاجة الماسّة إلى بحث في الأدب ومهمته، وفي الأدب الذي تحتاج إليه سورية وخصائصه.
بين إلحاح هذه الحاجة وإلحاح المسائل الأخرى التي لا تفتأ تزدحم في مكتبي، رأيت أن أستسنح أول فرصة للتوفيق بين الجاذبين. فلما فرغت من أهم المسائل المستعجلة، قررت الكتابة في هذا الموضوع بالاستناد إلى ما ورد في مراسلة الأدباء الثلاثة المنشورة في مجلة العصبة. وكانت الطريقة العملية الوحيدة الممكنة، للتوفيق بين مختلف الحاجات، أن أكتب لكل عدد من الزوبعة قسماً من البحث، وهذه الطريقة الاضطرارية أوجبت قطع التفكير في الموضوع عند نهاية ما يفي بحاجة عدد الجريدة والانتقال إلى معالجة الشؤون الأخرى المتنوعة، حتى إذا حان موعد صدور العدد التالي، عدت إلى الموضوع والفترة بين الانقطاع والعودة نحو خمسة عشر يوماً تنازعت فيها الفكر شواغل ومهام عديدة. فكان كل قسم جديد يكلفني جهداً كبيراً في الوصل بين أسبابه وأسباب القسم السابق له. وكان من وراء ذلك فوات تفاصيل كثيرة هامة.
وكنت أريد أن أحدد الموضوع بما جاء في المراسلة الأدبية المشار إليها. وهو مقتصر على ناحية الشعر. ولكني اضطررت إلى تعديل هذه العزيمة بسبب اطّلاعي، بعد كتابة المقال الأول، الذي نشر في العدد 50 من الزوبعة الصادر في 15 أغسطس/آب الماضي، على آراء رهط آخر من كبار أدباء سورية ومصر منشورة في بعد أعداد الهلال التي وردتني هدية من أحد الرفقاء القوميين الاجتماعيين. فعرضت للأدب عامة، فضلاً عن الشعر، وكان ذلك دائماً ضمن حدود التوفيق المذكور التي أوجبت الاقتصار على الأساسي، الضروري والاستغناء عن الإسهاب والتفاصيل الواسعة المجال، التي رأيت تركها لاستنتاج المفكرين والأدباء.
أتممت هذا البحث في ثمانية أقسام، تشبه المقالات، نشرت متلاحقة في ثمانية أعداد من الزوبعة ابتداء من العدد الصادر في 15 أغسطس/آب وانتهاءً في العدد الصادر في 1 ديسمبر/كانون الأول 1942. وفي أثناء نشر الأقسام المذكورة وردتني رسائل من أدباء، ومن بعض محبي الأدب، يبدي فيها أصحابها اهتمامهم للبحث ورغبتهم في اقتنائه. وبعض هذه الرسائل حمل اقتراح طبعه مجموعاً في كتاب على حدة، تعميماً للنظريات الواردة فيه. فوافق ذلك رغبتي واغتنمت أول فرصة لإصدار هذا الكتاب.
وقد عنيت بمراجعة البحث وتنقيحه وتصحيحه من الأغلاط التي وقعت عند نشره في الزوبعة وأضفت إليه ملاحظات جديدة قليلة لم ترد في الزوبعة. وفي هذه الناحية صعوبات أخرى ناتجة عن نظام المطابع السورية في بيونس آيرس وكيفية عملها.
بيونس آيرس، في 15 ديسمبر/كانون الأول 1942
أنطون سعاده
مقدمة الطبعة الثانية
وصلت إلى الوطن نسخ قليلة من الطبعة الأولى، التي طبعت في بيونس آيرس، فأثارت اهتمام الأدباء والدارسين والطلبة والأوساط التي لها عناية بالشؤون الأدبية وتطور الفكر في سورية، واقترح عليّ طبع الكتاب ثانية ليتسسنى للراغبين في الأدب اقتناؤه. فنقّحت الكتاب ودفعته للطبع.
الشوير، في 15 يونيو/حزيران 1947
المؤلف
تخبط وفوضى
الزوبعة، بيونس آيرس، العام الثالث، العدد 50 (15/8/1942) ص 1 ــــ 3
تقديم البحث في الزوبعة:
نشرت مجلة العصبة التي كانت تصدر في سان باولو، البرازيل، في عددها الصادر في فبراير/شباط سنة 1935 ثلاثة كتب تدور على ديوان الأحلام للشاعر شفيق معلوف نزيل سان باولو، البرازيل، وقد لفت نظري الاحتكاك والتصادم الفكريان في الشعر وأغراضه اللذان أثارهما ظهور الأحلام ورأيت أنهما يفتحان الباب لبحث يجب أن يحيا ويجد اهتماماً كبيراً في دوائر التواقين إلى المعرفة والفهم والراغبين في الارتقاء الثقافي الذي يمكّن الأمم من إبراز أفضل مواهبها والصعود إلى قنة مجدها. وإلى القارىء الكتب المذكورة وتعليق الشاعر الأخير عليها حين سلّمها للنشر، كما وردت في مجلة العصبة المحتجبة:
ــــ 1 ــــ
من كتاب الريحاني
عن الفريكة في 12 نيسان/أبريل 1926
عزيز شفيق المعلوف حفظه الله
أشهد أنك شاعر. ولكنك في الأحلام بعيد عن كنه الحياة والمقاصد الكبرى فيها. قد كانت هذه اللهجة ــــ لهجة الكآبة والحزن ــــ «موضة» في زمن بيرون ومسه. وهي في الشرق، خصوصاً فينا نحن السوريين، داء دفين. فما فضل الشاعر وهو يبكي ويئن مثل عامة الناس؟
أمّا من النظر الفني ففي «أحلامك» كثير من بديع التصور، وجميل الخيال ورقّة التعبير، ونعومة الديباجة. ولكنك مقلد يا صديقي. ولا أقول مقلد لجبران وهو مثلك في دموعه من المقلدين ــــ اقرأوا أشعيا بدل أن تغمسوا أرواحكم في دموع إرميا. عودوا إلى شكسبير وغوته ــــ إذا كان لا بدّ من العود ــــ بدل أن تحرقوا أصابعكم ومآقيكم في مراجل ميسه وبيرون.
ليس الشاعر «زنبقة في جمجمة» إنّ في ذا التصور غلواً فيه سقم وليس فيه شيء من الحقيقة والجمال. إنّ فيه تحقيراً للجنس الإنساني، وأنا وأنت وجبران منه والحمد لله. وإنّ في الكون وفي الحياة جمالاً أسمى وأبهى وأعظم وأجلّ من جمال الزنبقة اللطيف المحدود، وأنت وأنا وجبران، والشمس والقمر والمجرّة، لمعات مجسدة من ذلك الجمال والحمد لله.
أما الشاعر فهو من الناس، من صميم الناس. وليس من ظن نفسه فوق الناس بابن عم لابن عم أصغر الشعراء. إنما الشاعر الحقيقي مرآة الجماعات، ومصباح في الظلمات، وعون في الملمات، وسيف في النكبات. الشاعر الحقيقي يشيّد للأمم قصوراً من الحب والحكمة والجمال والأمل. كفكفوا دموعكم سلمكم الله. وارفعوا لهذه الأمة التي تتخبط في الظلمات مشعالاً فيه نور،فيه أمل، فيه صحة وعافية. وإنّ في الصحة حياة جديدة.
صديقك
أمين الريحاني
ــــ 2 ــــ
من كتاب صاحب الأيام
عن نيويورك في 14 يوليو/تموز 1926
عزيزي شفيق
… وددت لو يسمح لي الوقت بإبداء بعض ملاحظاتي مطولاً في ديوانك، ولكن ما أريده لا يتاح لي فنحن هنا عبيد أوقاتنا، غير أنّ ذلك لا يمنعني من إبداء رأيــي في أشياء جوهرية أريدك أن تعيرها جانب الاهتمام.
إعتن في مؤلفاتك المقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة المرء في الحياة وقبل كل شيء أترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة. واطرق أبداً المواضيع الحيوية والعمرانية وشهِّر تشهيراً لا تخشى معه لوم اللوام مواضع الضعف في الأمة، مشيراً إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها، على سبيل حب الإصلاح المجرّد ليس إلا، وأن لا تعود حياتك كلها في ما تكتب إلى البكاء والنواح على الطلول البالية والآثار الخربة، كما يفعل أكثر الكتبة الشرقيين ولا سيما الشعراء منهم، بل كن ذاك الرجل المفكر في الحياة وما تتطلبه الحياة من عوامل الرقي وأسباب العمران، ولا تكن شرقياً في خيالك وعملك، بل المس بيدك أبداً حقائق الوجود، واسع إلى العمل بها دائماً وفي كل حين، لأن فضاء الشرق ممتاز عن كل فضاء، كله خيال بخيال، يوحي إلى المرء ما لا يوحيه فضاء آخر في الوجود، فمنه أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعداد منازعها وكثرة معتقداتها فكان شراً في الحياة على نفسه وعلى غيره ــــ فكن يا شفيق إذاً رجلاً يؤخذ بالحقيقة لا يضلّه الخيال…
عمك
يوسف نعمان معلوف
ــــ 3 ــــ
جواب صاحب الأحلام
عن زحلة في 15 سبتمبر/أيلول سنة 1926
سيدي العم الفاضل
… أما ما ذكرتموه عن الأحلام فقد أعرته كل اهتمامي منزلاً رأيكم من نفسي أجلّ منزلة، وأما أن أكون «مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالي» فهذا ما طمحت إليه منذ ترعرعت ونشأت. فكنت راسخ العقيدة في وجوب تجديد الشعر العربي وبثّ روح حديثة فيه، ولئن طرقت باباً ولجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟ وهل إذا اتفق لرسام إبراز صورة عالجها من قبله آخرون فاستحدث لها ألوناً وابتكر لها رموزاً وأشكالاً نقوم فننكر عليه فنه وابتكاره، لأن الصورة حملها قبل لوحه لوح وخطرت لسواه في مخيلة؟
أمّا أن أترك في شعري «الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة، وأطرق المواضيع الحيوية والعمرانية» فلا أخفي عنك يا سيدي العم الكريم، مع احترامي لرأيك الأعلى، أنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو في عرفي ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته ــــ في أحايين كثيرة ــــ منفعة يصيبها المرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية. وقد أكون على خطأ من الوجه العالمي النافع، ولكنني على حق من وجهة الفن الخالد.
إنّ للوطن كتّابه وصحافييه وله أقلامهم المرهفة وقرائحهم المشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الحالات الطارئة فيبعث من حوله ضجيجاً يزول بزوال تلك الطوارىء، فهذا ما لا أسلّم به، إذ ليس الشاعر في عرفي من ضج له الجيل الواحد حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأجيال.
أنا عالم أنّ الشرق لا يحتاج إلى الفن حاجته إلى المواضيع الحيوية العمرانية، ولكن هذه المواضيع ترتبط بالزمان، يا سيدي العم الكريم، وأنا من هواة الشعر الخالد الذي لا يرتبط بالأزمنة…
المخلص
شفيق معلوف
ــــ 4 ــــ
حاشية ــــ في 22 فبراير/شباط سنة 1935
مضى على هذه الكتب الثلاث زمن غير قصير، ولو طلب إليّ الآن رأيــي في ما أنكره عليّ الكاتبان الكبيران من الكآبة والشكوى في قصيدة الأحلام، لأنكرت معهما على نفسي ذلك الأسلوب، لو أنّ الأحلام كانت من منتوج العهد الحاضر. أمّا وهي قد نظمت في زمن لم أكن قد جاوزت فيه الثامنة عشرة من العمر، تحت تأثير طور الفتوة المكتنف بالظلمات والحيرة وقلق النفس، فإنني أراها صورة حقيقية لنفسيتي في ذلك الحين، كما يصح أن تكون صورة لنفسية معظم الفتيان، وهذا ما يحببها إليّ ويجعل لها قيمتها في نظري.
شفيق معلوف
أعتقد أنّ الموضوع الذي طرقته الكتب الثلاث لا يجوز أن يبقى في هذه الحدود الأولية التي ورد فيها، فالمعاني فيها كلها نتف مقتضبة لا تسد حاجة لا تشفي غليلاً. وإذا كان يشفع في اقتضابها أنها كتب خصوصية فلا يشفع شيء بالمرور بها دون تناولها بالدرس وتمحيص الأفكار الواردة فيها. ولا أعتقد الحاشية التي ضمّنها الشاعر تعليقه على كتابي منتقدي ديوانه بالغة الغاية التي يمكن أن تطمئن إليها نفسُ من لا يقنع من عظمة البحر بوشل ولا من سعة الأفق بحيّز حدده المستوى الداني الماضي.
لا أطمح إلى قول كل ما أود قوله في الأدب وفي الفن في أبعد ما أمكن ويمكن النظرة الإنسانية العليا بلوغه، وجميع ما ينطوي تحت ذلك من أشكال وألوان، في عجالة أكتبها في صحيفة تلح عليها المطاليب السياسية وحاجات التفكير القومي في القضايا الاجتماعية ــــ الاقتصادية، تحت ضغط الظروف الحاضرة التي تحمّلني من أعبائها ما لو زاد أكثر من نسبة قشة التبن إلى الوقر لأرهقني وأرزحني. ولكني لم أجد بدّاً من قول شيء في الموضوع لإبقائه حياً ولترغيب الأدباء في الإقبال عليه، ولا مندوحة عن إبداء بعض ملاحظات خطرت لي فور قراءتي الكتب المثبتة آنفاً.
أبدأ بكتاب الريحاني. إنّ فيه مواضع تحتاج إلى تدقيق كثير. وألاحظ أنّ في هذا الكتاب تعميماً وإطلاقاً يجرفان الكثير من التفاصيل التي تبقى الحقيقة الكبرى الأساسية ناقصة نقصاً كبيراً بدونها، ويظل الفكر قلقاً لا يجد استقراراً واطمئناناً إلا بوجودها وجلائها.
نظر الريحاني في الأحلام فوجده ديواناً تسوده «لهجة الكآبة والحزن» ووصف هذه «اللهجة» بأنها كانت «موضة» في أيام بيرن وميساه. وليس ديوان الأحلام في متناول يدي لأقابل هذا الوصف عليه وأجد كم فيه من تدقيق. ولكني أذكر أني قرأت هذا الديوان قراءة مستعجلة من نحو أربع عشرة سنة، أو يزيد، وأذكر أنّ التأثير الذي أحدثه فيَّ هو تأثير نبضات الإحساس الأول وقد انقشعت حجب المراهقة عن قزحية الشباب فتمازجت فيها الأشواق والرغبات التي اتخذت صوراً من الجمال قوية ولاذعة أحياناً، ولكنها صور ظهرت فيها شاعرية جديرة بأن تحل موضعاً مكيناً في النفوس وفي الأجيال. ومع ذلك فلا بدّ من القول إنّ تعبير «لهجة الكآبة والحزن» الذي أطلقه الرحياني هو من التعميمات التي لا تفيد كثيراً في دراسة معينة أو مختصة بموضوع معين. وهو بعيد كل البعد عن تناول الوجهة النفسية وأسبابها.
ومن هذا القبيل انتقاله من مخاطبة صاحب الأحلام إلى مخاطبة جميع الشعراء السوريين فيقول لهم «اقرأوا أشعيا بدل أن تغمسوا أرواحكم في دموع إرميا. عودوا إلى شكسبير وغوته بدل أن تحرقوا أصابعكم ومآقيكم في مراجل ميساه وبيرن». ولو كان قيل هذا الكلام في غير معرض النظر في ديوان الأحلام لكان إطلاقه هذا الإطلاق غير المحدود يجد موضعاً أمنع من موضعه الحاضر، لأنه يكون حينئذٍ كلاماً عمومياً يفهم منه من شاء ما يشاء، أما في موضعه المذكور فهو قليل المحصل. ولا يزيد المحصل من كلام الريحاني قوله:
إنّ الشاعر ليس «زنبقة في جمجمة»، ولا قوله: «إنما الشاعر الحقيقي مرآة الجماعات ومصباح في الظلمات وعون من الملمات وسيف في النكبات. الشاعر الحقيقي يشيد للأمم قصوراً من الحب والحكمة والجمال والأمل».
هذا الكلام الأخير الذي يحاول الريحاني أن يخرج به من السلبية الصكراتية (السقراطية) إلى النظرة الإيجابية يزيد التعميمات السابقة تعميماً. ويمكن أن يحسب من قبيل المعميات وليس فيه أدنى اقتراب من شجون الموضوع التي لكل شجن منها اتجاه خاص.
الحقيقة أنّ هذا الكلام لا يتعلق بديوان الأحلام بقدر ما يتعلق بالشعر والشاعر على الإطلاق. وهو مرسل إرسالاً لا تحقيق فيه ولا تدقيق، وليست فيه حقيقة أساسية واحدة يصح اعتمادها «لتشييد قصور من الحب والحكمة والجمال والأمل» للأمم التي تهدمت قصورها أو لم يكن لها قصور. فإني لا أعتقد أنّ شعراء سورية يصيرون غير ما هم بقراءة سفر أشعيا وترك قراءة سفر إرميا. والعودة إلى شكسبير وغوته وحدها لا تفيد كثيراً إذا لم تكن هنالك ثقافة واعية فاهمة تتبع خطط النفس السورية. وماذا استفاد أدب اللغة العربية كله من عودة الشاعر المصري شوقي إلى شكسبير غير النسخ والمسخ والتقليد الذي لم يضف إلى ثروة الأدب العالمي مقدار حبة خردل؟
أما قول الريحاني «الشاعر الحقيقي مرآة الجماعات ومصباح في الظلمات» فقلت إنه من قبيل المعميات ولم يصعد بنا درجة واحدة فوق قول جبران «الشاعر زنبقة في جمجمة» فمرآة الجماعات لا يكونها الشاعر وحده أو كل شاعر، وقد قال الدكتور خليل سعاده: «صحافة كل أمة مقياس ارتقائها، وصورة أخلاقها، ومظهر شعورها، وعنوان مجدها، فهي المرآة التي ترى بها الأمة نفسها»، ومصباح الظلمات يكونه الفيلسوف والفنان والأديب والشاعر والقائد والعالم، وكذلك «عون في الملمات وسيف في النكبات». ويكونه كل واحد من هؤلاء بطريقة خاصة. وفي هذه الحقيقة يكمن سر لا يجلوه كتاب الريحاني ولا شيء مما كتب الريحاني. فقد عاد الريحاني إلى هذا الموضوع في كراس عنوانه أنتم الشعراء قبّح فيه البكاء والعويل تقبيحاً كثيراً، ولكنه لم يعطِ الشعراء درساً واحداً يوجههم توجيهاً جديداً، لأن كلامه كان كله من هذا النوع الغامض المشوش الذي يشبه دعوة الداعين إلى الاتحاد القومي من غير فهم أو تعيين لما هي القومية وما هي مقوماتها.
أترك كتاب الريحاني عند هذا الحد، وانتقل إلى كتاب السيد يوسف نعمان معلوف. والذي أراه في هذا الكتاب أنه يشتمل على آراء فجة، أو مبتسرة، مستمدة من الحياة الأميركانية العملية ذات الطابع الأنكلوسكسوني، وليس فيه شيء من العمق لخلوه من النظرة الفلسفية أو التاريخية. وهذه الآراء الواردة فيه هي مزيج من نزعة فردية ورغائب عملية وأحكام عامة استبدادية، كقوله «فمنه (الشرق) أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعدد منازعها وكثرءة معتقداتها، فكان شراً في الحياة على نفسه وعلى غيره».
تظهر النزعة الفردية بجلاء في قوله:
»إعتنِ في مؤلفاتك المقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة المرء».
فكأن الشهرة الفردية صارت الغاية الأخيرة المتوخاة من الفكر أو العمل، وكأن أهم شيء في طبيعة الفكر أو العمل أن يكون المرء غير تابع غيره وأن يكون متبوعاً. وهي قاعدة فردية بحتة لعل الدافع إليها أنّ المتكلم عم المخاطب ويهمه أمره الشخصي، استمساكاً بعروة القرابة الدموية التي تنزع إلى المباهاة والمفاخرة، كما هو مشهور في قبائل العرب. ومع أنّ المخاطب، وهو الشاعر المنتقد، قبل هذه الفكرة الفردية في جوابه إلى عمه فهو لم يتقيد بها كل التقيد الظاهر في كلام عمه فألقى عليه هذا السؤال: «ولئن طرقت باباً ولجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح، ما لم يطرق الناس بابه؟» وهو سؤل يكاد يصل إلى طرق باب ينفتح عن أفق تنبلج فيه أنوار فجر تفكير أصلي جديد، ولا يقصر إلا خطوة أو قفزة واحدة ليلج هذا الباب. ولكنها خطوة أو قفزة تفصل بين عالمين وقد تشبه نوعاً القفز فوق العارضة العالية أو السور بالاستعانة بعكاز طويلة خاصة بهذا الغرض.
والرغائب العملية هي التي تجعل عم الشاعر يقول له هذا القول: «وقبل كل شيء أترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة واطرق أبداً المواضيع الحيوية والعمرانية، الخ». فمحصل كلامه أنّ الخيال هو دائماً لا روح ولا حقيقة فيه، وأنّ الشعر هو كله خيال. وهنا يتحول انتقاده الشاعر إلى نوع من تقبيح الشعر والإشارة على نسيبه بوجوب تركه والانتقال إلى طرق «المواضيع الحيوية والعمرانية… ومواضع الضعف في الأمة مشيراً إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها». وكل ذلك لا دخل له في الشعر والشعراء ولا يختص إلا بالعلماء الاجتماع والنفس والسياسة. ولولا هذا التخصيص التوجيهي لكان أمكن التساهل في عبرة المنتقد السابقة واعتبارها مفيدة ترك نوع الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة من أجل الأخذ بنوع من الخيال فيه روح وحقيقة. وقد أصاب الشاعر في الرد على هذا الكلام من وجهة الشعر، خصوصاً قوله:
»إنّ للوطن كتّابه وصحافييه وله أقلامهم المرهفة وقرائحهم المشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الحالات الطارئة فيبعث من حوله ضجيجاً يزول بزوال تلك الطوارىء فهذا ما لا سلم به، إذ ليس الشاعر، في عرفي، من ضج له الجيل الواحد، حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأحيال».
فهذا كلام من يشعر برسالة الشاعر الأسمى والفنان الذي من أهم صفاته الإبداع عن طريق التصور (الخيال)، وهو أقوى كثيراً من قوله إنّ مهمة الشاعر هي «تصوير نفوس الناس للناس» الذي هو مرادف لقول الريحاني إنّ الشاعر «هو مرآة الجماعات» وقد يكون متأثراً به. ولكنه مخالف له عند التفصيل، لأن «مرآة الجماعة» قد تعني «نفس الجماعة»، أما «نفوس الناس» فيرجح أنها تعني نفوس الأفراد. والعبارتان ضمن الحدود التي قيلتا فيها، ضعيفتان لأنهما لا تشتملان على أية قضية نفسية علمية أو فلسفية أو على إدراك مضبوط لنفس الجماعة ونفس الفرد والفرق بينهما. والعبارة الثانية، من هذا القبيل، أضعف من الأولى لأنها أكثر تعميماً وهي لذلك أكثر غموضاً. ولكن إذا أخذنا هذه العبارة على وجه التدقيق ونظرنا إليها، نظرنا إلى معنى مقصود بعينه وجدنا أنها أقوى، في ذاتها، من عبارة الريحاني، لأنها أبرزت لفظة «النفس» التي تدل، سواء أكانت مفردة أو مجموعة، على أقوى وأسمى ما في الإنسان، بينما عبارة الريحاني لا توجب الدخول في المسائل النفسية وقد تعني إبراز شؤون الجماعة وعاداتها.
من الغريب أنّ الشاعر الذي قال القول القوي المذكور آنفاً، في صدد الشاعر ورسالته، لم يجد بعد مضي تسع سنوات ونيف، ما يزيده عليه أو يكون شبه استمرارله، وأنه اكتفى بالقول في تعليقه الأخير على كتابي منتقديه أنه لو طلب إليه رأيه الآن لكان «أنكر على نفسه ما أنكره عليه الكاتبان الكبيران من الكآبة والشكوى».
هاني بعل1
لا يقتصر التضارب والتخبط في حقيقة الشعر وصفته، اللذان دللت عليهما في ما تقدم من هذا البحث، على الأدباء الثلاثة السوريين المذكورين آنفاً، بل هما يشملان أكثر الأدباء اللامعين، إن لم يكن كلهم، في العالم العربي. فقد كان من حسن حظي وأنا في هذه البلاد التي قضت الظروف أن تتوقف فيها رحلتي المرسومة، أني تسلمت هدية كتبية من أحد الرفقاء الغيورين فيها بعض مجموعات اللال، وبينما أنا أقلب صفحات بعض أعداد 1933، بعد كتابة الحلقة السابقة، وقع نظري على رأي للدكتور محمد حسين هيكل بك، أحد كبار أدباء مصر، في عدد يونيو/حزيران من السنة المذكورة. فأقبلت على المقال ووجدت أنه حلقة أخرى من حلقات التخبط في دائرة مغلقة على الأدب، إذ فيه من التعميمات والمطلقات ما لا محصل إيجابي وراءه. إليك بعض عباراته:
«إني أفهم أن يكون التجديد هو أن يشعر الشاعر أو الكاتب بشعور العصر الذي هو فيه، ويعبّر عن ذلك تعبيراً صادقاً ممثلاً لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير بحيث يكن شاعر القرن الرابع عشر الهجري أو كاتب القرن الرابع عشر (القرن العشرين) له شخصية خاصة تخالف شخصية الشاعر أو الكاتب الذي ظهر في القرون السابقة مع المحافظة على قواعد اللغة وحدودها»، «ولست أقصد بالصفات الخاصة أن يعمد شعراء العصر الحاضر إلى استخدام ألفاظ المخترعات الحديثة في شعرهم أو يتناولوا هذه المخترعات فيصفوها، ويسمّوا ذلك تجديداً، فإذا كان القدماء وصفوا الناقة أو السيف وصفوا هم القطار أو الطيارة أو المدفع. وإذا كان القدماء استعملوا في أشعارهم هند وليلى ودعد، استعملوا هم سوسو وسوسن ومارغريت وماري إلى آخره. بل أقصد بالصفات الخاصة إبراز كل ما يقع تحت الشعور بحكم البيئة، والتعبير تعبيراً صادقاً عن الحياة التي تحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها وتجعل لها صبغة خاصة بحيث يعدّ الخروج عن هذه الصبغة خروجاً عن تلك البيئة. فأنت تستطيع في الوقت الحاضر وفي البيئة التي تعيش فيها أن تصف الناقة أو السيف أو غيرهما، مما تناوله القدماء بأسلوب يتفق وشعور العصر الذي تعيش فيه والحياة العقلية السائدة في هذا العصر وحينئذٍ يقال إنك وصفت هذه الأشياء بأسلوب جديد».
وحسين هيكل يرى أنه لا يوجد «شعر معبّر عن العصر الذي نحن فيه وليس لنا شعراء يمتازون بصفات تخالف الصفات التي كان عليها بعض الشعراء في العصور الماضية»، ويزيد قائلاً:
«وأنا على يقين من أنّ مؤرخ الأدب العربي في الأجيال القادمة، لو قدمت إليه قصيدة من قصائد العصر الحاضر قد حذف ما فيها من أعلام، لا يستطيع أن يعيّن العصر أو الجيل الذي قيلت فيه».
ولكنه يعترف بأن النثر «قد امتاز بقوته واتجاهه نحو النهوض ورقي الحياة العقلية فيه وخصبها وتشعبها وإنتاجها».
هذا الرأي شديد الإبهام وكثير التخبط. أنظر في غموض التعابير الآيتة:
«بل أقصد بالصفات الخاصة إبراز كل ما يقع تحت الشعور بحكم البيئة، والتعبير تعبيراً صادقاً عن الحياة التي تحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها، الخ».
فماذا يفهم القارىء الجيد الإدراك من هذه الأوصاف التي لا تزيد الموصوف إلا غموضاً؟ ما هو الشعور بحكم البيئة وكيف يكون؟ وما هي «الحياة التي تحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها»؟
في عدد نوفمبر/تشرين الثاني من السنة المذكورة رأي في التجديد في الشعر للشاعر السوري المتمصر خليل مطران. إنه أدق من رأي حسين هيكل. وهو يخالفه في رأيه القائل إنه لم يحدث تجدد في الشعر. فقد حدّث مطران عن نفسه:
«أردت التجديد في الشعر منذ نعومة أظفاري ولقيت دونه ما لقيت من عنت ومناوأة… أردت التجديد في الشعر وبذلت فيه ما بذلت من جهد عن عقيدة راسخة في نفسي وهي أنه في الشعر، كما في النثر، شرط لبقاء اللغة حية نامية. على أنني اضطررت، مراعاة للأحوال التي حفّت بها نشأتي، ألا أفاجىء الناس بكل ما كان بجيش بخاطري، وخصوصاً ألا أفاجئهم بالصورة التي كنت أوثرها للتعبير لو كنت طليقاً، فجاريت العتيق في الصورة بقدر ما وسعه جهدي وتضلعي من الأصول واطلاعي على مخلفات الفصحاء، وتحررت منه، وأنا في الظاهر أتابعه، بنوع خاص من الوصف والتصوير ومتابعة الغرض، الخ».
وبعد أن يعطي وصفاً مجتزءاً لحاجة اللغة إلى ضروب التعبير السليم، الواضح، الدقيق قاطبة، يصل إلى نتيجة لا تبعد كثيراً عن النتيجة الهائمة التي وصل إليها الريحاني ويوسف معلوف وحسين هيكل، وإليك قوله:
«أريد أن يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيه. أريد كما تغيّر كل شيء في الدنيا، أن يتغير شعرنا، مع بقائه شرقياً، مع بقائه عربياً، مع بقائه مصرياً. وهذا ليس بإعجاز».
في عدد الهلال عينه، الذي ورد فيه رأي خليل مطران في التجديد في الشعر، مقال لحسين هيكل في «الفنون الرفيعة وأثرها في حياة شرقنا العربي». في هذا المقال يلخّص هيكل وجهة نظر الريحاني في حملته على الأدب الباكي عن طريق نقده لقصيدة بشارة الخوري التي مطلعها «الهوى والشباب والأمل المنشود توحي فتبعث الشعر حياً»، ووجهة نظر بشارة الخوري في رده على الريحاني التي لا تختلف كثيراً عن وجهة نظر شفيق معلوف في رده على عمه في كتابه إليه المثبت آنفاً. وقد حاول هيكل أن يكون في هذا المقال أدق منه في رأيه السابق المذكور فوق. فقال إنّ الرأيين (رأي الريحاني ورأي الخوري) هما في طبيعة الوجود. وعلّل منشأ الجدل بأنه من نتائج «ما يصيب الشرق العربي من هوان سياسي وانحلال اجتماعي»، ثم انتقل إلى محاولة إيضاح أشد رسوخاً وذي صفة إيجابية فقال:
«وقد أصيبت الفنون بما أصيبت به تبعاً لظروف الحياة التي يخضع لها الشرق العربي والتي تخضع الإنسانية من بعد الحرب لها. ولا يكون علاجها بإنكار ما للدموع وما للشجن من أثر في الحياة. وإنما يكون علاجها بأن تبعث الدموع، وأن يبعث الشجن النفسي، إلى التماس المثل الأعلى، كما تدفعها الحماسة وتدفعها النجدة والمروءة إلى التماسه. ولو أنّ أرباب الفن في الأدب والغناء والنقش وسائر الفنون الرفيعة وضعوا هذا المثل أمام أنظارهم لأرجعوا إلى الفن حياة أقوى بكثير من حياته اليوم، ولما كان الجدل الذي ثار في هذا الصيف الأخير بين أمين الريحاني وبشارة الخوري».
بعد الكلام المتقدم يحاول هيكل أن يخطو خطوة فاصلة فيقول:
«ماذا عسى أن يكون المثل الأعلى؟ أعتقد أنّ الشرق قد ضل طريقه في هذه العصور الأخيرة متأثراً بتعاليم الغرب، فأصبح مثله الأعلى مادياً، يحسب الحرية التي تسمو بها النفس إلى المكان الأرفع، أن ينال الجسم وأن تنال الشهوات كل مبتغاها. وقد يكون للبيئة الطبيعية في الغرب، ما يدفع إلى التطلع إلى مثل هذا المثل الأعلى. لكن بيئة الشرق الطبيعية وتاريخه منذ العصور الأولى، وتاريخه بنوع خاص منذ انتشرت الحضارة الإسلامية (المحمدية) في ربوعه، يجعل هذا المثل الأعلى الذي يتخذه الغرب أمامه دون ما تتطلع إليه النفس الشرقية. فهذه النفس تؤمن بوحدة الوجود وترى في هذه الوحدة والاتصال بها والفناء الروحي فيها غاية ما ترجوه، ولذلك كانت أمثال هذا الشرق تجري: «بأن من اعتز بغير الله ذل. ومن افتقر لغير الله هان». ولا تعرف شيئاً في الحياة يعادل تقوى الله. أفيمكن أن يصور الفن هذه المعاني وأن يصل بها من درجات السمو إلى ما يجب أن يصل إليه الفن؟».
هي أول محاولة للانتقال من الغموض إلى الوضوح، ومن التعميم إلى التخصيص، ومن السلبية إلى الإيجابية، ولكنها محاولة غامضة، متخبطة، مطلقة، مستبدة. ففيها ينظر هيكل إلى الفن من زاوية «الشرق والغرب»، ويحدد الشرق بكلام لا تحقيق فيه لتاريخ «الشرق» الذي يذكره ولا لفلسفة ذلك التاريخ ولا للمحمدية نفسها التي يطبعها، استبداداً، بهذا الطابع الجزئي، وكان الأفضل أن لا يحاول تجريدها من خصائصها العملية في مادية حياة البيئة التي نشأت فيها. أما تحديده المثال الأعلى للشرق كله، مدخلاً فيه العالم العربي كله، فهو من التحديدات الاستبدادية الضيقة، التي تكون أكثر قبولاً عند عامة المتعلمين وعند قليلي التعمق من خاصتهم، نظراً لبساطتها وقلة ما تطلبه من إنعام نظر وجهد في التفكير، ولكنها ليست مما يمكن العقل الفلسفي الأساسي الاطمئنان إليه وقبوله مستقراً لتفكيره وشعوره. وكم يخالف هذا التفكير السطحي المتمركز في تحديد التصور بالأمر الواقع رأي الدكتور خليل سعاده في روحية الشرق الدينية إذ قال:
«الدين في الشرقي قطعة من حياته. فهو بحسب الحياة وسيلة لتشريف الدين (تقوى الله والفناء الروحي في وحدة الوجود) لا الدين وسيلة لتشريف الحياة والسمو بها من مرتبتها الحيوانية إلى مرتبة روحانية تطهر الأخلاق وتهدم الفواصل غير الطبيعية القائمة بنيه وبين أخيه في الوطنية والبشرية».
(المجلة، السنة الأولى، العدد 13، بيونس آيرس في 15 ديسمبر/كانون الأول 1915).
إني موقن كل اليقين بفساد ذاك التقسيم السطحي الذي يعدّ الشرق كله روحياً والغرب كله مادياً ويحسب طلب مبتغيات الجسد وشهواته من «التأثر بتعاليم الغرب». ولكني أعتقد أنّ توقف سير الحضارة في الشرق عند حد هو ما جعل النفس الشرقية تعمد إلى الفناء في الشؤون الخفية من المسائل النفسية، فصارت مسائل اللاهيولى أو ما وراء المادة المسائل الوحيدة التي تتجه إليها النفس التي اضطرت لهذا النهج بسبب ترك النظر في المسائل الوجودية، الهيولية، الحسية. وحيثما انعدمت أسباب التقدم العمراني انعداماً يكاد يكون كلياً، صارت مطالب ما وراء المادة نفسها مادية في معظمها، فصارت الجنة جنة حلى وملابس وعطور وما شاكل. واعتقد أنّ اطراد سير الحضارة في المتوسط والغرب، ابتداء من سورية، جعل للمسائل النفسية، الوجودية، الهيولية، الحسية النصيب الأوفر من انشغال النفس. أما المادية والروحية فهما من نصيب الشرق والغرب كليهما. ويصعب كثيراً، من وجهة نظر الحياة، حسبان قسم كبير من المسائل النفسية الخفية التي تعنى بها شعوب «النفسية الشرقية» مسائل روحية بالمعنى الحيوي. ويدخل في هذا القياس، المسائل الخفية الشائعة في الغرب كالروحانية والصوفية وغيرهما، وكما وجدت المادية في الغرب كذلك وجدت في الشرق، فمسائل الحب المادي والشهوات الجسدية نشأت نشوءاً مستقلاً في الشرق كما في الغرب. وفي الفنون المعبرة عن النفسية الشرقية أحسن تعبير نجد الموسيقى التي يسمونها «العربية» أو الشرقية قد اتخذت وجهة مادية من الشهوات الحادة في حين أنّ الموسيقى الغربية انتصرت على المادية انتصاراً رائعاً وارتفعت فوق فضاء الشهوات الجسدية ارتفاعاً عظيماً. فللشرق مادية قوية وروحية منعكفة على المسائل الخفية التي لا تبرز إلى الحياة أو الوجود، وللغرب مادية قوية وروحية تعنى بالوجود وبتسامي الحياة ضمن الوجود الإنساني، وهي على عكس روحية الشرق التي طلبت التسامي وراء الوجود (الوجود الإنساني). ولذلك أرى من أشد الخطأ حسبان التسامي وراء الوجود وحده «روحية» والتسامي ضمن الوجود «مادية».
إذا كان الشرق المتسكع في قيود المادة قد رأى، في أرقى فلسفاته الهندية والصينية، أنّ الطريقة الوحيدة لانتصاره على المادة هي إهمال قضايا المادة وثقافتها، فإن العقل السوري الذي خطط للمتوسط والغرب قواعد ثقافته المادية والروحية رأى أنّ الانتصار على المادة يكون بمعالجتها والقبض عليها وتسخيرها للغايات النفسية الجميلة التي تجعل الوجود الإنساني جميلاً، صريحاً، نيّراً.
إنّ تحديد المثال الأعلى في عبارة حسين هيكل: «من اعتز بغير الله ذل ومن افتقر لغير الله هان» هو تجميد لا قوة له لغلب المادية في الحياة الروحية وشؤونها في الوجود. وهو ليس مبدأً روحياً إلا إذا حسبنا الروحيات قاصرة على الغيب.
إنها نظرة مصرية شرقية هذه النظرة التي تضع المثال الأعلى في هذه العلبة المطرزة الخفيفة الحمل يحملها المرء في جيبه وينتقل بها من مكان إلى مكان، وكلما عنّ له النظر في المثال الأعلى فتح العلبة وأخرجه منها ونظر إليه بإعجاب وشهق شهقة الفرح ثم أعاده إلى موضعه واستمر في حاله من حله وترحاله. «الفناء الروحي في وحدة الوجود» إذا كان مثالاً أعلى فهو مثال عدمي أو فنائي لا وجودي، والروحية الموافقة له هي روحية كسيحة، مريضة تتجه نحو الغيب الذي تجعله مستقراً للوجود وتشيح بوجهها عن الوجود الإنساني الذي لا تحسبه إلا عبّارة إلى الغيب وواسطة للفناء فيه.
هذه النظرة التي يثبت بها الأدب المصري نفسيته الشرقية هي نظرة منافية لخطط النفس السورية في سياق التاريخ. وعدم أخذ السوريين بهذه النظرة هو من الأدلة على ما ذهَبْتُ إليه حين أعلنت: أنّ سورية ليست أمة شرقية وأنها ليست ذات نفسية شرقية. وإذا كان السوريون أولعوا بالتغني «بالمزايا الشرقية» التي وصلت إليهم في مزيج من أدب الهند والفرس والعرب فما ذلك إلا لتلاشي نظرتهم إلى الحياة وضياع مثلهم العليا في تعاقب الفتوحات واضطراب مجرى الحياة السورية الاجتماعية والروحية. وهذه الحقيقة هي التي جعلت ميخائيل نعيمة يسبق حسين هيكل إلى حسبان نفسه شرقياً وتفضيله النظرة «الشرقية» التي يزعم أنها تقول مع محمد: «ولا غالب إلا الله» على النظرة التي يزعم أنّ الغرب يعبّر عنها بقوله: «ولا غالب إلا أنا» (انظر فتاوى كبار الكُتَّاب والأدباء في مستقبل اللغة العربية ونهضة الشرق العربي. طبع «الهلال» مصر، سنة 1923) فهو قد جعل الغرب كأنه يقول: «ولا غالب إلا أنا» وهو يقصد بقوله المقابلة بين موقف الشرق وموقف الغرب من الوجهة السياسية والعمرانية قبل كل شيء. وقد أخذ حسين هيكل فكرة نعيمة في التعبير عن موقف الشرق وجعلها مثالاً أعلى للنفسية الشرقية.
لنتابع تفكير نعيمة قليلاً. إنه يقول في مقالته التي أجاب بها على استفتاء مجلة الهلال إنّ الفرق بين الشرق والغرب منحصر في نقطة واحدة جوهرية هي:
«إنّ الشرق يستسلم لقوة أكبر منه فلا يحاربها، والغرب يعتقد بقوته ويحارب بها كل قوة. الشرق يرى الخليقة كاملة لأنها صنع الإله الكامل. والغرب يرى فيها كثيراً من النقص ويسعى لتحسينها. الشرق يقول مع محمد: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا». ويصلّي مع عيسى: «لتكن مشيئتك». ومع بوذه يجرد نفسه من كل شهواتها. ومع لاوتسو يترفع عن كل الأرضيات ليتحد بروحه مع «الطاو» أو الروح الكبرى. أما الغرب فيقول: «لتكن مشيئتي». وإذ يخفق في مسعاه يعود إليه ثانية وثالثة ويبقى يعلل نفسه بالفوز. وعندما يدركه الموت يوصي بمطامحه لذريته».
وفي اعتقاد نعيمة: «إنّ فرسخاً مربعاً من بلاد الصين «الخاملة» يحوي من الجوهر أكثر من كل جزائر اليابان «الناهضة».
هذا كلام إذا أزلت منه زخرف التعبير الأدبي، الشعري لم تجد فيه حقيقة واحدة غير جهل شؤون الحياة وتطورها منذ ظهر الإنسان على مسرح الطبيعة وجهل التاريخ وفلسفته. فالشرق، لعلة طبيعية، على الأرجح، حاول من قبل «تحسين الخليقة» كما حاول الغرب «تحسينها» من بعد. ولذلك نشأت الأديان في الشرق، أي لتحسين الخيقة. وقد «حسنت» الأديان الخليفة تحسيناً كبيراً، ولا شك. ولكنها عصت كل تحسين جديد نشأ بعد أحكامها، فأصحابها لا يقرّون بمعرفة جديدة إلا مكرَهين. وإذا كان عيسى، السوري البيئة، رمى إلى تأديب النفوس بقوله: «لتكن مشيئتك» فهو أعلن الانتقاض على «المنزل» بالذهاب إلى «تكميل الناموس»، ومحمد نفسه الذي نشأ في بيئة بعيدة عن التفكير بالقضايا الفلسفية الكبرى نطق بالوحي «ولكل أجل كتاب». فليس في سُنَّة المسيح ولا في سُنَّة الرسول، إذا أخذت كلها، ما يمنع «تحسين الخليقة» أو ما يرفضه. ولست أعتقد أنّ تعاليم بوذه ولاوتسو أنشئت بقصد منع التفكير في «تحسين الخليقة»، ولكن العقلية الشرقية، التي عجزت عن حل قيود الروح المادية بنظرة إلى الحياة والكون فاهمة، هي التي وقفت عند «أحكام» الفلسفات الدينية وتعليلاتها الافتراضية المستندة إلى «قوة أكبر منها» حددتها تلك الفلسفات تحديدات متباينة جعلت الخالق الواحد «ينزل» تعاليم غير واحدة فيما يختص بالحياة الإنسانية ضمن الوجود وقبل «الفناء في وحدة الوجود».
اختار ميخائيل نعيمة التكلم على «الخليقة» و«تحسينها» ليضع القارىء أمام الاصطلاح. وكلامه كلام أديب، لا كلام فيلسوف أو عالم أو فنان، وها الصين تترك اليوم «جوهر» الخمول لتأخذ «بعرض» النهوض. وليس يعني ذلك زوال القواعد الصالحة من تعاليم لاوتسو.
مما لا شكّ فيه أنّ نفسية الذين يذعنون لكل «ما كتب الله أن يصيبهم» ترى في هذا الإذعان أجمل المثل العليا وأحبها وأفضلها. وسواء أكانت هذه النفسية شرقية أم غربية، فهي نفسية لها مصيرها وهو غير مصير النفسية اتي لا تقبل بما هو دون «ما يكتبه الله» للذين يعملون بالمواهب التي أعطاهم.
إنّ صوفية نعيمة الهدامة التي أبرزها في أحد خطبه في بيروت سنة 1932 أو 1933 بقوله إنّ القوة هي في الأمم العاجزة «المستغنية» عن التسلح (وإن يكن استغناؤها قهراً أو كرهاً)، وإنّ الضعف هو في الأمم المستكثرة من آلات الحرب، قد نبذتها سورية ولا تفكر في جعلها مثالاً أعلى لها. أما في مصر فقد تجد تربة جيدة لنموها وازدهارها كما يظهر من اقتباس حسين هيكل مثاله الأعلى من عبارة ميخائيل نعيمة الواردة في مقابلته بين الشرق والغرب، ومن أقوال غيره كمصطفى صادق الرافعي.
ولم يخرج من دائرة التخبط في موضوع النهضة الأدبية غير من ذكرت من كبار الأدباء. طه حسين نفسه الذي يعد في مقدمة مفكري مصر وفي طليعة كبار أدبائها كتب مقالة في عدد الهلال الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1933 بعنوان «نهضتنا الأدبية وما ينقصها» قال فيها إنّ الأدب في اللغة العربية قد سار مرحلة كبيرة وإنه لا تزال تنقصه أشياء، وخلاصة المقالة أنّ مواضع الضعف «في نهضتنا» هي:
1 ــــ اتصالنا بأدبنا القديم ضعيف لم يبلغ ما ينبغي له من القوة.
2 ــــ ثقافة أدبائنا من الأدب الأجنبي ثقافة محدودة.
3 ــــ أدباؤنا لا يحسنون الآداب الأجنبية القديمة التي أنشأت الأدب الأجنبي الحديث.
4 ــــ لا يحفل أدبناؤنا بالعلم ولا يأخذون أنفسهم بدرسه والإلمام بطائفة منه. وفي رأي طه حسين أنه إذا أزيل هذا الضعف من «أدبائنا» فنهضتنا الأدبية تستكمل شروط ارتقائها إلى ذروتها. والحقيقة أنّ هذا الكلام يدل في ما عبّر عنه طه حسين نفسه في مقالته المشار إليها «بالطول والعرض»، أي بالخلو من العمق. إنه كلام شكلي لا أساسي، كما سيتضح فيما يلي:
وعباس محمود العقّاد، كاتب مصري آخر كبير ذو شهرة، أجاب في عدد الهلال المذكور فوق على سؤال: هو يصبح لنا أدب عالمي؟ وفي جوابه يقول:
«فالأدب العالمي ليس مرتبة من مراتب السمو يرتفع إليها الكتاب والكاتب، ولكنها حالة من الحالات تتيسر أسبابها فتظهر وتخطئها هذه الأسباب فيخطئها الظهور».
والظاهر أنه يعني بالأدب العالمي انتشار الكتب بواسطة الترجمة والطبع في مختلف اللغات لا قيمة الأدب العالمية. فيأخذ يبحث عن الظروف والأسباب العملية التي تذيع الكتاب، كالغرابة عند المترجَم إليهم، ووجود المترجِم، وحسن الطباعة، ووجود شركات النشر، نسبة عدد القُرّاء، وغير ذلك من الأمور السطحية والعملية التي لا يمكن أن يقوم عليها أدب عالمي لأمّة من الأمم على نسبة ارتقاء المثال الأعلى والفكر والفن.
والخلاصة أنك لو جمعت جميع الأقوال والآراء المتقدمة وأمثالها لما حصل لك منها غير اضطراب في الفكر وتشتت في الشعور يحرمانك إدراك حقيقة الأدب عموماً والشعر خصوصاً، ورسالة الفن.
تجديد الأدب وتجديد الحياة
الزوبعة، بيونس آيرس، العالم الثالث، العدد 52 (15/9/1942) ص 4 ــــ 5
الفكرة البارزة في جميع الأمثلة المتقدمة من تفكير نفر من أشهر أدباء اللغة العربية في العصر الحاضر هي: ترك البكاء التقليدي والتحسر والتلهف والنواح والندب التي أغرقت الشعر العربي القديم في عبابها وتغرق الشعر السوري والمصري الحديث في ذاك العباب عينه، اللّهّم إلا بعض استثناءات نادرة تطمو عليها الصفات المذكورة ويحتاج محب الاطلاع لمجهود كبير في الغوص عليها. هذه الفكرة هي فكرة سلبية، يدفع إليها الملل من الجمود والضرب على وتيرة واحدة. ولكنها ليست بالفكرة الجديدة في أدب اللغة العربية. فقديماً أظهرها الشاعر الفارسي المزيج، السوري البيئة والحضارة أبو نوّاس بأسلوبه المجوني البديع:
قل لمن يبكي على رسم درس واقفاً ما ضرّ لو كان جلس
وقال أيضاً:
عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمّارة البلد
فأبو نوّاس تهكم على الوقوف على الطلول والبكاء و العويل، لأن إبن بيئة تختلف عن بيئة شاعر الصحراء، ولأنه متحدر من شعب خَبِرَ من الحياة ألواناً غير ألوان حياة الصحراء. وقد استيقظ أبو نوّاس لهذه الحقيقة ووجد في البكاء والندب وسؤال الطلول عجزاً مضحكاً. فقال قوله الذي سبق به جميع دعاة «التجديد» من أدباء اليوم. وأدباء العصر الحاضر، مع كل اجتهادهم، لم يتجاوزوا موقف على أبي نوّاس من العويل والانتحاب على الطلول وعلى العهود إلا قليلاً.
كل اجتهاد أمين الريحاني بلغ إلى القول إنّ الشاعر يجب أن يكون «مرآة الجماعات»، ومبلغ اجتهاد حسين هيكل هو أنّ التجديد في الشعر «هو أن يشعر الشاعر أو الكاتب بشعور العصر الذي هو فيه ويعبّر عن ذلك تعبيراً صادقاً ممثلاً لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير»، وكل اجتهاد خليل مطران بلغ إلى قوله: «أريد أن يكن شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيِّه». وهذا الرأي هو أرقى ما وصل إليه تفكير أدباء سورية ومصر حتى اليوم. فإذا كان هذا هو غاية الشعر والشاعر فلا حاجة لكل ذاك الكلام الكثير على التجديد وترك التقليد، الذي هو من قبيل تحصيل الحاصل.
إنّ أدباء العصر الذي نعيش فيه يمثلون بأدبهم عصرهم أصدق تمثيل. إنهم لا يحتاجون إلى تغيير أسلوبهم ليمثّلوا عصرهم، كما يتوهم حسين هيكل في تخبط فكري للخروج بالأدب والفنون الجميلة من الحالة التي هي فيها، أو كما يظن خليل مطران. أليس العصر في سورية، إلى أن بزغت أنوار النهضة القومية الاجتماعية، عصر جمود وذهول وتقليد واستكانة؟ أليس العصر في مصر عصر تقليد شرقي ومسخ غربي؟ بلى، إنّ العصر في سورية لكذلك وإنّ العصر في مصر لكذاك، إذن فالأدباء في سورية وفي مصر هم «مرآة جماعاتهم» تماماً وممثلو عصرهم تمثيلاً صادقاً، والمطلوب من كل الكلام الذي ملأ به طالبو التجديد صفحات ومجلدات هو حاصل. ومع ذلك فالحاجة إلى التجديد أو التغيير باقية، وهي على ازدياد، والتوق إلى حالة جديدة يقوى يوماً بعد يوم. فأين السر في هذا التناقض وهذا التباين؟ هو في بُعد الأدباء الذين عالجوا الموضوع عن صلبه وعن قضاياه الكبرى التي ليست هي قضايا أدبية بحتة.
خذ مثلاً كلام حسين هيكل على «العصر» الذي يعيش فيه الشاعر. فكأني بحسين هيكل يفهم العصر من خلال مطالعاته في الأدب الفرنسي وليس من درسه وضعية مصر. وكأني بأمين الريحاني يرى أنّ عكس نفسية الجماعة هو شيء اصطناعي أساسه الغش أو الرياء كأن يمثّل الشاعر السوري نفسية شعبه وحالته الروحية بالاقتباس أو الاكتساب من أدب شكسبير وأدب غوته اللذين يمثلان أدب شعبين آخرين فيظهر شعبه بغير مظهره الحقيقي. وهذا ما يفعله كثير من الأدباء في مصر وبعض الأدباء في سورية فيمسخون نفسية شعبيهما مسخاً. وكأني بخليل مطران الذي اطّلع كثيراً في الأدب الفرنسي يجهل أنّ العصر الحاضر في أوروبا شيء وفي سورية ومصر شيء آخر. إنه يعمى عن الحالة التي عليها الشعب السوري، والحالة التي عليها الشعب المصري، فيحسب أنهما في حالة الشعوب الأوروبية عينها، ويبدو لقارىء عبارته أنّ الأدباء وحدهم في سورية ومصر بقوا متأخرين عن حالة العصر وهو غير الحقيقة.
ماذا ينتظر من الشاعر الذي وُلِدَ في بيئة يغشاها الجهل ويغمرها الذل والخنوع، ولم يفتح عينيه إلا ليرى ظلمة الفوضى والبلبلة والتسكع في المادية، وربيت نفسه على تأوهات العجز وحسرات الفوات ومُثُل الشهوات وأمثلة الجمال المادي وميول الغرائز البيولوجية، خصوصاً الشاعر الذي يجب أن يكون، في عرف كتّاب «التجديد» مرآة الجماعات أو مرآة عصره؟ أينتظر منه غير اتّباع ما شب عليه ووعاه من أمثلة الأدب الذي وصل إليه؟ كلا. كلا.
إنّ الأدب، كله، من نثر ونظم، من حيث هو صناعة يقصد منها إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة وأسمى ما يكون من الجمال، لا يمكنه أن يُحدث تجديداً من تلقاء نفسه. فالأدب ليس الفكر عينه وليس الشعور بالذات. ولذلك أقول إنّ التجديد في الأدب هو مسبب لا سبب ــــ هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور ــــ في الحياة وفي النظرة إلى الحياة، هو نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية سياسية تغيّر حياة شعب بأسره وأوضاع حياته، وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه.
يلاحظ مؤرّخو الأدب ودارسو عناصره وعوامله، أنّ التغيّرات أو الانقلابات السياسية يعقبها تغيّر في الأدب وأساليبه. ويذهب جمهورهم، إلى أنّ النهضات أو التغيّرات السياسية هي سبب نهضة الأدب والفنون الجميلة. والذي أراه أنّ التغيّرات السياسية ليست هي في ذاتها المؤثّر أو الفاعل الأساسي في تغيير مجرى الأدب، لأني أرى الأحداث السياسية نتيجة لابتداء تغيّر النظرة إلى الحياة أو لحصول اعتقادات ومثل عليا روحية ــــ مادية جديدة في شعب من الشعوب، فتدفعه النظرة الجديدة أو التعاليم الجديدة إلى استنباط الوسائل التي تتحقق بها مطالبه. ومن هذه الوسائل أساليب السياسة وأشكالها وخططها وأهدافها. فالسياسة، في حد ذاتها، شبيهة بما حددت به الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في السياسة لا توجد سياسة جديدة ولا نهضة سياسية، وكذلك في الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في الحياة لا يمكن أن تقوم نهضة أدبية أو فنية.
يذكّرني بحث وسائل إنهاض الأدب السوري والأدب المصري ببحث وسائل ترقية فن التمثيل في سورية. فقد سألني أحد هواة هذا الفن، منذ عدة سنين، عن كيفية ترقية تمثيل الروايات في سورية. فقلت إنّ الأمر مرتبط بترقية حياة الشعب السوري نفسه. فإن تمثيل أدوار الحب والشهامة والبطولة بألوان راقية يحتاج إلى شعور الممثل بهذه الصفات شعوراً راقياً. والذين لم يتعودوا من الحب غير اتجاهاته الفيزيائية لا يمكنهم أن يمثّلوا حالاته النفسية السامية. وقد شاهدت مرة أحد هواة التمثيل في دمشق، وهو شاب متنور، يحاول تمثيل دور التعارف مع فتاة ينتظر أن يقع حبه في قلبها ويقع حبها في قلبه، فجاء الدور بعيداً جداً عن إعطاء النتيجة المرغوبة على مستوى راقٍ من الشعور والتصرف. وواحد آخر كان من نصيبه أن يمثّل دور الوالد الذي نأَت به الأقدار عن ابنته. وحسب في عداد الأموات، ثم عاد سالماً موفقاً ليضم ابنته إليه. فلما جاء حين المقابلة مع ابنته وظهرت الفتاة التي تمثل دور الإبنة حبطت جميع المحاولات لجعل ذراعي الوالد تمتدان بلهفة وتضمان الفتاة برفق وحنان. كانت الأنوثة أقوى تأثيراً على الرجل من مشهد الأبوة والبنوة الذي يشترك في تمثيله. ولو كان الرجل نشأ غير نشأته لكان أقرب إلى إجادة تمثيل دوره.
الأديب والشاعر والممثل هم أبناء بيئاتهم ويتأثرون بها تأثّراً كبيراً ويتأثرون كثيرا بالحالة الراهنة الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ الروحية. والفنان المبدع والفيلسوف هما اللذان لهما القدرة على الانفلات من الزمان والمكان وتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديع لأمة بأسرها. ولا يقدر على ذلك الأديب الذي وقف عند حدّ الأدب والصور الجزئية التي تشتمل عليها صناعته. والشاعر الذي هو «مرآة الجماعات» أو «مرآة عصره» لا يقدر أن ينهض بالشعر أو بالأدب، لأن هذا النهوض يعني ضمناً: النهوض بالحياة وبالنظر إلى الحياة. والشاعر الذي شأنه عكس حالة جماعته أو عصره كالمرآة ليس بالمرء الذي ينتظر منه إيجاد حالة جديدة لشعبه أو لعصره. فهذا شأن المعلم، الفيلسوف، الفنان، القائد، الذي يقدر أن يخطط تاريخاً جديداً لأمته ويضع قواعد عصر جديد لشعبه. وله أن يكون أديباً شاعراً إذا شاء. وليس عليه أن يكون ذلك. وللشاعر أن يكون معلماً فيلسوفاً فناناً قائداً إذا قدر وليس عليه أن يكون ذلك.
إنّ من الظلم للشاعر أن يُطلب منه تمثيل عصره أو جماعته تمثيل المؤرخ و العالم الاجتماعي. فكلام الريحاني وخليل مطران وحسين هيكل هو ظلم للشعراء وتكليف لهم أن يكونوا غير ما هم. قد يكون في شعر الشعراء ما يستدل به على حالة عصورهم والأفكار والاعتقادات الشائعة فيها، ولكنه ليس حتمياً أن يدرس الشاعر عصره حين يحاول نظم قصيدة في فكرة أو عاطفة أو منقبة أو حادثة. إنّ قصائد الشاعر التي ينظمها غير مفكر بعصره أو بغيره من العصور هي التي يغلب أن تجيء أكثر انطباقاً على حالة عصره وأدبه، ولذلك قلت إنّ شعراءنا يمثّلون عصرنا تمثيلاً صادقاً. وأعني بعصرنا العصر الذي تعيش فيه سورية وليس العصر الذي تعيش فيه بريطانية أو ألمانية أو فرنسة أو روسية. وفي رأــي إنّ عصر سورية الحاضر هو غير عصر هذه الأمم الحاضر وإن كان الزمان واحداً. فحالة سورية الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ السياسية ــــ النفسية تختلف عن حالة الأمم المذكورة. فكأنها تعيش في عصر غير عصر تلك الأمم. ولذلك لم يمكن أن يكون نتاج شعرائها مطابقاً لعصر أرقى الأمم الأوروبية، التي خلفت وراءها ثورات عظيمة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وفي العلم والفلسفة، بينما سورية تتخبط في دياجير تاريخها الأخير الفاجع، قد نسيت فلسفات أساطيرها وثوراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الغابرة التي أضاء نورها أرجاء العالم المعروف آنئذٍ، وكانت إصلاحاتها مثالاً لأثينا وروما.
سبق لي القول، في مكان آخر: إنّ الشاعر، في عرفي، هو الذي يُعنى بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيّز من فكر أو شعور أو مادة. وأزيد هنا إني أرى أنّ ما أهم خصائص الشعر: إبراز الشعور والعاطفة والإحساس في كل فكر أو في كل قضية تشمل عناصر النفس، وإعطاء الشعور والإحساس والعواطف صوراً مجازية أو خيالية، عناصرها القوة و الجمال والسمو مع عدم مفارقة الحقيقة والغرض الإنساني، وأكرر القول إنّ الشعر ليس الفكر بعينه، من غير حرمان الشاعر حق إبداء الأفكار الكلية أو الجزئية كلما شاء وأمكنه ذلك.
ليس الشعر ، في عرفي، مجرد شعور كما عبّر عنه شفيق معلوف في كتابه إلى عمه، وبشارة الخوري في رده على الريحاني. إني أرى الشعر، أو، على الأقل، الشعر المثالي الأسمى شديد الاتصال بالفكر وإن يكن الشعور عامله الأساسي أو غرضه، لأن الشعور الإنساني ذاته متصل بالفكر اتصالاً وثيقاً في المركّب العجيب الذي نسميه النفس. وأعتقد أنه يصح في الشعر، إلى حدٍّ ما، ما قلته في الموسيقى وأجريته على لسان بطل قصة ألّفتها سنة 1931 بعنوان فاجعة حب وطبعتها في بيروت مع قصة عيد سيدة صيدانايا سنة 1932، وهو يختلف عن نوع المشابهة بين الشعر والموسيقى الذي أورده شفيق معلوف في كتابه إلى عمه. إليك القول المذكور وهو بشكل حوار ومداولة ووصف روائي:
«كنا مرة مجتمعين في حلقة من الأصحاب، فأخذنا نتحدث في كل علم وفن حتى تطرقنا أخيراً إلى الموسيقى. وكان بيننا من شبّ ولم يسمع سوى الألحان الشرقية الشائعة عندنا التي يسمونها خطأ «الألحان العربية»، وإذا كان قد سمع بعض الأنغام الغربية فهو لم يعبأ بها ولم يحاول فهمها. وكان آخرون ممن سمعوا الألحان الشرقية والأنغام الغربية ووقفوا على ما في هذين النوعين من الموسيقى من فن وافتنان. فقدّم هؤلاء الأنغام الغربية على الألحان الشرقية لرقي تلك وغناها في التعبير عن الحياة العاطفية ولفقر هذه من هذه الوجهة ووقوفها عند حدّ التعبير عن الحالات الأولية. وتعصب أولئك، ولعل تعصبهم من باب الشعور القومي غير الناضج والتمسك بمبدأ المحافظة، للألحان الشرقية. وهذا شيء طبيعي، فالذين يفهمون لحناً موسيقياً واحداً فقط يفضلونه على كل لحن ونغم غيره.
«وكان من وراء ذلك أنّ الجدل في هذا الموضوع احتدم بين الفريقين وطال أمره، حتى خشيت أن يؤول إلى تباغض وشحناء، كما جرت العادة عندنا نحن السوريين إلى هذا اليوم، فإننا قليلاً ما نتناقش في أمر بقصد التوسع في المعرفة والفهم، وتبيّن وجه الصواب ووجه الخطأ. إلا أننا لم نبلغ هذا الحد في هذه المرة لأن الفريقين المتجادلين قررا أن يستفتيا سليماً في الأمر بصفة كونه خبيراً في نوعي الموسيقى الشرقي والغربي، ومحباً للإنصاف والحقيقة. فسأل سليم أحد المتشبثين بأفضلية الموسيقى الشرقية المحافظة، واسمه بهيج، قائلاً:
«أتدري، يا صاحبي، لماذا وجدت الموسيقى؟».
«فأجابه بهيج بلهجة الموقن: أجل وجدت الموسيقى لتكون لغة العواطف».
«قال سليم ــــ «لو كنت خبيراً بالموسيقى لما جزمت بهذا التحديد الذي يجرد الموسيقى من ثلثي مزاياها على الأقل».
«فهتف الأربعة دفعة واحدة: «ثلثي مزاياها؟!».
«سليم: «نعم، ثلثي، مزاياها».
«بهيج: «إذن، كيف تحددها أنت؟».
«سليم: «إني أحددها بإطلاقها من كل تحديد، فإنك تستطيع أن تعرف الكثير من مزايا الموسيقى ولكنك لا تتمكن من حصرها. ليست الموسيقى لغة العواطف فحسب، بل هي لغة الفكر والفهم أيضاً. إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها. وإن شئت فقل إنّ الموسيقى تتناول الميول الأولية والعواطف والحالات النفسية على أنواعها والأصوات على اختلافها والشعر والأدب والفلسفة. ومن هذه الوجهة لا يمكنك أن تقسم الموسيقى إلى قسمين، شرقي وغربي، وإنما يمكنك أن تميّز بين الأساليب الشرقية والأساليب الغربية في التعبير عن المعاني النفسية المقصودة من الموسيقى، وبين أصناف هذه المعاني، عينها. فمتى كانت الموسيقى الغربية تعبّر عن العواطف والحالات النفسية التي تعبّر عنها الموسيقى الشرقية عينها أمكنك فهمها بكل سهولة وإن اختلف أسلوبها. فيتضح لك مما تقدم، أنّ وجه الفرق في ما تسمونه الموسيقى الشرقية أو العربية والموسيقى الغربية ليس في أساس الموسيقى، فلا يوجد نزاع قط من هذا القبيل، بل في المعاني التي يقصد التعبير عنها عند الشرقيين وعند الغربيين وفي الأساليب المتخذة لبلوغ هذا الغرض، وأنّ الفرق الذي تجده بين أساليب الموسيقى الشرقية ونظائرها الغربية ليس إلا مجرد تنوع يتبع حالات نفسية خاصة. ويمكنك أن تجد البرهان القاطع على صحة هذه النظرية في العلوم الطبيعية والنفسية وفروعها، فإن هذه العلوم تثبت بما لا يقبل الرد أنّ الطبيعة البشرية واحدة في جميع العناصر والشعوب وإن تعددت الأمزجة. إنّ عواطف الحب والبغض والرقة والقسوة والسرور والحزن وبواعث الطرب والتأمل واللهو والتفكير والطموح والقناعة وما ينتج عنها جميعها من ثورات وانفعالات وتصورات نفسية تقصر الكلمات عن وصفها، كل هذه واحدة في جميع الأمم في الشرق والغرب ولا فرق بينها إلا بمقدار تنبّه النفوس وارتقائها وشدة شعورها أو خمولها وانحطاطها وعدم شعورها. فالقوم الذين لا تزال نفسيتهم في دورها الابتدائي أو كانت محجوزاً عليها بحكم العادات والتقاليد العتيقة، الناتجة عن تلك النفسية، كانت موسيقاهم إبتدائية أيضاً. وهي في هذه الحال لا تعبّر عن العواطف التي هي شيء مشترك بين الإنسان والحيوان، كالشهوات الجنسية التي تمثّل معظم عواطف هؤلاء القوم. وبعكس ذلك، القوم الذين تحررت نفسيتهم وارتقت، فإن موسيقاهم تعبّر عن عواطف تسمو على الشهوات الجنسية وتخيلات تعلو عن الأغراض الحيوانية الدانية، إذ لم يعد مطلبهم في الدنيا مقتصراً على «وصال الحبيب» بل أصبح مطلباً أعلى يرفع الحب نفوسهم إليه ويشحذ عزائمهم لتحقيقه، مولّداً في نفوسهم من العواطف السامية والأفكار والتخيلات الكبيرة ما لا يستطيع فهمه من همّه وصال الحبيب وعلى الدنيا السلام. هذه هي العواطف والتصورات والأفكار التي تعبّر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن الذي بلغ في الفن الموسيقى حد الألوهية، لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة. إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر، حتى كأنه نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس. وهذه هي صفة الموسيقى النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة. أنظر إلى ما تعبّر عنه معزوفات هذا الموسيقى الخالد. خذ مثلاً، سيمفونيته السابعة التي أجاب بها على مدافع السفاح نابوليون بتيار من الأنغام تحوّل إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الحرية الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جارياً وسيظل جارياً أبد الدهر! أنظر إلى معزوفاته الأخرى (كسيمفونيته الخامسة المعبّرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء ــــ بين الموت والحياة، وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه) ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب إلى مراتب السمو، بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضاً. لا، يا صاحبي، لم توجد الموسيقى لتكون لغة العواطف الأولية التي وقفت عندها الموسيقى التقليدية الشائعة بيننا، بل لغة النفس بجميع ما فيها من عواطف وأفكار»
«بينما كان سليم يتكلم كان الأصحاب جميعهم مصغين كل الإصغاء، فقد كانت هذه المرة الأولى التي يسمعون فيها حديثاً من هذا النوع، وبعد صمت ظهر في أثنائه أنّ الرفقاء كانوا يجتهدون في فهم خطاب سليم ويحاولون إدراك المدى البعيد الذي بلغه قال بهيج: «ما رأيك إذن في موسيقانا؟».
«سليم: «الحقيقة يا صديقي، أنه ليس لنا موسيقى تعدّ نتاج نفسيتنا نحن السوريين من حيث إننا قوم لنا مزايا خاصة بنا. أما الألحان الشائعة بيننا فليست مما نشأ من نفسيتنا، بل هي مزيج من نفسيات أقوام مختلفة. وإذا كان فيها ما يعبّر عن جزء يسير من عواطفنا ومزاجنا فهي تقصر تقصيراً كبيراً عن استيعاب ما في أعماق نفوسنا من شعور يستغرق ما في الكون من عوامل ومؤثرات نفسية وما في صميم عقولنا من تصورات وتأملات تظهر فيها حقيقة طبائعنا ومواهبنا. إنّ الألحان التي تسمعها كل يوم ليست خارجة من نفسيتنا بل هي مما دخل على تقاليدنا وعاداتنا. إنها ألحان تقليدية فحسب».
«بهيج: «إذن أنت تفضل الموسيقى الغربية؟».
سليم: «قلت إنه لا تفضيل في الموسيقى. إنما إذا كنت تريد معرفة رأيــي في الفرق بين موقفنا من الموسيقى وموقف أهل الغرب منها فإني أصارحك أنّ شعوب الشرق، خلا الروسيين، إذا كانوا يحسبون شرقيين، قد عدلوا عن الأسس الموسيقية إلى الألحان الموضوعة، أو هم قد اقتصروا في الموسيقى على طائفة من الألحان لا يجدون عنها محيداً. وهذا كان شأن الغرب أيضاً، إلا أنه لمّا ارتقت نفسيات البشر وعقلياتهم اضطرت الموسيقى إلى مجاراة هذا الارتقاء لكي تعطي المثل الصحيح للعواطف والأفكار الجديدة التي لم تعد الألحان الموضوعة تكفي للتعبير عنها. وقد سبق الغربيون أهل الشرق إلى إدراك ذلك، فأحدثوا في الموسيقى تطوراً خطيراً، إذ إنهم عدلوا عن الألحان إلى الأصوات المفردة التي هي أساس الموسيقى فرتبوها وأدخلوا على الموسيقى الأدب والفلسفة، فضلاً عن الشعر، وهكذا استتبّ لهم إظهار مكنونات النفس الراقية بواسطتها. وهذا ما يجب أن يحدث في سورية وفي كل قطر فيه شعب حي في نفسيته وعقليته. إنّ التقاليد القديمة المستعارة قيدت نفوسنا بألحان محدودة إبتدائية قد أصبحت حائلاً بيننا وبين الارتقاء النفسي. إنّ في فطرتنا ونفوسنا شيئاً أسمى مما تعبّر عنه هذه الألحان الجامدة، شيئاً أسمى من الشهوات أو العواطف الأولية. إنّ في أنفسنا فكراً عاطفياً وفهماً عاطفياً يتناولان التأملات العميقة في الحياة والرغبة الشديدة في تحسينها من وجوه متعددة: اجتماعي قومي، روحي، إنساني ويدفعاننا نحو مطلب أعلى أليق بوجودنا يحتاج تحقيقه إلى أنواع من الموسيقى غير الألحان المستعارة الموضوعة لحالة أو حالات نفسية محدودة معينة كحالة الحزن أو حالة التدله في الغرام، فإن نغماً وضع لحالة من هذا النوع لا يصح أن يستعمل في حالة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف كحالة غضب النفس وثورتها على الاستبداد والظلم أو حالة الجذل والابتهاج أو حالة التأمل. بل إنّ لحناً وضع لحالة نفسية منذ نحو ألفي سنة لا يمكنه أن يعبّر عن هذه الحالة بعد مرور زمن طويل اكتسبت فيه النفس من الاختبارات ما رقى شعورها وأكسب الحالة النفسية المقصودة معانٍ جديدة تحتاج إلى أنغام جديدة لوصفها. فإذا كنا نريد أن تحيا نفسيتنا حياة راقية تقربنا من أكناف السعادة وجب علينا أن نحررها من ربقة الألحان التقليدية التي لا تغذي إلا العواطف الدنيا، وأن نعود إلى الأصوات نفسها فنسلط عليها فكرنا العاطفي وفهمنا العاطفي ونستخرج منها موسيقى تغذي كل عواطفنا وكل تصوراتنا وأفكارنا وتظهر بواسطتها قوة نفسيتنا وجمالها».
«لمّا أتم سليم عبارته التفت إلى الرفقاء فوجدتُ بهيجاً وأصحابه قد وقفوا على أفكار جديدة لم يكونوا قد سمعوا مثلها من قبل. ثم إنّ أحدهم نظر إليّ وخاطبني قائلاً: «ما رأيك يا سيد، في ما يقوله السيد سليم؟».
قلت: «إني أوافق على جميع ما قال واتّخذُ من حكمه في الموسيقى حكماً في الأدب. أنظر إلى شعرائنا كيف يحدون العيس في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلا مقلِّدين، لأن حدي العيس ليس من شئون شعبهم ولا من مظاهر تمدنهم، وإلى كتَّابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادهم جبلية وسهلية خضراء. إنّ التقليد قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة، وأني لأعتقد أنه لا بدّ من القيام بجهود جبارة قبل أن تصبح النهضة الأدبية معبّرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيء اليوم الذي يتحقق فيه ذلك وتصير الروحية والعقلية السوريتان، الغنيتان بمواهبهما الطبيعية، معينين ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري».
«وبعد صمت قصير انصرفنا وقد رسخ حديث سليم في ذهني ولم تزده الأيام إلا رسوخاً.
«إنّ الحديث المتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة صديقي سليم وأرادت أن تتناول عصراً وأمة. والذي أعلمه أنّ سليماً كان قد ابتدأ ينظم سيمفونية في انتهاء عهد الخمول وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري. والصدق يوجب عليّ أن أروي أنّ سليماً كان يعتقد أنّ نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن، لأنه كان موقناً من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي، من وراء ذلك، إلى غرض سياسي، بل إلى ما هو أعظم شأناً وأكثر فائدة من الغرض السياسي. إنه كان يرى الفورة السياسية أمراً تافهاً إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد، سواء كان رجلاً أم امرأة، شاباً أم شابة، أدب حيّ وفن موسيقي يوحّد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ولها إيمان اجتماعي واحد قائم على المحبة، المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً. حينئذٍ يصبح الجهاد السياسي شيئاً قابل الإنتاج، وأما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة فهي شيء عقيم ولو أدت إلى الحرية السياسية».
أَنظر الآن، بعد مرور إحدى عشرة سنة، في هذا الاستعراض لحالة فن الموسيقى وحالة الأدب في بيئتنا ونوع النفسية المسيطرة على مجموعنا، الموروثة من أزمنة السقوط تحت مطارق الفتوحات البربرية وأمواج النفسية الشرقية، فأرى أني قد صورت حالة التخبط في المواضيع الفنية والأدبية السائدة في أوساط متنورينا وأوضحت طريقة الخروج من تلك الحالة. وإني أوافق الآن على ما صورت في القصة وأرى أنه ينطبق على ما أتناوله في البحث الحاضر من التخبط الأدبي والصراع الفكري في الأدب، وعلى ما أصف به الآن الأدب عامة والشعر خاصة. وأرى فيه، عدا ما تقدم، صلب الموضوع.
قلت إنّ المشابهة بين ما قلت في الموسيقى وما قلته وأقوله في الشعر تختلف عن المشابهة التي أوردها شفيق معلوف في كتابه إلى عمه حيث يقول:
«إنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو، في عرفي، ذلك الشعور النابض يصوّر للناس نفوس الناس. ولا تتعدى فائدته ــــ في أحايين كثيرة ــــ منفعة يصيبها المرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية».
فهذه المشابهة بين الشعر والموسيقى لا ترفع الشعر ولا الموسيقى ولا تعطيهما المنزلة السامية التي لهما في النفس التي سمت بشعورها وإدراكها وانفلتت من الحدود الضيقة في الفكر والشعور. إنها من ملازمات النظرة القديمة إلى الحياة والفن ومن نتائج تأثير البيئة ونوع الثقافة اللذين حددا للشاعر المذكور الشعر والموسيقى تحديداً مضنكاً.
أوردت في ما سبق من هذا الدرس رأيــي في ضعف تعبير شفيق معلوف عن الشعر. وكان إيرادي رأيــي هناك مقتضباً لم أحلل فيه غير قوله: «يصوّر للناس نفوس الناس». ولذلك أرى وجوب إكمال التحليل لاستخراج الفائدة الكبرى. وأتناول «تصوير النفوس» فأقول إنّ هذا التصوير لا يمكن أن يحدث بواسطة «الشعور النابض». وإذا حدث تصوير للنفوس بواسطة الشعور المذكور جاء تصويراً مشوهاً أو ناقصاً. والأرجح أن يكون حينئذٍ تصويراً لشعور الشاعر، على نسبة وعيه، بنفوس الناس وما يراه في نفوس الناس. وقد يكون وعي الشاعر كاملاً وقد يكون ناقصاً. وفي كل حال فالوجهة الوصفية بواسطة الشعور وحده هي ذاتية بحتة (سبيكتيف) وضيقة جداً، لأنها تكون منحصرة في نفس الشاعر وغير متناولة نفوس الناس كما هي نفوس الناس، ولا أشواقها إلى ما تحب أن تكون. أما وصف هذه النفوس كما هي، فيحتاج إلى مقدار غير يسير من علم النفس وعلم الاجتماع والفكر الذي يجب أن يلازم الشعور أو يتقدم عليه أو يقوده في هذا المسلك الوعر. فتخصص الشاعر بالعناية بنفوس الناس ووصفها بواسطة «الشعور النابض» الذي يوحي الاندفاع مع السجية أكثر مما يوحي التمعن في الدقائق النفسية والقضايا التي تتعرض لها النفس ليس تخصيصاً موفقاً، ولا يلزم الشاعر، بوجه عام، وصف نفوس الناس ليكون شاعراً. فقد يصف الشاعر عناصر الطبيعة أو بعضها أو مظهراً من المظاهر الطبيعية أو وقائع حربية أو غيرها ويكون شاعراً. أما الشاعر الذي «يصوّر نفوس الناس» ويْعنى بالشؤون النفسية فهو ليس أي شاعر أو كل شاعر، بل شاعراً ذا صفة خاصة ومنزلة منفردة. وكذلك الشاعر الذي يتناول القضايا الفلسفية الوجودية أو الغيبية.
إنّ خليل مطران شاعر شاعر من غير أن يدخل المسائل النفسية. ولعله أضعف ما يكون حين يدخل هذه المسائل. فقصيدة «نيرون» قطعة شعرية خالدة، سما فيها خليل مطران على مستوى عصره (في سورية ومصر) وعلى ما تقدمه من عصور أدب اللغة العربية. ولعل أضعف ما في هذه القصيدة، ما تعلق منها بالمسائل النفسية. وشفيق معلوف شاعر شاعر في الأحلام ولم يصوّر فيها نفوس الناس وفي عبقر وفيها قليل من القضايا النفسية وصورها وأوصافها أو هي معدمة من هذا القبيل. ولا نجد في عبقر «الشعور النابض» الذي نجده في الأحلام إلا في مقاطع خاصة تدل ميولها البيولوجية على عدم النضج النفسي.
ما حدد لشفيق معلوف تعريف الشعر حدد له إدراك سمو الموسيقى أو عمقها. فتمثيله فائدة الشعر بأنها «لا تتعدى» فائدة سماع قطعة موسيقية جميلة «مطربة كانت أم مشجية» جعله لا يرى للموسيقى غير ناحيتي الطرب والشجا. وهذه هي الموسيقى المحدودة، الضيقة، الأولية. هذه هي الموسيقى في نظرة إلى الحياة ساذجة، جامدة، غير جديرة بالارتقاء النفسي ومجد المثال الأعلى الخالد.
الطرب والشجو وحدهما هما من ملازمات الحياة الفقيرة في الثقافة النفسية وفي الفن والمناحي الروحية. وقد رأى القارىء مما قدمت نقلاً عن قصة فاجعة حب أنّ فائدة الموسيقى لا تقتصر على الطرب والشجا، إلا حيث جمدت الموسيقى عند حدّ هذين الشعورين الأوليين، بجمود حياة البيئة روحياً وماديّاً. فالموسيقى الراقية تحمل النفس على تأملات فكرية وثورات روحية فضلاً عن مختلف العواطف الفردية التي هي من شؤون الحياة البيولوجية أو الجنسية. ولكن هذه الموسيقى الراقية هي وليدة عصر راقٍ أو نتاج مخيلة مبدعة، قدرت بذاتها أن تتصور عالماً من الأفكار والتأملات والشعور في أمواج من الأنغام والألحان تحتاج بدورها إلى عصر يفهمها. وهذه المخيلة المبدعة يجب أن يكون، إبداعاً خاصاً بالموسيقي المبدع.
لأشرح هذه النظرية: إنّ واغنر موسيقي مبدع ولا شك. وهو في الموسيقى نسيج وحده. ولكن موسيقاه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإحساس الحياة المستمد من الأساطير الجرمانية وبالقضايا النفسية والفلسفة المنطوية عليها حياة أبطال تلك الأساطير. وشعور واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الألمانية إلى الحياة والكون والفن. ليس واغنر مبدعاً للنظرة الألمانية إلى الحياة ولا واضعاً للأساطير الجرمانية. ولكنه مبدع للموحيات والأمواج الموسيقية المعبرة عن النظرة المذكورة ولألوان الشعور الفلسفي الذي أحسه حين قرأ تلك الأساطير، وفهم منها ومن نهضة شعبه المزايا القومية أو الجنسية الجوهرية التي جعلته يرى ويبرز تلك المثل العليا الفلسفية التي نراها تمثيلاً ونسمعها ألحاناً وأناشيد في «ولكيريا» و«سيقفريد» و«ذهب الرين» و«تانهويزر» و«لوهنقرن» و«أساتذة الغناء» و«ترستان وإيزلده» وغيرها. فكان واغنر شاعراً روائياً، لأنه نظم قصائد رواياته الموسيقية، وكان موسيقياً روائياً فلسفياً لأنه ألّف ألحان وأنغام تلك الروايات الخالدة بأسبابها الشعورية والفكرية المعبرة عن نظرة إلى الحياة عالية جداً. ويصعب على الدارس المفكر تصوّر وصول واغنر إلى ما وصل إليه من غير اتصاله بخطط النفس الألمانية وتأثره بنظرة إلى الحياة عالية وإحساس عميق بقضاياها، ومن غير نشأته ضمن العوامل النفسية التي أعطت ألمانية اتجاهها الصعودي.
وإذا ذهب أحد من أدباء العصر السوري الهالك إلى «أوفرة» وسمع ألحان واغنر أفيسرّ بها أو يطرب أو يشجى؟ لا أظن إلا أنه يعافها، لأنه لا يفهمها ولا يفهم موحياتها ولا يدرك قضاياها. وبعد فليس في قصائد واغنر الموسيقية من الطرب والشجا إلا قليلاً، وأكثر وأهم ما فيها، تأملات فكرية واتجاهات فلسفية لا يقدر على تتبُّعها من غرضه الطرب أو الشجو ومن لا يجد الموسيقى إلا تعبيراً عن شعور الطرب وشعور الشجا في مجال ضنك من الحياة تغلب فيه النزعةُ البيولوجية النزعة النفسية. ففائدة قطع موسيقى واغنر لا تقتصر على إحداث جذل أو انبساط أو شجا فيزيائي الشعور أو بيولوجي النفسية، بل تتعدى ذلك إلى القضايا الأساسية، التي تواجهها النفس الإنسانية الراقية، المركّبة، بكل ما فيها من أفكار وشعور ومطامح وميول ومُثُل وما تتعرض له من الصراع العنيف، الخفي أو المعلن، بين الأجمل والأقبح وبين الأسمى والأسفل وبين الأنبل والأرذل.
لا يكون موقف أديب الجمود والخمول السوري تجاه موسيقى بيتهوفن أو باخ أو موسرقسكي أو ويبر أو بروكنر أو تشايكوسكي أو بُرُدين أو رمسكي ــــ كرزاكف أو ستراونسكي أو شوفين أو برليوز أو دبوسي أو سباليوس أو دوُرياك أو شوبرت أو غيرهم، غير موقف المستغرب أو المستهجن.
فمنذ سنين سمعت كاتباً صحفياً سورية في سان باولو، البرازيل، ينظر إلى نفسه نظره إلى أديب كبير، يقول إنه دخل مسرح «المونيسيفال» في المدينة المذكورة ليسمع إحدى سيمفونيات بيتهوفن الطائرة الصيت، فلم يطل به المقام حتى عاف السماع وخرج من المكان، وهو في حيرة من بلاهة الناس، الذين يطيقون الجلوس بدون ملل نحو ساعة أو يزيد، لسماع موسيقى لا طرب فيها «لطيب العناق على الهوى» ولا شجا فيها «لطول ليل الصب»؛ ولشدة سأم «الأديب الكبير» المذكور مما سمع من هزيز ودوي وزمزمة وحفيف وكشيش وقرع، وليفرج كربه، طلب من صاحب المكتبة السورية التي كان يروي فيها قصته، أن يسمعه بعض أناشيد المغنية المصرية أُم كلثوم المطربة، المشجية! ولم يكتفِ بذلك بل صار ينادي صديقاً له ماراً بالمكان ويقول له: «تعال لنموت بهذا الغناء» وهو لا يدري أنه يقول الحقيقة كلها بعبارته هذه التي استعملها لمعنى آخر!
مع أنّ الشعر أضيق مجالاً من الموسيقى للتعبير عما تشمله النفس الإنسانية من فكر وتصورات وشعور ومنازع، فإن ما حدد به شفيق معلوف الموسيقى وفائدتها جعل الشعر نفسه بالمشابهة، أضيق مجالاً وأقرب قعراً مما هو أو مما يمكن أن يكون بعد أن تنجلي لنفس الشاعر نظرة أعلى في الحياة الفردية والحياة الاجتماعية ومطالب أسمى للجمال النفسي وإحساس أدق بأغراض الوجود وجوهره المستقر في النفس ضمن الوجود وليس بعد الوجود ولا قبله. فإني أعتقد، بطبيعتي السورية، أنّ كيان النفس هو في الوجود ولأجل الوجود، مهما كانت طبيعة هذا الوجود في ذاته، ومهما كانت علته، وليس لأجل «الفناء» في «وحدة الوجود».
لا أعتقد أنّ بلوغ هذه المرتبة يتم للشاعر السوري أو غيره بقراءة سفر أشعيا من التوراة اليهودية ولا بتقوية الاتصال «بالأدب القديم» الذي هو تعبير غامض في ذاته، ولا بإحسان الآداب الأجنبية القديمة التي أوجدت الأدب الأجنبي الحديث ولا بتوشية الكتب وإتقان الطباعة، بل بالاتصال بمجرى حياة يجد فيه الشاعر نفسه ونفس أمته ومجتمعه وحقيقة طبيعته وطبيعة جنسه ومواهبهما، وبإدراك عمق النظرة إلى الحياة والكون والفن الملازمة لهذا المجرى الذي يزداد قوة مع الأيام.
من الظلمة إلى النور
الزوبعة، بيونس آيرس، العام الثالث، العدد 54 (15/10/1942) ص 4 ــــ 5
بعد ظهور أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي وحصول الاختبارات الواسعة لأهمية عقيدته وتعاليمه القومية الاجتماعية، التي تفتح عهداً وتاريخاً جديدين وتجلو نظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة، ووضوح عظم المهمة التي يقوم بها هذا الحزب قال لي الأمين جورج عبد المسيح، وهو من رجال المجلس الأعلى ومن أشد رجال الحزب إخلاصاً وإقداماً ومن خطباء الحركة القومية الاجتماعية وكتّابها وإدارييها:
«لو كنت قومياً قبل ابتدائي دروسي النهائية إذن لكنت استفدت من دروسي أكثر كثيراً مما استفدت، إذ كنت عرفت كيف يجب أن أدرس ــــ وأظن أني أعبّر عن رأي غيري أيضاً».
الأمين عبد المسيح كان طالباً في الدائرة الاقتصادية في الجامع الأميركانية. وكان في السنة النهائية حين قبل فكرة القومية الاجتماعية. ولم يستوعب أهميتها ويفهم خطرها وبُعد مراميها وقضاياها إلا بعد أن اجتازت هذه الفكرة مرحلة واختمرت بالاختبار والشروح ومعالجة المسائل التي اعترضت نشوءها ونموها. وكان لدروسه المدرسية نصيب في شغله عن درس موضوع التعاليم الجديدة. فأنهى دروسه على أساس النظرة الفردية اللاقومية الرامية إلى النجاح الفردي البحت بلا مبالاة بشيء آخر. ولكنه بعد أن سار شوطاً في الحركة القومية الاجتماعية أخذ يستعيد بعض النظرات ويدقق فيها وصار يفهمها فهماً جديداً.
لم يكن الأمين عبد المسيح وحيداً في هذا الشعور. فالأمين فخري معلوف ترك الاشتغال في بواطن النجوم بعد أن صحت به: «أتشتغل بفحص بواطن النجوم وأنت لا تدري لمن تكون الأرض التي تحت قدميك غداً؟» وبعد أن استوعب الفكرة القومية الاجتماعية قال لي مرة «الآن صرنا نفهم مقالاتك في المجلة»، وهي المقالات التي كتبتها لأعداد المجلة التي استأنفت إصدارها في بيروت سنة 1933 ولم يصدر منها سوى أربعة أعداد، إذ اضطررت لإيقافها من أجل صرف كل عنايتي إلى تنظيم الحركة القومية التي كانت تحتاج إلى إنشاء وتأسيس كل أمر من أمورها، إذ لم يكن قبلها شيء إداري أو اجتماعي أو سياسي أو ثقافي أو دستوري أو مناقبي يصح اعتماده لنوع هذه الحركة الجديدة.
مثل قولي الأمين عبد المسيح والأمين معلوف سمعت من غيرهما. والأمين فخري معلوف غيّر اتجاه دروسه فدرس بعض الاقتصاديات والسياسة وهو يعلّم في الجامعة، ثم انتقل إلى الفلسفة فتخصص فيها وقد عرف، على ضوء النهضة القومية الاجتماعية، ما يدرس وكيف يدرس (من المؤسف أن يكون حدث لفخري معلوف مؤخراً إنحراف نفسي ظاهر نحو القضايا الغيبية واللاهوتية) والذين أدركوا خطورة هذه النهضة وشعروا بعظم حقيقتها وهم بعد في بدء دروسهم النهائية أو قبل بلوغها ظهرت فاعلية مبادىء النهضة في دراستهم. وجميع هؤلاء والذين صقلت التعاليم القومية الاجتماعية ثقافتهم وجلت وعيهم وأيقظت مواهبهم هم الآن قوى روحية كبيرة في هذه الحركة الباعثة أمة عظيمة من مرقدها.
في أواسط سنة 1935، قبل اعتقالي ومعاوني في إدارة الحركة السورية القومية الاجتماعية ببضعة أشهر، انضم إلى هذه الحركة شاعر كان اسمه قد ابتدأ يدور على الألسنة في أوساط سورية الأدبية وخصوصاً في لبنان. هو سعيد عقل ناظم ملحمة بنت يفتاح. وقعت في يدي نسخة من هذه الرواية الشعرية فقرأت بضعة مقاطع منها فأحسست فيها شاعرية ممتازة جديرة بتناول قضايا الحياة والنفس. ولكنني لم أطق قراءتها كلها لأني وجدتها تخدم موضوعاً غريباً عن المواضيع السورية، مختصاً باليهود أعداء سورية. رأيت موهبة شاعر سوري جدير بالتعبير عن النفس السورية، ولكنها موهبة خارجة عن المواضيع السورية وعن خطط النفس ا لسورية. وهي تخدم اتجاهات ومثلاً في انتصارها انكسار لسورية ومثلها العليا ومطامحها وقواها. ومع كل الشاعرية الجيدة الظاهرة في الملحمة لم أجد فيها ما يمكن أن يفتح للأدب السوري مدخلاً جديداً وأن يحدث فيه تغييراً أو تجديداً، على الأقل التغيير أو التجديد المنتظر أن يجعل سورية في مضاف الأمم التي لها أدب حي جدير بالبقاء وباحتلال مركز عالمي.
رأيت في بنت يفتاح مظهراً من مظاهر «أدب الكتب» الذي عرضت له في مقال نشرته في المجلة في بيروت باسم مستعار وبعنوان «أدب الكتب وأدب الحياة» (أنظر ج 1 ص 436) وقصدت أن ألفت فيه النظر إلى أنّ ما نحتاج إليه هو أدب الحياة، أي الأدب الذي يفهم حياتنا ويرافقنا في تطوّرنا ويعبّر عن مثلنا العليا وأمانينا المستخرجة من طبيعة شعبنا ومزاجه وتاريخه وكيانه النفسي ومقومات حياته وهي من الأمور التي شغلت أكبر قسم من تفكيري في البعث القومي وأسبابه، ورأيت أنّ تركيز الأدب عليها غير ممكن إلا بالاتصال بنظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة تجسّم لنا مثلنا العليا وتسمو بها وتصوّر لنا أمانينا في فكرة فلسفية شاملة تتناول مجتمعنا كله وقضاياه الكبرى المادية ــــ الروحية من اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وفنية. وقد عبّرت عن هذا الرأي، بطريقة أخرى، في ختام شرح مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي بقولي:
«إنّ غاية الحزب السوري القومي هي فكرة شاملة تتناول الحياة القومية من أساسها ومن جميع وجوهها. فهي تحيط بالمثل العليا القومية وبالغرض من الاستقلال وبإنشاء مجتمع قومي صحيح. وينطوي تحت ذلك تأسيس عقلية أخلاقية جديدة ووضع أساس مناقبي جديد».
بهذه النظرة رأيت إمكان إنشاء أدب جديد فيه كل عوامل التجديد ودوافع البعث. فالأدب الذي يخدم هذه الغاية، أو أية غاية مماثلة لها، هو «أدب الحياة» الذي عنيته. هو الأدب الذي يكشف عن عظمة مطامح نفسية هامة وسمو مراميها. هو الأدب الذي مهمته أن يكون «منارة للجماعات» وليس «مرآة لها». إنه أدب النوابغ والعباقرة الذين إذا فات بعضهم أن يكونوا مؤسسين للفلسفة والنظرة إلى الحياة الجديدتين، فلا يفوتهم إدراك المثال الأعلى، الذي تشتملان عليه والنفسية الجديدة التي تقتضيانها فيحملون النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن ويقيمون بها أدباً جميلاً خالداً، لأنه يحمل عوامل حياة جديدة بنظرتها وفلسفتها ورغباتها، فيكون بذلك النهوض الأدبي المساوق للنهوض السياسي المبني بدوره على وجود النظرة الفلسفية الجديدة في الحياة الإنسانية وعواملها وأغراضها الأخيرة.
لم تكن بنت يفتاح تنطبق على مرمى التجدد الروحي في سورية وعلى ما يرجى من الأدب الجديد الذي كانت سورية تتوق إليه توقاً داخلياً، لأنها كانت بعيدة عن مواضيع الحياة السورية وغير متصلة بنظرة فلسفية يمكنها أن تستغرق أمواج النفس السورية. فلم يستهوني موضوعها. وصور الجمال التي فيها بقيت غريبة وجامدة، مع أنها صور إحساس سوري ضمن حوادث موضوع غريب معاكس لاتجاه الشعور السوري، فرأيت أن ألفت نظر الشاعر إلى مطاليب النهضة السورية في الأدب، فانتهزت فرصة زيارة قمت بها لمنفذية الحزب السوري القومي الاجتماعي للبقاع الشمالي في زحلة، بعد خروجي من السجن المرة الثانية سنة 1936، لتنفيذ عزيمتي. كانت الدعاوات المفسدة قد لعبت دوراً هاماً في مديرية زحلة، في أثناء غيابي الطويل في السجن مرتين متواليتين مع فترة قصيرة بينهما. وكانت الإذاعة الشيوعية قد أخذت تعبث ببعض الرفقاء ومنهم سعيد عقل الذي وجدته شبه مقتنع بأنه لا حاجة لنهضة قومية اجتماعية في سورية، إذ العالم كما قال له بعض الشيوعيين، على أبواب صراع بين الشيوعية والرأسمالية وأيهما انتصر قضى على كل أمل لسورية بتحقيق بعثها. فأوضحت للمتزعزعين مقدار الخطر على مجتمعهم وعلى أنفسهم من تقلّبهم في العقائد تقلّب الأوراق تلعب بها الريح. وفي نهاية حديثي إليهم وجهت خطابي إلى سعيد عقل خصيصاً ومدحت شاعريته الممتازة ولمته لعدم اهتمامه بالمواضيع التي هي من صميم الشعب السوري وتاريخه. وسألته هل لم يجد في تاريخ سورية من روائع المظاهر والمكنونات النفسية التاريخية ما يستهويه لاستخراج كنوزها واستئناف مجرى خططها السامية؟ فلم يحر جواباً فأشرت عليه بقراءة كيفية بناء قرطاضة العظيمة وتحويلها إلى قاعدة امبراطورية فسيحة الأرجاء شديدة السطوة وحوادث تاريخها الموقظة الشعور والمنبهة الفكر، أو قراءة شيء من أي دور من أدوار تاريخ سورية القديم فيتمكن، بفضل اتصاله بالنظرة السورية القومية الاجتماعية، من ربط قضايا سورية القديمة بقضاياها الجديدة وإيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي واستخراج المثل العليا الفرعية والتفصيلية الجوهرية في الأخلاق والمناقب، وإبراز أجمل المظاهر النفسية وأسنى المواقف المناقبية حسب الإحساس والتصور الملازمين لخصائص النفسية السورية. تركت هذا المعنى في ذهن سعيد عقل وخرجت من المكان غير منتظر جواباً.
بعد سجني المرة الثالثة وفي أواخر سنة 1937 أو أوائل سنة 1938، أوصل إليّ الأمين فخري معلوف نبأ جعلني أشعر بموجة حرارة تجري في جسمي كله. قال لي الأمين معلوف إنّ سعيد عقل يشتغل في قصيدة أو ملحمة عنوانها قدموس السوري التاريخي الذي علّم اليونان الأحرف الهجائية والكتابة وله قصص بطولة أسطورية جميلة، وإنه قد أنجز قسماً منها، أسمعه بعض مقاطعه، وإنه يود أن يجتمع بي ليُسمعني ما قد نظم. لم يمكني دور الجهاد العنيف الذي كنت فيه من تحقيق رغبة الرفيق سعيد عقل ولكني شعرت برغبة شديدة في الالتقاء به ليقرأ في ناظري تقديري العظيم وشكري (وإني آسف، بعد وقوفي على رواية قدموس من نظم سعيد عقل لأني لم أجد فيها ما كنت أتوقعه. فقد حاول المؤلف أن يصبغ الحقائق التاريخية والأساطير التقليدية بصبغة محلية ضيقة فأساء إلى الأساطير وإلى الواقع التاريخي).
سردت هذه الحوادث كما حدثت، مفضّلاً أخذ المثل من الحاضر ومن شؤون تاريخ نهضتنا التي في مقدور كل مؤرخ ومحقق تمحيصها وسؤال أفرادها الذين هم أحياء وفي فتوة الحياة، ليسهل إدراك نظريتي في كيفية نشوء أدب جديد حي بنشوء نظرة فلسفية اجتماعية جديدة صدرت عنها حركة سياسية واسعة تناولت حياة أمة بأسرها وامتد تأثيرها إلى الأمم المجاورة وامتزجت أنغام موسيقاها الخاصة بالأنغام الخاصة الصادرة عن أمم أخرى تشترك في الارتقاء النفسي على ألحان المجد المكتسب بانتصار الأفضل والأنبل والأعز على الأسوأ والأرذل والأذل، ولفهم ضرورة النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن للتجديد الأدبي أو الفني.
ويصعب عليّ كثيراً أن أتصوّر أنّ مجرد قراءة تواريخ قديمة والاطلاع في الأدب العربي القديم ودرس الأدب الإنترناسيوني الحديث، يكفي لإيجاد نهضة أدبية فنية أصلية جديدة في سورية ومصر أو في أية أمة من أمم العالم، على وجه القياس. كل ذلك يحتاج إلى الحافز الروحي المستمد من فكرة أو عقيدة فلسفية جديدة في الحياة وقضاياها. وبدون هذا الحافز الروحي، الذي هو شيء حقيقي، لا وهمي، لا يكون الأدب سوى ألوان تقليدية أو استعارية باهتة لا نضارة لها ولا رونق ولا شخصية. فلا هو شيء جديد من الوجهة النفسية يطبع خصائصه على الحقب والأجيال ولا هو شيء قديم أصلي محتفظ بخطوط شخصية صحيحة تظهر قوتها في ملامحها الصريحة، التي لا يتمالك الناظر إليها من الشعور بحقيقتها والإعجاب بمقدرتها على البقاء وبجاذبية مزاياها الأصلية الخاصة.
لو كان الحافز الروحي المستمد من فلسفة العقيدة السورية القومية الاجتماعية اتصل بجميع رجال العلم والأدب الذين انضموا إلى هذه العقيدة، قبيل ابتداء دروسهم الشبه اختصاصية لما كانت تلك الدروس، ظلت هياكل عارية، ميتة لا حياة لها ولا حراك بها، حتى جاءت النهضة القومية الاجتماعية بمبادئها وصيّرت العلوم الميتة علوماً حية، فاكتست العظام لحماً ونبضت عروضها بدم الحياة الحار. وبدون الحافز الروحي الواعي لا تفيد كثيراً قراءة شكسبير وغوته ولا العودة إلى سفر أشعيا ولا زيادة العلم ولا التعمق في الأدب القديم.
إنّ العراك السياسي العنيف الذي اضطرت النهضة السورية القومية الاجتماعية للدخول فيه في جبهتين داخلية وخارجية، قبل اكتمال نموها الطبيعي وقوتها، حال دون حصول نتاج أبدي كبير، واسع، شامل. ولكن الحافز الروحي الذي ولدته هذه النهضة الحقيقية قد حرك عوامل الحياة والارتقاء في جماعات كثيرة وأيقظ وجدان ألوف الأحداث والطلبة في طول البلاد وعرضها. والعقيدة آخذة في الاختمار، والفكر قد ابتدأ يتبلور، وسيجيء دور الإنتاج الأدبي والفني الواسع، الذي ينهض بالعصر الذي ابتدأ تاركاً في الحضيض العصر الذي أخذته حشرجة النزع (وقد جاء بالفعل هذا الدور وقد بدت طلائعه في عدة مؤلفات ذات قيمة).
إنّ من نتائج حصول نظرة فلسفية جديدة إلى الحياة والكون والفن، حدوث تغيير في مجرى الحياة ومظاهرها، وفي أغراضها القريبة والأخيرة، قبل كل شيء. وهذا ما حدث في سورية بوجود النظرة الفلسفية السورية القومية الاجتماعية، ليس فقط في ما تعلق بالأدب والفن، بل في ما اختص بالأعمال والأخلاق والمناقب.
اتّفق لي أكثر من مرة أن سمعت هذا القول من منضمين إلى الحركة السورية القومية الاجتماعية مدركين:
«لم نكن نعلم أي درك من الانحطاط الأخلاقي وضعف المناقب بلغ شعبنا، إلى أن دخلنا في الحزب السوري القومي الاجتماعي. الآن أصبحنا ندرك الفساد المتفشي في أمتنا وخطره على حياتها».
حصول النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن يفتح آفاقاً جديدة للفكر ومناحي جديدة للشعور كما قلت آنفاً. وهنا نقطة الابتداء لطلب سياسة جديدة وأشكال سياسية جديدة ولفتح تاريخ أدب وفن جديدين. فالأدب والفن لا يمكن أن يتغيرا أو يتجددا إلا بنشوء نظرة فلسفية جديدة يتناولان قضاياها الكبرى، أي قضايا الحياة والكون والفن التي تشتمل عليها هذه النظرة.
قد يسأل سائل: «هل من الضروري أن يكون التجديد الأدبي خاصاً بمواضيع أمة معينة فإذا تناول غيرها بَطُلَ أن يكون تجديداً وفقد قيمته الأدبية؟».
جوابي: كلا، ليس من الضروري. فالقيمة الأدبية أو الفنية ليست في هوية أو «جنسية» الموضوع، بل في القضايا التي ينطوي عليها الموضوع وفي كيفية معالجة القضايا وفي النتائج الروحية الحاصلة من هذه المعالجة. أما ذاتية الموضوع وزمانه ومكانه فلها ناحية شعورية خاصة وتقل أهميتها، أو تعظم، على نسبة الغرض الخفي أو المعلن الذي يسوق الموضوع إليه. على أنّ الاتجاهات الفكرية والشعورية تتأثر بالموضوع، الذي إذا كان خاصاً كبنت يفتاح تعرّض لفقد كل مبرر عام ولأن يكون مخالفاً أو مناقضاً للمثل العليا التي يبغيها الشعب المكتوب له الموضوع وللخطط النفسية التي تبرز بها مواهبه الجديرة بالإعجاب والبقاء. فبنت يفتاح مثلاً، تدخل في الأدب اليهودي الخاص أكثر مما تدخل في الأدب السوري، لأنها تتناول موضوعاً يهودياً بحتاً تبقى أسبابه ونتائجه ضمن إطار المظاهر اليهودية وكذلك موحياته وجواذبه، خصوصاً والشاعر قد نظم القصة ولم يحصل له الوعي القومي ولم يدرك النظرة الجديدة إلى الحياة.
إنّ الاعتماد على المواضيع الغريبة لا ينشىء أدباً شخصياً لمجتمع له خصائصه التي يمكن أن تضاف إلى مجموعة الآداب العالمية ووحدات خصائصها. إنه ليبرر تناول بعض المواضيع الأجنبية، بعد نشوء الأدب القومي أو الخاص على نظرة إلى الحياة والكون والفن واضحة. فيكون تناول تلك المواضيع بهذه النظرة أو بهذا الوعي الذي له خصائصه فيكسبها من خصائصه ما يضيف إليه ألواناً وأشكالاً متميزة. وفي هذه الحالة يجب أن تكون تلك المواضيع ذات أهمية خارقة، تاريخية أو حقوقية أو إنسانية، قابلة الاشتراك بين الشعوب أو بين بعضها، فشلر ألّف عذراء أرليانس (أرليان) في جان دارك. ولكن ليست هذه الرواية الإنتاج الذي أعطى شلر مقامه الأدبي. وهي ليست سوى جزء يسير مما كتب شلر. وأهم ما كتب شلر، على رأي جمهور نقّاده، هو حرب الثلاثين سنة في الحرب الشديدة التي جرت في ألمانية بين الكاثوليك والبروتستانت. فالموضوع ألماني صميم وقد كتب فيه شلر نثراً، ونظم فيه قصيدتين أو ملحمتين عاليتين جداً، الواحدة في بطل الكاثوليك ولنشتين، والثاني في بطل البروتستانت غستاف أدلف. ومع أنّ هذا الأخير هو ملك أسوج فقد تدخّل في شؤون النزاع الديني الألماني ودخل في تاريخ ألمانية. والموضوع وسياقه أبرزا شاعرية ممتازة وجدت نفسها في بيئتها وفي بيتها فوافق ذلك المثل البسيط «رب البيت أدرى بالذي فيه». ففي وصف ولنشتين، مثلاً، تظهر صورة حية ذات رواء نادر. وأتمنى أن تكون صورة أبطال سورية في قصائد شعرائها أبهى سناءً من قصيدة شلر في ولنشتين وجديرة مثلها باحتلال مركز عالمي ممتاز.
وهذه عبقر لشفيق معلوف. هي أيضاً قصيدة سورية في موضوع غريب. وسأتناولها بتشريح لم يمكن أن أتناول به بنت يفتاح لأن تلك قد أصبحت أمامي بفضل أحد المعارف.
لا شك عندي في أنّ عباس محمود العقّاد لا يجد سبباً للتذكر من مظهر الكتاب الذي طبعت فيه القصيدة. فورقه صقيل وأصفر يريح العينين. وصفحاته كلها ذات طراز ولكل نشيد من أناشيد القصيدة صورة رمزية من رسم فنان إيطالي.
موضوع القصيدة عبقر العربية التقليدية وهي «قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل». وقد أراد الشاعر أن يقوم بسفرة معراجية أو معرية أو دانتية إلى عبقر. وكما سار محمد بصحبة جبريل إلى الجحيم والسماء فتعرّف إليهما، وكما فعل الشاعر السوري الخالد أبو العلاء المعرّي، وكما فعل شبه فعله دانتي ألغياري في ديوينه كميديه، [Divine Comedy] كذكل سار شفيق معلوف صحبة شيطان شعره إلى عبقر.
لماذا اختار شفيق معلوف «عبقر» موضوعاً لشعره؟ لا أظن إلا أنه حب «الابتكار» ودافع أن يقلَّد من غيره ضمن نطاق أدب اللغة العربية، إذ ليس لموضوع القصيدة، أي لعبقر أية قضية نفسية أو فلسفية عامة كالتي للجحيم والسماء. وهذا الموضوع مجهول في سورية إلا عند الذين أكبوا على دراسة التقاليد والخرافات العربي كالمستشرقين ومن جرى مجراهم. وصوره الأصلية هي صور خرافات وأوهام تلازم الجماعات البشرية المكتنفة نفوسها ظلمة الجهل والغفلة والوحشة. فخيالاتها غرائب لا منطقية ولا تسلسل فلسفي لها، كظهور الجن وركوبها الأرنب والظبي واليربوع والحية وغيرها، وكمخاطبة الجن وغير ذلك، وكعجائب الكهان الذين يولد بعضهم بلا عظام وبعضهم نصف إنسان. وهذا النوع من الخرافات لا مغزى له غير ما يدل عليه من حالة الأقوام التي تمارسه. وعلى عكس ذلك الأساطير الراقية ذات الصبغة الفلسفية المتناولة قضايا الحياة الروحية والمادية، الملازمة للجماعات البشرية التي أظهرت استعداداً نفسياً عالياً وجعلت أساطيرها ذات مغزى في الحياة وفي الممات، كالأساطير السورية التي أثّرت تأثيراً كبيراً في الأساطير الإغريقية وساعدت على نشوء أبدع الشعر الكلاسيكي وأسمى التفكير الفلسفي. ولا بدّ هنا من تصحيح الاعتقاد الشائع أنّ الشعر الكلاسيكي يبتدىء بهوميرس. أنه يبتدىء مئات من السنين قبل إلياذة هوميرس، بقصيدة «طافون» في سورية، في رأس شمرا، التي يرجّح أنها «أوغاريت» القديمة، كما أظهرت التنقيبات الجديدة بين سنة 1929 وسنة 1932.
لم يتناول ناظم عبقر هذا الموضوع العربي بقصد تصوير حالة العرب النفسية في خرافاتها وتخيلاتها وهي تغدو وتروح بين كثبان الرمال وفي مفاوز الصحراء وسباسبها ووسط أنجادها ووهادها، بل كان قصده أن يجد في تلك الصور الأولية، التي منشأها مخاوف الجهل وهواجس الاضطراب تجاه الخفاء، مغازي الأساطير العليا، الراسمة لقضايا الحياة الإنسانية ومسائلها النفسية الكبرى رموزاً فلسفية في غاية الدقة من التمعن وقوة الملاحظة المتنبهة بالاستعداد الذاتي والاتجاه الدال على طموح نفسي عظيم إلى إدراك كنه الحياة والوجود والبقاء والفناء والأغراض العظمى من الوجود الإنساني، مما هو من شأن الجماعات الآخذة بأسباب الرقي الفكري. فكان قصد الشاعر أعظم وأعلى من الأسباب التي أراد بلوغه بها، والنتيجة الأخيرة التي وصل إليها ناظم عبقر ليست من النتائج المسعدة التي يرغب فيها الإدراك العالي. حاول الشاعر أن يرقى بالخرافات العربية إلى مرتبة الأساطير الفلسفية فنزل بفلسفة الأساطير إلى حالة لا منطقية.
لعل أعظم مدح لشاعرية شفيق معلوف أنه حاول أن يربط جميع الأوهام العربية التقليدية في عبقر والجن والكهانة بخيط من الفكر والشعور يتعلق بموضوع من أهم المواضيع الإنسانية: الحب. لا أظن أحداً سبق شفيق معلوف إلى هذه المحاولة، ولا أعتقد أنّ أحداً سيدركه في مثلها. إنها ابتكار ولكني لا أتمنى أن يجد مقلدين كثيرين في سورية.
لم يكن شفيق معلوف محتاجاً إلى هذه السياحة الطويلة إلى عبقر ليظهر أنه شاعر في الوصف الروائي. ولم يكن محتاجاً إليها عبّارة ليصل إلى تمجيد الحب الفاني الذي يتغذى بدم شرايين الشباب وينمو بحرارة أجساد الفتوة، ثم يجف مع جفاف الشرايين ويتقلص بتناقص الحرارة ويفنى بفناء الأجساد.
تمتاز عبقر على بنت يفتاح وعلى كل ما وقع عليه نظري في الشعر السوري والمصري والعربي القديم والحديث، باستثناء إنتاج الشاعر السوري الكبير أبي العلاء المعرّي، بأنها شيء مركّب بإبداع المخيلة التي أنشأت فصوله و«مؤلف» بعناية اشترك في تأليفه الفكر أو العقل مع الشعور، وبأنها محاولة مركّبة تدل على مؤهلات الناظم للصعود فوق العواطف والانفعالات العارضة أو الفطرية ولتناول المواضيع الإنسانية المتعلقة بصفات الإنسان الجوهرية الباقية. تمتاز بأنها خيالية وبأن الخيال فيها مربوط بالعقل، وبأنّ الفكر لم يهمل فيها لتترك العاطفة على سجيتها.
هذه الحقائق الشاعرية الكبرى في عبقر. ولكن يلاحظ في هذه الشاعرية الخلو من النظرة الفلسفية إلى الحياة والكون والفن القادرة على التأسيس أو البناء لحياة أسعد حالاً وأبقى مآلاً. وأعتقد أنّ الخلو من هذه النظرة هو السبب الذي حمل الشاعر على دفن شاعريته في تتبع الخيالات والخرافات العربية الخالية من المغزى الفلسفي أو من سحر الجمال، ومعاناة استخراج بعض الرموز والمغازي من جميع تلك الاستعراضات الغريبة، من ركوب ظهر الشيطان إلى ذكر عرافة عبقر إلى عبقر بذاتها، كما يتصورها الشاعر، إلى «مراكب الجن»، إلى الجن، إلى الكاهنين سطيح وشق وغير ذلك من أضغاث الأوهام التي لا تجد فيها أي تعبير أو مغزى فلسفي يصلح لتوسيع أفق النفس في الحياة ومراميها. ولذلك أجد عبقر خالية إلا من استعراض الخرافات الشبحية واعتقادات أولية بالية في «حديث العرافة» وتمجيد للحب المتلظي في الشفاه، وكل ذلك بأسلب شعري جميل جزلت «معانيه» ولطفت ديباجته وحلت رقّته، ولكنه لا يوجد في النفس غير لذة تشبه اللذة التي تورثها خمر جيدة تسعد باحتسائها وتثمل بدبيبها وتلتذ بذكراها ولا شيء وراء ذلك. ومع هذا ففي عبقر أبيات فيها لمحات أو لمعات نفسية تكاد تصل إلى الثورة الروحية كقوله:
ما الفرق في نومي وفي يقظتي وكل ما في يقظاتي رؤى (ص 146)
في «نشيد الكاهن سطيح» وفي «حديث الكاهن شق» يجد الباحث محاولة للاقتراب من الفلسفة والفلسفة الاجتماعية. ولكن ليس في هذا الاقتراب غير مجاراة الاعتقادات القديمة كقوله على لسان سطيح:
والخلق من حمقى ومن أغبياء
وكل من في الأرض من أغبياء
يجرون كالعميان خلف القدر
وفوقهم يلمع سيف القضاء
وتحتهم تفغر فاها الحفر (ص 238)
وكقوله على لسان شق:
ما ضرني والواحد السرمد
لم يحب جسمي بيدين اثنتين
ما زال للقضاء فوقي يد
فليس بي من حاجة لليدين (ص 242)
ولكنه في «حديث شق» يخرج إلى تأملات اجتماعية بعضها ذات صبغة مناقبية متفقة مع خطط التفكير السوري كقوله:
شذب مني الأغصن الفاسدة فصلحت بقيتي الباقية
هل تنفع اليدان والواحدة تهدم ما تشيده الثانية (ص 242)
وكقوله:
وإنّ قلباً بعضه يشعر
وبعضه كأنّه الجلمد
حسبي منه نِصفه النير
لا كان قلب نصفه أسود (ص 244)
فالبيتان الأخيران والبيت السابق لهما هما من أجمل وأسمى التعابير الشعرية في حيّز من الفكر صالح لتثبيت قواعد الاجتماع والعمران ولتقوية المناقب الضعيفة.
أتناول أخيراً الغاية الأخيرة من عبقر ــــ الحب:
الصورة التي يرسمها شفيق معلوف للحب ليست في عبقر أرقى منها في الأحلام إلا قليلاً. إنه الحب الجاهلي أو البربري أو الفطري. إنه الحب الذي لم يروضه التمدن ولم تقوّمه الثقافة ولم ترتفع به النفس. في «أغنية الجنية» يظن المدقق، بادىء بدء، أنّ الشاعر يحاول تصوير ميول الجن وشهواتها ليخرج من ذلك إلى فكرة فلسفية في الحب ومغزاه، ولكن ختام القصيدة، «همس الجماجم» العبقرية، يثبت أنّ صورة الحب التي يراها الشاعر هي صورة الضم والتقبيل وارتجاف الأضلع وطلب الأجساد الأجساد. والشاعر يتدرج منذ البدء نحو هذه الغاية أو هذا المثال. ففي تصويره «أميرة الجن» يكني عن الحب الذي يرمي إليه بقوله:
مست بروح ليس من عبقر
غادرها غرقى ببحرانها (ص 170)
فكأنه يريد أن يقول إنّ روح الإنس دخل في جسم أميرة الجن فجلب إليها أماني الإنسان وتصوراته فإذا هي الشهوات الجسدية الملحة:
ويحي! من يشبع فيَّ النهم؟
أكُلما استَلْقَتْ على مِعصمي
روح، فقربت إليها فمِي
تملصت… فلم أُقبِّل ولم
أضم إلا عدماً في عدم؟ (ص 173)
ويستطرد الشاعر، مصوراً عالم الإنس، فيقول:
في العالمِ الآخر حيث الأرج
يجاذب الأنفس أهواءها
متى تلظت شهوة في المهج
لم تعدمِ الأجساد إِطفاءها
ما فيه غير الحب ملء الفضاء
ملء الثرى، فِي الغاب في ظله
فوق الجبال الناطحات السماء
في الماء، في كيانه كله (ص 174)
هذه هي صورة الحب التي يراها الشاعر في عالم الإنس فيرسمها في «أغنية الجنية». وانظر كيف يتابع الشاعر في هذا النشيد وصف الحب:
من لي بحب نوره ينبلج
من شرر محتدمٍ في المقل؟
من لي بثغر لاهب تنفرج
ثغرته عن شعلات القبل؟
من لي بذي صدرٍ خفوق ألج
في صدره وإن يكن يختلج
لِعاصف الموت اختلاج الشعل
ما نفع روح خالد عشت فيه
ما زلت لم أحضن ولم أُحتضن (ص 177 ــــ 178)
ينتقل الشاعر من الجن إلى «العبقريين»، ويعني بهم الشعراء فيرى مثاويهم ويسمع همس جماجمهم، فلا ترى فرقاً بين ذكرياتهم وأماني الجنيات، وهاك ختام الرواية وفيه غايتها الأخيرة ومثالها الأعلى:
تالله لا الأصنام ولا الخرافات
تهز منا العظام ونحن أموات
تلاشت الأوهام
وأهلها ماتوا
لكن من يهز منا الرفات
فهو الذي كل أماني الحياة
يفتر في ثغره
وكل ما في الأرض من ذكريات
يغفو على صدره
لا تستطيب النجوم غير تهاليله
وليس تبكي الغيوم في غير منديله
ذاك هو الحب لصيق الثرى
ما لجناحي عزمه نهض
خصوا به الجنة وهو الذي
مضجعه القتاد والقض
والحب في الجنة ما شأنه
ولا أذى فيها ولا بغض
ألقوه للنار وإن أرمضت
أقدامه المواطىء الرمض
وليتلقفه شواظ اللظى
وليتلهم بعضه البعض
فالأرض إن كانت جحيماً له
وكان فيها تهنأ الأرض (ص 318 ــــ 321)
هذا هو كل مرمى القصيدة. الصورة الشعرية رائعة، ولكن التصور المثالي فطري ساذج. ويمكن أن ينعت بالجاهلي أو الوحشي. فالحب، كما يصوره الشاعر، هو نزعة بيولوجية بكل ما فيها من ميول وأشواق جسدية، لا غاية نفسية مثالية تتخذ من الغرض البيولوجي سلّماً لبلوغ ذروة مثالها الأعلى، حيث تنعتق النفس من قيود حاجة بقاء النوع ولذائذ أغراضه ويشاد بناء نفسي شامخ لحياة أجود، وحيث يصير مطلب الحب السعادة الإنسانية الاجتماعية الكبرى. فيكون الحب اتحاد نفوس. ولا يكون اعتناق الأجساد غير واسطة لتعانق النفوس المصممة على الوقوف معاً والسقوط معاً من أجل تحقيق المطلب الأعلى، في جهاد ضد الفساد والرذائل، ولنصرة الحق الكلي والعدل الكلي والجمال الكلي والحب الكلي، ولرفض اللذات الجسدية غاية في ذاتها، التي هي أعظم مصدر للأذى والبغض والعداوات الصغيرة، اللئيمة، الحقيرة، التي لا ترى في الكون غير صغرها ولؤمها وحقارتها.
أنطون سعاده
ssnparty.org
في شهر مايو/أيار من هذه السنة 1942 وقعت في يدي نسخة من العدد الثاني، السنة الأولى، من مجلة العصبة التي كانت تصدر في سان باولو، البرازيل، وهو العدد المخصص لشهر فبراير/شباط سنة 1935. كانت نخسة وسخة الغلاق وقد انتزعت من صفحات عديدة والصفحات الباقية مخلخلة ومهددة بالعطب. مع ذلك رأيت أن أنظر في هذه الصفحات وأقف على ما فيها، فوجدت نص مراسلة أدبية بين ثلاثة أدباء سوريين، هم: أمين الريحاني ويوسف نعمان معلوف وشفيق معلوف. والمراسلة المذكورة عبارة عن ثلاثة كتب مشتملة على آراء ونظريات في الشعر والشاعر. والشعر والشاعر يدخلان في موضوع الأدب الذي كان قد استلفت نظري ما يجري من تخبط وتخليط فيه.
قرأت الكتب الثلاثة المشار إليها وقرأت التعليق الأخير الذي ألحقه بها شفيق معلوف، حين دفعها للنشر في المجلة المذكورة. فشعرت بالنقص الفكري الكبير، الذي مثلته تلك الكتب في هذا الموضوع، وبالحاجة إلى درس يتناول موضوع الأدب في أساسه ويجلو الغوامض الكثيرة، التي أشوت فيها سهام الرماة وضاعت مجهودات الكتّاب. على أني لم أجد منفسحاً من الوقت للقيام بهذا الدرس، على الوجه الذي أريده. فحاجات صحيفة الزوبعة، التي كان لا بدّ من قيامي على إدارتها وكتابة أهم مواضيعها وأبحاثها السياسية والاجتماعية، والفلسفية، مضافة إلى حاجات إدارة فروع الحزب السوري القومي الاجتماعي، عبر الحدود ومعالجة المسائل والقضايا الكثيرة التي تعرض لها، وإلى حاجات الإذاعة القومية الاجتماعية في أوساط السوريين عبر الحدود، فضلاً عن الاهتمام بتتبع السياسة الإنترناسيونية وعلاقتها بالأمة السورية ونهضتها القومية الاجتماعية، كانت أكثر مما يمكنني وحدي سد ثغراته، فكيف أعمد إلى توسيع دائرة الأعمال وزيادة القضايا التي تشغل فكري، من غير إلحاق عجز كبير بشؤون كثيرة.
بعد استعراض مستعجل لهذه الحالة، قرّرت إرجاء الموضوع الأدبي إلى وقت مؤات. ومضت بضعة أشهر أنجزت فيها بعض المطاليب الهامة. ولكن المسائل المتعلقة بطبيعة عملي لم تنقص، بل زادت. وفي هذه الأثناء كان موضوع الأدب يلوح أمام ناظري ويطل من وراء المشاكل الإدارية والنفسية والسياسية التي تعرض أمامي. ولم أكن أجهل علاقة الأدب بهذه المشاكل وإمكانيات تذليلها بإنشاء أدب جديد، حي. وكم كنت أتألم من تفاهة الأدب السائد في سورية وأشعر أنّ فوضى الأدب وبلبلة الأدباء تحملان نصيباً غير قليل من مسؤولية التزعزع النفسي والاضطراب الفكري والتفسخ الروحي المنتشرة في أمتي. وكان هذا التألم يحفزني لانتهاز كل فرصة عارضة للفت نظر الأدباء الذين يحدث بيني وبينهم اتصال إلى فقر الأدب السوري وشقاء حاله وفداحة ضرره ولتوجيههم نحو مطالب الحياة وقضاياها الكبرى وخطط النفس السورية في سياق التاريخ. ومن الذين اتصلوا بي في سان باولو، البرازيل، وأفضيت إليهم برأيــي ثلاثة من أفراد «العصبة الأندلسية» بينهم مدير مجلة العصبة التي نشرت المراسلة الأدبية المذكورة آنفاً. كان ذلك في أحد أيام يناير/كانون الثاني 1939، على الأرجح، بمناسبة قيام الأدباء الثلاثة المذكورين بزيارة رسمية لي. فقد سألت أولئك الأدباء عن السبب الموجب لنشوء «العصبة الأندلسية» وهل لها غرض أو مذهب أدبي يجمع بين أفرادها ويوحّد اتجاههم. فأجاب مدير مجلة العصبة جواباً استوثقت منه أنه لا يوجد شيء واضح من هذا القبيل. فأبديت للزائرين رأيــي في الأمر وقد اشتمل على نظريات توجيهية جعلت أحدهم يقول، فيما بعد، «إنّ الزعيم محدّث ممتاز». فتأسفت كثيراً، لأن ذاك الأديب قصر همّه على مزايا المحدّث دون أفكاره وآرائه، والعهدة على الناقل. ومثل هذه السابقة جعلني أزداد شعوراً بالحاجة الماسّة إلى بحث في الأدب ومهمته، وفي الأدب الذي تحتاج إليه سورية وخصائصه.
بين إلحاح هذه الحاجة وإلحاح المسائل الأخرى التي لا تفتأ تزدحم في مكتبي، رأيت أن أستسنح أول فرصة للتوفيق بين الجاذبين. فلما فرغت من أهم المسائل المستعجلة، قررت الكتابة في هذا الموضوع بالاستناد إلى ما ورد في مراسلة الأدباء الثلاثة المنشورة في مجلة العصبة. وكانت الطريقة العملية الوحيدة الممكنة، للتوفيق بين مختلف الحاجات، أن أكتب لكل عدد من الزوبعة قسماً من البحث، وهذه الطريقة الاضطرارية أوجبت قطع التفكير في الموضوع عند نهاية ما يفي بحاجة عدد الجريدة والانتقال إلى معالجة الشؤون الأخرى المتنوعة، حتى إذا حان موعد صدور العدد التالي، عدت إلى الموضوع والفترة بين الانقطاع والعودة نحو خمسة عشر يوماً تنازعت فيها الفكر شواغل ومهام عديدة. فكان كل قسم جديد يكلفني جهداً كبيراً في الوصل بين أسبابه وأسباب القسم السابق له. وكان من وراء ذلك فوات تفاصيل كثيرة هامة.
وكنت أريد أن أحدد الموضوع بما جاء في المراسلة الأدبية المشار إليها. وهو مقتصر على ناحية الشعر. ولكني اضطررت إلى تعديل هذه العزيمة بسبب اطّلاعي، بعد كتابة المقال الأول، الذي نشر في العدد 50 من الزوبعة الصادر في 15 أغسطس/آب الماضي، على آراء رهط آخر من كبار أدباء سورية ومصر منشورة في بعد أعداد الهلال التي وردتني هدية من أحد الرفقاء القوميين الاجتماعيين. فعرضت للأدب عامة، فضلاً عن الشعر، وكان ذلك دائماً ضمن حدود التوفيق المذكور التي أوجبت الاقتصار على الأساسي، الضروري والاستغناء عن الإسهاب والتفاصيل الواسعة المجال، التي رأيت تركها لاستنتاج المفكرين والأدباء.
أتممت هذا البحث في ثمانية أقسام، تشبه المقالات، نشرت متلاحقة في ثمانية أعداد من الزوبعة ابتداء من العدد الصادر في 15 أغسطس/آب وانتهاءً في العدد الصادر في 1 ديسمبر/كانون الأول 1942. وفي أثناء نشر الأقسام المذكورة وردتني رسائل من أدباء، ومن بعض محبي الأدب، يبدي فيها أصحابها اهتمامهم للبحث ورغبتهم في اقتنائه. وبعض هذه الرسائل حمل اقتراح طبعه مجموعاً في كتاب على حدة، تعميماً للنظريات الواردة فيه. فوافق ذلك رغبتي واغتنمت أول فرصة لإصدار هذا الكتاب.
وقد عنيت بمراجعة البحث وتنقيحه وتصحيحه من الأغلاط التي وقعت عند نشره في الزوبعة وأضفت إليه ملاحظات جديدة قليلة لم ترد في الزوبعة. وفي هذه الناحية صعوبات أخرى ناتجة عن نظام المطابع السورية في بيونس آيرس وكيفية عملها.
بيونس آيرس، في 15 ديسمبر/كانون الأول 1942
أنطون سعاده
مقدمة الطبعة الثانية
وصلت إلى الوطن نسخ قليلة من الطبعة الأولى، التي طبعت في بيونس آيرس، فأثارت اهتمام الأدباء والدارسين والطلبة والأوساط التي لها عناية بالشؤون الأدبية وتطور الفكر في سورية، واقترح عليّ طبع الكتاب ثانية ليتسسنى للراغبين في الأدب اقتناؤه. فنقّحت الكتاب ودفعته للطبع.
الشوير، في 15 يونيو/حزيران 1947
المؤلف
تخبط وفوضى
الزوبعة، بيونس آيرس، العام الثالث، العدد 50 (15/8/1942) ص 1 ــــ 3
تقديم البحث في الزوبعة:
نشرت مجلة العصبة التي كانت تصدر في سان باولو، البرازيل، في عددها الصادر في فبراير/شباط سنة 1935 ثلاثة كتب تدور على ديوان الأحلام للشاعر شفيق معلوف نزيل سان باولو، البرازيل، وقد لفت نظري الاحتكاك والتصادم الفكريان في الشعر وأغراضه اللذان أثارهما ظهور الأحلام ورأيت أنهما يفتحان الباب لبحث يجب أن يحيا ويجد اهتماماً كبيراً في دوائر التواقين إلى المعرفة والفهم والراغبين في الارتقاء الثقافي الذي يمكّن الأمم من إبراز أفضل مواهبها والصعود إلى قنة مجدها. وإلى القارىء الكتب المذكورة وتعليق الشاعر الأخير عليها حين سلّمها للنشر، كما وردت في مجلة العصبة المحتجبة:
ــــ 1 ــــ
من كتاب الريحاني
عن الفريكة في 12 نيسان/أبريل 1926
عزيز شفيق المعلوف حفظه الله
أشهد أنك شاعر. ولكنك في الأحلام بعيد عن كنه الحياة والمقاصد الكبرى فيها. قد كانت هذه اللهجة ــــ لهجة الكآبة والحزن ــــ «موضة» في زمن بيرون ومسه. وهي في الشرق، خصوصاً فينا نحن السوريين، داء دفين. فما فضل الشاعر وهو يبكي ويئن مثل عامة الناس؟
أمّا من النظر الفني ففي «أحلامك» كثير من بديع التصور، وجميل الخيال ورقّة التعبير، ونعومة الديباجة. ولكنك مقلد يا صديقي. ولا أقول مقلد لجبران وهو مثلك في دموعه من المقلدين ــــ اقرأوا أشعيا بدل أن تغمسوا أرواحكم في دموع إرميا. عودوا إلى شكسبير وغوته ــــ إذا كان لا بدّ من العود ــــ بدل أن تحرقوا أصابعكم ومآقيكم في مراجل ميسه وبيرون.
ليس الشاعر «زنبقة في جمجمة» إنّ في ذا التصور غلواً فيه سقم وليس فيه شيء من الحقيقة والجمال. إنّ فيه تحقيراً للجنس الإنساني، وأنا وأنت وجبران منه والحمد لله. وإنّ في الكون وفي الحياة جمالاً أسمى وأبهى وأعظم وأجلّ من جمال الزنبقة اللطيف المحدود، وأنت وأنا وجبران، والشمس والقمر والمجرّة، لمعات مجسدة من ذلك الجمال والحمد لله.
أما الشاعر فهو من الناس، من صميم الناس. وليس من ظن نفسه فوق الناس بابن عم لابن عم أصغر الشعراء. إنما الشاعر الحقيقي مرآة الجماعات، ومصباح في الظلمات، وعون في الملمات، وسيف في النكبات. الشاعر الحقيقي يشيّد للأمم قصوراً من الحب والحكمة والجمال والأمل. كفكفوا دموعكم سلمكم الله. وارفعوا لهذه الأمة التي تتخبط في الظلمات مشعالاً فيه نور،فيه أمل، فيه صحة وعافية. وإنّ في الصحة حياة جديدة.
صديقك
أمين الريحاني
ــــ 2 ــــ
من كتاب صاحب الأيام
عن نيويورك في 14 يوليو/تموز 1926
عزيزي شفيق
… وددت لو يسمح لي الوقت بإبداء بعض ملاحظاتي مطولاً في ديوانك، ولكن ما أريده لا يتاح لي فنحن هنا عبيد أوقاتنا، غير أنّ ذلك لا يمنعني من إبداء رأيــي في أشياء جوهرية أريدك أن تعيرها جانب الاهتمام.
إعتن في مؤلفاتك المقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة المرء في الحياة وقبل كل شيء أترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة. واطرق أبداً المواضيع الحيوية والعمرانية وشهِّر تشهيراً لا تخشى معه لوم اللوام مواضع الضعف في الأمة، مشيراً إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها، على سبيل حب الإصلاح المجرّد ليس إلا، وأن لا تعود حياتك كلها في ما تكتب إلى البكاء والنواح على الطلول البالية والآثار الخربة، كما يفعل أكثر الكتبة الشرقيين ولا سيما الشعراء منهم، بل كن ذاك الرجل المفكر في الحياة وما تتطلبه الحياة من عوامل الرقي وأسباب العمران، ولا تكن شرقياً في خيالك وعملك، بل المس بيدك أبداً حقائق الوجود، واسع إلى العمل بها دائماً وفي كل حين، لأن فضاء الشرق ممتاز عن كل فضاء، كله خيال بخيال، يوحي إلى المرء ما لا يوحيه فضاء آخر في الوجود، فمنه أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعداد منازعها وكثرة معتقداتها فكان شراً في الحياة على نفسه وعلى غيره ــــ فكن يا شفيق إذاً رجلاً يؤخذ بالحقيقة لا يضلّه الخيال…
عمك
يوسف نعمان معلوف
ــــ 3 ــــ
جواب صاحب الأحلام
عن زحلة في 15 سبتمبر/أيلول سنة 1926
سيدي العم الفاضل
… أما ما ذكرتموه عن الأحلام فقد أعرته كل اهتمامي منزلاً رأيكم من نفسي أجلّ منزلة، وأما أن أكون «مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالي» فهذا ما طمحت إليه منذ ترعرعت ونشأت. فكنت راسخ العقيدة في وجوب تجديد الشعر العربي وبثّ روح حديثة فيه، ولئن طرقت باباً ولجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟ وهل إذا اتفق لرسام إبراز صورة عالجها من قبله آخرون فاستحدث لها ألوناً وابتكر لها رموزاً وأشكالاً نقوم فننكر عليه فنه وابتكاره، لأن الصورة حملها قبل لوحه لوح وخطرت لسواه في مخيلة؟
أمّا أن أترك في شعري «الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة، وأطرق المواضيع الحيوية والعمرانية» فلا أخفي عنك يا سيدي العم الكريم، مع احترامي لرأيك الأعلى، أنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو في عرفي ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته ــــ في أحايين كثيرة ــــ منفعة يصيبها المرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية. وقد أكون على خطأ من الوجه العالمي النافع، ولكنني على حق من وجهة الفن الخالد.
إنّ للوطن كتّابه وصحافييه وله أقلامهم المرهفة وقرائحهم المشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الحالات الطارئة فيبعث من حوله ضجيجاً يزول بزوال تلك الطوارىء، فهذا ما لا أسلّم به، إذ ليس الشاعر في عرفي من ضج له الجيل الواحد حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأجيال.
أنا عالم أنّ الشرق لا يحتاج إلى الفن حاجته إلى المواضيع الحيوية العمرانية، ولكن هذه المواضيع ترتبط بالزمان، يا سيدي العم الكريم، وأنا من هواة الشعر الخالد الذي لا يرتبط بالأزمنة…
المخلص
شفيق معلوف
ــــ 4 ــــ
حاشية ــــ في 22 فبراير/شباط سنة 1935
مضى على هذه الكتب الثلاث زمن غير قصير، ولو طلب إليّ الآن رأيــي في ما أنكره عليّ الكاتبان الكبيران من الكآبة والشكوى في قصيدة الأحلام، لأنكرت معهما على نفسي ذلك الأسلوب، لو أنّ الأحلام كانت من منتوج العهد الحاضر. أمّا وهي قد نظمت في زمن لم أكن قد جاوزت فيه الثامنة عشرة من العمر، تحت تأثير طور الفتوة المكتنف بالظلمات والحيرة وقلق النفس، فإنني أراها صورة حقيقية لنفسيتي في ذلك الحين، كما يصح أن تكون صورة لنفسية معظم الفتيان، وهذا ما يحببها إليّ ويجعل لها قيمتها في نظري.
شفيق معلوف
أعتقد أنّ الموضوع الذي طرقته الكتب الثلاث لا يجوز أن يبقى في هذه الحدود الأولية التي ورد فيها، فالمعاني فيها كلها نتف مقتضبة لا تسد حاجة لا تشفي غليلاً. وإذا كان يشفع في اقتضابها أنها كتب خصوصية فلا يشفع شيء بالمرور بها دون تناولها بالدرس وتمحيص الأفكار الواردة فيها. ولا أعتقد الحاشية التي ضمّنها الشاعر تعليقه على كتابي منتقدي ديوانه بالغة الغاية التي يمكن أن تطمئن إليها نفسُ من لا يقنع من عظمة البحر بوشل ولا من سعة الأفق بحيّز حدده المستوى الداني الماضي.
لا أطمح إلى قول كل ما أود قوله في الأدب وفي الفن في أبعد ما أمكن ويمكن النظرة الإنسانية العليا بلوغه، وجميع ما ينطوي تحت ذلك من أشكال وألوان، في عجالة أكتبها في صحيفة تلح عليها المطاليب السياسية وحاجات التفكير القومي في القضايا الاجتماعية ــــ الاقتصادية، تحت ضغط الظروف الحاضرة التي تحمّلني من أعبائها ما لو زاد أكثر من نسبة قشة التبن إلى الوقر لأرهقني وأرزحني. ولكني لم أجد بدّاً من قول شيء في الموضوع لإبقائه حياً ولترغيب الأدباء في الإقبال عليه، ولا مندوحة عن إبداء بعض ملاحظات خطرت لي فور قراءتي الكتب المثبتة آنفاً.
أبدأ بكتاب الريحاني. إنّ فيه مواضع تحتاج إلى تدقيق كثير. وألاحظ أنّ في هذا الكتاب تعميماً وإطلاقاً يجرفان الكثير من التفاصيل التي تبقى الحقيقة الكبرى الأساسية ناقصة نقصاً كبيراً بدونها، ويظل الفكر قلقاً لا يجد استقراراً واطمئناناً إلا بوجودها وجلائها.
نظر الريحاني في الأحلام فوجده ديواناً تسوده «لهجة الكآبة والحزن» ووصف هذه «اللهجة» بأنها كانت «موضة» في أيام بيرن وميساه. وليس ديوان الأحلام في متناول يدي لأقابل هذا الوصف عليه وأجد كم فيه من تدقيق. ولكني أذكر أني قرأت هذا الديوان قراءة مستعجلة من نحو أربع عشرة سنة، أو يزيد، وأذكر أنّ التأثير الذي أحدثه فيَّ هو تأثير نبضات الإحساس الأول وقد انقشعت حجب المراهقة عن قزحية الشباب فتمازجت فيها الأشواق والرغبات التي اتخذت صوراً من الجمال قوية ولاذعة أحياناً، ولكنها صور ظهرت فيها شاعرية جديرة بأن تحل موضعاً مكيناً في النفوس وفي الأجيال. ومع ذلك فلا بدّ من القول إنّ تعبير «لهجة الكآبة والحزن» الذي أطلقه الرحياني هو من التعميمات التي لا تفيد كثيراً في دراسة معينة أو مختصة بموضوع معين. وهو بعيد كل البعد عن تناول الوجهة النفسية وأسبابها.
ومن هذا القبيل انتقاله من مخاطبة صاحب الأحلام إلى مخاطبة جميع الشعراء السوريين فيقول لهم «اقرأوا أشعيا بدل أن تغمسوا أرواحكم في دموع إرميا. عودوا إلى شكسبير وغوته بدل أن تحرقوا أصابعكم ومآقيكم في مراجل ميساه وبيرن». ولو كان قيل هذا الكلام في غير معرض النظر في ديوان الأحلام لكان إطلاقه هذا الإطلاق غير المحدود يجد موضعاً أمنع من موضعه الحاضر، لأنه يكون حينئذٍ كلاماً عمومياً يفهم منه من شاء ما يشاء، أما في موضعه المذكور فهو قليل المحصل. ولا يزيد المحصل من كلام الريحاني قوله:
إنّ الشاعر ليس «زنبقة في جمجمة»، ولا قوله: «إنما الشاعر الحقيقي مرآة الجماعات ومصباح في الظلمات وعون من الملمات وسيف في النكبات. الشاعر الحقيقي يشيد للأمم قصوراً من الحب والحكمة والجمال والأمل».
هذا الكلام الأخير الذي يحاول الريحاني أن يخرج به من السلبية الصكراتية (السقراطية) إلى النظرة الإيجابية يزيد التعميمات السابقة تعميماً. ويمكن أن يحسب من قبيل المعميات وليس فيه أدنى اقتراب من شجون الموضوع التي لكل شجن منها اتجاه خاص.
الحقيقة أنّ هذا الكلام لا يتعلق بديوان الأحلام بقدر ما يتعلق بالشعر والشاعر على الإطلاق. وهو مرسل إرسالاً لا تحقيق فيه ولا تدقيق، وليست فيه حقيقة أساسية واحدة يصح اعتمادها «لتشييد قصور من الحب والحكمة والجمال والأمل» للأمم التي تهدمت قصورها أو لم يكن لها قصور. فإني لا أعتقد أنّ شعراء سورية يصيرون غير ما هم بقراءة سفر أشعيا وترك قراءة سفر إرميا. والعودة إلى شكسبير وغوته وحدها لا تفيد كثيراً إذا لم تكن هنالك ثقافة واعية فاهمة تتبع خطط النفس السورية. وماذا استفاد أدب اللغة العربية كله من عودة الشاعر المصري شوقي إلى شكسبير غير النسخ والمسخ والتقليد الذي لم يضف إلى ثروة الأدب العالمي مقدار حبة خردل؟
أما قول الريحاني «الشاعر الحقيقي مرآة الجماعات ومصباح في الظلمات» فقلت إنه من قبيل المعميات ولم يصعد بنا درجة واحدة فوق قول جبران «الشاعر زنبقة في جمجمة» فمرآة الجماعات لا يكونها الشاعر وحده أو كل شاعر، وقد قال الدكتور خليل سعاده: «صحافة كل أمة مقياس ارتقائها، وصورة أخلاقها، ومظهر شعورها، وعنوان مجدها، فهي المرآة التي ترى بها الأمة نفسها»، ومصباح الظلمات يكونه الفيلسوف والفنان والأديب والشاعر والقائد والعالم، وكذلك «عون في الملمات وسيف في النكبات». ويكونه كل واحد من هؤلاء بطريقة خاصة. وفي هذه الحقيقة يكمن سر لا يجلوه كتاب الريحاني ولا شيء مما كتب الريحاني. فقد عاد الريحاني إلى هذا الموضوع في كراس عنوانه أنتم الشعراء قبّح فيه البكاء والعويل تقبيحاً كثيراً، ولكنه لم يعطِ الشعراء درساً واحداً يوجههم توجيهاً جديداً، لأن كلامه كان كله من هذا النوع الغامض المشوش الذي يشبه دعوة الداعين إلى الاتحاد القومي من غير فهم أو تعيين لما هي القومية وما هي مقوماتها.
أترك كتاب الريحاني عند هذا الحد، وانتقل إلى كتاب السيد يوسف نعمان معلوف. والذي أراه في هذا الكتاب أنه يشتمل على آراء فجة، أو مبتسرة، مستمدة من الحياة الأميركانية العملية ذات الطابع الأنكلوسكسوني، وليس فيه شيء من العمق لخلوه من النظرة الفلسفية أو التاريخية. وهذه الآراء الواردة فيه هي مزيج من نزعة فردية ورغائب عملية وأحكام عامة استبدادية، كقوله «فمنه (الشرق) أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعدد منازعها وكثرءة معتقداتها، فكان شراً في الحياة على نفسه وعلى غيره».
تظهر النزعة الفردية بجلاء في قوله:
»إعتنِ في مؤلفاتك المقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً (بفتح اللام المشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة المرء».
فكأن الشهرة الفردية صارت الغاية الأخيرة المتوخاة من الفكر أو العمل، وكأن أهم شيء في طبيعة الفكر أو العمل أن يكون المرء غير تابع غيره وأن يكون متبوعاً. وهي قاعدة فردية بحتة لعل الدافع إليها أنّ المتكلم عم المخاطب ويهمه أمره الشخصي، استمساكاً بعروة القرابة الدموية التي تنزع إلى المباهاة والمفاخرة، كما هو مشهور في قبائل العرب. ومع أنّ المخاطب، وهو الشاعر المنتقد، قبل هذه الفكرة الفردية في جوابه إلى عمه فهو لم يتقيد بها كل التقيد الظاهر في كلام عمه فألقى عليه هذا السؤال: «ولئن طرقت باباً ولجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح، ما لم يطرق الناس بابه؟» وهو سؤل يكاد يصل إلى طرق باب ينفتح عن أفق تنبلج فيه أنوار فجر تفكير أصلي جديد، ولا يقصر إلا خطوة أو قفزة واحدة ليلج هذا الباب. ولكنها خطوة أو قفزة تفصل بين عالمين وقد تشبه نوعاً القفز فوق العارضة العالية أو السور بالاستعانة بعكاز طويلة خاصة بهذا الغرض.
والرغائب العملية هي التي تجعل عم الشاعر يقول له هذا القول: «وقبل كل شيء أترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة واطرق أبداً المواضيع الحيوية والعمرانية، الخ». فمحصل كلامه أنّ الخيال هو دائماً لا روح ولا حقيقة فيه، وأنّ الشعر هو كله خيال. وهنا يتحول انتقاده الشاعر إلى نوع من تقبيح الشعر والإشارة على نسيبه بوجوب تركه والانتقال إلى طرق «المواضيع الحيوية والعمرانية… ومواضع الضعف في الأمة مشيراً إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها». وكل ذلك لا دخل له في الشعر والشعراء ولا يختص إلا بالعلماء الاجتماع والنفس والسياسة. ولولا هذا التخصيص التوجيهي لكان أمكن التساهل في عبرة المنتقد السابقة واعتبارها مفيدة ترك نوع الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة من أجل الأخذ بنوع من الخيال فيه روح وحقيقة. وقد أصاب الشاعر في الرد على هذا الكلام من وجهة الشعر، خصوصاً قوله:
»إنّ للوطن كتّابه وصحافييه وله أقلامهم المرهفة وقرائحهم المشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الحالات الطارئة فيبعث من حوله ضجيجاً يزول بزوال تلك الطوارىء فهذا ما لا سلم به، إذ ليس الشاعر، في عرفي، من ضج له الجيل الواحد، حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأحيال».
فهذا كلام من يشعر برسالة الشاعر الأسمى والفنان الذي من أهم صفاته الإبداع عن طريق التصور (الخيال)، وهو أقوى كثيراً من قوله إنّ مهمة الشاعر هي «تصوير نفوس الناس للناس» الذي هو مرادف لقول الريحاني إنّ الشاعر «هو مرآة الجماعات» وقد يكون متأثراً به. ولكنه مخالف له عند التفصيل، لأن «مرآة الجماعة» قد تعني «نفس الجماعة»، أما «نفوس الناس» فيرجح أنها تعني نفوس الأفراد. والعبارتان ضمن الحدود التي قيلتا فيها، ضعيفتان لأنهما لا تشتملان على أية قضية نفسية علمية أو فلسفية أو على إدراك مضبوط لنفس الجماعة ونفس الفرد والفرق بينهما. والعبارة الثانية، من هذا القبيل، أضعف من الأولى لأنها أكثر تعميماً وهي لذلك أكثر غموضاً. ولكن إذا أخذنا هذه العبارة على وجه التدقيق ونظرنا إليها، نظرنا إلى معنى مقصود بعينه وجدنا أنها أقوى، في ذاتها، من عبارة الريحاني، لأنها أبرزت لفظة «النفس» التي تدل، سواء أكانت مفردة أو مجموعة، على أقوى وأسمى ما في الإنسان، بينما عبارة الريحاني لا توجب الدخول في المسائل النفسية وقد تعني إبراز شؤون الجماعة وعاداتها.
من الغريب أنّ الشاعر الذي قال القول القوي المذكور آنفاً، في صدد الشاعر ورسالته، لم يجد بعد مضي تسع سنوات ونيف، ما يزيده عليه أو يكون شبه استمرارله، وأنه اكتفى بالقول في تعليقه الأخير على كتابي منتقديه أنه لو طلب إليه رأيه الآن لكان «أنكر على نفسه ما أنكره عليه الكاتبان الكبيران من الكآبة والشكوى».
هاني بعل1
لا يقتصر التضارب والتخبط في حقيقة الشعر وصفته، اللذان دللت عليهما في ما تقدم من هذا البحث، على الأدباء الثلاثة السوريين المذكورين آنفاً، بل هما يشملان أكثر الأدباء اللامعين، إن لم يكن كلهم، في العالم العربي. فقد كان من حسن حظي وأنا في هذه البلاد التي قضت الظروف أن تتوقف فيها رحلتي المرسومة، أني تسلمت هدية كتبية من أحد الرفقاء الغيورين فيها بعض مجموعات اللال، وبينما أنا أقلب صفحات بعض أعداد 1933، بعد كتابة الحلقة السابقة، وقع نظري على رأي للدكتور محمد حسين هيكل بك، أحد كبار أدباء مصر، في عدد يونيو/حزيران من السنة المذكورة. فأقبلت على المقال ووجدت أنه حلقة أخرى من حلقات التخبط في دائرة مغلقة على الأدب، إذ فيه من التعميمات والمطلقات ما لا محصل إيجابي وراءه. إليك بعض عباراته:
«إني أفهم أن يكون التجديد هو أن يشعر الشاعر أو الكاتب بشعور العصر الذي هو فيه، ويعبّر عن ذلك تعبيراً صادقاً ممثلاً لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير بحيث يكن شاعر القرن الرابع عشر الهجري أو كاتب القرن الرابع عشر (القرن العشرين) له شخصية خاصة تخالف شخصية الشاعر أو الكاتب الذي ظهر في القرون السابقة مع المحافظة على قواعد اللغة وحدودها»، «ولست أقصد بالصفات الخاصة أن يعمد شعراء العصر الحاضر إلى استخدام ألفاظ المخترعات الحديثة في شعرهم أو يتناولوا هذه المخترعات فيصفوها، ويسمّوا ذلك تجديداً، فإذا كان القدماء وصفوا الناقة أو السيف وصفوا هم القطار أو الطيارة أو المدفع. وإذا كان القدماء استعملوا في أشعارهم هند وليلى ودعد، استعملوا هم سوسو وسوسن ومارغريت وماري إلى آخره. بل أقصد بالصفات الخاصة إبراز كل ما يقع تحت الشعور بحكم البيئة، والتعبير تعبيراً صادقاً عن الحياة التي تحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها وتجعل لها صبغة خاصة بحيث يعدّ الخروج عن هذه الصبغة خروجاً عن تلك البيئة. فأنت تستطيع في الوقت الحاضر وفي البيئة التي تعيش فيها أن تصف الناقة أو السيف أو غيرهما، مما تناوله القدماء بأسلوب يتفق وشعور العصر الذي تعيش فيه والحياة العقلية السائدة في هذا العصر وحينئذٍ يقال إنك وصفت هذه الأشياء بأسلوب جديد».
وحسين هيكل يرى أنه لا يوجد «شعر معبّر عن العصر الذي نحن فيه وليس لنا شعراء يمتازون بصفات تخالف الصفات التي كان عليها بعض الشعراء في العصور الماضية»، ويزيد قائلاً:
«وأنا على يقين من أنّ مؤرخ الأدب العربي في الأجيال القادمة، لو قدمت إليه قصيدة من قصائد العصر الحاضر قد حذف ما فيها من أعلام، لا يستطيع أن يعيّن العصر أو الجيل الذي قيلت فيه».
ولكنه يعترف بأن النثر «قد امتاز بقوته واتجاهه نحو النهوض ورقي الحياة العقلية فيه وخصبها وتشعبها وإنتاجها».
هذا الرأي شديد الإبهام وكثير التخبط. أنظر في غموض التعابير الآيتة:
«بل أقصد بالصفات الخاصة إبراز كل ما يقع تحت الشعور بحكم البيئة، والتعبير تعبيراً صادقاً عن الحياة التي تحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها، الخ».
فماذا يفهم القارىء الجيد الإدراك من هذه الأوصاف التي لا تزيد الموصوف إلا غموضاً؟ ما هو الشعور بحكم البيئة وكيف يكون؟ وما هي «الحياة التي تحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها»؟
في عدد نوفمبر/تشرين الثاني من السنة المذكورة رأي في التجديد في الشعر للشاعر السوري المتمصر خليل مطران. إنه أدق من رأي حسين هيكل. وهو يخالفه في رأيه القائل إنه لم يحدث تجدد في الشعر. فقد حدّث مطران عن نفسه:
«أردت التجديد في الشعر منذ نعومة أظفاري ولقيت دونه ما لقيت من عنت ومناوأة… أردت التجديد في الشعر وبذلت فيه ما بذلت من جهد عن عقيدة راسخة في نفسي وهي أنه في الشعر، كما في النثر، شرط لبقاء اللغة حية نامية. على أنني اضطررت، مراعاة للأحوال التي حفّت بها نشأتي، ألا أفاجىء الناس بكل ما كان بجيش بخاطري، وخصوصاً ألا أفاجئهم بالصورة التي كنت أوثرها للتعبير لو كنت طليقاً، فجاريت العتيق في الصورة بقدر ما وسعه جهدي وتضلعي من الأصول واطلاعي على مخلفات الفصحاء، وتحررت منه، وأنا في الظاهر أتابعه، بنوع خاص من الوصف والتصوير ومتابعة الغرض، الخ».
وبعد أن يعطي وصفاً مجتزءاً لحاجة اللغة إلى ضروب التعبير السليم، الواضح، الدقيق قاطبة، يصل إلى نتيجة لا تبعد كثيراً عن النتيجة الهائمة التي وصل إليها الريحاني ويوسف معلوف وحسين هيكل، وإليك قوله:
«أريد أن يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيه. أريد كما تغيّر كل شيء في الدنيا، أن يتغير شعرنا، مع بقائه شرقياً، مع بقائه عربياً، مع بقائه مصرياً. وهذا ليس بإعجاز».
في عدد الهلال عينه، الذي ورد فيه رأي خليل مطران في التجديد في الشعر، مقال لحسين هيكل في «الفنون الرفيعة وأثرها في حياة شرقنا العربي». في هذا المقال يلخّص هيكل وجهة نظر الريحاني في حملته على الأدب الباكي عن طريق نقده لقصيدة بشارة الخوري التي مطلعها «الهوى والشباب والأمل المنشود توحي فتبعث الشعر حياً»، ووجهة نظر بشارة الخوري في رده على الريحاني التي لا تختلف كثيراً عن وجهة نظر شفيق معلوف في رده على عمه في كتابه إليه المثبت آنفاً. وقد حاول هيكل أن يكون في هذا المقال أدق منه في رأيه السابق المذكور فوق. فقال إنّ الرأيين (رأي الريحاني ورأي الخوري) هما في طبيعة الوجود. وعلّل منشأ الجدل بأنه من نتائج «ما يصيب الشرق العربي من هوان سياسي وانحلال اجتماعي»، ثم انتقل إلى محاولة إيضاح أشد رسوخاً وذي صفة إيجابية فقال:
«وقد أصيبت الفنون بما أصيبت به تبعاً لظروف الحياة التي يخضع لها الشرق العربي والتي تخضع الإنسانية من بعد الحرب لها. ولا يكون علاجها بإنكار ما للدموع وما للشجن من أثر في الحياة. وإنما يكون علاجها بأن تبعث الدموع، وأن يبعث الشجن النفسي، إلى التماس المثل الأعلى، كما تدفعها الحماسة وتدفعها النجدة والمروءة إلى التماسه. ولو أنّ أرباب الفن في الأدب والغناء والنقش وسائر الفنون الرفيعة وضعوا هذا المثل أمام أنظارهم لأرجعوا إلى الفن حياة أقوى بكثير من حياته اليوم، ولما كان الجدل الذي ثار في هذا الصيف الأخير بين أمين الريحاني وبشارة الخوري».
بعد الكلام المتقدم يحاول هيكل أن يخطو خطوة فاصلة فيقول:
«ماذا عسى أن يكون المثل الأعلى؟ أعتقد أنّ الشرق قد ضل طريقه في هذه العصور الأخيرة متأثراً بتعاليم الغرب، فأصبح مثله الأعلى مادياً، يحسب الحرية التي تسمو بها النفس إلى المكان الأرفع، أن ينال الجسم وأن تنال الشهوات كل مبتغاها. وقد يكون للبيئة الطبيعية في الغرب، ما يدفع إلى التطلع إلى مثل هذا المثل الأعلى. لكن بيئة الشرق الطبيعية وتاريخه منذ العصور الأولى، وتاريخه بنوع خاص منذ انتشرت الحضارة الإسلامية (المحمدية) في ربوعه، يجعل هذا المثل الأعلى الذي يتخذه الغرب أمامه دون ما تتطلع إليه النفس الشرقية. فهذه النفس تؤمن بوحدة الوجود وترى في هذه الوحدة والاتصال بها والفناء الروحي فيها غاية ما ترجوه، ولذلك كانت أمثال هذا الشرق تجري: «بأن من اعتز بغير الله ذل. ومن افتقر لغير الله هان». ولا تعرف شيئاً في الحياة يعادل تقوى الله. أفيمكن أن يصور الفن هذه المعاني وأن يصل بها من درجات السمو إلى ما يجب أن يصل إليه الفن؟».
هي أول محاولة للانتقال من الغموض إلى الوضوح، ومن التعميم إلى التخصيص، ومن السلبية إلى الإيجابية، ولكنها محاولة غامضة، متخبطة، مطلقة، مستبدة. ففيها ينظر هيكل إلى الفن من زاوية «الشرق والغرب»، ويحدد الشرق بكلام لا تحقيق فيه لتاريخ «الشرق» الذي يذكره ولا لفلسفة ذلك التاريخ ولا للمحمدية نفسها التي يطبعها، استبداداً، بهذا الطابع الجزئي، وكان الأفضل أن لا يحاول تجريدها من خصائصها العملية في مادية حياة البيئة التي نشأت فيها. أما تحديده المثال الأعلى للشرق كله، مدخلاً فيه العالم العربي كله، فهو من التحديدات الاستبدادية الضيقة، التي تكون أكثر قبولاً عند عامة المتعلمين وعند قليلي التعمق من خاصتهم، نظراً لبساطتها وقلة ما تطلبه من إنعام نظر وجهد في التفكير، ولكنها ليست مما يمكن العقل الفلسفي الأساسي الاطمئنان إليه وقبوله مستقراً لتفكيره وشعوره. وكم يخالف هذا التفكير السطحي المتمركز في تحديد التصور بالأمر الواقع رأي الدكتور خليل سعاده في روحية الشرق الدينية إذ قال:
«الدين في الشرقي قطعة من حياته. فهو بحسب الحياة وسيلة لتشريف الدين (تقوى الله والفناء الروحي في وحدة الوجود) لا الدين وسيلة لتشريف الحياة والسمو بها من مرتبتها الحيوانية إلى مرتبة روحانية تطهر الأخلاق وتهدم الفواصل غير الطبيعية القائمة بنيه وبين أخيه في الوطنية والبشرية».
(المجلة، السنة الأولى، العدد 13، بيونس آيرس في 15 ديسمبر/كانون الأول 1915).
إني موقن كل اليقين بفساد ذاك التقسيم السطحي الذي يعدّ الشرق كله روحياً والغرب كله مادياً ويحسب طلب مبتغيات الجسد وشهواته من «التأثر بتعاليم الغرب». ولكني أعتقد أنّ توقف سير الحضارة في الشرق عند حد هو ما جعل النفس الشرقية تعمد إلى الفناء في الشؤون الخفية من المسائل النفسية، فصارت مسائل اللاهيولى أو ما وراء المادة المسائل الوحيدة التي تتجه إليها النفس التي اضطرت لهذا النهج بسبب ترك النظر في المسائل الوجودية، الهيولية، الحسية. وحيثما انعدمت أسباب التقدم العمراني انعداماً يكاد يكون كلياً، صارت مطالب ما وراء المادة نفسها مادية في معظمها، فصارت الجنة جنة حلى وملابس وعطور وما شاكل. واعتقد أنّ اطراد سير الحضارة في المتوسط والغرب، ابتداء من سورية، جعل للمسائل النفسية، الوجودية، الهيولية، الحسية النصيب الأوفر من انشغال النفس. أما المادية والروحية فهما من نصيب الشرق والغرب كليهما. ويصعب كثيراً، من وجهة نظر الحياة، حسبان قسم كبير من المسائل النفسية الخفية التي تعنى بها شعوب «النفسية الشرقية» مسائل روحية بالمعنى الحيوي. ويدخل في هذا القياس، المسائل الخفية الشائعة في الغرب كالروحانية والصوفية وغيرهما، وكما وجدت المادية في الغرب كذلك وجدت في الشرق، فمسائل الحب المادي والشهوات الجسدية نشأت نشوءاً مستقلاً في الشرق كما في الغرب. وفي الفنون المعبرة عن النفسية الشرقية أحسن تعبير نجد الموسيقى التي يسمونها «العربية» أو الشرقية قد اتخذت وجهة مادية من الشهوات الحادة في حين أنّ الموسيقى الغربية انتصرت على المادية انتصاراً رائعاً وارتفعت فوق فضاء الشهوات الجسدية ارتفاعاً عظيماً. فللشرق مادية قوية وروحية منعكفة على المسائل الخفية التي لا تبرز إلى الحياة أو الوجود، وللغرب مادية قوية وروحية تعنى بالوجود وبتسامي الحياة ضمن الوجود الإنساني، وهي على عكس روحية الشرق التي طلبت التسامي وراء الوجود (الوجود الإنساني). ولذلك أرى من أشد الخطأ حسبان التسامي وراء الوجود وحده «روحية» والتسامي ضمن الوجود «مادية».
إذا كان الشرق المتسكع في قيود المادة قد رأى، في أرقى فلسفاته الهندية والصينية، أنّ الطريقة الوحيدة لانتصاره على المادة هي إهمال قضايا المادة وثقافتها، فإن العقل السوري الذي خطط للمتوسط والغرب قواعد ثقافته المادية والروحية رأى أنّ الانتصار على المادة يكون بمعالجتها والقبض عليها وتسخيرها للغايات النفسية الجميلة التي تجعل الوجود الإنساني جميلاً، صريحاً، نيّراً.
إنّ تحديد المثال الأعلى في عبارة حسين هيكل: «من اعتز بغير الله ذل ومن افتقر لغير الله هان» هو تجميد لا قوة له لغلب المادية في الحياة الروحية وشؤونها في الوجود. وهو ليس مبدأً روحياً إلا إذا حسبنا الروحيات قاصرة على الغيب.
إنها نظرة مصرية شرقية هذه النظرة التي تضع المثال الأعلى في هذه العلبة المطرزة الخفيفة الحمل يحملها المرء في جيبه وينتقل بها من مكان إلى مكان، وكلما عنّ له النظر في المثال الأعلى فتح العلبة وأخرجه منها ونظر إليه بإعجاب وشهق شهقة الفرح ثم أعاده إلى موضعه واستمر في حاله من حله وترحاله. «الفناء الروحي في وحدة الوجود» إذا كان مثالاً أعلى فهو مثال عدمي أو فنائي لا وجودي، والروحية الموافقة له هي روحية كسيحة، مريضة تتجه نحو الغيب الذي تجعله مستقراً للوجود وتشيح بوجهها عن الوجود الإنساني الذي لا تحسبه إلا عبّارة إلى الغيب وواسطة للفناء فيه.
هذه النظرة التي يثبت بها الأدب المصري نفسيته الشرقية هي نظرة منافية لخطط النفس السورية في سياق التاريخ. وعدم أخذ السوريين بهذه النظرة هو من الأدلة على ما ذهَبْتُ إليه حين أعلنت: أنّ سورية ليست أمة شرقية وأنها ليست ذات نفسية شرقية. وإذا كان السوريون أولعوا بالتغني «بالمزايا الشرقية» التي وصلت إليهم في مزيج من أدب الهند والفرس والعرب فما ذلك إلا لتلاشي نظرتهم إلى الحياة وضياع مثلهم العليا في تعاقب الفتوحات واضطراب مجرى الحياة السورية الاجتماعية والروحية. وهذه الحقيقة هي التي جعلت ميخائيل نعيمة يسبق حسين هيكل إلى حسبان نفسه شرقياً وتفضيله النظرة «الشرقية» التي يزعم أنها تقول مع محمد: «ولا غالب إلا الله» على النظرة التي يزعم أنّ الغرب يعبّر عنها بقوله: «ولا غالب إلا أنا» (انظر فتاوى كبار الكُتَّاب والأدباء في مستقبل اللغة العربية ونهضة الشرق العربي. طبع «الهلال» مصر، سنة 1923) فهو قد جعل الغرب كأنه يقول: «ولا غالب إلا أنا» وهو يقصد بقوله المقابلة بين موقف الشرق وموقف الغرب من الوجهة السياسية والعمرانية قبل كل شيء. وقد أخذ حسين هيكل فكرة نعيمة في التعبير عن موقف الشرق وجعلها مثالاً أعلى للنفسية الشرقية.
لنتابع تفكير نعيمة قليلاً. إنه يقول في مقالته التي أجاب بها على استفتاء مجلة الهلال إنّ الفرق بين الشرق والغرب منحصر في نقطة واحدة جوهرية هي:
«إنّ الشرق يستسلم لقوة أكبر منه فلا يحاربها، والغرب يعتقد بقوته ويحارب بها كل قوة. الشرق يرى الخليقة كاملة لأنها صنع الإله الكامل. والغرب يرى فيها كثيراً من النقص ويسعى لتحسينها. الشرق يقول مع محمد: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا». ويصلّي مع عيسى: «لتكن مشيئتك». ومع بوذه يجرد نفسه من كل شهواتها. ومع لاوتسو يترفع عن كل الأرضيات ليتحد بروحه مع «الطاو» أو الروح الكبرى. أما الغرب فيقول: «لتكن مشيئتي». وإذ يخفق في مسعاه يعود إليه ثانية وثالثة ويبقى يعلل نفسه بالفوز. وعندما يدركه الموت يوصي بمطامحه لذريته».
وفي اعتقاد نعيمة: «إنّ فرسخاً مربعاً من بلاد الصين «الخاملة» يحوي من الجوهر أكثر من كل جزائر اليابان «الناهضة».
هذا كلام إذا أزلت منه زخرف التعبير الأدبي، الشعري لم تجد فيه حقيقة واحدة غير جهل شؤون الحياة وتطورها منذ ظهر الإنسان على مسرح الطبيعة وجهل التاريخ وفلسفته. فالشرق، لعلة طبيعية، على الأرجح، حاول من قبل «تحسين الخليقة» كما حاول الغرب «تحسينها» من بعد. ولذلك نشأت الأديان في الشرق، أي لتحسين الخيقة. وقد «حسنت» الأديان الخليفة تحسيناً كبيراً، ولا شك. ولكنها عصت كل تحسين جديد نشأ بعد أحكامها، فأصحابها لا يقرّون بمعرفة جديدة إلا مكرَهين. وإذا كان عيسى، السوري البيئة، رمى إلى تأديب النفوس بقوله: «لتكن مشيئتك» فهو أعلن الانتقاض على «المنزل» بالذهاب إلى «تكميل الناموس»، ومحمد نفسه الذي نشأ في بيئة بعيدة عن التفكير بالقضايا الفلسفية الكبرى نطق بالوحي «ولكل أجل كتاب». فليس في سُنَّة المسيح ولا في سُنَّة الرسول، إذا أخذت كلها، ما يمنع «تحسين الخليقة» أو ما يرفضه. ولست أعتقد أنّ تعاليم بوذه ولاوتسو أنشئت بقصد منع التفكير في «تحسين الخليقة»، ولكن العقلية الشرقية، التي عجزت عن حل قيود الروح المادية بنظرة إلى الحياة والكون فاهمة، هي التي وقفت عند «أحكام» الفلسفات الدينية وتعليلاتها الافتراضية المستندة إلى «قوة أكبر منها» حددتها تلك الفلسفات تحديدات متباينة جعلت الخالق الواحد «ينزل» تعاليم غير واحدة فيما يختص بالحياة الإنسانية ضمن الوجود وقبل «الفناء في وحدة الوجود».
اختار ميخائيل نعيمة التكلم على «الخليقة» و«تحسينها» ليضع القارىء أمام الاصطلاح. وكلامه كلام أديب، لا كلام فيلسوف أو عالم أو فنان، وها الصين تترك اليوم «جوهر» الخمول لتأخذ «بعرض» النهوض. وليس يعني ذلك زوال القواعد الصالحة من تعاليم لاوتسو.
مما لا شكّ فيه أنّ نفسية الذين يذعنون لكل «ما كتب الله أن يصيبهم» ترى في هذا الإذعان أجمل المثل العليا وأحبها وأفضلها. وسواء أكانت هذه النفسية شرقية أم غربية، فهي نفسية لها مصيرها وهو غير مصير النفسية اتي لا تقبل بما هو دون «ما يكتبه الله» للذين يعملون بالمواهب التي أعطاهم.
إنّ صوفية نعيمة الهدامة التي أبرزها في أحد خطبه في بيروت سنة 1932 أو 1933 بقوله إنّ القوة هي في الأمم العاجزة «المستغنية» عن التسلح (وإن يكن استغناؤها قهراً أو كرهاً)، وإنّ الضعف هو في الأمم المستكثرة من آلات الحرب، قد نبذتها سورية ولا تفكر في جعلها مثالاً أعلى لها. أما في مصر فقد تجد تربة جيدة لنموها وازدهارها كما يظهر من اقتباس حسين هيكل مثاله الأعلى من عبارة ميخائيل نعيمة الواردة في مقابلته بين الشرق والغرب، ومن أقوال غيره كمصطفى صادق الرافعي.
ولم يخرج من دائرة التخبط في موضوع النهضة الأدبية غير من ذكرت من كبار الأدباء. طه حسين نفسه الذي يعد في مقدمة مفكري مصر وفي طليعة كبار أدبائها كتب مقالة في عدد الهلال الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1933 بعنوان «نهضتنا الأدبية وما ينقصها» قال فيها إنّ الأدب في اللغة العربية قد سار مرحلة كبيرة وإنه لا تزال تنقصه أشياء، وخلاصة المقالة أنّ مواضع الضعف «في نهضتنا» هي:
1 ــــ اتصالنا بأدبنا القديم ضعيف لم يبلغ ما ينبغي له من القوة.
2 ــــ ثقافة أدبائنا من الأدب الأجنبي ثقافة محدودة.
3 ــــ أدباؤنا لا يحسنون الآداب الأجنبية القديمة التي أنشأت الأدب الأجنبي الحديث.
4 ــــ لا يحفل أدبناؤنا بالعلم ولا يأخذون أنفسهم بدرسه والإلمام بطائفة منه. وفي رأي طه حسين أنه إذا أزيل هذا الضعف من «أدبائنا» فنهضتنا الأدبية تستكمل شروط ارتقائها إلى ذروتها. والحقيقة أنّ هذا الكلام يدل في ما عبّر عنه طه حسين نفسه في مقالته المشار إليها «بالطول والعرض»، أي بالخلو من العمق. إنه كلام شكلي لا أساسي، كما سيتضح فيما يلي:
وعباس محمود العقّاد، كاتب مصري آخر كبير ذو شهرة، أجاب في عدد الهلال المذكور فوق على سؤال: هو يصبح لنا أدب عالمي؟ وفي جوابه يقول:
«فالأدب العالمي ليس مرتبة من مراتب السمو يرتفع إليها الكتاب والكاتب، ولكنها حالة من الحالات تتيسر أسبابها فتظهر وتخطئها هذه الأسباب فيخطئها الظهور».
والظاهر أنه يعني بالأدب العالمي انتشار الكتب بواسطة الترجمة والطبع في مختلف اللغات لا قيمة الأدب العالمية. فيأخذ يبحث عن الظروف والأسباب العملية التي تذيع الكتاب، كالغرابة عند المترجَم إليهم، ووجود المترجِم، وحسن الطباعة، ووجود شركات النشر، نسبة عدد القُرّاء، وغير ذلك من الأمور السطحية والعملية التي لا يمكن أن يقوم عليها أدب عالمي لأمّة من الأمم على نسبة ارتقاء المثال الأعلى والفكر والفن.
والخلاصة أنك لو جمعت جميع الأقوال والآراء المتقدمة وأمثالها لما حصل لك منها غير اضطراب في الفكر وتشتت في الشعور يحرمانك إدراك حقيقة الأدب عموماً والشعر خصوصاً، ورسالة الفن.
تجديد الأدب وتجديد الحياة
الزوبعة، بيونس آيرس، العالم الثالث، العدد 52 (15/9/1942) ص 4 ــــ 5
الفكرة البارزة في جميع الأمثلة المتقدمة من تفكير نفر من أشهر أدباء اللغة العربية في العصر الحاضر هي: ترك البكاء التقليدي والتحسر والتلهف والنواح والندب التي أغرقت الشعر العربي القديم في عبابها وتغرق الشعر السوري والمصري الحديث في ذاك العباب عينه، اللّهّم إلا بعض استثناءات نادرة تطمو عليها الصفات المذكورة ويحتاج محب الاطلاع لمجهود كبير في الغوص عليها. هذه الفكرة هي فكرة سلبية، يدفع إليها الملل من الجمود والضرب على وتيرة واحدة. ولكنها ليست بالفكرة الجديدة في أدب اللغة العربية. فقديماً أظهرها الشاعر الفارسي المزيج، السوري البيئة والحضارة أبو نوّاس بأسلوبه المجوني البديع:
قل لمن يبكي على رسم درس واقفاً ما ضرّ لو كان جلس
وقال أيضاً:
عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمّارة البلد
فأبو نوّاس تهكم على الوقوف على الطلول والبكاء و العويل، لأن إبن بيئة تختلف عن بيئة شاعر الصحراء، ولأنه متحدر من شعب خَبِرَ من الحياة ألواناً غير ألوان حياة الصحراء. وقد استيقظ أبو نوّاس لهذه الحقيقة ووجد في البكاء والندب وسؤال الطلول عجزاً مضحكاً. فقال قوله الذي سبق به جميع دعاة «التجديد» من أدباء اليوم. وأدباء العصر الحاضر، مع كل اجتهادهم، لم يتجاوزوا موقف على أبي نوّاس من العويل والانتحاب على الطلول وعلى العهود إلا قليلاً.
كل اجتهاد أمين الريحاني بلغ إلى القول إنّ الشاعر يجب أن يكون «مرآة الجماعات»، ومبلغ اجتهاد حسين هيكل هو أنّ التجديد في الشعر «هو أن يشعر الشاعر أو الكاتب بشعور العصر الذي هو فيه ويعبّر عن ذلك تعبيراً صادقاً ممثلاً لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير»، وكل اجتهاد خليل مطران بلغ إلى قوله: «أريد أن يكن شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيِّه». وهذا الرأي هو أرقى ما وصل إليه تفكير أدباء سورية ومصر حتى اليوم. فإذا كان هذا هو غاية الشعر والشاعر فلا حاجة لكل ذاك الكلام الكثير على التجديد وترك التقليد، الذي هو من قبيل تحصيل الحاصل.
إنّ أدباء العصر الذي نعيش فيه يمثلون بأدبهم عصرهم أصدق تمثيل. إنهم لا يحتاجون إلى تغيير أسلوبهم ليمثّلوا عصرهم، كما يتوهم حسين هيكل في تخبط فكري للخروج بالأدب والفنون الجميلة من الحالة التي هي فيها، أو كما يظن خليل مطران. أليس العصر في سورية، إلى أن بزغت أنوار النهضة القومية الاجتماعية، عصر جمود وذهول وتقليد واستكانة؟ أليس العصر في مصر عصر تقليد شرقي ومسخ غربي؟ بلى، إنّ العصر في سورية لكذلك وإنّ العصر في مصر لكذاك، إذن فالأدباء في سورية وفي مصر هم «مرآة جماعاتهم» تماماً وممثلو عصرهم تمثيلاً صادقاً، والمطلوب من كل الكلام الذي ملأ به طالبو التجديد صفحات ومجلدات هو حاصل. ومع ذلك فالحاجة إلى التجديد أو التغيير باقية، وهي على ازدياد، والتوق إلى حالة جديدة يقوى يوماً بعد يوم. فأين السر في هذا التناقض وهذا التباين؟ هو في بُعد الأدباء الذين عالجوا الموضوع عن صلبه وعن قضاياه الكبرى التي ليست هي قضايا أدبية بحتة.
خذ مثلاً كلام حسين هيكل على «العصر» الذي يعيش فيه الشاعر. فكأني بحسين هيكل يفهم العصر من خلال مطالعاته في الأدب الفرنسي وليس من درسه وضعية مصر. وكأني بأمين الريحاني يرى أنّ عكس نفسية الجماعة هو شيء اصطناعي أساسه الغش أو الرياء كأن يمثّل الشاعر السوري نفسية شعبه وحالته الروحية بالاقتباس أو الاكتساب من أدب شكسبير وأدب غوته اللذين يمثلان أدب شعبين آخرين فيظهر شعبه بغير مظهره الحقيقي. وهذا ما يفعله كثير من الأدباء في مصر وبعض الأدباء في سورية فيمسخون نفسية شعبيهما مسخاً. وكأني بخليل مطران الذي اطّلع كثيراً في الأدب الفرنسي يجهل أنّ العصر الحاضر في أوروبا شيء وفي سورية ومصر شيء آخر. إنه يعمى عن الحالة التي عليها الشعب السوري، والحالة التي عليها الشعب المصري، فيحسب أنهما في حالة الشعوب الأوروبية عينها، ويبدو لقارىء عبارته أنّ الأدباء وحدهم في سورية ومصر بقوا متأخرين عن حالة العصر وهو غير الحقيقة.
ماذا ينتظر من الشاعر الذي وُلِدَ في بيئة يغشاها الجهل ويغمرها الذل والخنوع، ولم يفتح عينيه إلا ليرى ظلمة الفوضى والبلبلة والتسكع في المادية، وربيت نفسه على تأوهات العجز وحسرات الفوات ومُثُل الشهوات وأمثلة الجمال المادي وميول الغرائز البيولوجية، خصوصاً الشاعر الذي يجب أن يكون، في عرف كتّاب «التجديد» مرآة الجماعات أو مرآة عصره؟ أينتظر منه غير اتّباع ما شب عليه ووعاه من أمثلة الأدب الذي وصل إليه؟ كلا. كلا.
إنّ الأدب، كله، من نثر ونظم، من حيث هو صناعة يقصد منها إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة وأسمى ما يكون من الجمال، لا يمكنه أن يُحدث تجديداً من تلقاء نفسه. فالأدب ليس الفكر عينه وليس الشعور بالذات. ولذلك أقول إنّ التجديد في الأدب هو مسبب لا سبب ــــ هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور ــــ في الحياة وفي النظرة إلى الحياة، هو نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية سياسية تغيّر حياة شعب بأسره وأوضاع حياته، وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه.
يلاحظ مؤرّخو الأدب ودارسو عناصره وعوامله، أنّ التغيّرات أو الانقلابات السياسية يعقبها تغيّر في الأدب وأساليبه. ويذهب جمهورهم، إلى أنّ النهضات أو التغيّرات السياسية هي سبب نهضة الأدب والفنون الجميلة. والذي أراه أنّ التغيّرات السياسية ليست هي في ذاتها المؤثّر أو الفاعل الأساسي في تغيير مجرى الأدب، لأني أرى الأحداث السياسية نتيجة لابتداء تغيّر النظرة إلى الحياة أو لحصول اعتقادات ومثل عليا روحية ــــ مادية جديدة في شعب من الشعوب، فتدفعه النظرة الجديدة أو التعاليم الجديدة إلى استنباط الوسائل التي تتحقق بها مطالبه. ومن هذه الوسائل أساليب السياسة وأشكالها وخططها وأهدافها. فالسياسة، في حد ذاتها، شبيهة بما حددت به الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في السياسة لا توجد سياسة جديدة ولا نهضة سياسية، وكذلك في الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في الحياة لا يمكن أن تقوم نهضة أدبية أو فنية.
يذكّرني بحث وسائل إنهاض الأدب السوري والأدب المصري ببحث وسائل ترقية فن التمثيل في سورية. فقد سألني أحد هواة هذا الفن، منذ عدة سنين، عن كيفية ترقية تمثيل الروايات في سورية. فقلت إنّ الأمر مرتبط بترقية حياة الشعب السوري نفسه. فإن تمثيل أدوار الحب والشهامة والبطولة بألوان راقية يحتاج إلى شعور الممثل بهذه الصفات شعوراً راقياً. والذين لم يتعودوا من الحب غير اتجاهاته الفيزيائية لا يمكنهم أن يمثّلوا حالاته النفسية السامية. وقد شاهدت مرة أحد هواة التمثيل في دمشق، وهو شاب متنور، يحاول تمثيل دور التعارف مع فتاة ينتظر أن يقع حبه في قلبها ويقع حبها في قلبه، فجاء الدور بعيداً جداً عن إعطاء النتيجة المرغوبة على مستوى راقٍ من الشعور والتصرف. وواحد آخر كان من نصيبه أن يمثّل دور الوالد الذي نأَت به الأقدار عن ابنته. وحسب في عداد الأموات، ثم عاد سالماً موفقاً ليضم ابنته إليه. فلما جاء حين المقابلة مع ابنته وظهرت الفتاة التي تمثل دور الإبنة حبطت جميع المحاولات لجعل ذراعي الوالد تمتدان بلهفة وتضمان الفتاة برفق وحنان. كانت الأنوثة أقوى تأثيراً على الرجل من مشهد الأبوة والبنوة الذي يشترك في تمثيله. ولو كان الرجل نشأ غير نشأته لكان أقرب إلى إجادة تمثيل دوره.
الأديب والشاعر والممثل هم أبناء بيئاتهم ويتأثرون بها تأثّراً كبيراً ويتأثرون كثيرا بالحالة الراهنة الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ الروحية. والفنان المبدع والفيلسوف هما اللذان لهما القدرة على الانفلات من الزمان والمكان وتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديع لأمة بأسرها. ولا يقدر على ذلك الأديب الذي وقف عند حدّ الأدب والصور الجزئية التي تشتمل عليها صناعته. والشاعر الذي هو «مرآة الجماعات» أو «مرآة عصره» لا يقدر أن ينهض بالشعر أو بالأدب، لأن هذا النهوض يعني ضمناً: النهوض بالحياة وبالنظر إلى الحياة. والشاعر الذي شأنه عكس حالة جماعته أو عصره كالمرآة ليس بالمرء الذي ينتظر منه إيجاد حالة جديدة لشعبه أو لعصره. فهذا شأن المعلم، الفيلسوف، الفنان، القائد، الذي يقدر أن يخطط تاريخاً جديداً لأمته ويضع قواعد عصر جديد لشعبه. وله أن يكون أديباً شاعراً إذا شاء. وليس عليه أن يكون ذلك. وللشاعر أن يكون معلماً فيلسوفاً فناناً قائداً إذا قدر وليس عليه أن يكون ذلك.
إنّ من الظلم للشاعر أن يُطلب منه تمثيل عصره أو جماعته تمثيل المؤرخ و العالم الاجتماعي. فكلام الريحاني وخليل مطران وحسين هيكل هو ظلم للشعراء وتكليف لهم أن يكونوا غير ما هم. قد يكون في شعر الشعراء ما يستدل به على حالة عصورهم والأفكار والاعتقادات الشائعة فيها، ولكنه ليس حتمياً أن يدرس الشاعر عصره حين يحاول نظم قصيدة في فكرة أو عاطفة أو منقبة أو حادثة. إنّ قصائد الشاعر التي ينظمها غير مفكر بعصره أو بغيره من العصور هي التي يغلب أن تجيء أكثر انطباقاً على حالة عصره وأدبه، ولذلك قلت إنّ شعراءنا يمثّلون عصرنا تمثيلاً صادقاً. وأعني بعصرنا العصر الذي تعيش فيه سورية وليس العصر الذي تعيش فيه بريطانية أو ألمانية أو فرنسة أو روسية. وفي رأــي إنّ عصر سورية الحاضر هو غير عصر هذه الأمم الحاضر وإن كان الزمان واحداً. فحالة سورية الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ السياسية ــــ النفسية تختلف عن حالة الأمم المذكورة. فكأنها تعيش في عصر غير عصر تلك الأمم. ولذلك لم يمكن أن يكون نتاج شعرائها مطابقاً لعصر أرقى الأمم الأوروبية، التي خلفت وراءها ثورات عظيمة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وفي العلم والفلسفة، بينما سورية تتخبط في دياجير تاريخها الأخير الفاجع، قد نسيت فلسفات أساطيرها وثوراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الغابرة التي أضاء نورها أرجاء العالم المعروف آنئذٍ، وكانت إصلاحاتها مثالاً لأثينا وروما.
سبق لي القول، في مكان آخر: إنّ الشاعر، في عرفي، هو الذي يُعنى بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيّز من فكر أو شعور أو مادة. وأزيد هنا إني أرى أنّ ما أهم خصائص الشعر: إبراز الشعور والعاطفة والإحساس في كل فكر أو في كل قضية تشمل عناصر النفس، وإعطاء الشعور والإحساس والعواطف صوراً مجازية أو خيالية، عناصرها القوة و الجمال والسمو مع عدم مفارقة الحقيقة والغرض الإنساني، وأكرر القول إنّ الشعر ليس الفكر بعينه، من غير حرمان الشاعر حق إبداء الأفكار الكلية أو الجزئية كلما شاء وأمكنه ذلك.
ليس الشعر ، في عرفي، مجرد شعور كما عبّر عنه شفيق معلوف في كتابه إلى عمه، وبشارة الخوري في رده على الريحاني. إني أرى الشعر، أو، على الأقل، الشعر المثالي الأسمى شديد الاتصال بالفكر وإن يكن الشعور عامله الأساسي أو غرضه، لأن الشعور الإنساني ذاته متصل بالفكر اتصالاً وثيقاً في المركّب العجيب الذي نسميه النفس. وأعتقد أنه يصح في الشعر، إلى حدٍّ ما، ما قلته في الموسيقى وأجريته على لسان بطل قصة ألّفتها سنة 1931 بعنوان فاجعة حب وطبعتها في بيروت مع قصة عيد سيدة صيدانايا سنة 1932، وهو يختلف عن نوع المشابهة بين الشعر والموسيقى الذي أورده شفيق معلوف في كتابه إلى عمه. إليك القول المذكور وهو بشكل حوار ومداولة ووصف روائي:
«كنا مرة مجتمعين في حلقة من الأصحاب، فأخذنا نتحدث في كل علم وفن حتى تطرقنا أخيراً إلى الموسيقى. وكان بيننا من شبّ ولم يسمع سوى الألحان الشرقية الشائعة عندنا التي يسمونها خطأ «الألحان العربية»، وإذا كان قد سمع بعض الأنغام الغربية فهو لم يعبأ بها ولم يحاول فهمها. وكان آخرون ممن سمعوا الألحان الشرقية والأنغام الغربية ووقفوا على ما في هذين النوعين من الموسيقى من فن وافتنان. فقدّم هؤلاء الأنغام الغربية على الألحان الشرقية لرقي تلك وغناها في التعبير عن الحياة العاطفية ولفقر هذه من هذه الوجهة ووقوفها عند حدّ التعبير عن الحالات الأولية. وتعصب أولئك، ولعل تعصبهم من باب الشعور القومي غير الناضج والتمسك بمبدأ المحافظة، للألحان الشرقية. وهذا شيء طبيعي، فالذين يفهمون لحناً موسيقياً واحداً فقط يفضلونه على كل لحن ونغم غيره.
«وكان من وراء ذلك أنّ الجدل في هذا الموضوع احتدم بين الفريقين وطال أمره، حتى خشيت أن يؤول إلى تباغض وشحناء، كما جرت العادة عندنا نحن السوريين إلى هذا اليوم، فإننا قليلاً ما نتناقش في أمر بقصد التوسع في المعرفة والفهم، وتبيّن وجه الصواب ووجه الخطأ. إلا أننا لم نبلغ هذا الحد في هذه المرة لأن الفريقين المتجادلين قررا أن يستفتيا سليماً في الأمر بصفة كونه خبيراً في نوعي الموسيقى الشرقي والغربي، ومحباً للإنصاف والحقيقة. فسأل سليم أحد المتشبثين بأفضلية الموسيقى الشرقية المحافظة، واسمه بهيج، قائلاً:
«أتدري، يا صاحبي، لماذا وجدت الموسيقى؟».
«فأجابه بهيج بلهجة الموقن: أجل وجدت الموسيقى لتكون لغة العواطف».
«قال سليم ــــ «لو كنت خبيراً بالموسيقى لما جزمت بهذا التحديد الذي يجرد الموسيقى من ثلثي مزاياها على الأقل».
«فهتف الأربعة دفعة واحدة: «ثلثي مزاياها؟!».
«سليم: «نعم، ثلثي، مزاياها».
«بهيج: «إذن، كيف تحددها أنت؟».
«سليم: «إني أحددها بإطلاقها من كل تحديد، فإنك تستطيع أن تعرف الكثير من مزايا الموسيقى ولكنك لا تتمكن من حصرها. ليست الموسيقى لغة العواطف فحسب، بل هي لغة الفكر والفهم أيضاً. إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها. وإن شئت فقل إنّ الموسيقى تتناول الميول الأولية والعواطف والحالات النفسية على أنواعها والأصوات على اختلافها والشعر والأدب والفلسفة. ومن هذه الوجهة لا يمكنك أن تقسم الموسيقى إلى قسمين، شرقي وغربي، وإنما يمكنك أن تميّز بين الأساليب الشرقية والأساليب الغربية في التعبير عن المعاني النفسية المقصودة من الموسيقى، وبين أصناف هذه المعاني، عينها. فمتى كانت الموسيقى الغربية تعبّر عن العواطف والحالات النفسية التي تعبّر عنها الموسيقى الشرقية عينها أمكنك فهمها بكل سهولة وإن اختلف أسلوبها. فيتضح لك مما تقدم، أنّ وجه الفرق في ما تسمونه الموسيقى الشرقية أو العربية والموسيقى الغربية ليس في أساس الموسيقى، فلا يوجد نزاع قط من هذا القبيل، بل في المعاني التي يقصد التعبير عنها عند الشرقيين وعند الغربيين وفي الأساليب المتخذة لبلوغ هذا الغرض، وأنّ الفرق الذي تجده بين أساليب الموسيقى الشرقية ونظائرها الغربية ليس إلا مجرد تنوع يتبع حالات نفسية خاصة. ويمكنك أن تجد البرهان القاطع على صحة هذه النظرية في العلوم الطبيعية والنفسية وفروعها، فإن هذه العلوم تثبت بما لا يقبل الرد أنّ الطبيعة البشرية واحدة في جميع العناصر والشعوب وإن تعددت الأمزجة. إنّ عواطف الحب والبغض والرقة والقسوة والسرور والحزن وبواعث الطرب والتأمل واللهو والتفكير والطموح والقناعة وما ينتج عنها جميعها من ثورات وانفعالات وتصورات نفسية تقصر الكلمات عن وصفها، كل هذه واحدة في جميع الأمم في الشرق والغرب ولا فرق بينها إلا بمقدار تنبّه النفوس وارتقائها وشدة شعورها أو خمولها وانحطاطها وعدم شعورها. فالقوم الذين لا تزال نفسيتهم في دورها الابتدائي أو كانت محجوزاً عليها بحكم العادات والتقاليد العتيقة، الناتجة عن تلك النفسية، كانت موسيقاهم إبتدائية أيضاً. وهي في هذه الحال لا تعبّر عن العواطف التي هي شيء مشترك بين الإنسان والحيوان، كالشهوات الجنسية التي تمثّل معظم عواطف هؤلاء القوم. وبعكس ذلك، القوم الذين تحررت نفسيتهم وارتقت، فإن موسيقاهم تعبّر عن عواطف تسمو على الشهوات الجنسية وتخيلات تعلو عن الأغراض الحيوانية الدانية، إذ لم يعد مطلبهم في الدنيا مقتصراً على «وصال الحبيب» بل أصبح مطلباً أعلى يرفع الحب نفوسهم إليه ويشحذ عزائمهم لتحقيقه، مولّداً في نفوسهم من العواطف السامية والأفكار والتخيلات الكبيرة ما لا يستطيع فهمه من همّه وصال الحبيب وعلى الدنيا السلام. هذه هي العواطف والتصورات والأفكار التي تعبّر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن الذي بلغ في الفن الموسيقى حد الألوهية، لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة. إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر، حتى كأنه نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس. وهذه هي صفة الموسيقى النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة. أنظر إلى ما تعبّر عنه معزوفات هذا الموسيقى الخالد. خذ مثلاً، سيمفونيته السابعة التي أجاب بها على مدافع السفاح نابوليون بتيار من الأنغام تحوّل إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الحرية الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جارياً وسيظل جارياً أبد الدهر! أنظر إلى معزوفاته الأخرى (كسيمفونيته الخامسة المعبّرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء ــــ بين الموت والحياة، وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه) ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب إلى مراتب السمو، بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضاً. لا، يا صاحبي، لم توجد الموسيقى لتكون لغة العواطف الأولية التي وقفت عندها الموسيقى التقليدية الشائعة بيننا، بل لغة النفس بجميع ما فيها من عواطف وأفكار»
«بينما كان سليم يتكلم كان الأصحاب جميعهم مصغين كل الإصغاء، فقد كانت هذه المرة الأولى التي يسمعون فيها حديثاً من هذا النوع، وبعد صمت ظهر في أثنائه أنّ الرفقاء كانوا يجتهدون في فهم خطاب سليم ويحاولون إدراك المدى البعيد الذي بلغه قال بهيج: «ما رأيك إذن في موسيقانا؟».
«سليم: «الحقيقة يا صديقي، أنه ليس لنا موسيقى تعدّ نتاج نفسيتنا نحن السوريين من حيث إننا قوم لنا مزايا خاصة بنا. أما الألحان الشائعة بيننا فليست مما نشأ من نفسيتنا، بل هي مزيج من نفسيات أقوام مختلفة. وإذا كان فيها ما يعبّر عن جزء يسير من عواطفنا ومزاجنا فهي تقصر تقصيراً كبيراً عن استيعاب ما في أعماق نفوسنا من شعور يستغرق ما في الكون من عوامل ومؤثرات نفسية وما في صميم عقولنا من تصورات وتأملات تظهر فيها حقيقة طبائعنا ومواهبنا. إنّ الألحان التي تسمعها كل يوم ليست خارجة من نفسيتنا بل هي مما دخل على تقاليدنا وعاداتنا. إنها ألحان تقليدية فحسب».
«بهيج: «إذن أنت تفضل الموسيقى الغربية؟».
سليم: «قلت إنه لا تفضيل في الموسيقى. إنما إذا كنت تريد معرفة رأيــي في الفرق بين موقفنا من الموسيقى وموقف أهل الغرب منها فإني أصارحك أنّ شعوب الشرق، خلا الروسيين، إذا كانوا يحسبون شرقيين، قد عدلوا عن الأسس الموسيقية إلى الألحان الموضوعة، أو هم قد اقتصروا في الموسيقى على طائفة من الألحان لا يجدون عنها محيداً. وهذا كان شأن الغرب أيضاً، إلا أنه لمّا ارتقت نفسيات البشر وعقلياتهم اضطرت الموسيقى إلى مجاراة هذا الارتقاء لكي تعطي المثل الصحيح للعواطف والأفكار الجديدة التي لم تعد الألحان الموضوعة تكفي للتعبير عنها. وقد سبق الغربيون أهل الشرق إلى إدراك ذلك، فأحدثوا في الموسيقى تطوراً خطيراً، إذ إنهم عدلوا عن الألحان إلى الأصوات المفردة التي هي أساس الموسيقى فرتبوها وأدخلوا على الموسيقى الأدب والفلسفة، فضلاً عن الشعر، وهكذا استتبّ لهم إظهار مكنونات النفس الراقية بواسطتها. وهذا ما يجب أن يحدث في سورية وفي كل قطر فيه شعب حي في نفسيته وعقليته. إنّ التقاليد القديمة المستعارة قيدت نفوسنا بألحان محدودة إبتدائية قد أصبحت حائلاً بيننا وبين الارتقاء النفسي. إنّ في فطرتنا ونفوسنا شيئاً أسمى مما تعبّر عنه هذه الألحان الجامدة، شيئاً أسمى من الشهوات أو العواطف الأولية. إنّ في أنفسنا فكراً عاطفياً وفهماً عاطفياً يتناولان التأملات العميقة في الحياة والرغبة الشديدة في تحسينها من وجوه متعددة: اجتماعي قومي، روحي، إنساني ويدفعاننا نحو مطلب أعلى أليق بوجودنا يحتاج تحقيقه إلى أنواع من الموسيقى غير الألحان المستعارة الموضوعة لحالة أو حالات نفسية محدودة معينة كحالة الحزن أو حالة التدله في الغرام، فإن نغماً وضع لحالة من هذا النوع لا يصح أن يستعمل في حالة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف كحالة غضب النفس وثورتها على الاستبداد والظلم أو حالة الجذل والابتهاج أو حالة التأمل. بل إنّ لحناً وضع لحالة نفسية منذ نحو ألفي سنة لا يمكنه أن يعبّر عن هذه الحالة بعد مرور زمن طويل اكتسبت فيه النفس من الاختبارات ما رقى شعورها وأكسب الحالة النفسية المقصودة معانٍ جديدة تحتاج إلى أنغام جديدة لوصفها. فإذا كنا نريد أن تحيا نفسيتنا حياة راقية تقربنا من أكناف السعادة وجب علينا أن نحررها من ربقة الألحان التقليدية التي لا تغذي إلا العواطف الدنيا، وأن نعود إلى الأصوات نفسها فنسلط عليها فكرنا العاطفي وفهمنا العاطفي ونستخرج منها موسيقى تغذي كل عواطفنا وكل تصوراتنا وأفكارنا وتظهر بواسطتها قوة نفسيتنا وجمالها».
«لمّا أتم سليم عبارته التفت إلى الرفقاء فوجدتُ بهيجاً وأصحابه قد وقفوا على أفكار جديدة لم يكونوا قد سمعوا مثلها من قبل. ثم إنّ أحدهم نظر إليّ وخاطبني قائلاً: «ما رأيك يا سيد، في ما يقوله السيد سليم؟».
قلت: «إني أوافق على جميع ما قال واتّخذُ من حكمه في الموسيقى حكماً في الأدب. أنظر إلى شعرائنا كيف يحدون العيس في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلا مقلِّدين، لأن حدي العيس ليس من شئون شعبهم ولا من مظاهر تمدنهم، وإلى كتَّابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادهم جبلية وسهلية خضراء. إنّ التقليد قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة، وأني لأعتقد أنه لا بدّ من القيام بجهود جبارة قبل أن تصبح النهضة الأدبية معبّرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيء اليوم الذي يتحقق فيه ذلك وتصير الروحية والعقلية السوريتان، الغنيتان بمواهبهما الطبيعية، معينين ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري».
«وبعد صمت قصير انصرفنا وقد رسخ حديث سليم في ذهني ولم تزده الأيام إلا رسوخاً.
«إنّ الحديث المتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة صديقي سليم وأرادت أن تتناول عصراً وأمة. والذي أعلمه أنّ سليماً كان قد ابتدأ ينظم سيمفونية في انتهاء عهد الخمول وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري. والصدق يوجب عليّ أن أروي أنّ سليماً كان يعتقد أنّ نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن، لأنه كان موقناً من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي، من وراء ذلك، إلى غرض سياسي، بل إلى ما هو أعظم شأناً وأكثر فائدة من الغرض السياسي. إنه كان يرى الفورة السياسية أمراً تافهاً إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد، سواء كان رجلاً أم امرأة، شاباً أم شابة، أدب حيّ وفن موسيقي يوحّد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ولها إيمان اجتماعي واحد قائم على المحبة، المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً. حينئذٍ يصبح الجهاد السياسي شيئاً قابل الإنتاج، وأما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة فهي شيء عقيم ولو أدت إلى الحرية السياسية».
أَنظر الآن، بعد مرور إحدى عشرة سنة، في هذا الاستعراض لحالة فن الموسيقى وحالة الأدب في بيئتنا ونوع النفسية المسيطرة على مجموعنا، الموروثة من أزمنة السقوط تحت مطارق الفتوحات البربرية وأمواج النفسية الشرقية، فأرى أني قد صورت حالة التخبط في المواضيع الفنية والأدبية السائدة في أوساط متنورينا وأوضحت طريقة الخروج من تلك الحالة. وإني أوافق الآن على ما صورت في القصة وأرى أنه ينطبق على ما أتناوله في البحث الحاضر من التخبط الأدبي والصراع الفكري في الأدب، وعلى ما أصف به الآن الأدب عامة والشعر خاصة. وأرى فيه، عدا ما تقدم، صلب الموضوع.
قلت إنّ المشابهة بين ما قلت في الموسيقى وما قلته وأقوله في الشعر تختلف عن المشابهة التي أوردها شفيق معلوف في كتابه إلى عمه حيث يقول:
«إنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو، في عرفي، ذلك الشعور النابض يصوّر للناس نفوس الناس. ولا تتعدى فائدته ــــ في أحايين كثيرة ــــ منفعة يصيبها المرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية».
فهذه المشابهة بين الشعر والموسيقى لا ترفع الشعر ولا الموسيقى ولا تعطيهما المنزلة السامية التي لهما في النفس التي سمت بشعورها وإدراكها وانفلتت من الحدود الضيقة في الفكر والشعور. إنها من ملازمات النظرة القديمة إلى الحياة والفن ومن نتائج تأثير البيئة ونوع الثقافة اللذين حددا للشاعر المذكور الشعر والموسيقى تحديداً مضنكاً.
أوردت في ما سبق من هذا الدرس رأيــي في ضعف تعبير شفيق معلوف عن الشعر. وكان إيرادي رأيــي هناك مقتضباً لم أحلل فيه غير قوله: «يصوّر للناس نفوس الناس». ولذلك أرى وجوب إكمال التحليل لاستخراج الفائدة الكبرى. وأتناول «تصوير النفوس» فأقول إنّ هذا التصوير لا يمكن أن يحدث بواسطة «الشعور النابض». وإذا حدث تصوير للنفوس بواسطة الشعور المذكور جاء تصويراً مشوهاً أو ناقصاً. والأرجح أن يكون حينئذٍ تصويراً لشعور الشاعر، على نسبة وعيه، بنفوس الناس وما يراه في نفوس الناس. وقد يكون وعي الشاعر كاملاً وقد يكون ناقصاً. وفي كل حال فالوجهة الوصفية بواسطة الشعور وحده هي ذاتية بحتة (سبيكتيف) وضيقة جداً، لأنها تكون منحصرة في نفس الشاعر وغير متناولة نفوس الناس كما هي نفوس الناس، ولا أشواقها إلى ما تحب أن تكون. أما وصف هذه النفوس كما هي، فيحتاج إلى مقدار غير يسير من علم النفس وعلم الاجتماع والفكر الذي يجب أن يلازم الشعور أو يتقدم عليه أو يقوده في هذا المسلك الوعر. فتخصص الشاعر بالعناية بنفوس الناس ووصفها بواسطة «الشعور النابض» الذي يوحي الاندفاع مع السجية أكثر مما يوحي التمعن في الدقائق النفسية والقضايا التي تتعرض لها النفس ليس تخصيصاً موفقاً، ولا يلزم الشاعر، بوجه عام، وصف نفوس الناس ليكون شاعراً. فقد يصف الشاعر عناصر الطبيعة أو بعضها أو مظهراً من المظاهر الطبيعية أو وقائع حربية أو غيرها ويكون شاعراً. أما الشاعر الذي «يصوّر نفوس الناس» ويْعنى بالشؤون النفسية فهو ليس أي شاعر أو كل شاعر، بل شاعراً ذا صفة خاصة ومنزلة منفردة. وكذلك الشاعر الذي يتناول القضايا الفلسفية الوجودية أو الغيبية.
إنّ خليل مطران شاعر شاعر من غير أن يدخل المسائل النفسية. ولعله أضعف ما يكون حين يدخل هذه المسائل. فقصيدة «نيرون» قطعة شعرية خالدة، سما فيها خليل مطران على مستوى عصره (في سورية ومصر) وعلى ما تقدمه من عصور أدب اللغة العربية. ولعل أضعف ما في هذه القصيدة، ما تعلق منها بالمسائل النفسية. وشفيق معلوف شاعر شاعر في الأحلام ولم يصوّر فيها نفوس الناس وفي عبقر وفيها قليل من القضايا النفسية وصورها وأوصافها أو هي معدمة من هذا القبيل. ولا نجد في عبقر «الشعور النابض» الذي نجده في الأحلام إلا في مقاطع خاصة تدل ميولها البيولوجية على عدم النضج النفسي.
ما حدد لشفيق معلوف تعريف الشعر حدد له إدراك سمو الموسيقى أو عمقها. فتمثيله فائدة الشعر بأنها «لا تتعدى» فائدة سماع قطعة موسيقية جميلة «مطربة كانت أم مشجية» جعله لا يرى للموسيقى غير ناحيتي الطرب والشجا. وهذه هي الموسيقى المحدودة، الضيقة، الأولية. هذه هي الموسيقى في نظرة إلى الحياة ساذجة، جامدة، غير جديرة بالارتقاء النفسي ومجد المثال الأعلى الخالد.
الطرب والشجو وحدهما هما من ملازمات الحياة الفقيرة في الثقافة النفسية وفي الفن والمناحي الروحية. وقد رأى القارىء مما قدمت نقلاً عن قصة فاجعة حب أنّ فائدة الموسيقى لا تقتصر على الطرب والشجا، إلا حيث جمدت الموسيقى عند حدّ هذين الشعورين الأوليين، بجمود حياة البيئة روحياً وماديّاً. فالموسيقى الراقية تحمل النفس على تأملات فكرية وثورات روحية فضلاً عن مختلف العواطف الفردية التي هي من شؤون الحياة البيولوجية أو الجنسية. ولكن هذه الموسيقى الراقية هي وليدة عصر راقٍ أو نتاج مخيلة مبدعة، قدرت بذاتها أن تتصور عالماً من الأفكار والتأملات والشعور في أمواج من الأنغام والألحان تحتاج بدورها إلى عصر يفهمها. وهذه المخيلة المبدعة يجب أن يكون، إبداعاً خاصاً بالموسيقي المبدع.
لأشرح هذه النظرية: إنّ واغنر موسيقي مبدع ولا شك. وهو في الموسيقى نسيج وحده. ولكن موسيقاه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإحساس الحياة المستمد من الأساطير الجرمانية وبالقضايا النفسية والفلسفة المنطوية عليها حياة أبطال تلك الأساطير. وشعور واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الألمانية إلى الحياة والكون والفن. ليس واغنر مبدعاً للنظرة الألمانية إلى الحياة ولا واضعاً للأساطير الجرمانية. ولكنه مبدع للموحيات والأمواج الموسيقية المعبرة عن النظرة المذكورة ولألوان الشعور الفلسفي الذي أحسه حين قرأ تلك الأساطير، وفهم منها ومن نهضة شعبه المزايا القومية أو الجنسية الجوهرية التي جعلته يرى ويبرز تلك المثل العليا الفلسفية التي نراها تمثيلاً ونسمعها ألحاناً وأناشيد في «ولكيريا» و«سيقفريد» و«ذهب الرين» و«تانهويزر» و«لوهنقرن» و«أساتذة الغناء» و«ترستان وإيزلده» وغيرها. فكان واغنر شاعراً روائياً، لأنه نظم قصائد رواياته الموسيقية، وكان موسيقياً روائياً فلسفياً لأنه ألّف ألحان وأنغام تلك الروايات الخالدة بأسبابها الشعورية والفكرية المعبرة عن نظرة إلى الحياة عالية جداً. ويصعب على الدارس المفكر تصوّر وصول واغنر إلى ما وصل إليه من غير اتصاله بخطط النفس الألمانية وتأثره بنظرة إلى الحياة عالية وإحساس عميق بقضاياها، ومن غير نشأته ضمن العوامل النفسية التي أعطت ألمانية اتجاهها الصعودي.
وإذا ذهب أحد من أدباء العصر السوري الهالك إلى «أوفرة» وسمع ألحان واغنر أفيسرّ بها أو يطرب أو يشجى؟ لا أظن إلا أنه يعافها، لأنه لا يفهمها ولا يفهم موحياتها ولا يدرك قضاياها. وبعد فليس في قصائد واغنر الموسيقية من الطرب والشجا إلا قليلاً، وأكثر وأهم ما فيها، تأملات فكرية واتجاهات فلسفية لا يقدر على تتبُّعها من غرضه الطرب أو الشجو ومن لا يجد الموسيقى إلا تعبيراً عن شعور الطرب وشعور الشجا في مجال ضنك من الحياة تغلب فيه النزعةُ البيولوجية النزعة النفسية. ففائدة قطع موسيقى واغنر لا تقتصر على إحداث جذل أو انبساط أو شجا فيزيائي الشعور أو بيولوجي النفسية، بل تتعدى ذلك إلى القضايا الأساسية، التي تواجهها النفس الإنسانية الراقية، المركّبة، بكل ما فيها من أفكار وشعور ومطامح وميول ومُثُل وما تتعرض له من الصراع العنيف، الخفي أو المعلن، بين الأجمل والأقبح وبين الأسمى والأسفل وبين الأنبل والأرذل.
لا يكون موقف أديب الجمود والخمول السوري تجاه موسيقى بيتهوفن أو باخ أو موسرقسكي أو ويبر أو بروكنر أو تشايكوسكي أو بُرُدين أو رمسكي ــــ كرزاكف أو ستراونسكي أو شوفين أو برليوز أو دبوسي أو سباليوس أو دوُرياك أو شوبرت أو غيرهم، غير موقف المستغرب أو المستهجن.
فمنذ سنين سمعت كاتباً صحفياً سورية في سان باولو، البرازيل، ينظر إلى نفسه نظره إلى أديب كبير، يقول إنه دخل مسرح «المونيسيفال» في المدينة المذكورة ليسمع إحدى سيمفونيات بيتهوفن الطائرة الصيت، فلم يطل به المقام حتى عاف السماع وخرج من المكان، وهو في حيرة من بلاهة الناس، الذين يطيقون الجلوس بدون ملل نحو ساعة أو يزيد، لسماع موسيقى لا طرب فيها «لطيب العناق على الهوى» ولا شجا فيها «لطول ليل الصب»؛ ولشدة سأم «الأديب الكبير» المذكور مما سمع من هزيز ودوي وزمزمة وحفيف وكشيش وقرع، وليفرج كربه، طلب من صاحب المكتبة السورية التي كان يروي فيها قصته، أن يسمعه بعض أناشيد المغنية المصرية أُم كلثوم المطربة، المشجية! ولم يكتفِ بذلك بل صار ينادي صديقاً له ماراً بالمكان ويقول له: «تعال لنموت بهذا الغناء» وهو لا يدري أنه يقول الحقيقة كلها بعبارته هذه التي استعملها لمعنى آخر!
مع أنّ الشعر أضيق مجالاً من الموسيقى للتعبير عما تشمله النفس الإنسانية من فكر وتصورات وشعور ومنازع، فإن ما حدد به شفيق معلوف الموسيقى وفائدتها جعل الشعر نفسه بالمشابهة، أضيق مجالاً وأقرب قعراً مما هو أو مما يمكن أن يكون بعد أن تنجلي لنفس الشاعر نظرة أعلى في الحياة الفردية والحياة الاجتماعية ومطالب أسمى للجمال النفسي وإحساس أدق بأغراض الوجود وجوهره المستقر في النفس ضمن الوجود وليس بعد الوجود ولا قبله. فإني أعتقد، بطبيعتي السورية، أنّ كيان النفس هو في الوجود ولأجل الوجود، مهما كانت طبيعة هذا الوجود في ذاته، ومهما كانت علته، وليس لأجل «الفناء» في «وحدة الوجود».
لا أعتقد أنّ بلوغ هذه المرتبة يتم للشاعر السوري أو غيره بقراءة سفر أشعيا من التوراة اليهودية ولا بتقوية الاتصال «بالأدب القديم» الذي هو تعبير غامض في ذاته، ولا بإحسان الآداب الأجنبية القديمة التي أوجدت الأدب الأجنبي الحديث ولا بتوشية الكتب وإتقان الطباعة، بل بالاتصال بمجرى حياة يجد فيه الشاعر نفسه ونفس أمته ومجتمعه وحقيقة طبيعته وطبيعة جنسه ومواهبهما، وبإدراك عمق النظرة إلى الحياة والكون والفن الملازمة لهذا المجرى الذي يزداد قوة مع الأيام.
من الظلمة إلى النور
الزوبعة، بيونس آيرس، العام الثالث، العدد 54 (15/10/1942) ص 4 ــــ 5
بعد ظهور أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي وحصول الاختبارات الواسعة لأهمية عقيدته وتعاليمه القومية الاجتماعية، التي تفتح عهداً وتاريخاً جديدين وتجلو نظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة، ووضوح عظم المهمة التي يقوم بها هذا الحزب قال لي الأمين جورج عبد المسيح، وهو من رجال المجلس الأعلى ومن أشد رجال الحزب إخلاصاً وإقداماً ومن خطباء الحركة القومية الاجتماعية وكتّابها وإدارييها:
«لو كنت قومياً قبل ابتدائي دروسي النهائية إذن لكنت استفدت من دروسي أكثر كثيراً مما استفدت، إذ كنت عرفت كيف يجب أن أدرس ــــ وأظن أني أعبّر عن رأي غيري أيضاً».
الأمين عبد المسيح كان طالباً في الدائرة الاقتصادية في الجامع الأميركانية. وكان في السنة النهائية حين قبل فكرة القومية الاجتماعية. ولم يستوعب أهميتها ويفهم خطرها وبُعد مراميها وقضاياها إلا بعد أن اجتازت هذه الفكرة مرحلة واختمرت بالاختبار والشروح ومعالجة المسائل التي اعترضت نشوءها ونموها. وكان لدروسه المدرسية نصيب في شغله عن درس موضوع التعاليم الجديدة. فأنهى دروسه على أساس النظرة الفردية اللاقومية الرامية إلى النجاح الفردي البحت بلا مبالاة بشيء آخر. ولكنه بعد أن سار شوطاً في الحركة القومية الاجتماعية أخذ يستعيد بعض النظرات ويدقق فيها وصار يفهمها فهماً جديداً.
لم يكن الأمين عبد المسيح وحيداً في هذا الشعور. فالأمين فخري معلوف ترك الاشتغال في بواطن النجوم بعد أن صحت به: «أتشتغل بفحص بواطن النجوم وأنت لا تدري لمن تكون الأرض التي تحت قدميك غداً؟» وبعد أن استوعب الفكرة القومية الاجتماعية قال لي مرة «الآن صرنا نفهم مقالاتك في المجلة»، وهي المقالات التي كتبتها لأعداد المجلة التي استأنفت إصدارها في بيروت سنة 1933 ولم يصدر منها سوى أربعة أعداد، إذ اضطررت لإيقافها من أجل صرف كل عنايتي إلى تنظيم الحركة القومية التي كانت تحتاج إلى إنشاء وتأسيس كل أمر من أمورها، إذ لم يكن قبلها شيء إداري أو اجتماعي أو سياسي أو ثقافي أو دستوري أو مناقبي يصح اعتماده لنوع هذه الحركة الجديدة.
مثل قولي الأمين عبد المسيح والأمين معلوف سمعت من غيرهما. والأمين فخري معلوف غيّر اتجاه دروسه فدرس بعض الاقتصاديات والسياسة وهو يعلّم في الجامعة، ثم انتقل إلى الفلسفة فتخصص فيها وقد عرف، على ضوء النهضة القومية الاجتماعية، ما يدرس وكيف يدرس (من المؤسف أن يكون حدث لفخري معلوف مؤخراً إنحراف نفسي ظاهر نحو القضايا الغيبية واللاهوتية) والذين أدركوا خطورة هذه النهضة وشعروا بعظم حقيقتها وهم بعد في بدء دروسهم النهائية أو قبل بلوغها ظهرت فاعلية مبادىء النهضة في دراستهم. وجميع هؤلاء والذين صقلت التعاليم القومية الاجتماعية ثقافتهم وجلت وعيهم وأيقظت مواهبهم هم الآن قوى روحية كبيرة في هذه الحركة الباعثة أمة عظيمة من مرقدها.
في أواسط سنة 1935، قبل اعتقالي ومعاوني في إدارة الحركة السورية القومية الاجتماعية ببضعة أشهر، انضم إلى هذه الحركة شاعر كان اسمه قد ابتدأ يدور على الألسنة في أوساط سورية الأدبية وخصوصاً في لبنان. هو سعيد عقل ناظم ملحمة بنت يفتاح. وقعت في يدي نسخة من هذه الرواية الشعرية فقرأت بضعة مقاطع منها فأحسست فيها شاعرية ممتازة جديرة بتناول قضايا الحياة والنفس. ولكنني لم أطق قراءتها كلها لأني وجدتها تخدم موضوعاً غريباً عن المواضيع السورية، مختصاً باليهود أعداء سورية. رأيت موهبة شاعر سوري جدير بالتعبير عن النفس السورية، ولكنها موهبة خارجة عن المواضيع السورية وعن خطط النفس ا لسورية. وهي تخدم اتجاهات ومثلاً في انتصارها انكسار لسورية ومثلها العليا ومطامحها وقواها. ومع كل الشاعرية الجيدة الظاهرة في الملحمة لم أجد فيها ما يمكن أن يفتح للأدب السوري مدخلاً جديداً وأن يحدث فيه تغييراً أو تجديداً، على الأقل التغيير أو التجديد المنتظر أن يجعل سورية في مضاف الأمم التي لها أدب حي جدير بالبقاء وباحتلال مركز عالمي.
رأيت في بنت يفتاح مظهراً من مظاهر «أدب الكتب» الذي عرضت له في مقال نشرته في المجلة في بيروت باسم مستعار وبعنوان «أدب الكتب وأدب الحياة» (أنظر ج 1 ص 436) وقصدت أن ألفت فيه النظر إلى أنّ ما نحتاج إليه هو أدب الحياة، أي الأدب الذي يفهم حياتنا ويرافقنا في تطوّرنا ويعبّر عن مثلنا العليا وأمانينا المستخرجة من طبيعة شعبنا ومزاجه وتاريخه وكيانه النفسي ومقومات حياته وهي من الأمور التي شغلت أكبر قسم من تفكيري في البعث القومي وأسبابه، ورأيت أنّ تركيز الأدب عليها غير ممكن إلا بالاتصال بنظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة تجسّم لنا مثلنا العليا وتسمو بها وتصوّر لنا أمانينا في فكرة فلسفية شاملة تتناول مجتمعنا كله وقضاياه الكبرى المادية ــــ الروحية من اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وفنية. وقد عبّرت عن هذا الرأي، بطريقة أخرى، في ختام شرح مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي بقولي:
«إنّ غاية الحزب السوري القومي هي فكرة شاملة تتناول الحياة القومية من أساسها ومن جميع وجوهها. فهي تحيط بالمثل العليا القومية وبالغرض من الاستقلال وبإنشاء مجتمع قومي صحيح. وينطوي تحت ذلك تأسيس عقلية أخلاقية جديدة ووضع أساس مناقبي جديد».
بهذه النظرة رأيت إمكان إنشاء أدب جديد فيه كل عوامل التجديد ودوافع البعث. فالأدب الذي يخدم هذه الغاية، أو أية غاية مماثلة لها، هو «أدب الحياة» الذي عنيته. هو الأدب الذي يكشف عن عظمة مطامح نفسية هامة وسمو مراميها. هو الأدب الذي مهمته أن يكون «منارة للجماعات» وليس «مرآة لها». إنه أدب النوابغ والعباقرة الذين إذا فات بعضهم أن يكونوا مؤسسين للفلسفة والنظرة إلى الحياة الجديدتين، فلا يفوتهم إدراك المثال الأعلى، الذي تشتملان عليه والنفسية الجديدة التي تقتضيانها فيحملون النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن ويقيمون بها أدباً جميلاً خالداً، لأنه يحمل عوامل حياة جديدة بنظرتها وفلسفتها ورغباتها، فيكون بذلك النهوض الأدبي المساوق للنهوض السياسي المبني بدوره على وجود النظرة الفلسفية الجديدة في الحياة الإنسانية وعواملها وأغراضها الأخيرة.
لم تكن بنت يفتاح تنطبق على مرمى التجدد الروحي في سورية وعلى ما يرجى من الأدب الجديد الذي كانت سورية تتوق إليه توقاً داخلياً، لأنها كانت بعيدة عن مواضيع الحياة السورية وغير متصلة بنظرة فلسفية يمكنها أن تستغرق أمواج النفس السورية. فلم يستهوني موضوعها. وصور الجمال التي فيها بقيت غريبة وجامدة، مع أنها صور إحساس سوري ضمن حوادث موضوع غريب معاكس لاتجاه الشعور السوري، فرأيت أن ألفت نظر الشاعر إلى مطاليب النهضة السورية في الأدب، فانتهزت فرصة زيارة قمت بها لمنفذية الحزب السوري القومي الاجتماعي للبقاع الشمالي في زحلة، بعد خروجي من السجن المرة الثانية سنة 1936، لتنفيذ عزيمتي. كانت الدعاوات المفسدة قد لعبت دوراً هاماً في مديرية زحلة، في أثناء غيابي الطويل في السجن مرتين متواليتين مع فترة قصيرة بينهما. وكانت الإذاعة الشيوعية قد أخذت تعبث ببعض الرفقاء ومنهم سعيد عقل الذي وجدته شبه مقتنع بأنه لا حاجة لنهضة قومية اجتماعية في سورية، إذ العالم كما قال له بعض الشيوعيين، على أبواب صراع بين الشيوعية والرأسمالية وأيهما انتصر قضى على كل أمل لسورية بتحقيق بعثها. فأوضحت للمتزعزعين مقدار الخطر على مجتمعهم وعلى أنفسهم من تقلّبهم في العقائد تقلّب الأوراق تلعب بها الريح. وفي نهاية حديثي إليهم وجهت خطابي إلى سعيد عقل خصيصاً ومدحت شاعريته الممتازة ولمته لعدم اهتمامه بالمواضيع التي هي من صميم الشعب السوري وتاريخه. وسألته هل لم يجد في تاريخ سورية من روائع المظاهر والمكنونات النفسية التاريخية ما يستهويه لاستخراج كنوزها واستئناف مجرى خططها السامية؟ فلم يحر جواباً فأشرت عليه بقراءة كيفية بناء قرطاضة العظيمة وتحويلها إلى قاعدة امبراطورية فسيحة الأرجاء شديدة السطوة وحوادث تاريخها الموقظة الشعور والمنبهة الفكر، أو قراءة شيء من أي دور من أدوار تاريخ سورية القديم فيتمكن، بفضل اتصاله بالنظرة السورية القومية الاجتماعية، من ربط قضايا سورية القديمة بقضاياها الجديدة وإيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي واستخراج المثل العليا الفرعية والتفصيلية الجوهرية في الأخلاق والمناقب، وإبراز أجمل المظاهر النفسية وأسنى المواقف المناقبية حسب الإحساس والتصور الملازمين لخصائص النفسية السورية. تركت هذا المعنى في ذهن سعيد عقل وخرجت من المكان غير منتظر جواباً.
بعد سجني المرة الثالثة وفي أواخر سنة 1937 أو أوائل سنة 1938، أوصل إليّ الأمين فخري معلوف نبأ جعلني أشعر بموجة حرارة تجري في جسمي كله. قال لي الأمين معلوف إنّ سعيد عقل يشتغل في قصيدة أو ملحمة عنوانها قدموس السوري التاريخي الذي علّم اليونان الأحرف الهجائية والكتابة وله قصص بطولة أسطورية جميلة، وإنه قد أنجز قسماً منها، أسمعه بعض مقاطعه، وإنه يود أن يجتمع بي ليُسمعني ما قد نظم. لم يمكني دور الجهاد العنيف الذي كنت فيه من تحقيق رغبة الرفيق سعيد عقل ولكني شعرت برغبة شديدة في الالتقاء به ليقرأ في ناظري تقديري العظيم وشكري (وإني آسف، بعد وقوفي على رواية قدموس من نظم سعيد عقل لأني لم أجد فيها ما كنت أتوقعه. فقد حاول المؤلف أن يصبغ الحقائق التاريخية والأساطير التقليدية بصبغة محلية ضيقة فأساء إلى الأساطير وإلى الواقع التاريخي).
سردت هذه الحوادث كما حدثت، مفضّلاً أخذ المثل من الحاضر ومن شؤون تاريخ نهضتنا التي في مقدور كل مؤرخ ومحقق تمحيصها وسؤال أفرادها الذين هم أحياء وفي فتوة الحياة، ليسهل إدراك نظريتي في كيفية نشوء أدب جديد حي بنشوء نظرة فلسفية اجتماعية جديدة صدرت عنها حركة سياسية واسعة تناولت حياة أمة بأسرها وامتد تأثيرها إلى الأمم المجاورة وامتزجت أنغام موسيقاها الخاصة بالأنغام الخاصة الصادرة عن أمم أخرى تشترك في الارتقاء النفسي على ألحان المجد المكتسب بانتصار الأفضل والأنبل والأعز على الأسوأ والأرذل والأذل، ولفهم ضرورة النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن للتجديد الأدبي أو الفني.
ويصعب عليّ كثيراً أن أتصوّر أنّ مجرد قراءة تواريخ قديمة والاطلاع في الأدب العربي القديم ودرس الأدب الإنترناسيوني الحديث، يكفي لإيجاد نهضة أدبية فنية أصلية جديدة في سورية ومصر أو في أية أمة من أمم العالم، على وجه القياس. كل ذلك يحتاج إلى الحافز الروحي المستمد من فكرة أو عقيدة فلسفية جديدة في الحياة وقضاياها. وبدون هذا الحافز الروحي، الذي هو شيء حقيقي، لا وهمي، لا يكون الأدب سوى ألوان تقليدية أو استعارية باهتة لا نضارة لها ولا رونق ولا شخصية. فلا هو شيء جديد من الوجهة النفسية يطبع خصائصه على الحقب والأجيال ولا هو شيء قديم أصلي محتفظ بخطوط شخصية صحيحة تظهر قوتها في ملامحها الصريحة، التي لا يتمالك الناظر إليها من الشعور بحقيقتها والإعجاب بمقدرتها على البقاء وبجاذبية مزاياها الأصلية الخاصة.
لو كان الحافز الروحي المستمد من فلسفة العقيدة السورية القومية الاجتماعية اتصل بجميع رجال العلم والأدب الذين انضموا إلى هذه العقيدة، قبيل ابتداء دروسهم الشبه اختصاصية لما كانت تلك الدروس، ظلت هياكل عارية، ميتة لا حياة لها ولا حراك بها، حتى جاءت النهضة القومية الاجتماعية بمبادئها وصيّرت العلوم الميتة علوماً حية، فاكتست العظام لحماً ونبضت عروضها بدم الحياة الحار. وبدون الحافز الروحي الواعي لا تفيد كثيراً قراءة شكسبير وغوته ولا العودة إلى سفر أشعيا ولا زيادة العلم ولا التعمق في الأدب القديم.
إنّ العراك السياسي العنيف الذي اضطرت النهضة السورية القومية الاجتماعية للدخول فيه في جبهتين داخلية وخارجية، قبل اكتمال نموها الطبيعي وقوتها، حال دون حصول نتاج أبدي كبير، واسع، شامل. ولكن الحافز الروحي الذي ولدته هذه النهضة الحقيقية قد حرك عوامل الحياة والارتقاء في جماعات كثيرة وأيقظ وجدان ألوف الأحداث والطلبة في طول البلاد وعرضها. والعقيدة آخذة في الاختمار، والفكر قد ابتدأ يتبلور، وسيجيء دور الإنتاج الأدبي والفني الواسع، الذي ينهض بالعصر الذي ابتدأ تاركاً في الحضيض العصر الذي أخذته حشرجة النزع (وقد جاء بالفعل هذا الدور وقد بدت طلائعه في عدة مؤلفات ذات قيمة).
إنّ من نتائج حصول نظرة فلسفية جديدة إلى الحياة والكون والفن، حدوث تغيير في مجرى الحياة ومظاهرها، وفي أغراضها القريبة والأخيرة، قبل كل شيء. وهذا ما حدث في سورية بوجود النظرة الفلسفية السورية القومية الاجتماعية، ليس فقط في ما تعلق بالأدب والفن، بل في ما اختص بالأعمال والأخلاق والمناقب.
اتّفق لي أكثر من مرة أن سمعت هذا القول من منضمين إلى الحركة السورية القومية الاجتماعية مدركين:
«لم نكن نعلم أي درك من الانحطاط الأخلاقي وضعف المناقب بلغ شعبنا، إلى أن دخلنا في الحزب السوري القومي الاجتماعي. الآن أصبحنا ندرك الفساد المتفشي في أمتنا وخطره على حياتها».
حصول النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن يفتح آفاقاً جديدة للفكر ومناحي جديدة للشعور كما قلت آنفاً. وهنا نقطة الابتداء لطلب سياسة جديدة وأشكال سياسية جديدة ولفتح تاريخ أدب وفن جديدين. فالأدب والفن لا يمكن أن يتغيرا أو يتجددا إلا بنشوء نظرة فلسفية جديدة يتناولان قضاياها الكبرى، أي قضايا الحياة والكون والفن التي تشتمل عليها هذه النظرة.
قد يسأل سائل: «هل من الضروري أن يكون التجديد الأدبي خاصاً بمواضيع أمة معينة فإذا تناول غيرها بَطُلَ أن يكون تجديداً وفقد قيمته الأدبية؟».
جوابي: كلا، ليس من الضروري. فالقيمة الأدبية أو الفنية ليست في هوية أو «جنسية» الموضوع، بل في القضايا التي ينطوي عليها الموضوع وفي كيفية معالجة القضايا وفي النتائج الروحية الحاصلة من هذه المعالجة. أما ذاتية الموضوع وزمانه ومكانه فلها ناحية شعورية خاصة وتقل أهميتها، أو تعظم، على نسبة الغرض الخفي أو المعلن الذي يسوق الموضوع إليه. على أنّ الاتجاهات الفكرية والشعورية تتأثر بالموضوع، الذي إذا كان خاصاً كبنت يفتاح تعرّض لفقد كل مبرر عام ولأن يكون مخالفاً أو مناقضاً للمثل العليا التي يبغيها الشعب المكتوب له الموضوع وللخطط النفسية التي تبرز بها مواهبه الجديرة بالإعجاب والبقاء. فبنت يفتاح مثلاً، تدخل في الأدب اليهودي الخاص أكثر مما تدخل في الأدب السوري، لأنها تتناول موضوعاً يهودياً بحتاً تبقى أسبابه ونتائجه ضمن إطار المظاهر اليهودية وكذلك موحياته وجواذبه، خصوصاً والشاعر قد نظم القصة ولم يحصل له الوعي القومي ولم يدرك النظرة الجديدة إلى الحياة.
إنّ الاعتماد على المواضيع الغريبة لا ينشىء أدباً شخصياً لمجتمع له خصائصه التي يمكن أن تضاف إلى مجموعة الآداب العالمية ووحدات خصائصها. إنه ليبرر تناول بعض المواضيع الأجنبية، بعد نشوء الأدب القومي أو الخاص على نظرة إلى الحياة والكون والفن واضحة. فيكون تناول تلك المواضيع بهذه النظرة أو بهذا الوعي الذي له خصائصه فيكسبها من خصائصه ما يضيف إليه ألواناً وأشكالاً متميزة. وفي هذه الحالة يجب أن تكون تلك المواضيع ذات أهمية خارقة، تاريخية أو حقوقية أو إنسانية، قابلة الاشتراك بين الشعوب أو بين بعضها، فشلر ألّف عذراء أرليانس (أرليان) في جان دارك. ولكن ليست هذه الرواية الإنتاج الذي أعطى شلر مقامه الأدبي. وهي ليست سوى جزء يسير مما كتب شلر. وأهم ما كتب شلر، على رأي جمهور نقّاده، هو حرب الثلاثين سنة في الحرب الشديدة التي جرت في ألمانية بين الكاثوليك والبروتستانت. فالموضوع ألماني صميم وقد كتب فيه شلر نثراً، ونظم فيه قصيدتين أو ملحمتين عاليتين جداً، الواحدة في بطل الكاثوليك ولنشتين، والثاني في بطل البروتستانت غستاف أدلف. ومع أنّ هذا الأخير هو ملك أسوج فقد تدخّل في شؤون النزاع الديني الألماني ودخل في تاريخ ألمانية. والموضوع وسياقه أبرزا شاعرية ممتازة وجدت نفسها في بيئتها وفي بيتها فوافق ذلك المثل البسيط «رب البيت أدرى بالذي فيه». ففي وصف ولنشتين، مثلاً، تظهر صورة حية ذات رواء نادر. وأتمنى أن تكون صورة أبطال سورية في قصائد شعرائها أبهى سناءً من قصيدة شلر في ولنشتين وجديرة مثلها باحتلال مركز عالمي ممتاز.
وهذه عبقر لشفيق معلوف. هي أيضاً قصيدة سورية في موضوع غريب. وسأتناولها بتشريح لم يمكن أن أتناول به بنت يفتاح لأن تلك قد أصبحت أمامي بفضل أحد المعارف.
لا شك عندي في أنّ عباس محمود العقّاد لا يجد سبباً للتذكر من مظهر الكتاب الذي طبعت فيه القصيدة. فورقه صقيل وأصفر يريح العينين. وصفحاته كلها ذات طراز ولكل نشيد من أناشيد القصيدة صورة رمزية من رسم فنان إيطالي.
موضوع القصيدة عبقر العربية التقليدية وهي «قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل». وقد أراد الشاعر أن يقوم بسفرة معراجية أو معرية أو دانتية إلى عبقر. وكما سار محمد بصحبة جبريل إلى الجحيم والسماء فتعرّف إليهما، وكما فعل الشاعر السوري الخالد أبو العلاء المعرّي، وكما فعل شبه فعله دانتي ألغياري في ديوينه كميديه، [Divine Comedy] كذكل سار شفيق معلوف صحبة شيطان شعره إلى عبقر.
لماذا اختار شفيق معلوف «عبقر» موضوعاً لشعره؟ لا أظن إلا أنه حب «الابتكار» ودافع أن يقلَّد من غيره ضمن نطاق أدب اللغة العربية، إذ ليس لموضوع القصيدة، أي لعبقر أية قضية نفسية أو فلسفية عامة كالتي للجحيم والسماء. وهذا الموضوع مجهول في سورية إلا عند الذين أكبوا على دراسة التقاليد والخرافات العربي كالمستشرقين ومن جرى مجراهم. وصوره الأصلية هي صور خرافات وأوهام تلازم الجماعات البشرية المكتنفة نفوسها ظلمة الجهل والغفلة والوحشة. فخيالاتها غرائب لا منطقية ولا تسلسل فلسفي لها، كظهور الجن وركوبها الأرنب والظبي واليربوع والحية وغيرها، وكمخاطبة الجن وغير ذلك، وكعجائب الكهان الذين يولد بعضهم بلا عظام وبعضهم نصف إنسان. وهذا النوع من الخرافات لا مغزى له غير ما يدل عليه من حالة الأقوام التي تمارسه. وعلى عكس ذلك الأساطير الراقية ذات الصبغة الفلسفية المتناولة قضايا الحياة الروحية والمادية، الملازمة للجماعات البشرية التي أظهرت استعداداً نفسياً عالياً وجعلت أساطيرها ذات مغزى في الحياة وفي الممات، كالأساطير السورية التي أثّرت تأثيراً كبيراً في الأساطير الإغريقية وساعدت على نشوء أبدع الشعر الكلاسيكي وأسمى التفكير الفلسفي. ولا بدّ هنا من تصحيح الاعتقاد الشائع أنّ الشعر الكلاسيكي يبتدىء بهوميرس. أنه يبتدىء مئات من السنين قبل إلياذة هوميرس، بقصيدة «طافون» في سورية، في رأس شمرا، التي يرجّح أنها «أوغاريت» القديمة، كما أظهرت التنقيبات الجديدة بين سنة 1929 وسنة 1932.
لم يتناول ناظم عبقر هذا الموضوع العربي بقصد تصوير حالة العرب النفسية في خرافاتها وتخيلاتها وهي تغدو وتروح بين كثبان الرمال وفي مفاوز الصحراء وسباسبها ووسط أنجادها ووهادها، بل كان قصده أن يجد في تلك الصور الأولية، التي منشأها مخاوف الجهل وهواجس الاضطراب تجاه الخفاء، مغازي الأساطير العليا، الراسمة لقضايا الحياة الإنسانية ومسائلها النفسية الكبرى رموزاً فلسفية في غاية الدقة من التمعن وقوة الملاحظة المتنبهة بالاستعداد الذاتي والاتجاه الدال على طموح نفسي عظيم إلى إدراك كنه الحياة والوجود والبقاء والفناء والأغراض العظمى من الوجود الإنساني، مما هو من شأن الجماعات الآخذة بأسباب الرقي الفكري. فكان قصد الشاعر أعظم وأعلى من الأسباب التي أراد بلوغه بها، والنتيجة الأخيرة التي وصل إليها ناظم عبقر ليست من النتائج المسعدة التي يرغب فيها الإدراك العالي. حاول الشاعر أن يرقى بالخرافات العربية إلى مرتبة الأساطير الفلسفية فنزل بفلسفة الأساطير إلى حالة لا منطقية.
لعل أعظم مدح لشاعرية شفيق معلوف أنه حاول أن يربط جميع الأوهام العربية التقليدية في عبقر والجن والكهانة بخيط من الفكر والشعور يتعلق بموضوع من أهم المواضيع الإنسانية: الحب. لا أظن أحداً سبق شفيق معلوف إلى هذه المحاولة، ولا أعتقد أنّ أحداً سيدركه في مثلها. إنها ابتكار ولكني لا أتمنى أن يجد مقلدين كثيرين في سورية.
لم يكن شفيق معلوف محتاجاً إلى هذه السياحة الطويلة إلى عبقر ليظهر أنه شاعر في الوصف الروائي. ولم يكن محتاجاً إليها عبّارة ليصل إلى تمجيد الحب الفاني الذي يتغذى بدم شرايين الشباب وينمو بحرارة أجساد الفتوة، ثم يجف مع جفاف الشرايين ويتقلص بتناقص الحرارة ويفنى بفناء الأجساد.
تمتاز عبقر على بنت يفتاح وعلى كل ما وقع عليه نظري في الشعر السوري والمصري والعربي القديم والحديث، باستثناء إنتاج الشاعر السوري الكبير أبي العلاء المعرّي، بأنها شيء مركّب بإبداع المخيلة التي أنشأت فصوله و«مؤلف» بعناية اشترك في تأليفه الفكر أو العقل مع الشعور، وبأنها محاولة مركّبة تدل على مؤهلات الناظم للصعود فوق العواطف والانفعالات العارضة أو الفطرية ولتناول المواضيع الإنسانية المتعلقة بصفات الإنسان الجوهرية الباقية. تمتاز بأنها خيالية وبأن الخيال فيها مربوط بالعقل، وبأنّ الفكر لم يهمل فيها لتترك العاطفة على سجيتها.
هذه الحقائق الشاعرية الكبرى في عبقر. ولكن يلاحظ في هذه الشاعرية الخلو من النظرة الفلسفية إلى الحياة والكون والفن القادرة على التأسيس أو البناء لحياة أسعد حالاً وأبقى مآلاً. وأعتقد أنّ الخلو من هذه النظرة هو السبب الذي حمل الشاعر على دفن شاعريته في تتبع الخيالات والخرافات العربية الخالية من المغزى الفلسفي أو من سحر الجمال، ومعاناة استخراج بعض الرموز والمغازي من جميع تلك الاستعراضات الغريبة، من ركوب ظهر الشيطان إلى ذكر عرافة عبقر إلى عبقر بذاتها، كما يتصورها الشاعر، إلى «مراكب الجن»، إلى الجن، إلى الكاهنين سطيح وشق وغير ذلك من أضغاث الأوهام التي لا تجد فيها أي تعبير أو مغزى فلسفي يصلح لتوسيع أفق النفس في الحياة ومراميها. ولذلك أجد عبقر خالية إلا من استعراض الخرافات الشبحية واعتقادات أولية بالية في «حديث العرافة» وتمجيد للحب المتلظي في الشفاه، وكل ذلك بأسلب شعري جميل جزلت «معانيه» ولطفت ديباجته وحلت رقّته، ولكنه لا يوجد في النفس غير لذة تشبه اللذة التي تورثها خمر جيدة تسعد باحتسائها وتثمل بدبيبها وتلتذ بذكراها ولا شيء وراء ذلك. ومع هذا ففي عبقر أبيات فيها لمحات أو لمعات نفسية تكاد تصل إلى الثورة الروحية كقوله:
ما الفرق في نومي وفي يقظتي وكل ما في يقظاتي رؤى (ص 146)
في «نشيد الكاهن سطيح» وفي «حديث الكاهن شق» يجد الباحث محاولة للاقتراب من الفلسفة والفلسفة الاجتماعية. ولكن ليس في هذا الاقتراب غير مجاراة الاعتقادات القديمة كقوله على لسان سطيح:
والخلق من حمقى ومن أغبياء
وكل من في الأرض من أغبياء
يجرون كالعميان خلف القدر
وفوقهم يلمع سيف القضاء
وتحتهم تفغر فاها الحفر (ص 238)
وكقوله على لسان شق:
ما ضرني والواحد السرمد
لم يحب جسمي بيدين اثنتين
ما زال للقضاء فوقي يد
فليس بي من حاجة لليدين (ص 242)
ولكنه في «حديث شق» يخرج إلى تأملات اجتماعية بعضها ذات صبغة مناقبية متفقة مع خطط التفكير السوري كقوله:
شذب مني الأغصن الفاسدة فصلحت بقيتي الباقية
هل تنفع اليدان والواحدة تهدم ما تشيده الثانية (ص 242)
وكقوله:
وإنّ قلباً بعضه يشعر
وبعضه كأنّه الجلمد
حسبي منه نِصفه النير
لا كان قلب نصفه أسود (ص 244)
فالبيتان الأخيران والبيت السابق لهما هما من أجمل وأسمى التعابير الشعرية في حيّز من الفكر صالح لتثبيت قواعد الاجتماع والعمران ولتقوية المناقب الضعيفة.
أتناول أخيراً الغاية الأخيرة من عبقر ــــ الحب:
الصورة التي يرسمها شفيق معلوف للحب ليست في عبقر أرقى منها في الأحلام إلا قليلاً. إنه الحب الجاهلي أو البربري أو الفطري. إنه الحب الذي لم يروضه التمدن ولم تقوّمه الثقافة ولم ترتفع به النفس. في «أغنية الجنية» يظن المدقق، بادىء بدء، أنّ الشاعر يحاول تصوير ميول الجن وشهواتها ليخرج من ذلك إلى فكرة فلسفية في الحب ومغزاه، ولكن ختام القصيدة، «همس الجماجم» العبقرية، يثبت أنّ صورة الحب التي يراها الشاعر هي صورة الضم والتقبيل وارتجاف الأضلع وطلب الأجساد الأجساد. والشاعر يتدرج منذ البدء نحو هذه الغاية أو هذا المثال. ففي تصويره «أميرة الجن» يكني عن الحب الذي يرمي إليه بقوله:
مست بروح ليس من عبقر
غادرها غرقى ببحرانها (ص 170)
فكأنه يريد أن يقول إنّ روح الإنس دخل في جسم أميرة الجن فجلب إليها أماني الإنسان وتصوراته فإذا هي الشهوات الجسدية الملحة:
ويحي! من يشبع فيَّ النهم؟
أكُلما استَلْقَتْ على مِعصمي
روح، فقربت إليها فمِي
تملصت… فلم أُقبِّل ولم
أضم إلا عدماً في عدم؟ (ص 173)
ويستطرد الشاعر، مصوراً عالم الإنس، فيقول:
في العالمِ الآخر حيث الأرج
يجاذب الأنفس أهواءها
متى تلظت شهوة في المهج
لم تعدمِ الأجساد إِطفاءها
ما فيه غير الحب ملء الفضاء
ملء الثرى، فِي الغاب في ظله
فوق الجبال الناطحات السماء
في الماء، في كيانه كله (ص 174)
هذه هي صورة الحب التي يراها الشاعر في عالم الإنس فيرسمها في «أغنية الجنية». وانظر كيف يتابع الشاعر في هذا النشيد وصف الحب:
من لي بحب نوره ينبلج
من شرر محتدمٍ في المقل؟
من لي بثغر لاهب تنفرج
ثغرته عن شعلات القبل؟
من لي بذي صدرٍ خفوق ألج
في صدره وإن يكن يختلج
لِعاصف الموت اختلاج الشعل
ما نفع روح خالد عشت فيه
ما زلت لم أحضن ولم أُحتضن (ص 177 ــــ 178)
ينتقل الشاعر من الجن إلى «العبقريين»، ويعني بهم الشعراء فيرى مثاويهم ويسمع همس جماجمهم، فلا ترى فرقاً بين ذكرياتهم وأماني الجنيات، وهاك ختام الرواية وفيه غايتها الأخيرة ومثالها الأعلى:
تالله لا الأصنام ولا الخرافات
تهز منا العظام ونحن أموات
تلاشت الأوهام
وأهلها ماتوا
لكن من يهز منا الرفات
فهو الذي كل أماني الحياة
يفتر في ثغره
وكل ما في الأرض من ذكريات
يغفو على صدره
لا تستطيب النجوم غير تهاليله
وليس تبكي الغيوم في غير منديله
ذاك هو الحب لصيق الثرى
ما لجناحي عزمه نهض
خصوا به الجنة وهو الذي
مضجعه القتاد والقض
والحب في الجنة ما شأنه
ولا أذى فيها ولا بغض
ألقوه للنار وإن أرمضت
أقدامه المواطىء الرمض
وليتلقفه شواظ اللظى
وليتلهم بعضه البعض
فالأرض إن كانت جحيماً له
وكان فيها تهنأ الأرض (ص 318 ــــ 321)
هذا هو كل مرمى القصيدة. الصورة الشعرية رائعة، ولكن التصور المثالي فطري ساذج. ويمكن أن ينعت بالجاهلي أو الوحشي. فالحب، كما يصوره الشاعر، هو نزعة بيولوجية بكل ما فيها من ميول وأشواق جسدية، لا غاية نفسية مثالية تتخذ من الغرض البيولوجي سلّماً لبلوغ ذروة مثالها الأعلى، حيث تنعتق النفس من قيود حاجة بقاء النوع ولذائذ أغراضه ويشاد بناء نفسي شامخ لحياة أجود، وحيث يصير مطلب الحب السعادة الإنسانية الاجتماعية الكبرى. فيكون الحب اتحاد نفوس. ولا يكون اعتناق الأجساد غير واسطة لتعانق النفوس المصممة على الوقوف معاً والسقوط معاً من أجل تحقيق المطلب الأعلى، في جهاد ضد الفساد والرذائل، ولنصرة الحق الكلي والعدل الكلي والجمال الكلي والحب الكلي، ولرفض اللذات الجسدية غاية في ذاتها، التي هي أعظم مصدر للأذى والبغض والعداوات الصغيرة، اللئيمة، الحقيرة، التي لا ترى في الكون غير صغرها ولؤمها وحقارتها.
أنطون سعاده
الصراع الفكري في الأدب السوري - الحزب السوري القومي الاجتماعي
Download مقدمة في شهر مايو/أيار من هذه السنة 1942 وقعت في يدي نسخة من العدد الثاني، السنة الأو