أحسد الذين لم يعرفوا وليد منير, هذا الشاعر المبدع الذي فقدته مصر والشعر العربي في الشهر الماضي, فقد أعفاهم عدم معرفتهم إياه من الشعور بالحسرة التي يشعر بها الآن من عرفوه شاعرا وإنسانا.
نتحسر عليه كما نتحسر علي الحلم الجميل الذي ننهض من نومنا قبل أن يصل الي نهايته السعيدة, وكما نتحسر علي الصوت العذب الذي يذبح فجأة في الأفق البعيد وينقطع فلا ندري كيف نستعيده, ولا ندري من أين جاء؟ وكما نتحسر علي كل جمال ظللنا نتوق إليه وننتظره, حتي اذا غافلنا وظهر غافلنا واختفي قبل أن ننتبه لوجوده أو نملأ منه العيون!
تلك هي سيرة الورد فينا, والحب الأول, والحلم, والذكري. كل ما لا نستطيع أن نستعيده من غفلتنا عنه, أو من الموت, أو من الزمن, وكل ما لا يستطيع أن يستعيد نفسه من اكتفائه بنفسه وافتتانه بجماله!
لم يكن وليد منير نرجسيا كما قد يفهم من هذه العبارات الأخيرة, لأن الجمال الذي فتنه وأسره لم يكن شخصه, وانما كان الشعر الذي آلي علي نفسه أن يعرفه ويسبر أغواره ويكشف أسراره, فكلما وضع يده علي سر, ساقه السر الي السر, والجمال الي الجمال.
كان لله أسبابه
عندما جعل الشعر توأم روحي
وهيأ روحي لوحدتها
ثم فرق وحدتها في الكثير
....
كان لله أسبابه
بينما كان لي وتر
أتذوق من لحنه عسل النحل
أو حصرم الحانة المر
لم أك أفهم, لم أك أختار
لكنني كنت أغسل روحي بماء الغمام لتفهم
أو أستفز خطاي بمهماز شوقي لتختار
كنت أحاول أن أتفتح كالياسمين علي كلمة الله
حتي أري, وأشم, وألمس هذا الأثير!
لقد تعلم وليد منير أن ينصت لنفسه, ويعيش حياته كما لو كانت حلما من الأحلام, يعيشه لا ليحقق نفعا شخصيا من ورائه, بل ليفهم الرمز ويتفتح علي الحكمة, من هنا لم يكن يعنيه ما يعني الآخرين, لا المال, ولا الشهرة, ومن هنا أيضا لم يعد مجرد شاعر, وانما أصبح شاعرا حكيما.
ومن الشعراء من يستغرقه زمنه وتشغله مطالبه, فيقف أمام العابر والظاهر لا يتعداهما, ينقل أشتاتا مما يري, وأصداء مما يسمع, ومنهم من يسير علي غير هدي, يري ولا يفكر فيما يري, ويسمع ولا يفكر فيما يقال, ويظل مشدودا لما لا يعرف ولا يفهم, تائها عن نفسه, عاجزا عن تمثل ذاته والانصات لقلبه, فكلامه تخبط, وشعره هذيان, وهو وشعره نقيضان.
ووليد منير ينتمي لجنس آخر من الشعراء, لا ينقل ولا يهذي, لأنه يرجع لنفسه, ويمتح من أعماقه, مدركا أن الواقع هو ما يراه, وأن ما يراه هو الواقع, وكل ما عليه أن يستعد للرؤية, ويتهيأ لاستقبال الشعر, ويخلص له كما يخلص سادن لعقيدته, عليه أن يغسل روحه بماء الغمام, ويستفز خطاه بمهماز الشوق, ثم ينصت لقلبه ويترجم عن روحه.
دائما كنت أحلم بالأرجوان
يشعل الغيم تحت يدي
ويضرج وجه الفضا بدم السيسبان
...
دائما كنت أحلم بالناس ينصرفون
وتأتي الكواكب تحمل بعض سلال من النور فيها طعام ملائكة, ورضا أمهات
وأزهار عيد سعيد
فأكتشف السر في أن كل المرايا
تحيل الي بعضها البعض
حتي تحل الحياة جدائلها في الصدي
ويعود التراب الي الزعفران
دائما كنت أحلم أن أحلم
الحلم ليس سوي إبرة
ترتق الفتق في ثوب أوقاتنا
لمسة تعترينا, عيون ترانا
مدي يتفجر داخلنا
ويداوي طفولتنا الأبدية من شوكة اليأس
أو لدغة الأفعوان!
هكذا أصبح وليد منير حكيما متصوفا, لقد أغرق نفسه عن طريق الحلم في بحر الوجود, ليس فقط فرارا من مواجهة العدم, وانما شوقا للاتصال بالكل أو عودة للبحر الذي انفصل عنه كما قال رامي في ترجمته للخيام. إن تفصل القطرة من بحرها, ففي مداه منتهي أمرها, ونحن نقرأ شعر وليد منير فندخل عالما نجد فيه جلال الدين الرومي, والحلاج, وابن الفارض, والخضر, والسهروردي, وأبايزيد البسطاني, وابن عطاء الله السكندري, وسمنون بن حمزة, وأبا حيان التوحيدي, وسواهم من كبار المتصوفين, بل نحن نجد أسماء هؤلاء وأسماء غيرهم من الشعراء والكتاب والمفكرين والفنانين والعلماء الذين ملأت أعمالهم وسيرهم حياة وليد منير كالمتنبي, وأبي نواس, وابن زيدون, وديك الجن, وقسطنطين كفافيس, وجارثيا لوركا, ورابندرانات طاغور من الشعراء, وتشيكوف من الكتاب, وباخ, وخاتشادوريان من الموسيقيين, وحتي راقصة الباليه ايزادورا دنكان, هؤلاء لا يذكرهم وليد منير ادعاء أو مباهاة بسعة ثقافته كما يفعل بعضهم, بل ليعترف بفضلهم, وليدلنا علي مكانهم في نفسه, ومكانه في عالمهم الذي ينتمي له.}
ولقد أصيب وليد منير في كبده, وكان يعلم أن الموت يزحف نحوه, وكان في حاجة لعون الدولة وعون أصدقائه, لكنه لجأ الي الشعر وحده, ولم يطلب شيئا من أحد, حتي ممن كان يعرف أنه يعني لهم الكثير.
رحل في الحادية والخمسين, في السن التي رحل فيها علي محمود طه, وإبراهيم ناجي, وصلاح عبدالصبور,، رحل وليد منير وترك لنا أكثر بكثير مما أخذ. لهذا نتحسر عليه, ونحسد الذين لم يعرفوه!
أحمد عبد المعطي حجازي - مصر
نتحسر عليه كما نتحسر علي الحلم الجميل الذي ننهض من نومنا قبل أن يصل الي نهايته السعيدة, وكما نتحسر علي الصوت العذب الذي يذبح فجأة في الأفق البعيد وينقطع فلا ندري كيف نستعيده, ولا ندري من أين جاء؟ وكما نتحسر علي كل جمال ظللنا نتوق إليه وننتظره, حتي اذا غافلنا وظهر غافلنا واختفي قبل أن ننتبه لوجوده أو نملأ منه العيون!
تلك هي سيرة الورد فينا, والحب الأول, والحلم, والذكري. كل ما لا نستطيع أن نستعيده من غفلتنا عنه, أو من الموت, أو من الزمن, وكل ما لا يستطيع أن يستعيد نفسه من اكتفائه بنفسه وافتتانه بجماله!
لم يكن وليد منير نرجسيا كما قد يفهم من هذه العبارات الأخيرة, لأن الجمال الذي فتنه وأسره لم يكن شخصه, وانما كان الشعر الذي آلي علي نفسه أن يعرفه ويسبر أغواره ويكشف أسراره, فكلما وضع يده علي سر, ساقه السر الي السر, والجمال الي الجمال.
كان لله أسبابه
عندما جعل الشعر توأم روحي
وهيأ روحي لوحدتها
ثم فرق وحدتها في الكثير
....
كان لله أسبابه
بينما كان لي وتر
أتذوق من لحنه عسل النحل
أو حصرم الحانة المر
لم أك أفهم, لم أك أختار
لكنني كنت أغسل روحي بماء الغمام لتفهم
أو أستفز خطاي بمهماز شوقي لتختار
كنت أحاول أن أتفتح كالياسمين علي كلمة الله
حتي أري, وأشم, وألمس هذا الأثير!
لقد تعلم وليد منير أن ينصت لنفسه, ويعيش حياته كما لو كانت حلما من الأحلام, يعيشه لا ليحقق نفعا شخصيا من ورائه, بل ليفهم الرمز ويتفتح علي الحكمة, من هنا لم يكن يعنيه ما يعني الآخرين, لا المال, ولا الشهرة, ومن هنا أيضا لم يعد مجرد شاعر, وانما أصبح شاعرا حكيما.
ومن الشعراء من يستغرقه زمنه وتشغله مطالبه, فيقف أمام العابر والظاهر لا يتعداهما, ينقل أشتاتا مما يري, وأصداء مما يسمع, ومنهم من يسير علي غير هدي, يري ولا يفكر فيما يري, ويسمع ولا يفكر فيما يقال, ويظل مشدودا لما لا يعرف ولا يفهم, تائها عن نفسه, عاجزا عن تمثل ذاته والانصات لقلبه, فكلامه تخبط, وشعره هذيان, وهو وشعره نقيضان.
ووليد منير ينتمي لجنس آخر من الشعراء, لا ينقل ولا يهذي, لأنه يرجع لنفسه, ويمتح من أعماقه, مدركا أن الواقع هو ما يراه, وأن ما يراه هو الواقع, وكل ما عليه أن يستعد للرؤية, ويتهيأ لاستقبال الشعر, ويخلص له كما يخلص سادن لعقيدته, عليه أن يغسل روحه بماء الغمام, ويستفز خطاه بمهماز الشوق, ثم ينصت لقلبه ويترجم عن روحه.
دائما كنت أحلم بالأرجوان
يشعل الغيم تحت يدي
ويضرج وجه الفضا بدم السيسبان
...
دائما كنت أحلم بالناس ينصرفون
وتأتي الكواكب تحمل بعض سلال من النور فيها طعام ملائكة, ورضا أمهات
وأزهار عيد سعيد
فأكتشف السر في أن كل المرايا
تحيل الي بعضها البعض
حتي تحل الحياة جدائلها في الصدي
ويعود التراب الي الزعفران
دائما كنت أحلم أن أحلم
الحلم ليس سوي إبرة
ترتق الفتق في ثوب أوقاتنا
لمسة تعترينا, عيون ترانا
مدي يتفجر داخلنا
ويداوي طفولتنا الأبدية من شوكة اليأس
أو لدغة الأفعوان!
هكذا أصبح وليد منير حكيما متصوفا, لقد أغرق نفسه عن طريق الحلم في بحر الوجود, ليس فقط فرارا من مواجهة العدم, وانما شوقا للاتصال بالكل أو عودة للبحر الذي انفصل عنه كما قال رامي في ترجمته للخيام. إن تفصل القطرة من بحرها, ففي مداه منتهي أمرها, ونحن نقرأ شعر وليد منير فندخل عالما نجد فيه جلال الدين الرومي, والحلاج, وابن الفارض, والخضر, والسهروردي, وأبايزيد البسطاني, وابن عطاء الله السكندري, وسمنون بن حمزة, وأبا حيان التوحيدي, وسواهم من كبار المتصوفين, بل نحن نجد أسماء هؤلاء وأسماء غيرهم من الشعراء والكتاب والمفكرين والفنانين والعلماء الذين ملأت أعمالهم وسيرهم حياة وليد منير كالمتنبي, وأبي نواس, وابن زيدون, وديك الجن, وقسطنطين كفافيس, وجارثيا لوركا, ورابندرانات طاغور من الشعراء, وتشيكوف من الكتاب, وباخ, وخاتشادوريان من الموسيقيين, وحتي راقصة الباليه ايزادورا دنكان, هؤلاء لا يذكرهم وليد منير ادعاء أو مباهاة بسعة ثقافته كما يفعل بعضهم, بل ليعترف بفضلهم, وليدلنا علي مكانهم في نفسه, ومكانه في عالمهم الذي ينتمي له.}
ولقد أصيب وليد منير في كبده, وكان يعلم أن الموت يزحف نحوه, وكان في حاجة لعون الدولة وعون أصدقائه, لكنه لجأ الي الشعر وحده, ولم يطلب شيئا من أحد, حتي ممن كان يعرف أنه يعني لهم الكثير.
رحل في الحادية والخمسين, في السن التي رحل فيها علي محمود طه, وإبراهيم ناجي, وصلاح عبدالصبور,، رحل وليد منير وترك لنا أكثر بكثير مما أخذ. لهذا نتحسر عليه, ونحسد الذين لم يعرفوه!
أحمد عبد المعطي حجازي - مصر