في خضمّ حرصنا على إحياء ذكرى رحيل الشعراء والمبدعين المكرّسين والأكثر شُهرة، كدنا ننسى ذكرى شّاعر ومبدع جميل، هو الشهيد علي فودة، الذي رحل عن عالمنا في معركة حصار بيروت يوم 20/8/1982 بعد أن قرأ في الصُحف خبر نعيه ومقالات رثائه. وربما كان يردِّد كلمات قصيدته التي لحّنها وغنّاها الفنان مارسيل خليفة.. "إني اخترتك يا وطني.. حبّاً وطواعية. إني اخترتك يا وطني.. سراً وعلانية".
للصديق الشّاعر الذي تسلّق سُلّم السماء مناضلاً، "الفلسطيني الطيِّب"، المجد والخلود.. والسلام على روحه النبيلة.
***
فعلها الفلسطيني الطيِّب. هو لم يقصد ذلك بالتأكيد، لكنه فعلها. استعار مني "الأميّات" منذ زمن بعيد، قبل الحرب الإسرائيليّة على لبنان 1982، ومضى دون عودة!
كنتُ قد حصلتُ على "أُميّات نجيب سرور" من روائي مصري صديق، فحملتها من القاهرة إلى بيروت بنسختها النادرة المطبوعة على الآلة الكاتبة. قال لي الصديق الروائي المصري:
ـ سوف تسلِّيك في ليالي القصف، والضجر، وحروب الأخوة الأعداء، وستعينك على أن تضحك وتبكي.. وتشتم ببذاءة!
لكن الفلسطيني الطيِّب أخذها على سبيل الإستعارة، ثمّ مضى دون عودة.
كان يلحّ عليّ دائماً حتّى أكتب لمجلّة "الرصيف"، فأعتذر بلباقة غير مُقنَّعة وليست مُقنِعة، مدعياً أنني لست رصيفيّاً للأسف الشديد، فيؤكِّد أن في كلٍ منّا رصيفي بالفطرة، هاجع فينا، ما علينا إلاّ أن نستفزّه قليلاً حتّى نوقظه ونُطلق سراحه.
رغم إغواء فكرة الكتابة لمجلّة مشاغبة تقلق الغبار المقيم على عتبات المؤسسة، إلاّ أن وقاري المؤسسي، آنذك، حال دون ذلك. وكنوع من الحل، اقترحت أن أعيره "أميّات" نجيب سرور، بنسختها النادرة، لينشر ما تيسّر منها في رصيفه، حيث تجاوزت صفحات القصيدة/الديوان الخمسين صفحة. أبدى إعجابه بالفكرة، ثمّ انطلق منها إلى فكرة إصدار "كتاب الرصيف"، لتكون الأميّات باكورة النشر في المشروع.
لكن علي فودة ظلّ يجيء إليّ ضاحكاً ليقول:
ـ لقد ورّطني.. فالقصيدة أكثر من رصيفيّة، وهي أكثر جرأة وكسراً للتابوهات مما نحتمل. فماذا أفعل؟
فأجيبه بين جدّ ومزاح:
ـ لا أدري.. تحمّل مسؤولياتك الرصيفيّة!
غير أنه استجمع كلّ شجاعته ورصيفيته ونشر المقاطع الأكثر تهذيباً، بعد أن استبدل بعض الكلمات بالنقاط، في قصيدة أوغلت في التهتك السياسي بلغة فاحشة قبل أن يوغل كاتبها في الفصام الذهاني الذي امتصّ موهبته وبكّر في رحيله، وهو الذي قال فيها:
"باكتب يا عالم وانا عارف إني حاموت
في منفى ولاّ في زنزانة،
كلّه تابوت".
***
علي فودة، أيضاً، كان يعرف أنه سيموت، ربما كما مات تماماً، أو كما كان يرى دائماً موتاً يشبه موته، يترصّده بإصرار في زاوية من زوايا الزمن.
ديوانه الأوّل كان سيحمل عنوان "مزاريب الدم". كأنه كان يرى مستقبلاً ترسمه المجزرة، وهو الذي غادرنا قبل قليل من مذبحة صبرا وشاتيلا. ولمّا تندرنا طويلاً على دموية عنوان لا يليق بالشِّعر، استبدله بعنوان أقل دمويّة "فلسطيني كحدّ السيف".
صورته التي وضعها على غلاف ديوانه "الغجري"، أضاف إليها رصاصة تخترق عظام وجهه وتنفجر تحت عينه اليسرى. كأنه كان يرى نفسه قتيلاً بالرصاصة. لم يكن ذلك من قبيل الإحتفاء التراجيدي بالموت، وإنما أقرب إلى الرؤية، وهو الذي كتب ذات يوم: "فكِّروا في الإنتصار حتّى على الموت نفسه".
لكن علي لم ينتصر على الموت الذي بالغ بقدومه، فجاءه على هيئة قذيفة إسرائيليّة صيف 1982 سقطت على رصيف في محلّة القنطاري غرب بيروت، حيث كان يطبع جريدة "الرصيف".
وكما رأى صورته قتيلاً على ديوان شعر، فقد استيقظ ذات صباح، ليرى نفسه راقداً بجراحه في مستشفى الجامعة الأميركيّة. ورُوي أنه تناول صحف ذلك الصباح ليقرأ نعيه في مستهل الجريدة، وما كتبه زملاؤه عنه من مرثيّات اشترطتها عجالة الحصار والموت اليومي. ابتسم، ودون أن يدري أن الموت كان يستوطن جراحه الملوّثة التي تناثرت في أرجاء جسده.
غفا قليلاً على ابتسامته، ثمّ مضى حاملاً نصيبه من الخسارات، ولم يستيقظ أبداً...
***
لا أدري لماذا يطلّ علينا هذه الأيّام من رصيفه الذي هناك. يحدجنا بنظراته. نتعثّر في ليلنا بضحكته التي تتأبى على الغياب، نسأله:
ـ أين ذهبت بالأميّات يا علي؟
ألا تدري يا صديقنا الغجري أن لكل زمان جرحه وقصيدته، وأننا في هذا الزمان، بتنا أشد ما نكون بحاجة لأن نردد أبياتاً من الأميّات!؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "سيرة الظٍّل" 2008
للصديق الشّاعر الذي تسلّق سُلّم السماء مناضلاً، "الفلسطيني الطيِّب"، المجد والخلود.. والسلام على روحه النبيلة.
***
فعلها الفلسطيني الطيِّب. هو لم يقصد ذلك بالتأكيد، لكنه فعلها. استعار مني "الأميّات" منذ زمن بعيد، قبل الحرب الإسرائيليّة على لبنان 1982، ومضى دون عودة!
كنتُ قد حصلتُ على "أُميّات نجيب سرور" من روائي مصري صديق، فحملتها من القاهرة إلى بيروت بنسختها النادرة المطبوعة على الآلة الكاتبة. قال لي الصديق الروائي المصري:
ـ سوف تسلِّيك في ليالي القصف، والضجر، وحروب الأخوة الأعداء، وستعينك على أن تضحك وتبكي.. وتشتم ببذاءة!
لكن الفلسطيني الطيِّب أخذها على سبيل الإستعارة، ثمّ مضى دون عودة.
كان يلحّ عليّ دائماً حتّى أكتب لمجلّة "الرصيف"، فأعتذر بلباقة غير مُقنَّعة وليست مُقنِعة، مدعياً أنني لست رصيفيّاً للأسف الشديد، فيؤكِّد أن في كلٍ منّا رصيفي بالفطرة، هاجع فينا، ما علينا إلاّ أن نستفزّه قليلاً حتّى نوقظه ونُطلق سراحه.
رغم إغواء فكرة الكتابة لمجلّة مشاغبة تقلق الغبار المقيم على عتبات المؤسسة، إلاّ أن وقاري المؤسسي، آنذك، حال دون ذلك. وكنوع من الحل، اقترحت أن أعيره "أميّات" نجيب سرور، بنسختها النادرة، لينشر ما تيسّر منها في رصيفه، حيث تجاوزت صفحات القصيدة/الديوان الخمسين صفحة. أبدى إعجابه بالفكرة، ثمّ انطلق منها إلى فكرة إصدار "كتاب الرصيف"، لتكون الأميّات باكورة النشر في المشروع.
لكن علي فودة ظلّ يجيء إليّ ضاحكاً ليقول:
ـ لقد ورّطني.. فالقصيدة أكثر من رصيفيّة، وهي أكثر جرأة وكسراً للتابوهات مما نحتمل. فماذا أفعل؟
فأجيبه بين جدّ ومزاح:
ـ لا أدري.. تحمّل مسؤولياتك الرصيفيّة!
غير أنه استجمع كلّ شجاعته ورصيفيته ونشر المقاطع الأكثر تهذيباً، بعد أن استبدل بعض الكلمات بالنقاط، في قصيدة أوغلت في التهتك السياسي بلغة فاحشة قبل أن يوغل كاتبها في الفصام الذهاني الذي امتصّ موهبته وبكّر في رحيله، وهو الذي قال فيها:
"باكتب يا عالم وانا عارف إني حاموت
في منفى ولاّ في زنزانة،
كلّه تابوت".
***
علي فودة، أيضاً، كان يعرف أنه سيموت، ربما كما مات تماماً، أو كما كان يرى دائماً موتاً يشبه موته، يترصّده بإصرار في زاوية من زوايا الزمن.
ديوانه الأوّل كان سيحمل عنوان "مزاريب الدم". كأنه كان يرى مستقبلاً ترسمه المجزرة، وهو الذي غادرنا قبل قليل من مذبحة صبرا وشاتيلا. ولمّا تندرنا طويلاً على دموية عنوان لا يليق بالشِّعر، استبدله بعنوان أقل دمويّة "فلسطيني كحدّ السيف".
صورته التي وضعها على غلاف ديوانه "الغجري"، أضاف إليها رصاصة تخترق عظام وجهه وتنفجر تحت عينه اليسرى. كأنه كان يرى نفسه قتيلاً بالرصاصة. لم يكن ذلك من قبيل الإحتفاء التراجيدي بالموت، وإنما أقرب إلى الرؤية، وهو الذي كتب ذات يوم: "فكِّروا في الإنتصار حتّى على الموت نفسه".
لكن علي لم ينتصر على الموت الذي بالغ بقدومه، فجاءه على هيئة قذيفة إسرائيليّة صيف 1982 سقطت على رصيف في محلّة القنطاري غرب بيروت، حيث كان يطبع جريدة "الرصيف".
وكما رأى صورته قتيلاً على ديوان شعر، فقد استيقظ ذات صباح، ليرى نفسه راقداً بجراحه في مستشفى الجامعة الأميركيّة. ورُوي أنه تناول صحف ذلك الصباح ليقرأ نعيه في مستهل الجريدة، وما كتبه زملاؤه عنه من مرثيّات اشترطتها عجالة الحصار والموت اليومي. ابتسم، ودون أن يدري أن الموت كان يستوطن جراحه الملوّثة التي تناثرت في أرجاء جسده.
غفا قليلاً على ابتسامته، ثمّ مضى حاملاً نصيبه من الخسارات، ولم يستيقظ أبداً...
***
لا أدري لماذا يطلّ علينا هذه الأيّام من رصيفه الذي هناك. يحدجنا بنظراته. نتعثّر في ليلنا بضحكته التي تتأبى على الغياب، نسأله:
ـ أين ذهبت بالأميّات يا علي؟
ألا تدري يا صديقنا الغجري أن لكل زمان جرحه وقصيدته، وأننا في هذا الزمان، بتنا أشد ما نكون بحاجة لأن نردد أبياتاً من الأميّات!؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "سيرة الظٍّل" 2008