* ما زال أصدقاء وتلامذة الباحث والعالم اللغوي السوداني يستذكرونه بعد مرور أيام على رحيله. وننشر هنا موضوعا للدكتور عبد السلام الهراس، وآخر للدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري:
أربعة اعلام تناقلت الألسنة موتهم وهم لم يموتوا. أولهم: العلامة الكبير الدكتور محمد حميد الله الهندي، الذي عاش مدة طويلة من عمره في باريس استاذا جامعيا وباحثا كبيرا وداعية الى الاسلام بأسلوبه العلمي الرزين وسلوكه الجميل المتواضع ومما كان له احسن التأثير فيمن يتصل به ولو عن طريق الكتابة استجابته ومساعدته لكل من يسأله ومساعدته العلمية وأجوبته شفويا أو كتابة، لقد كان قدوة في تربية الآخرين عن طريق الكلمة الطيبة والفعل الحسن.
وهناك كتاب من القطع الصغير يجمع عناوين ابحاثه لو قسمت على أيامه لظهر لك العجيب في ما أوتي من بركة الوقت وفراغ البال وعظمة الجهد وتوافر الطاقة التي لا تكل ولا تمل ولا تنفد، وامتاز انتاجه العلمي بالاصالة والجدة والعمق والطرافة والعراقة واحيانا بعنصر الغرابة والمفاجأة مثل «المسجد الأقصى» و«افتتاح الأندلس على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه».
فقد نعي الرجل أكثر من مرة فلما سألنا بعض من كان له به اتصال أخبرونا انه لا يزال حيا في كنف اخيه بأميركا.. والى الآن لا ندري احياً هو أم ميتاً، وقد آثر ان يعيش غريبا بعيدا عن الاضواء، بل انه كان يعتذر عن ترشيحه للجوائز الكبرى، ويكره الأضواء. والجدير بالذكر انه من العلماء العزاب.. ولو كان أخونا وشيخنا العلامة المصلح القدوة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة حياً لاضافه الى كتابه «العلماء العزاب» فهو لا يقل في مكانته وعلمه وعقله وحصافته وآثاره الطيبة في الأمة وفي الآخرين عن أولئك.
ومما يجب ذكره ان المغاربة علماء وباحثين وطلابا استفادوا منه اثناء اتصالهم به أيام الطلب وبعده في باريس. ومن مكرمات الاستاذ الجليل محمد الفاسي انه فاز بنشر جزء من سيرة ابن اسحاق بالمغرب بتحقيق العلامة حميد الله.
أما الثاني فهو شيخي واحد الذين لهم فضل كبير عليّ في الطريق الى الله وفي الدعوة اليه: المهندس أبو عمر محمد الداعوق البيروتي فقد نعي اليّ أكثر من مرة ولكن من له علم بالرجل اخبروني انه لا يزال حيا ولكنه شبه ميت.. كان ذلك منذ سنتين.. وأخيرا اخبرت ان حالته لا تزال كذلك فهو غائب عن الوعي، وقد وصلني من بيروت الخبر اليقين عشية 22 يونيو (حزيران) 2003، انه والحمد لله لا يزال حيا ببيته بالشارقة، وأبو عمر الداعوق وان كانت شهرته لا تتعدى الشام القديم، لا سيما لبنان وبعض بلاد الخليج فإن الرجل لا يقل عن كبار افذاذنا المصلحين غير انه يجد على «فكرته» و«خطته» اعوانا بل فوجئ بنقض مشروعه من الداخل وصادف ذلك رجلا يكره الفتن فآثر الحياة في بعض بلاد الامارات التي اكرمته وفسحت له لينشر دعوته الحرة غير المرتبطة بجماعة أو تجمع، وان كانت جماعة عبد الرحمن التي أسسها وكنت من اعضائها العاملين الأوائل سنة 1954 لا تزال قائمة ونشيطة حسب مزاجها السلمي الهادئ الهادف.
أما الثالث فهو الداعية الجنوب افريقي الشيخ احمد ديدات الذي فتح بابا في الدعوة الى الاسلام، بل مدرسة من خلال دراسة التوراة والانجيل والمقارنة بينهما والقرآن الكريم ولا يُدّعى انه الوحيد الذي اطلع على التوراة والانجيل فهناك من له تخصص علمي كبير في التوراة أو في الانجيل أو فيهما معا، لكن الرجل دخل مع الآخرين غمار الحوار والمناظرة وليت هذه المدرسة تنمو ولكن تحاول ان تتجنب اسلوب الاستفزاز والاثارة التي تدفع الخصم ومن في صفه الى التحزب الباطل والتعصب على الاسلام بدافع الغضب والعواطف المجروحة فالرفق وجمال الأدب وذوق الجمال تكُونُ بإذن الله اجدى وأقوى «تأثيرا» في النفوس. وقد قيل مرارا انه توفي، ولكن سرعان ما يقع تصحيح الخبر بأنه لا يزال على قيد الحياة.
مثل ذلك وقع بالنسبة للدكتور الجليل عبد الله الطيب، فقد تضاربت الاخبار عن حياته وموته ومن حسن حظي اني التقيت بأخوة من السودان في مناسبات ندوات ومؤتمرات آخرها في دبي، حيث أكد لي احد علماء السودان بأن الرجل احسن حالا مما سبق وصاروا يتفاهمون معه بالكتابة ويفهمون عنه بالاشارة، وكان المشير عبد الرحمن سوار الذهب قد اخبرني ثلاث مرات بأن الدكتور عبد الله الطيب ما زال حياً يرزق والحمد لله، الى ان جاء الخبر اليقين المفجع.
وللدكتور عبد الله الطيب جوانب كثيرة فهو أديب كبير وباحث عظيم وناقد بصير ومفكر عميق ولغوي قدير ونحوي متبحر ومقرئ ومفسر ومؤرخ ومتضلع من الأدب الغربي المكتوب بالانجليزية.
وقد لفت الانظار اليه بنبوغه المبكر وهو من القلائل في عصرنا الحاضر من ألف كتابا لم يؤلف مثله في الأدب العربي الى الآن وهو في الثلاثين أو دونها وحسبه فخرا ان يشيد الدكتور طه حسين به وبكتابه.
يقول في تقديم «المرشد الى فهم اشعار العرب»:
«هذا كتاب ممتع الى ابعد غايات الامتاع لا اعرف ان مثله أتيح لنا في مثل العصر الحديث».
«ثم لم اكد اقرأ منه فصولا حتى رأيت الرضى عنه والاعجاب به يفرضان عليّ فرضا».
وقال عن الرجل: «واتقن الأدب العربي علما به وتصرفا فيه كأحسن ما يكون الاتقان» (المرشد الى فهم اشعار العرب/ صفحة 5).
ثم يعود للكتاب ليصفه بأنه: «طرفة أدبية نادرة حقا لن ينقضي الاعجاب بها والرضى عنها لمجرد الفراغ من قراءتها ولكنها ستترك في نفوس الذين سيقرؤونها آثارا باقية» ويرى «ان خير الآثار الأدبية عنده وعند كثير من الناس ما أثار القلق واغرى بالاستزادة من العلم ودفع الى المناقشة وحسن الاختيار» ووصف منهج الرجل بأنه «لاءم بين المنهج الدقيق للدراسة العلمية الأدبية وبين الحرية الحرة التي يصطنعها الشعراء والكُتَّاب».
ورأى ان «المؤلف أتقن درس قوافي الشعر واوزانه اتقان المجدد».
وهناك أوصاف كثيرة قلما ظفر بها مؤلف من طه حسين في باكورة عمله الأدبي، وقد رشح الدكتور طه الكتاب لجائزة الدولة المصرية. (المرشد الى فهم اشعار العرب/ صفحة 6 ـ 7).
إن ثقافة الدكتور الفقيد الواسعة وعلمه الغزير وحفظه لشعر العرب كله أو جله واستاذيته في العربية وتبحره في علوم القرآن، لا سيما القراءات واطلاعه الواسع على أدب الغرب واتقانه الانجليزية يرجع الفضل في ذلك كله الى منهج الخلاوى القرآنية اولا كما صرح بذلك مرارا والى نبوغه المتفجر منذ طفولته على التحصيل والقراءة وقدرته على استيعاب ما يقرأ، وكان يتجدد كل يوم لأنه لا يعرف الوقوف ولا الجمود فهو كثير القراءة والتتبع والسعي وراء الفائدة أنى وجدها.. ولا يُقارن في العصر الحاضر إلا بشيخنا محمود شاكر رحمه الله وقد كان بينهما من المحبة والود ما يقل نظيره بعد ان نزغ الشيطان بينهما برهة من الزمن لكن سرعان ما استحالت زادا قويا لتوثيق العرى بينهما.
وقد شاء الله ان يكون من المؤسسين للدراسة الجامعية في نيجيريا «كانو»، وله فيها وعنها ذكريات جديرة بالكتابة والاستمتاع.. وكان هناك ينازع العنصر الانجليزي المتآمر على العنصر الاسلامي والعربي في مناهج تلك الجامعة وكم كان يتألم إذ يرى انهم يجدون مطايا لمؤامراتهم من ذوي جلدتنا ولساننا!
كما شاء الله ان ينتقل الى المغرب وبالذات الى فاس التي يقول عنها اخواننا السودانيون اشادة بها واعجابا بأهلها: «فاس! يا ما وَرَاها ناس». فكثيرا ما كان الدكتور صالح سوار الذهب (وهو عم الرئيس العظيم الزاهد عبد الرحمن سوار الذهب) يردد هذه الجملة أمامنا.
ولقد رغبه في الالتحاق بنا بفاس أخونا الدكتور عباس الجراري الذي اضطلع بمهمة التقاعد مع اساتذة جامعيين بالمشرق العربي للتدريس بالمغرب.. فقد اتصل به سنة 1973 ورغبه في العمل بالمغرب وصادف ميلا منه للاستجابة وقال له: «سألتحق بكم ان شاء الله عند انتهائي من مهمتي مديرا للجامعة بعد نحو سنة».. وفي السنة الجامعية 74 ـ 75 زارني الدكتور الراحل عبد اللطيف السعداني بصحبة الدكتور عبد الله الطيب يبشرني بالتحاقه بقسم اللغة العربية وآدابها التي كنت آنذاك رئيسها.. وكان ترحابي بشيخنا الجليل يليق بمقامه ومن هنا تبدأ علاقة الرجل بالمغرب.. وان كنا عرفناه سابقا في مهرجان «ابن زيدون». وقد اسندنا اليه التدريس في كل من قسم الأدب العربي وقسم الأدب الانجليزي، حيث كان يُدَرسُ اللغة العربية والثقافة الاسلامية، وتركناه يختار المادة والمقرر والجدول الزمني مع حريته في التغيير ان شاء متى شاء فهذه جامعته وكليته وقسمه يتصرف وفق ما يراه ملائما له.. ثم اسندنا اليه التدريس في الدراسات العليا، والاشراف على الرسائل العلمية الجامعية والاشتراك في المناقشات، وقد انطلق الرجل في نشاط كبير ومتواصل من دون كلل أو ملل أو شكوى ولم يكن عمله مقتصرا في المدرجات والفصول وانما كان بيته لا يخلو من زيارة باحث استاذا أو طالبا أو مستفيدا وأحيانا يمتلئ بيته بمختلف الزوار من أهل العلم والأدب.. كما ان نشاطه العلمي امتد الى جميع جامعات المغرب، بل الى مدن أخرى لم تكن بها جامعات، يستجيب الى دعوات جمعيات ثقافية وأدبية بها، كما انه كان كثير الاسفار الى خارج المغرب لحضور الملتقيات والمؤتمرات والاجتماعات من دون اخلاله بواجباته التي تشهد انها كانت اكثر مما يُطلب منه اضافة الى حضوره العلمي الكبير في مباريات الالتحاق بهيئة التدريس بالجامعة أو بسلك تكوين اساتذة الجامعة، أما اشرافه على الرسائل العلمية فكانت فرصة عظيمة لاعداد الباحثين وتوجيههم.
ومن ألمع من تخرج به: الدكتور حسن الأمراني، الباحث الشاعر ورئيس قسم اللغة العربية بوجدة، والدكتور محمد الدناي الذي لازم شيخه عبد الله الطيب ونال من علمه حظا وافرا وغير هؤلاء وكان في مناقشته مثال العالم المربي الحكيم وكانت جلساته اثناء مناقشة الرسائل العلمية من أعظم الحلقات التي يستفيد فيها طلاب العلم على اختلاف مستوياتهم بمن فيهم الاساتذة.
وكان الدكتور عبد الله الطيب من القلائل الذين يُدعون دائما الى حضور الدروس الحسنية الرمضانية التي تقام في القصر الملكي وقد القى بعض المحاضرات أمام الملك الحسن الثاني رحمه الله. ولا ينسى العلماء وأهل الأدب والفكر أول دروسه في موضوع «القصص القرآني» وكان درسا رائعا وفذا ومثيرا للاعجاب، ومما لا يعلمه الكثيرون ان الرجل طولِبَ بالقاء الدرس في هذا الموضوع بالذات وحُدِدَ له موعد القائه بعد يومين فقط فقبل الدكتور عبد الله هذا الطلب الذي كان في الحقيقة تحديا وامتحانا له وطلب من وزير الاوقاف والشؤون الاسلامية السابق الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري ان يزوده بتفسير الطبري فقط ولم يطلب مصادر أو مراجع مختصة.. فقد اعتمد بعد الله على مخزونه العلمي الثري والمتنوع، فلما القى الدرس كان آية من آيات الله.. وأمثال الدكتور الطيب يبدعون ويبرزون في مواقف التحدي والاستثارة والاستفزاز، وقد شاهدتُ ذلك منه في مثل هذه المواقف ما قد نتناوله في مناسبة قادمة ان شاء الله. وهذا يذكرني بابداع علماء وأدباء واجهوا مثل ما واجه الدكتور الطيب عن حسن نية كما وقع له هنا أو عن سوئها كما يروى في كثير من الاخبار أو تصديا لما يعتقدون انه انحراف وجهل وخطأ أو دسيسة يراد اشاعتها في الاوساط لمحاربة الحقائق وتهديمها ومن ابرز من كان ينبري لرد التحدي ومواجهة التضليل العلمي الأدبي شيخنا محمود شاكر الذي كان والدكتور عبد الله الطيب كفرسي رهان في ميدان الأدب الاصيل والصحيح وفي خوض معارك يرون وجوب المجاهدة فيها.. واعرف بعضها عن الدكتور الطيب كان فيها نعم الفارس المبارز!
إن امثال الدكتور عبد الله الطيب لا يجود الزمن بهم إلا مرة أو مرتين في القرن لأنه احد كبار المجددين والمؤصلين في ميدان الأدب.. وبموت الرجل تفقد العروبة احد كبار اعلامها، ومن حسن حظ المغرب انه شارك السودان في علم هذا الرجل وفضله، وكاد المغرب يستأثر به من دون السودان لولا انه تدارك المسؤولون الجدد فيه خطأ من سبقهم فأحلوا الرجل مكانته السامية التي تليق به في بلده السودان وآخر ذلك ان يتولى رئيس الجمهورية السودانية عمر البشير نعي الدكتور عبد الله الطيب في بيان اذيع ونشر، كما خصصت الفضائية والاذاعة السودانية يوما خاصا بالرجل الذي لا ينساه المغرب وسيشارك السودان في دراسة آثاره والتعريف بها للأجيال الحاضرة والمستقبلية.
أربعة اعلام تناقلت الألسنة موتهم وهم لم يموتوا. أولهم: العلامة الكبير الدكتور محمد حميد الله الهندي، الذي عاش مدة طويلة من عمره في باريس استاذا جامعيا وباحثا كبيرا وداعية الى الاسلام بأسلوبه العلمي الرزين وسلوكه الجميل المتواضع ومما كان له احسن التأثير فيمن يتصل به ولو عن طريق الكتابة استجابته ومساعدته لكل من يسأله ومساعدته العلمية وأجوبته شفويا أو كتابة، لقد كان قدوة في تربية الآخرين عن طريق الكلمة الطيبة والفعل الحسن.
وهناك كتاب من القطع الصغير يجمع عناوين ابحاثه لو قسمت على أيامه لظهر لك العجيب في ما أوتي من بركة الوقت وفراغ البال وعظمة الجهد وتوافر الطاقة التي لا تكل ولا تمل ولا تنفد، وامتاز انتاجه العلمي بالاصالة والجدة والعمق والطرافة والعراقة واحيانا بعنصر الغرابة والمفاجأة مثل «المسجد الأقصى» و«افتتاح الأندلس على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه».
فقد نعي الرجل أكثر من مرة فلما سألنا بعض من كان له به اتصال أخبرونا انه لا يزال حيا في كنف اخيه بأميركا.. والى الآن لا ندري احياً هو أم ميتاً، وقد آثر ان يعيش غريبا بعيدا عن الاضواء، بل انه كان يعتذر عن ترشيحه للجوائز الكبرى، ويكره الأضواء. والجدير بالذكر انه من العلماء العزاب.. ولو كان أخونا وشيخنا العلامة المصلح القدوة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة حياً لاضافه الى كتابه «العلماء العزاب» فهو لا يقل في مكانته وعلمه وعقله وحصافته وآثاره الطيبة في الأمة وفي الآخرين عن أولئك.
ومما يجب ذكره ان المغاربة علماء وباحثين وطلابا استفادوا منه اثناء اتصالهم به أيام الطلب وبعده في باريس. ومن مكرمات الاستاذ الجليل محمد الفاسي انه فاز بنشر جزء من سيرة ابن اسحاق بالمغرب بتحقيق العلامة حميد الله.
أما الثاني فهو شيخي واحد الذين لهم فضل كبير عليّ في الطريق الى الله وفي الدعوة اليه: المهندس أبو عمر محمد الداعوق البيروتي فقد نعي اليّ أكثر من مرة ولكن من له علم بالرجل اخبروني انه لا يزال حيا ولكنه شبه ميت.. كان ذلك منذ سنتين.. وأخيرا اخبرت ان حالته لا تزال كذلك فهو غائب عن الوعي، وقد وصلني من بيروت الخبر اليقين عشية 22 يونيو (حزيران) 2003، انه والحمد لله لا يزال حيا ببيته بالشارقة، وأبو عمر الداعوق وان كانت شهرته لا تتعدى الشام القديم، لا سيما لبنان وبعض بلاد الخليج فإن الرجل لا يقل عن كبار افذاذنا المصلحين غير انه يجد على «فكرته» و«خطته» اعوانا بل فوجئ بنقض مشروعه من الداخل وصادف ذلك رجلا يكره الفتن فآثر الحياة في بعض بلاد الامارات التي اكرمته وفسحت له لينشر دعوته الحرة غير المرتبطة بجماعة أو تجمع، وان كانت جماعة عبد الرحمن التي أسسها وكنت من اعضائها العاملين الأوائل سنة 1954 لا تزال قائمة ونشيطة حسب مزاجها السلمي الهادئ الهادف.
أما الثالث فهو الداعية الجنوب افريقي الشيخ احمد ديدات الذي فتح بابا في الدعوة الى الاسلام، بل مدرسة من خلال دراسة التوراة والانجيل والمقارنة بينهما والقرآن الكريم ولا يُدّعى انه الوحيد الذي اطلع على التوراة والانجيل فهناك من له تخصص علمي كبير في التوراة أو في الانجيل أو فيهما معا، لكن الرجل دخل مع الآخرين غمار الحوار والمناظرة وليت هذه المدرسة تنمو ولكن تحاول ان تتجنب اسلوب الاستفزاز والاثارة التي تدفع الخصم ومن في صفه الى التحزب الباطل والتعصب على الاسلام بدافع الغضب والعواطف المجروحة فالرفق وجمال الأدب وذوق الجمال تكُونُ بإذن الله اجدى وأقوى «تأثيرا» في النفوس. وقد قيل مرارا انه توفي، ولكن سرعان ما يقع تصحيح الخبر بأنه لا يزال على قيد الحياة.
مثل ذلك وقع بالنسبة للدكتور الجليل عبد الله الطيب، فقد تضاربت الاخبار عن حياته وموته ومن حسن حظي اني التقيت بأخوة من السودان في مناسبات ندوات ومؤتمرات آخرها في دبي، حيث أكد لي احد علماء السودان بأن الرجل احسن حالا مما سبق وصاروا يتفاهمون معه بالكتابة ويفهمون عنه بالاشارة، وكان المشير عبد الرحمن سوار الذهب قد اخبرني ثلاث مرات بأن الدكتور عبد الله الطيب ما زال حياً يرزق والحمد لله، الى ان جاء الخبر اليقين المفجع.
وللدكتور عبد الله الطيب جوانب كثيرة فهو أديب كبير وباحث عظيم وناقد بصير ومفكر عميق ولغوي قدير ونحوي متبحر ومقرئ ومفسر ومؤرخ ومتضلع من الأدب الغربي المكتوب بالانجليزية.
وقد لفت الانظار اليه بنبوغه المبكر وهو من القلائل في عصرنا الحاضر من ألف كتابا لم يؤلف مثله في الأدب العربي الى الآن وهو في الثلاثين أو دونها وحسبه فخرا ان يشيد الدكتور طه حسين به وبكتابه.
يقول في تقديم «المرشد الى فهم اشعار العرب»:
«هذا كتاب ممتع الى ابعد غايات الامتاع لا اعرف ان مثله أتيح لنا في مثل العصر الحديث».
«ثم لم اكد اقرأ منه فصولا حتى رأيت الرضى عنه والاعجاب به يفرضان عليّ فرضا».
وقال عن الرجل: «واتقن الأدب العربي علما به وتصرفا فيه كأحسن ما يكون الاتقان» (المرشد الى فهم اشعار العرب/ صفحة 5).
ثم يعود للكتاب ليصفه بأنه: «طرفة أدبية نادرة حقا لن ينقضي الاعجاب بها والرضى عنها لمجرد الفراغ من قراءتها ولكنها ستترك في نفوس الذين سيقرؤونها آثارا باقية» ويرى «ان خير الآثار الأدبية عنده وعند كثير من الناس ما أثار القلق واغرى بالاستزادة من العلم ودفع الى المناقشة وحسن الاختيار» ووصف منهج الرجل بأنه «لاءم بين المنهج الدقيق للدراسة العلمية الأدبية وبين الحرية الحرة التي يصطنعها الشعراء والكُتَّاب».
ورأى ان «المؤلف أتقن درس قوافي الشعر واوزانه اتقان المجدد».
وهناك أوصاف كثيرة قلما ظفر بها مؤلف من طه حسين في باكورة عمله الأدبي، وقد رشح الدكتور طه الكتاب لجائزة الدولة المصرية. (المرشد الى فهم اشعار العرب/ صفحة 6 ـ 7).
إن ثقافة الدكتور الفقيد الواسعة وعلمه الغزير وحفظه لشعر العرب كله أو جله واستاذيته في العربية وتبحره في علوم القرآن، لا سيما القراءات واطلاعه الواسع على أدب الغرب واتقانه الانجليزية يرجع الفضل في ذلك كله الى منهج الخلاوى القرآنية اولا كما صرح بذلك مرارا والى نبوغه المتفجر منذ طفولته على التحصيل والقراءة وقدرته على استيعاب ما يقرأ، وكان يتجدد كل يوم لأنه لا يعرف الوقوف ولا الجمود فهو كثير القراءة والتتبع والسعي وراء الفائدة أنى وجدها.. ولا يُقارن في العصر الحاضر إلا بشيخنا محمود شاكر رحمه الله وقد كان بينهما من المحبة والود ما يقل نظيره بعد ان نزغ الشيطان بينهما برهة من الزمن لكن سرعان ما استحالت زادا قويا لتوثيق العرى بينهما.
وقد شاء الله ان يكون من المؤسسين للدراسة الجامعية في نيجيريا «كانو»، وله فيها وعنها ذكريات جديرة بالكتابة والاستمتاع.. وكان هناك ينازع العنصر الانجليزي المتآمر على العنصر الاسلامي والعربي في مناهج تلك الجامعة وكم كان يتألم إذ يرى انهم يجدون مطايا لمؤامراتهم من ذوي جلدتنا ولساننا!
كما شاء الله ان ينتقل الى المغرب وبالذات الى فاس التي يقول عنها اخواننا السودانيون اشادة بها واعجابا بأهلها: «فاس! يا ما وَرَاها ناس». فكثيرا ما كان الدكتور صالح سوار الذهب (وهو عم الرئيس العظيم الزاهد عبد الرحمن سوار الذهب) يردد هذه الجملة أمامنا.
ولقد رغبه في الالتحاق بنا بفاس أخونا الدكتور عباس الجراري الذي اضطلع بمهمة التقاعد مع اساتذة جامعيين بالمشرق العربي للتدريس بالمغرب.. فقد اتصل به سنة 1973 ورغبه في العمل بالمغرب وصادف ميلا منه للاستجابة وقال له: «سألتحق بكم ان شاء الله عند انتهائي من مهمتي مديرا للجامعة بعد نحو سنة».. وفي السنة الجامعية 74 ـ 75 زارني الدكتور الراحل عبد اللطيف السعداني بصحبة الدكتور عبد الله الطيب يبشرني بالتحاقه بقسم اللغة العربية وآدابها التي كنت آنذاك رئيسها.. وكان ترحابي بشيخنا الجليل يليق بمقامه ومن هنا تبدأ علاقة الرجل بالمغرب.. وان كنا عرفناه سابقا في مهرجان «ابن زيدون». وقد اسندنا اليه التدريس في كل من قسم الأدب العربي وقسم الأدب الانجليزي، حيث كان يُدَرسُ اللغة العربية والثقافة الاسلامية، وتركناه يختار المادة والمقرر والجدول الزمني مع حريته في التغيير ان شاء متى شاء فهذه جامعته وكليته وقسمه يتصرف وفق ما يراه ملائما له.. ثم اسندنا اليه التدريس في الدراسات العليا، والاشراف على الرسائل العلمية الجامعية والاشتراك في المناقشات، وقد انطلق الرجل في نشاط كبير ومتواصل من دون كلل أو ملل أو شكوى ولم يكن عمله مقتصرا في المدرجات والفصول وانما كان بيته لا يخلو من زيارة باحث استاذا أو طالبا أو مستفيدا وأحيانا يمتلئ بيته بمختلف الزوار من أهل العلم والأدب.. كما ان نشاطه العلمي امتد الى جميع جامعات المغرب، بل الى مدن أخرى لم تكن بها جامعات، يستجيب الى دعوات جمعيات ثقافية وأدبية بها، كما انه كان كثير الاسفار الى خارج المغرب لحضور الملتقيات والمؤتمرات والاجتماعات من دون اخلاله بواجباته التي تشهد انها كانت اكثر مما يُطلب منه اضافة الى حضوره العلمي الكبير في مباريات الالتحاق بهيئة التدريس بالجامعة أو بسلك تكوين اساتذة الجامعة، أما اشرافه على الرسائل العلمية فكانت فرصة عظيمة لاعداد الباحثين وتوجيههم.
ومن ألمع من تخرج به: الدكتور حسن الأمراني، الباحث الشاعر ورئيس قسم اللغة العربية بوجدة، والدكتور محمد الدناي الذي لازم شيخه عبد الله الطيب ونال من علمه حظا وافرا وغير هؤلاء وكان في مناقشته مثال العالم المربي الحكيم وكانت جلساته اثناء مناقشة الرسائل العلمية من أعظم الحلقات التي يستفيد فيها طلاب العلم على اختلاف مستوياتهم بمن فيهم الاساتذة.
وكان الدكتور عبد الله الطيب من القلائل الذين يُدعون دائما الى حضور الدروس الحسنية الرمضانية التي تقام في القصر الملكي وقد القى بعض المحاضرات أمام الملك الحسن الثاني رحمه الله. ولا ينسى العلماء وأهل الأدب والفكر أول دروسه في موضوع «القصص القرآني» وكان درسا رائعا وفذا ومثيرا للاعجاب، ومما لا يعلمه الكثيرون ان الرجل طولِبَ بالقاء الدرس في هذا الموضوع بالذات وحُدِدَ له موعد القائه بعد يومين فقط فقبل الدكتور عبد الله هذا الطلب الذي كان في الحقيقة تحديا وامتحانا له وطلب من وزير الاوقاف والشؤون الاسلامية السابق الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري ان يزوده بتفسير الطبري فقط ولم يطلب مصادر أو مراجع مختصة.. فقد اعتمد بعد الله على مخزونه العلمي الثري والمتنوع، فلما القى الدرس كان آية من آيات الله.. وأمثال الدكتور الطيب يبدعون ويبرزون في مواقف التحدي والاستثارة والاستفزاز، وقد شاهدتُ ذلك منه في مثل هذه المواقف ما قد نتناوله في مناسبة قادمة ان شاء الله. وهذا يذكرني بابداع علماء وأدباء واجهوا مثل ما واجه الدكتور الطيب عن حسن نية كما وقع له هنا أو عن سوئها كما يروى في كثير من الاخبار أو تصديا لما يعتقدون انه انحراف وجهل وخطأ أو دسيسة يراد اشاعتها في الاوساط لمحاربة الحقائق وتهديمها ومن ابرز من كان ينبري لرد التحدي ومواجهة التضليل العلمي الأدبي شيخنا محمود شاكر الذي كان والدكتور عبد الله الطيب كفرسي رهان في ميدان الأدب الاصيل والصحيح وفي خوض معارك يرون وجوب المجاهدة فيها.. واعرف بعضها عن الدكتور الطيب كان فيها نعم الفارس المبارز!
إن امثال الدكتور عبد الله الطيب لا يجود الزمن بهم إلا مرة أو مرتين في القرن لأنه احد كبار المجددين والمؤصلين في ميدان الأدب.. وبموت الرجل تفقد العروبة احد كبار اعلامها، ومن حسن حظ المغرب انه شارك السودان في علم هذا الرجل وفضله، وكاد المغرب يستأثر به من دون السودان لولا انه تدارك المسؤولون الجدد فيه خطأ من سبقهم فأحلوا الرجل مكانته السامية التي تليق به في بلده السودان وآخر ذلك ان يتولى رئيس الجمهورية السودانية عمر البشير نعي الدكتور عبد الله الطيب في بيان اذيع ونشر، كما خصصت الفضائية والاذاعة السودانية يوما خاصا بالرجل الذي لا ينساه المغرب وسيشارك السودان في دراسة آثاره والتعريف بها للأجيال الحاضرة والمستقبلية.