أمل الكردفاني- رجل يحتضر- قصة

إذا كنت أحتضر..نعم لا بد أنني أحتضر..ولكن ..إذا كنت أحتضر ..ماذا؟ نعم.. إنني فشلت في كل شيء..وإذا كانت حياتي كومة من الفشل فلا أقل مِن.. مِن..؟.. من ماذا؟.. نعم..من أن.. أن أنجح في الموت بلا ألم.. وإذا كان الإحتضار حتماً ألم؛ فهذا يعني أنني فشلت بلا شك في ذلك..يمكنني أن أقول أنني ناجح في الفشل، هكذا قالت تلك الفتاة النحيلة وهي تخاطبنا..قالت ذلك على المسرح وهي تلقننا كلمات رائعة..لقد دفعت مبلغاً طائلاً لكي أشاهدها..إنها أعظم مدربة تنمية بشرية..الكوتشة كما يسمونها..كوتشة؟! هة؟!..إنني أشعر بضيق في التنفس..لقد قالت الطبيبة المنحوسة بأنني لن أكمل هذه السنة..لقد شعرت بالخوف لثانية واحدة فقط ثم تلقيت الخبر بارتياح شديد..ببساطة قمت بمراجعة تاريخ حياتي منذ الولادة وحتى اليوم..حيث أعيش مع والدتي الطاعنة في السن..لقد صنفوني كمعاق نفسجسمي..أول مرة اسمع بذلك الوصف..أدويتي وحدها تبتلع معاش أمي كله..أدوية السيكزوفرينيا والإكتآب ودواء السكري والقلب والضغط..ورغم كل ذلك فوزني يبلغ مائتين وثمانية أرطال..في الحقيقة هو وزن بطني فقط..فسيقاني نحيلة وقبيحة..إن بطني أجمل قطعة في جسدي..فرقبتي نحيلة بدورها ومجعدة وكيعاني مدببة غليظة..سُلامى أصابعي ضخمة..حوضي عريض وغير متناسق..أنفي مفلطح وشعري مجعد..في الحقيقة لا يوجد شعر يذكر..لقد سقط عندما سمعت بوفاة والدي في حادث سقوط طائرة ثم تبقت شعيرات قليلة سقطت بدورها عندما مات أشقائي الثلاثة غرقاً.. واحداً بعد الآخر..لكن "فتوح" لم يمت غرقاً لقد قتله ابن الجيران طعناً بالسكين..نفذت السكين الحادة داخل جمجمته كما لو كانت جمجمته زبدة طازجة.. لم يبق لي سوى أمي..أمي الطاعنة في السن..لكنها لا تعاني معي كثيراً..بل يبدو أنها مستمتعة بمراعاتي..تحمل أواني التغوط والبول من تحت سريري باستمرار وتغسلها ثم تعيدها وتضعها تحت الفتحة بدقة تحسد عليها.. أناً أيضاً لم أعد أتألم كما في السابق..لقد تعلمت كيف أعيش كشجرة ذابلة..حينما يأتي عيد ميلادي أشعر بالحزن على نفسي..كان زوفا يقول بأن النساء يحببن ذلك الشعور..أي الشعور بالحزن والأسى على أنفسهن..لقد قتل بكلامه هذا متعتي الوحيدة في الحزن والأسى على نفسي..كانت تلك المتعة تسرق زمني..تشغل عقلي عن التفكير في المستحيل..المستحيل المتمثل في بلوغ الشفاء..كانت أمي تنظر نحوي وتقول: أنت في التاسعة والعشرين الآن.. كانت تقول قبلها أنني في الثامنة والعشرين وأنني في السادسة والعشرين وهكذا لمدة أربعة عشر عاماً مضت..كانت تقول ذلك وتمسح بطني بيدها الدافئة وتقول وابتسامة واسعة تشبع شفتيها:
- يجب أن تتزوج الآن.. حان الوقت..
ولم أكن أفهم إذا ما كانت قد أصيبت بلوثة في عقلها أم أن هناك ملاكاً تجلى لها وأخبرها بقدوم المعجزة المقدسة..لم أفهم حتى الآن ماذا كانت تقصد..أو.. فلأقل بماذا كانت تشعر حين تقول ذلك..مع ذلك، وعلى نحو ما..وبشكل عجيب..كان كلامها ذلك يخفف عني..فأبتسم..كان ذلك يسريني حتى اختفت تماماً منذ ثمانية أيام..لا اعرف أين اختفت..هل تزوجت وتركتني؟.. كنت أشم رائحة جثتها تزحف من تحت باب غرفتي..وكنت أبكي مستمتعاً بحضورها إليَّ كل يوم.. غير أن رائحتها نفسها اختفت منذ يومين..والآن أنا راقد هنا..أحاول النجاح في شيء ما..شيء ما..حاولت مراراً قلب جثتي على جنبها لكنني فشلت..إن وزن شحومي أكبر من حبال عضلاتي..وزادني وهناً عدم الأكل أو الشرب خلال الثمانية أيام الماضية..مع ذلك..فقد فقدت رغبتي في الأكل..كنت أتضور جوعاً وعطشاً..وكنت أشعر بالرعب..أتذكر أن زوفا أعطاني آخر سجارة قبل بضع سنوات..آخر مرة ألتقي فيها بزميل المدرسة..عندما تفقد المال يهجرك الناس..كان وجود أنثى ليغير من كل شيء ..أخت لطيفة جميلة يتوارد إليها الخطاب والمعجبون فيملأون منزلنا بحضورهم وهداياهم..بتملقهم لي كأخ متزمت يحافظ على أخته ويتشاجر من أجل حمايتها..كانوا سيكونون حذرين معي جداً..خاصة مع حجمي الضخم هذا..هل كنت سأضربهم؟ لا أعتقد فهم لن يصلوا إلى تلك المرحلة..في الحقيقة كانوا سيتملقونني باستمرار..سيحترمونني ويحترمون أمي..كانت حياتنا ستتغير تماماً، فعشرات منهم كانوا سيعرضون نقلي إلى المستشفى لتلقي العلاج..صحيح أن الحياة مصالح وأن القيم الأخلاقية نفسها يجب أن تصب في تحقيق المصالح وإلا لفظناها، ولكن حتى هذا كان سيعطي حياتنا قليلاً من الطعم..قواعد الأخلاق والمجاملات لم تعد قوية كقواعد القانون..والقانون نفسه لم يعد كما كان في السابق..أضحت النزعة النفعية غالبة في كل شيء..كرجل يحتضر أو فلأقل كشبه رجل يحتضر..فإن ذلك ليس بالشيء الخطير..أعتقد أن نجاحي الأكبر هو أنني تخطيت مرحلة الحياة بثبات وصبر..رغم تأخر النتيجة النهائية ..هناك عصف باكٍ خلف النافذة..عصفٌ وصراخ..لا ليس صراخاً.. إنه رعد..هل نحن في موسم الخريف؟ غريب؟..لم يكن هذا هو موسم الخريف..أنا احسب الأيام والشهور بدقة..فإنني يقظ دائماً..يقظ..لا.. لقد نمت..نمت كثيراً.. نمت أكثر مما ينام الفيل..وهل الفيل ينام؟.. لا أعرف..لكن الأمر سيان..إن الزمن في نهاية الأمر مجرد افتراض ذهني..هكذا قال زوفا..في ذلك الوقت لم أفهمه..لكنني الآن أفهمه..استطيع اعتبار اليوم سنة أو ثانية..وأبني كل توقعاتي على ذلك الأساس..لكنني في نهاية المطاف لا أستطيع إلغاء افتراض الزمن كلية..إنني أفشل في التنفس..بل أفشل حتى في تحريك ذراعيَّ لأمسح على بطني بيد دافئة كما كانت تفعل أمي..لا شيء أكثر عبثية من هذا..قال زوفا وهو يقرأ مالون..كان يرفع عينيه ويرمقني بحيرة: - أنت مالون؟!..
فأجيبه:
- أنا البشر كلهم.. إنها مسألة وعي فقط..
فيغمغم:
- ليس هناك من شيء أكثر عبثية من هذا..
ثم يحمل كتابه وينهض ببطء.. زوفا نفسه طعن في السن فجأة..شاب شعره وارتدى نظارة طبية وفقد اهتمامه بهندامه..قال بأنه طلق زوجته..ولمحت في عينيه كلاماً آخر.. لقد هجرته وغالباً بسبب ضعفه الجنسي..لا أعرف..أنا أتخيل ذلك..لكنه غير مستبعد..إنها الآن.. إنها الآن بحسابات البشر خارج الغرفة ثمانون عاماً.. أليس كذلك؟!!.. وبحساباتي ثمان سنوات..أيهما أدق..لحيتي التي تجرح صدري لا تعطني معياراً معقولاً.. لكنني سمعت صوت قصف جوي..وقصف بالدبابات..وإطلاق نار طوال ثلاثمائة وخمس وستين يوماً..سنة كاملة؟ لا.. بل أكثر..المبنى الذي كان يقف في مواجهة نافذتي اختفي..كانت تقف على شرفته أسرة شابة..شاب وشابة وطفلهما..هل هربا أم قُتلا..أتذكر أن خمسة جنود دخلوا غرفتي..نظرو لي ثم نظروا إلى بعضهم بصمت..أخرج احدهم قطعة بسكوت ومدها نحو فمي فامتنعت عن الأكل.. لم أعد محتاجاً للأكل..وعليَّ أن أحافظ على هذه الميزة..قضمة واحدة وسأعود للتضور جوعاً..أحيانا أشعر بحياة في ذلك الجزء الاسفنجي..إذ تغمره الدماء فيتمدد لبرهة..ثم يرتمي ميتاً..كانت ستهجرني مثل زوفا..اختفت أصوات القصف وإطلاق الرصاص وحلت أصوات الغربان..ومات شيء في المدينة..المدينة؟! وهل هي مدينة؟ لا أعرف..فلا أملك معياراً للتمييز بين المدن والقرى..في يوم ما سمعت صوت مذياع..نعم..مؤكد أنه كان مذياعاً..في طفولتي كنت أختبئ بين المساند المطاطية مختبئاً في الظلام..كنت أحب الظلام والضيق ولم أعرف أنني كنت أتنبأ بقدري.. لكن ما المانع؟ أليس البشر يفعلون ذلك؟..منذ عصر الكهوف وحتى عصر الشقق والكرفانات..يكرهون الظلام..لكنهم في الواقع يخرجون في الظلام..ليس مهماً.. لكن المهم أن أنجح في الموت بلا ألم..لقد..لقد نجحت..عليَّ أن أواصل ثرثرتي المستمرة منذ ثمان سنوات لكي لا أفكر في الألم..إنني أنجح بقوة..النجاح الوحيد ولكنه الأهم.. أليس كذلك؟

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...