خمسة عشر عاماً من الصمت. رضيَ الإثنان بهذا الوضع. في الصباح يجد ورقة عليها إحتياجات المنزل. فيخرج ليعود بها. ثم يغادر إلى عمله. يقول كلاهما لنفسه أن هذا أفضل من أجل الأطفال. الأطفال كبروا. وتزوجوا. وغادروا أيضاً. ثم غادر كلاهما الحياة أيضاً. وقد تساءلت، هل كان سيختلف شيء لو كانا قد تكلما؟
تبدو حياة الواجب كئيبة، واجب العمل، وواجب تحمل مسؤولية لا تضيف لحياتنا معنى.
كنا نقرفص خلف المسجد لنتسول، ويقول صديقي مقطوع الرجل:
- لماذا ترتدي معطفاً في عز الحر؟
وقد حرت جواباً، هذا المعطف له ذكريات، كدت أن أقول له ذلك، غير أني فضلت الصمت. فأضاف:
- نحن عاطلين عن أي موهبة سوى التسول؟
قلت معترضاً:
- لستُ عاطلاً..أما أنت فعديم الموهبة..
فرك أسنانه المتسخة بلسانه وبصق وهو يقول:
- أنا شاعر مفوه. ولو كنت أكملت المدرسة لكنت شاعر الدولة..
- هل سيختلف شيء..لا أعتقد..
سرح في السماء وقال:
- أنا أقول شعراً ولكن بغير كلمات..
نظرت إليه مستفهماً فأجاب:
- هكذا.. أشعر.. أشعر.. وعندما أشعر فأنا شاعر..
- عندما تشعر فأنت شاعر.. طيب..
ثم غصت في معطفي وقلت:
- لماذا لم تتزوج السنينة؟
ضحك وقد غمر الخجل خديه الجافين:
- السنينة أحبت متسولاً آخر..
قلت:
- ما أعلمه أن السنينة لم تتزوج؟
قال:
- السنينة أحبت شاكوم..
قلت:
- شاكوم مات منذ سبع سنوات؟
- ولذلك لم تتزوج..قالت أن قلبها داخل قبره..
قلت بغضب غير مبرر:
- مجنونة..
قرص أذني اليسرى وقال بحنق:
- أنت لا تفهم معنى الحب..
- ما أعلمه أن الحياة يجب أن تستمر.. أنظر..
رفع رأسه ورأى عاطف، الموظف الخمسيني عائداً من العمل. فقلت:
- منذ أول يوم لي هنا..حين تشاجرنا حول ملكية المنطقة هل تذكر؟
قال وهو يشخبط بقشة على التراب:
- أحد عشر عاماً..
- منذ أول يوم وأنا أراه يذهب إلى الوظيفة ويعود وهو يحمل جريدة وكيس خبز..زوجته لا تتحدث إليه وهو لا يتحدث إليها منذ سنوات...لماذا يحكمان على نفسيهما بالإعدام وهما حيين؟
قال بحزن:
- لأنهما يحبان بعضهما..
قلت:
- لا يطيقان بعضهما..
قال:
- بل يحبان بعضهما..مع قليل من السخط وكثير من الكبرياء..لولا ذلك لافترقا..لا شيء يجبرهما على البقاء سوياً سوى حنين غامض..
أدخلت يدي إلى جيبي وأخرجت قطعة خبز:
- تماماً كتحملي البقاء معك في مكان واحد..
قسمت القطعة وناولته الجزء الأصغر فخطف الجزء الأكبر من يدي وابتلعه دفعة واحدة، ورأيت قطعة الخبز تغوص في حلقه وتفاحة آدم تنخفض ثم تعود للإرتفاع من جديد.
- نحن فاشلين في التسول...
قال:
- وكمخبرين سريين أيضاً..لم نرفع اي تقرير للأمن منذ سنوات..
قلت:
- ليس هذا خطؤنا..
- خطأ من إذن؟
قلت:
- خطأ المواطنين..إنهم يعيشون حياة الواجب..الزواج لأداء الواجب الإجتماعي، والعمل لأداء الواجب الكوني، والإنجاب وتربية الدجاج من أجل واجب حفظ البقاء..فعن أي شيء سنكتب تقاريرنا؟
قال:
- المهم أن مرتباتنا لم تنقطع..
- مرتبات تافهة..
قال:
- نحن لسنا موظفين..
- وإن يكن؟
- هناك فرق..عملنا كمخبرين سريين عمل إضافي لمهنتنا الرئيسسة وهي التسوُّل.
أشرت للبعيد، فرفع رأسه كلبوءة، ثم صرخ صرخة عظيمة وجرى بسرعة وهو يصيح:
- ابتعد عن منطقتنا يا ابن العاهرة..
وقف المتسول الآخر مذهولاً لبرهة ثم رفع يديه أمام وجهه وهو ينفض رأسه بخوف:
- سأغادر..
صرخ مقطوع الرجل:
- غادر فوراً..
قال المتسول:
- سأغادر..
- هل تريد صرف لغة كثيرة؟
غادر المتسول الآخر ببطء وعينين حقودتين..
قلت له وهو يجلس قربي:
- لقد سئمت..
قال:
- بل لقد كبرت فقط..
- إنهم موتى..سأحصل على بعض المال وأهرب..
نظر لي بعينين ضيقتين وقال:
- ماذا تريد أن تفعل؟
تسللت إلى الباحة الترابية، ورايت ظهر عاطف منحنياً وهو يسقى الدجاجات. كان نصف جسده خارج القفص. بسرعة عاجلته بضربة على رقبته فخر باقي جسده متكوماً داخل القفص وذعرت الدجاجات فطارت إلى الخلف. كان يرتدي سروالاً داخلياً طويلاً وتيشيرتاً بأكمام قصيرة. وبحذر دلفت إلى البرندة الصغيرة ومن هناك إلى مطبخ جانبي حيث كانت زوجته تطبخ. نظرت نحوي وصاحت:
- ماذا تريد؟
قفزت عليها وقيدت ذراعيها ثم لطمت رأسها بالأرض فسال خيط من الدم من تحت جمجمتها.
لم أخرج بالكثير، قليل من المصاغ الذهبية، ورزمة أوراق نقدية، وشقة بطيخ باردة كانت في الثلاجة.
- الآن سأجد شيئاً لأكتبه..
قال وهو يرمقني بعينين ساخطتين فقلت:
- الأمن لا يهتم بتقارير الجرائم..هذا عمل الشرطة..
قال:
- الأمن يهتم بأي شيء حتى بنفوق سمكة..
قلت:
- تريد بعض المال..
هزَّ راسه نفياً:
- سيعتبرونني شريكك..لا أريد مشاكل مع البوليس..وداعاً..
لم يكن عاطف قد مات، لقد زحف على بطنه، ورآني جاثماً فوق زوجته، قبضتاي حول عنقها، نظر إليها؛ ودارت بمقلتيها الجزعتين نحوه..كانا متعبين جداً، مد يده نحوي أو نحوها لا أدري، وهي بدورها مدت يدها نحوه.. لكنهما ظلا صامتين...هل كان ليختلف الأمر لو تكلما؟ لست أدري، لقد أجهزت عليهما الواحد تلو الآخر...ثم حصلت على المال وأنا متأكد من أنهما كانا ميتين بالفعل قبل أن أقتلهما.
(تمت)
تبدو حياة الواجب كئيبة، واجب العمل، وواجب تحمل مسؤولية لا تضيف لحياتنا معنى.
كنا نقرفص خلف المسجد لنتسول، ويقول صديقي مقطوع الرجل:
- لماذا ترتدي معطفاً في عز الحر؟
وقد حرت جواباً، هذا المعطف له ذكريات، كدت أن أقول له ذلك، غير أني فضلت الصمت. فأضاف:
- نحن عاطلين عن أي موهبة سوى التسول؟
قلت معترضاً:
- لستُ عاطلاً..أما أنت فعديم الموهبة..
فرك أسنانه المتسخة بلسانه وبصق وهو يقول:
- أنا شاعر مفوه. ولو كنت أكملت المدرسة لكنت شاعر الدولة..
- هل سيختلف شيء..لا أعتقد..
سرح في السماء وقال:
- أنا أقول شعراً ولكن بغير كلمات..
نظرت إليه مستفهماً فأجاب:
- هكذا.. أشعر.. أشعر.. وعندما أشعر فأنا شاعر..
- عندما تشعر فأنت شاعر.. طيب..
ثم غصت في معطفي وقلت:
- لماذا لم تتزوج السنينة؟
ضحك وقد غمر الخجل خديه الجافين:
- السنينة أحبت متسولاً آخر..
قلت:
- ما أعلمه أن السنينة لم تتزوج؟
قال:
- السنينة أحبت شاكوم..
قلت:
- شاكوم مات منذ سبع سنوات؟
- ولذلك لم تتزوج..قالت أن قلبها داخل قبره..
قلت بغضب غير مبرر:
- مجنونة..
قرص أذني اليسرى وقال بحنق:
- أنت لا تفهم معنى الحب..
- ما أعلمه أن الحياة يجب أن تستمر.. أنظر..
رفع رأسه ورأى عاطف، الموظف الخمسيني عائداً من العمل. فقلت:
- منذ أول يوم لي هنا..حين تشاجرنا حول ملكية المنطقة هل تذكر؟
قال وهو يشخبط بقشة على التراب:
- أحد عشر عاماً..
- منذ أول يوم وأنا أراه يذهب إلى الوظيفة ويعود وهو يحمل جريدة وكيس خبز..زوجته لا تتحدث إليه وهو لا يتحدث إليها منذ سنوات...لماذا يحكمان على نفسيهما بالإعدام وهما حيين؟
قال بحزن:
- لأنهما يحبان بعضهما..
قلت:
- لا يطيقان بعضهما..
قال:
- بل يحبان بعضهما..مع قليل من السخط وكثير من الكبرياء..لولا ذلك لافترقا..لا شيء يجبرهما على البقاء سوياً سوى حنين غامض..
أدخلت يدي إلى جيبي وأخرجت قطعة خبز:
- تماماً كتحملي البقاء معك في مكان واحد..
قسمت القطعة وناولته الجزء الأصغر فخطف الجزء الأكبر من يدي وابتلعه دفعة واحدة، ورأيت قطعة الخبز تغوص في حلقه وتفاحة آدم تنخفض ثم تعود للإرتفاع من جديد.
- نحن فاشلين في التسول...
قال:
- وكمخبرين سريين أيضاً..لم نرفع اي تقرير للأمن منذ سنوات..
قلت:
- ليس هذا خطؤنا..
- خطأ من إذن؟
قلت:
- خطأ المواطنين..إنهم يعيشون حياة الواجب..الزواج لأداء الواجب الإجتماعي، والعمل لأداء الواجب الكوني، والإنجاب وتربية الدجاج من أجل واجب حفظ البقاء..فعن أي شيء سنكتب تقاريرنا؟
قال:
- المهم أن مرتباتنا لم تنقطع..
- مرتبات تافهة..
قال:
- نحن لسنا موظفين..
- وإن يكن؟
- هناك فرق..عملنا كمخبرين سريين عمل إضافي لمهنتنا الرئيسسة وهي التسوُّل.
أشرت للبعيد، فرفع رأسه كلبوءة، ثم صرخ صرخة عظيمة وجرى بسرعة وهو يصيح:
- ابتعد عن منطقتنا يا ابن العاهرة..
وقف المتسول الآخر مذهولاً لبرهة ثم رفع يديه أمام وجهه وهو ينفض رأسه بخوف:
- سأغادر..
صرخ مقطوع الرجل:
- غادر فوراً..
قال المتسول:
- سأغادر..
- هل تريد صرف لغة كثيرة؟
غادر المتسول الآخر ببطء وعينين حقودتين..
قلت له وهو يجلس قربي:
- لقد سئمت..
قال:
- بل لقد كبرت فقط..
- إنهم موتى..سأحصل على بعض المال وأهرب..
نظر لي بعينين ضيقتين وقال:
- ماذا تريد أن تفعل؟
تسللت إلى الباحة الترابية، ورايت ظهر عاطف منحنياً وهو يسقى الدجاجات. كان نصف جسده خارج القفص. بسرعة عاجلته بضربة على رقبته فخر باقي جسده متكوماً داخل القفص وذعرت الدجاجات فطارت إلى الخلف. كان يرتدي سروالاً داخلياً طويلاً وتيشيرتاً بأكمام قصيرة. وبحذر دلفت إلى البرندة الصغيرة ومن هناك إلى مطبخ جانبي حيث كانت زوجته تطبخ. نظرت نحوي وصاحت:
- ماذا تريد؟
قفزت عليها وقيدت ذراعيها ثم لطمت رأسها بالأرض فسال خيط من الدم من تحت جمجمتها.
لم أخرج بالكثير، قليل من المصاغ الذهبية، ورزمة أوراق نقدية، وشقة بطيخ باردة كانت في الثلاجة.
- الآن سأجد شيئاً لأكتبه..
قال وهو يرمقني بعينين ساخطتين فقلت:
- الأمن لا يهتم بتقارير الجرائم..هذا عمل الشرطة..
قال:
- الأمن يهتم بأي شيء حتى بنفوق سمكة..
قلت:
- تريد بعض المال..
هزَّ راسه نفياً:
- سيعتبرونني شريكك..لا أريد مشاكل مع البوليس..وداعاً..
لم يكن عاطف قد مات، لقد زحف على بطنه، ورآني جاثماً فوق زوجته، قبضتاي حول عنقها، نظر إليها؛ ودارت بمقلتيها الجزعتين نحوه..كانا متعبين جداً، مد يده نحوي أو نحوها لا أدري، وهي بدورها مدت يدها نحوه.. لكنهما ظلا صامتين...هل كان ليختلف الأمر لو تكلما؟ لست أدري، لقد أجهزت عليهما الواحد تلو الآخر...ثم حصلت على المال وأنا متأكد من أنهما كانا ميتين بالفعل قبل أن أقتلهما.
(تمت)