د. علي خليفة - الجاحظ وفنون الفرجة عند العرب

(١)
ذكر الدكتور شوقي ضيف أن الجاحظ لو كان قد عرف فن المسرح والتمثيل بشكله الذي ابتكره الإغريق لكتب عدة مسرحيات رائعة؛ لأنه كان يمتلك موهبة الحوار والقص، وكان قديرا على جعل كل شخصية في قصصه تتحدث بالحوار الذي يناسب شخصيتها.
وتوفيق الحكيم رائد المسرح المصري والعربي في العصر الحديث نراه يضع الجاحظ في منزلة كبيرة، فهو يراه رافع نهضة الأدب العربي في القرن الثالث الهجري، كما يرى أن نهضة الأدب العربي في العصر الحديث هي استكمال لتلك النهضة القديمة له التي قادها الجاحظ بإبداعه الفريد في عصره.
ويضيف توفيق الحكيم لذلك بقوله: إن الجاحظ كانت لديه براعة كبيرة في إدارة الحوار، وإنه بهذا كان مؤهلا بالفعل لكتابة مسرحيات جيدة لولا عدم معرفة العرب لشكل المسرح الغربي في ذلك الوقت، ويقول توفيق الحكيم أيضا: إنه - يقصد نفسه - متأثر في حواره في بعض مسرحياته بأسلوب الحاحظ.
(٢)
وليس في كتب الجاحظ التي وصلتنا ما يدل على أن الجاحظ كان على معرفة بالمسرح الإغريقي أو المسرح الروماني، ومع ذلك فليس بمستبعد أن يكون الجاحظ قد ألم ببعض المعلومات عن شكل المسرح كما ابتكره الإغريق، وحاكاهم فيه الرومان، وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: إنه لا يستبعد أن يكون الجاحظ - وهو من هو في عبقريته - قد قرأ بعض كتب الإغريق في لغتها الأصلية.
ولا نحب أن نغلو في التصور في هذا الأمر، ونكتفي بأن نقول: إن ما في أيدينا من كتب الجاحظ لا يدل على معرفته بالمسرح كما ابتكره الإغريق، ومع ذلك فالجاحظ يذكر في بعض كتبه التي وصلتنا بعض فنون الفرجة التي كانت معروفة في عصره.
وأشار الجاحظ لبعض من يقومون بفنون الفرجة في كتاب البخلاء، وكتاب اللصوص، وكتاب الحيوان، وفي كتب أخرى، واهتم الجاحظ منهم - على وجه الخصوص - بهؤلاء الذين كانوا يمارسون التسول، لا ليحصلوا على الكفاف من وراء ذلك، بل ليأخذوا كثيرا من المال من الناس من خلال الحيل التي يقومون بها خلال تسولهم، وغالبا ما كانوا يلجئون للتمثيل والادعاء، وهم يمارسون هذا التسول الغريب، ومن ذلك حديث الجاحظ عن خالويه المكدي - أو خالد بن يزيد - في كتاب البخلاء.
وللأسف لم يصل إلينا كتاب اللصوص، ولكن وصلتنا بعض فقرات منه ذكرها الجاحظ في ثنايا بعض كتبه التي وصلتنا، خاصة كتاب الحيوان، وذكر التنوخي بعضها في كتاب نشوار المحاضرة، ومن الواضح أن الجاحظ قد ألف كتاب اللصوص؛ ليعرض فيه قصصا ونوادر طريفة عن لصوص عصره، وليصور فيه الحيل العجيبة والغريبة التي تعتمد على إتقان التمثيل والتنكر من قبل هؤلاء اللصوص، وأيضا كان من أهداف الجاحظ من تأليفه هذا الكتاب تعريف قراءه بحيل اللصوص في سرقتهم؛ حتى لا يقعوا ضحايا لهم، ولكن الغريب في الأمر أن بعض اللصوص من ذوي المعرفة قد استعانوا بكتاب اللصوص هذا للجاحظ؛ ليكون معينا لهم في سرقة الناس، من خلال اتباع بعض الحيل التي ذكرت فيه للسرقة، ونرى قصصا تعبر عن ذلك في كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي.
ومن حيل هؤلاء اللصوص من كان يتنكر منهم في هيئة لاعب بالقرود أو بالكلاب أو الديوك - أو غير ذلك - ليجمع الناس حوله في حين يقوم رفاق له بالسرقة خلال انشغال الناس بمتابعة زميلهم الذي يقدم عرضا للفرجة ليس الغرض منه بالنسبة اليه والى زملائه غير إلهاء الناس بما يشاهدونه منه ليقوم رفاقه بالسرقة.
ومن هنا نرى أن بعض من عرضهم الجاحظ في بعض كتبه - وكانوا يقدمون فنونا من الفرجة للناس - لم يكن هدفهم إلا إلهاء الناس من وراء ذلك؛ ليقوموا بالسرقة والاحتيال.
(٣)
وقد عرض الجاحظ في بعض كتبه طوائف من مجتمعه ترتبط بالتمثيل من قريب، ومنهم المغنون والمغنيات، وللجاحظ كتاب بعنوان طبقات المغنين، ولم يصل إلينا غير صفحات قليلة منه، في حين وصلنا كتاب القيان له كاملا، وفي هذا الكتاب الأخير يتحدث الجاحظ عن دور القيان التي توجد فيها المغنيات المحترفات، وهؤلاء المغنيات لا يقتصر عملهن - كما يظهر من كتاب الجاحظ هذا - على الغناء للجمهور الذي يفد على تلك الدور التي يعملن فيها، بل كن أيضا يقمن بعمل الحيل المعروفة عندهن، واللائي يمثلنها مع الأشخاص الوافدين لتلك الدور لربط هؤلاء الأشخاص بهن، فيقعوا في حبائل ودهن الذي كله تمثيل وخداع، وذكر الجاحظ حيلا كثيرة تلجأ إليها القينات لربط الرجال الوافدين على تلك الدور بهن.
(٤)
والجاحظ هو أهم أديب عربي في العصور القديمة اهتم بفن النادرة تأليفا ورواية وتنظيرا، وهو يعتز بأن أكثر النوادر المذكورة في كتبه هي من تأليفه، كما نرى هذا في حديثه في موضع من كتاب البخلاء الذي يقول فيه: إن النوادر التي نقلها عن غيره من الرواة في ذلك الكتاب قليلة جدا في حين يؤكد أن باقي نوادر هذا الكتاب هي من تأليفه.
ولم يكتب الجاجظ كتابا جمع فيه آراءه النظرية عن فن النادرة، ولكننا نرى هذه الآراء النظرية له عن النادرة مفرقة في بعض كتبه، وهو أول من اهتم بالنادرة تنظيرا إلى جانب أنه هو الذي ارتقى بالنادرة في شكلها الفني، وجعلها مصاغة بشكل جيد، وأيضا مزجها بعناصر فكاها متعددة؛ مما يجعل قارئها يستمتع بقراءتها ويضحك كثيرا خلال ذلك منها.
وجهود الجاحظ الكبيرة في فن النادرة لها علاقة قوية بفنون الفرجة من ناحية، وبالمسرح في شكله المتعارف عليه من ناحية أخرى، فقد أدت جهود الجاحظ في اهتمامه بالنادرة لاستنبات جنس أدبي آخر منها، هو جنس المقامة الذي ابتكره بديع الزمان الهمذاني، وكان الجاحظ من أهم نن تأثر بهم الهمذاني خلال ابتكاره هذا الجنس الأدبي والفني الذي يعد فنا من فنون الفرجة لا سيما ان بديع الزمان كان يلقي مقاماته على تلانيذه بطريقة تمثيلية، وكان يتقمص كل الشخصيات فيها خلال ذلك.
أما عن آثار حديث الجاحظ عن النادرة على كتاب المسرح العربي في العصر الحديث فإننا نرى بعضهم - كتوفيق الحكيم وألفريد فرج وعلي باكثير - قد ضمنوا بعض نوادره وقصصه الطريفة في مسرحيات لهم، كما فعل هذا ألفريد فرج في مسرحية حلاق بغداد ومسرحية علي جناح التبريزي وتابعه قفة.
ويضاف لهذا أننا نرى بعض كتاب المسرحيات الكوميدية العربية التي يستوحون أحداثها من قصص من التراث - يستلهمون أسلوب الجاحظ في عرضه لنوادره وهو فيها يجعل كل شخصية تتحدث بالألفاظ المناسبة، وقد أكد الجاحظ في مواضع مختلفة من كتبه على أهمية أن تتكلم كل شخصية في النادرة بالألفاظ المناسبة لها؛ ولهذا كات ينقل أحاديث العامة فيها ملحونة؛ أي فيها أخطاء واضحة، في حين كان ينقل أحاديث الأعراب فيها فصيحة بما يتناسب مع فصاحة محدثيها من الأعراب.
(٥)
وجهود الجاحظ التي تتعلق بفنون الفرجة ويمكن الاستفادة منها في المسرح في عصرنا الحديث لا تتوقف عند ذلك، فقد تحدث الجاحظ في بعض كتبه عن الضحك ومثيراته، واهتم في هذا الصدد بالحديث عن الضحك الذي ينشأ من شخصيات مشهورة بإضحاك غيرها - وهو يقصد هنا المضحكين - كأبي الحارث جمين، ومزبد، وأيضا اهتم الجاحظ بالحديث عن الضحك الذي ينشأ من التصوير الذي فيه تضخيم لعيوب بعض الشخصيات السلوكية والنفسية، وأشار في موضع بكتاب البخلاء إلى أن بعض تلك الصور المضحكة قد تعجز الكلمات عن الإيحاء بها أو تمثيلها؛ ولذلك ينبه القارئ لإعمال عقله لتصور هذه المواقف الغريبة التي تدعو للضحك.
ومن ملاحظات الجاحظ المتعلقة بالضحك- وقد سبق بها برجسون في كتابه الضحك - أنه أكد على أن الضحك عملية تحتاج للجماعة، فالإنسان غالبا ما يضحك من أمور تدعو للضحك حين يكون في جماعة، ولكنه قلما يضحك من نفس هذه الأمور التي تدعو للضحك حين يكون وحده، ولا شك أن مديري بعض المسارح الكوميدية قد أدركوا أهمية هذا الكلام، فحعلوا من بين الجمهور شخصيات مندسة؛ لتضحك وتثير من بقربها للضحك خلال مشاهدتها مسرحيات كوميدية تقدم لها.
وهذه نظرة سريعة على ما قام به الجاحظ في بعض كتبه من جهود كبيرة تتعلق بفنون الفرجة في عصره، وتتصل في الوقت نفسه ببعض المسرحيات الكوميدية العربية التي تؤلف في العصر الحديث.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...