إنني يا حبيبتي رجل واسع الخيال، دائما أتخيل نفسي بطلاً رحالاً، أقود حصاناً هائلَ الحجم، وشمس الغروب المحتضرة تُلألئُ حواف هيكلينا، أقود حصاني عابراً الصحارى. لا أحب عبور الوديان بالحصين، أحب السير فيها بقدمين مخنوقتين في حذاء طويل العنق وخلفي قطيع أبقار. إنني بطل الأسفار، وأنا قابع في مكاني هذا منذ ولدت بلا قدمين. هكذا قُدِّر لي أن اعيش كنبتة صبار في صحراء الخيال. الصحراء الثرية باللا شيء. ولكن..ليس ذلك بالشيء الغريب، فمن يشاهدون التلفاز يعيشون ذات الخيال. أليس كذلك. حتى من يتابعون كرة القدم أراهم يرفسون بأقدامهم عندما تحين هجمة مباغتة..إنهم يلعبون. أما حينما يرون القبلات في الأفلام القديمة الرومانسية فإنني أراهم يمطون شفاههم. وأحيانا يتلامسون في غزل مُختلَس. لذلك فكوني بلا قدمين يجعلني أملك أولوية العيش في عالم الخيال. هذه هي غرفتي التي لم أبرحها منذ تسعة وعشرين عاماً أي بعد مولدي بثلاثة عشر عاماً. هنا في هذه الغرفة قطنت. ولم أخرج أبداً، لقد هجرتنا أمي ثم مات أبي بعد ذلك بعشر سنوات. وبقيتُ مع امرأة احتلت المنزل هي وزوجها وأولادها. ظهرت بحجة رعايتي أولاً، ثم ما لبثت أن أغلقت عليَّ الغرفة لتأتني بوجبة طعام واحدة كل يومين، وجردلاً من الماء الفاتر. لقد أصيب باقي جسدي بالضمور، وبت راقداً فقط على سرير مبطن بمطاط قوي، وتحت مؤخرتي مباشرة فتحة مدورة.
إنني أتجاهل كل ذلك وأمتطي حصاني الضخم، وأعبر الصحراء. هناك اقود معاركي ضد قطاع الطرق والعصابات التي تختطفك. وفي الصحراء التقيك وفيها تحبينني وأحبك، وفيها أطلب يدك وفيها يرفض والدك ويصيح: لن أزوجها لرجل كسيح ضامر الجسم. نعم، لم تنتهِ أحلامي أبداً نهاية سعيدة. كنت أتعمد ذلك، لأن النهاية السعيدة تعني نهاية الرحلة، ونهاية الرحلة هي نهاية للخيال، ونهاية الخيال تعني أن أستيقظ هنا. أتذكر أن لصاً دخل إلى غرفتي ووجدني متخشباً في بؤس، قلت له بصوت هامس:
- هيا.. اقتلني..اغمد نصل سكينك في قلبي..أرجوك..
خاف وعاد من حيث أتى. وفي ليلة مقمرة، غمرت غلالة زرقاء نافذتي التي تقابل نافذتك، ولمحتك من بعيد..ولكي لا يغمرني أمل كاذب تخيلت شاباً يقف أمامك..وينحني برأسه نحو رأسك..لقد حطمتُ حلمي بسرعة، لأنني أفضل البقاء فوق سرج الإرتحال الأبدي. كان الحصان الذي لم أستطع أبداً تمييز لونه، كان يجري، وأقدامه النحيلة تنبش التراب الذي لم يتحرك منذ ملايين السنين..فلم يسكن أحدٌ داخل خيالي سواي..فارس فوق جواده، هو حلم أحمق، لا معنى له سوى الحرية، لكنه رغم ذلك كان يريحني إلى حد كبير. قبل أسبوع دخلت عليَّ امرأة ذات خدين ورديتين. وقفت أمامي وحدجتني بنظرة طويلة. عرفتها على الفور، حتى أنها عندما انحنت لتهمس في أذني، سارعتُ بخنقها من رقبتها الطرية، ضربتني بيدها المحاطة بالأساور الذهبية فكسرت أنفي..ثم ولت مذعورة وغاضبة..
- أنا الغلطانة..
هذه هي الجملة الوحيدة التي قالتها..ورغم أنني لم أكن أرغب في قتلها لكنني ندمت على عدم فعل ذلك..يجب أن يكون للصبار شوك أيضاً ليؤذي من يحاول أن يؤذيه. فرت وأغلقتِ الباب وراءها..حاولت كثيراً شنق نفسي بغطاء الوسادة لكنني كنت أنقذ نفسي قبل تحول المحاولة لشيء حقيقي.
"الإنسان لا يستحق أن يموت، ناهيك أن يُقتل".
لقد سألت نفسي: ولماذا أريد أن أستمر في الحياة؟..كان هناك الشيء الوحيد الذي لا يدفع البشر إلى قتل أنفسهم..أي الأمل..وهذا معروف..
....
طرق القاضي على طاولته بمطرقته الخشبية المزعجة، ووجه غاضب. لا أعرف إن كان يمثل أم كان ذلك حقيقياً.
- هدووووء..
ثم دار بنصف جسده العلوي نحوي وتأملني بسخط، خداه متهدلتان كأذني فيل. عاد ليستقيم في جلسته ثم أخرج نظارته ورفع ورقة بأطراف أصابعه دون أن يرفع ساعديه عن الطاولة، ومن خلف نظارته بدأ يقرأ بصوت هامس.
لازال جِيدُ أمي محمراً من أثر الخنق.
- أنت تعترف بأنك شرعت في قتل أمك؟
قلت:
- لا.. هذه المرأة ليست أمي..
قال بغيظ:
- كل الأوراق الثبوتية تؤكد أنها أمك..
قلت:
- لا أعرف شيئاً عن الأوراق ولكنني لم أرَ هذه المرأة من قبل يا سيدي..
قال بغضب:
- حتى لو لم تكن أمك فقد شرعت في قتلها..
قلت:
- بل شرعت في حماية نفسي منها فأنت ترى أنني بلا أقدام..لقد حاولت خنقي فدافعت عن نفسي..كانت تقول:
- أنت عاري وسأقتلك..
صاحت المرأة:
- كاذب..
ثم أتبعت ذلك بدموع حارة..كان علينا أن نمثل أدوارنا بمهارة، فالممثل الفاشل هو الذي سيخسر. وقد بدت الحيرة على وجه القاضي فأضفت:
- ها أنت ترى يا سيدي أنني بلا قدمين ولا أستطيع الذهاب إلى تلك المرأة ولكنها هي التي تملك قدمين صحيحتين، وهي التي جاءت إلى حيث أقيم ودخلت غرفتي وبدأت في خنقي وأنا ضعيف..مصاب بضمور في الجسم.. لذلك لا استطيع قتل نملة...
قال القاضي:
- لماذا هجرته وهو طفل؟
قالت بكبرياء:
- بل هجرت والده..
سألها:
- ولم تعودي إلا بعد ثلاثين عاماً..
قالت بارتباك:
- لم أكن أعرف أنه مات وكنت خائفة منه..
قال:
- هذا يعني أنك لم تسألي عنه ولا عن ابنك؟
قالت وهي تبكي وجسدها يهتز:
- أنت لا تعرف كمَّ الذعر الذي كنت أعانيه كل ليلة من الضرب والإهانة..كان نذلاً..
قلت:
- لن أسمح بإهانة روح والدي من امرأة مجهولة..
فأسكتني القاضي بإشارة من يده، ثم أخذ يطالع في الأوراق دون أن يرى حرفاً واحداً، بدا شارد التفكير..ثم قال:
- تُسقط الدعوى والدعوى المقابلة وتلغى هيئة المحلفين..
فصاح الحاجب:
"مح.....كمة"..
....
لم أعد لغرفتي، لقد كانت فرصة للمرأة التي احتلت منزل أبي خلال فترة حبسي في الإنتظار لكي ترفض دخولي للمنزل. لقد أودعوني دار رعاية ليست فيها اي رعاية. وبدلاً عن الجوع لمدة يومين صرت أجوع لأسبوع كامل. وفقدت نافذتي الجميلة، فلم يتبقَّ لي سوى الحصان الذي لا أعرف لونه.
....
لا يمكنك الهروب، لا تملك أدوات هروب حقيقي. أنا أعمى ولا أملك القدرة على الهروب ولكن يمكنني حملك على أكتافي، لتسير أنت بقدمي وأرى أنا بعينيك.
قال زميلي في الغرفة المتعفنة، فحذرته من رائحة مؤخرتي.
- لا نصر بلا نضال..
أجاب..
هذه القصة سمعتها كثيراً، أن يحمل الأعمى الكسيحَ. إنه تعاون كتعاون بعض الحيوانات كتعاون فرس النهر وبعض العصافير. وكذلك بعض الحشرات.
- حسنٌ..
- حدد الزمن..
قلت: حين يحل الظلام..
فأجاب ضاحكا: وما الفرق؟..
قلت:
- حين تحل مواعيد نومك..ليس من الصعب أن نهرب، لكن هناك تساؤلات كثيرة من المفترض أن نجد لها إجابات قبل أن نمد أصابعنا خارج دائرة الظلام..كيف سنجد طعاماً ومأوى..ماذا لو مرضنا..نحن لم نملك تجربة الحياة من قبل؟..هل تملكها؟
ران الصمت الطويل، ورأيت الأعمى جاحظ العينين. فصحت:
- النجدة..النجدة..
...
كان موت الأعمى المفاجئ إيذانا بتغير أوضاعنا في دار الرعاية. كان الأعمى شديد المرض، لقد أصيب بالطاعون. نقلونا دفعة واحدة إلى محجر صحي في قلب الصحراء، وهناك رأيتك تجازفين بحياتك من أجلنا.. لم يكن معك ذلك الشاب الذي تخيلته معك..فأين هو؟..
قالت بحزن:
- لم يكن معي أبداً..تناول وجبتك..حاول أن تمضغ الطعم لفترة أطول حتى لا تصاب بعسر الهضم..
ثم نهضت لتتابع باقي المرضى. كان من الأفضل أن يكون معها ذلك الشاب المتخيل، بدلاً عن خيبة أملي هذي..لكن لا بأس. وأغمضت عينيَّ لأرى الحصان. تنفست بعمق وببطء، وتركت جسدي مرتخياً بالكامل. غير أن خيالي نضب. لم يأتِ الحصان. لقد داهمني شعور بالخوف غير المبرر، أو فلأقل بأنه مبرر بفقد القدرة على التخيل. ولكن، قد يكون ذلك لسبب إيجابي وهو أنني اقتربت من الحياة الحقيقية أكثر. تحدثتُ إلى أنثى، وتناولت وجبات طعامٍ جيدة في مواقيتها، وتحممت بعد سنوات من القذارة، لقد ألبسوني مريلة خفيفة الزرقة، من القطن المريح.وحلقوا شعري ولحيتي، وفرك أحد الشواذ من الممرضين أعضائي السفلية، فانسال اللون الأسود. بعد العصر، جاءت وحملتني على كرسيِّ متحرك، وخرَجَت بي، لأتأمل الصحو الذي يستغرق الصحراء. كانت الصحراء مختلفة عن تلك التي تخيلتها تماماً. لكنها أكثر جمالاً. ورأيت قافلة صغيرة من الإبل، وعلى إحدى النوق هودج صغير. رأيت يد فتاة تزيح ستائره وتمد رأسها لتنظر نحوي بدهشة. فنظرت إليها بدهشة. ابتسمت وعادت لتدخل رأسها مختفية عن ناظرَيْ.
هناك كثبان قصيرة من الرمل البرتقالي. وبعض الشجيرات الشوكية، ولا يوجد أي صبار في الصحراء. عبرت الصحراء امرأة ثانية، تبدو فقيرة، وعلى رأسها بقجة ما، كانت تمشي ببطء وبدون خوف ورأسها يوازي جسدها في الإستقامة، كان كبرياء مزيفاً من حمل الأثقال. ومن فوق أحد الكثبان البعيدة أطلت نقطة سوداء، أخذت تكبر، ثم ليزداد حجمها كلما اقتربت مني. كان الحصان يقف أمامي مباشرة، ثم مدَّ رأسه ولعق وجهي فمسحت عرفه برفق.
- لم أعرف لونك أبداً..
- أيها السيِّد..هل تستطيع النهوض؟
قال بصوت مبحوح، ثم رأيته يستدير منيخاً ظهره لي.
- سيكون ذلك شاقاً أيها الحصان..
قال:
- لا نصر بلا نضال..خذ وقتك..
....
قالت بعينين جافتين وقاسيتين:
- من التراب وإلى التراب نعود..
ثم التفتت إلى رجل الدين الذي أومأ لها إيجاباً وقال:
- إنه الآن يحلق عالياً..بعد أن عاش بلا قدرة حتى على السير فوق الأرض..
همست:
- كان يملك حصاناً بلا لون يا سيدي..كنت أراه من النافذة..
(تمت)
إنني أتجاهل كل ذلك وأمتطي حصاني الضخم، وأعبر الصحراء. هناك اقود معاركي ضد قطاع الطرق والعصابات التي تختطفك. وفي الصحراء التقيك وفيها تحبينني وأحبك، وفيها أطلب يدك وفيها يرفض والدك ويصيح: لن أزوجها لرجل كسيح ضامر الجسم. نعم، لم تنتهِ أحلامي أبداً نهاية سعيدة. كنت أتعمد ذلك، لأن النهاية السعيدة تعني نهاية الرحلة، ونهاية الرحلة هي نهاية للخيال، ونهاية الخيال تعني أن أستيقظ هنا. أتذكر أن لصاً دخل إلى غرفتي ووجدني متخشباً في بؤس، قلت له بصوت هامس:
- هيا.. اقتلني..اغمد نصل سكينك في قلبي..أرجوك..
خاف وعاد من حيث أتى. وفي ليلة مقمرة، غمرت غلالة زرقاء نافذتي التي تقابل نافذتك، ولمحتك من بعيد..ولكي لا يغمرني أمل كاذب تخيلت شاباً يقف أمامك..وينحني برأسه نحو رأسك..لقد حطمتُ حلمي بسرعة، لأنني أفضل البقاء فوق سرج الإرتحال الأبدي. كان الحصان الذي لم أستطع أبداً تمييز لونه، كان يجري، وأقدامه النحيلة تنبش التراب الذي لم يتحرك منذ ملايين السنين..فلم يسكن أحدٌ داخل خيالي سواي..فارس فوق جواده، هو حلم أحمق، لا معنى له سوى الحرية، لكنه رغم ذلك كان يريحني إلى حد كبير. قبل أسبوع دخلت عليَّ امرأة ذات خدين ورديتين. وقفت أمامي وحدجتني بنظرة طويلة. عرفتها على الفور، حتى أنها عندما انحنت لتهمس في أذني، سارعتُ بخنقها من رقبتها الطرية، ضربتني بيدها المحاطة بالأساور الذهبية فكسرت أنفي..ثم ولت مذعورة وغاضبة..
- أنا الغلطانة..
هذه هي الجملة الوحيدة التي قالتها..ورغم أنني لم أكن أرغب في قتلها لكنني ندمت على عدم فعل ذلك..يجب أن يكون للصبار شوك أيضاً ليؤذي من يحاول أن يؤذيه. فرت وأغلقتِ الباب وراءها..حاولت كثيراً شنق نفسي بغطاء الوسادة لكنني كنت أنقذ نفسي قبل تحول المحاولة لشيء حقيقي.
"الإنسان لا يستحق أن يموت، ناهيك أن يُقتل".
لقد سألت نفسي: ولماذا أريد أن أستمر في الحياة؟..كان هناك الشيء الوحيد الذي لا يدفع البشر إلى قتل أنفسهم..أي الأمل..وهذا معروف..
....
طرق القاضي على طاولته بمطرقته الخشبية المزعجة، ووجه غاضب. لا أعرف إن كان يمثل أم كان ذلك حقيقياً.
- هدووووء..
ثم دار بنصف جسده العلوي نحوي وتأملني بسخط، خداه متهدلتان كأذني فيل. عاد ليستقيم في جلسته ثم أخرج نظارته ورفع ورقة بأطراف أصابعه دون أن يرفع ساعديه عن الطاولة، ومن خلف نظارته بدأ يقرأ بصوت هامس.
لازال جِيدُ أمي محمراً من أثر الخنق.
- أنت تعترف بأنك شرعت في قتل أمك؟
قلت:
- لا.. هذه المرأة ليست أمي..
قال بغيظ:
- كل الأوراق الثبوتية تؤكد أنها أمك..
قلت:
- لا أعرف شيئاً عن الأوراق ولكنني لم أرَ هذه المرأة من قبل يا سيدي..
قال بغضب:
- حتى لو لم تكن أمك فقد شرعت في قتلها..
قلت:
- بل شرعت في حماية نفسي منها فأنت ترى أنني بلا أقدام..لقد حاولت خنقي فدافعت عن نفسي..كانت تقول:
- أنت عاري وسأقتلك..
صاحت المرأة:
- كاذب..
ثم أتبعت ذلك بدموع حارة..كان علينا أن نمثل أدوارنا بمهارة، فالممثل الفاشل هو الذي سيخسر. وقد بدت الحيرة على وجه القاضي فأضفت:
- ها أنت ترى يا سيدي أنني بلا قدمين ولا أستطيع الذهاب إلى تلك المرأة ولكنها هي التي تملك قدمين صحيحتين، وهي التي جاءت إلى حيث أقيم ودخلت غرفتي وبدأت في خنقي وأنا ضعيف..مصاب بضمور في الجسم.. لذلك لا استطيع قتل نملة...
قال القاضي:
- لماذا هجرته وهو طفل؟
قالت بكبرياء:
- بل هجرت والده..
سألها:
- ولم تعودي إلا بعد ثلاثين عاماً..
قالت بارتباك:
- لم أكن أعرف أنه مات وكنت خائفة منه..
قال:
- هذا يعني أنك لم تسألي عنه ولا عن ابنك؟
قالت وهي تبكي وجسدها يهتز:
- أنت لا تعرف كمَّ الذعر الذي كنت أعانيه كل ليلة من الضرب والإهانة..كان نذلاً..
قلت:
- لن أسمح بإهانة روح والدي من امرأة مجهولة..
فأسكتني القاضي بإشارة من يده، ثم أخذ يطالع في الأوراق دون أن يرى حرفاً واحداً، بدا شارد التفكير..ثم قال:
- تُسقط الدعوى والدعوى المقابلة وتلغى هيئة المحلفين..
فصاح الحاجب:
"مح.....كمة"..
....
لم أعد لغرفتي، لقد كانت فرصة للمرأة التي احتلت منزل أبي خلال فترة حبسي في الإنتظار لكي ترفض دخولي للمنزل. لقد أودعوني دار رعاية ليست فيها اي رعاية. وبدلاً عن الجوع لمدة يومين صرت أجوع لأسبوع كامل. وفقدت نافذتي الجميلة، فلم يتبقَّ لي سوى الحصان الذي لا أعرف لونه.
....
لا يمكنك الهروب، لا تملك أدوات هروب حقيقي. أنا أعمى ولا أملك القدرة على الهروب ولكن يمكنني حملك على أكتافي، لتسير أنت بقدمي وأرى أنا بعينيك.
قال زميلي في الغرفة المتعفنة، فحذرته من رائحة مؤخرتي.
- لا نصر بلا نضال..
أجاب..
هذه القصة سمعتها كثيراً، أن يحمل الأعمى الكسيحَ. إنه تعاون كتعاون بعض الحيوانات كتعاون فرس النهر وبعض العصافير. وكذلك بعض الحشرات.
- حسنٌ..
- حدد الزمن..
قلت: حين يحل الظلام..
فأجاب ضاحكا: وما الفرق؟..
قلت:
- حين تحل مواعيد نومك..ليس من الصعب أن نهرب، لكن هناك تساؤلات كثيرة من المفترض أن نجد لها إجابات قبل أن نمد أصابعنا خارج دائرة الظلام..كيف سنجد طعاماً ومأوى..ماذا لو مرضنا..نحن لم نملك تجربة الحياة من قبل؟..هل تملكها؟
ران الصمت الطويل، ورأيت الأعمى جاحظ العينين. فصحت:
- النجدة..النجدة..
...
كان موت الأعمى المفاجئ إيذانا بتغير أوضاعنا في دار الرعاية. كان الأعمى شديد المرض، لقد أصيب بالطاعون. نقلونا دفعة واحدة إلى محجر صحي في قلب الصحراء، وهناك رأيتك تجازفين بحياتك من أجلنا.. لم يكن معك ذلك الشاب الذي تخيلته معك..فأين هو؟..
قالت بحزن:
- لم يكن معي أبداً..تناول وجبتك..حاول أن تمضغ الطعم لفترة أطول حتى لا تصاب بعسر الهضم..
ثم نهضت لتتابع باقي المرضى. كان من الأفضل أن يكون معها ذلك الشاب المتخيل، بدلاً عن خيبة أملي هذي..لكن لا بأس. وأغمضت عينيَّ لأرى الحصان. تنفست بعمق وببطء، وتركت جسدي مرتخياً بالكامل. غير أن خيالي نضب. لم يأتِ الحصان. لقد داهمني شعور بالخوف غير المبرر، أو فلأقل بأنه مبرر بفقد القدرة على التخيل. ولكن، قد يكون ذلك لسبب إيجابي وهو أنني اقتربت من الحياة الحقيقية أكثر. تحدثتُ إلى أنثى، وتناولت وجبات طعامٍ جيدة في مواقيتها، وتحممت بعد سنوات من القذارة، لقد ألبسوني مريلة خفيفة الزرقة، من القطن المريح.وحلقوا شعري ولحيتي، وفرك أحد الشواذ من الممرضين أعضائي السفلية، فانسال اللون الأسود. بعد العصر، جاءت وحملتني على كرسيِّ متحرك، وخرَجَت بي، لأتأمل الصحو الذي يستغرق الصحراء. كانت الصحراء مختلفة عن تلك التي تخيلتها تماماً. لكنها أكثر جمالاً. ورأيت قافلة صغيرة من الإبل، وعلى إحدى النوق هودج صغير. رأيت يد فتاة تزيح ستائره وتمد رأسها لتنظر نحوي بدهشة. فنظرت إليها بدهشة. ابتسمت وعادت لتدخل رأسها مختفية عن ناظرَيْ.
هناك كثبان قصيرة من الرمل البرتقالي. وبعض الشجيرات الشوكية، ولا يوجد أي صبار في الصحراء. عبرت الصحراء امرأة ثانية، تبدو فقيرة، وعلى رأسها بقجة ما، كانت تمشي ببطء وبدون خوف ورأسها يوازي جسدها في الإستقامة، كان كبرياء مزيفاً من حمل الأثقال. ومن فوق أحد الكثبان البعيدة أطلت نقطة سوداء، أخذت تكبر، ثم ليزداد حجمها كلما اقتربت مني. كان الحصان يقف أمامي مباشرة، ثم مدَّ رأسه ولعق وجهي فمسحت عرفه برفق.
- لم أعرف لونك أبداً..
- أيها السيِّد..هل تستطيع النهوض؟
قال بصوت مبحوح، ثم رأيته يستدير منيخاً ظهره لي.
- سيكون ذلك شاقاً أيها الحصان..
قال:
- لا نصر بلا نضال..خذ وقتك..
....
قالت بعينين جافتين وقاسيتين:
- من التراب وإلى التراب نعود..
ثم التفتت إلى رجل الدين الذي أومأ لها إيجاباً وقال:
- إنه الآن يحلق عالياً..بعد أن عاش بلا قدرة حتى على السير فوق الأرض..
همست:
- كان يملك حصاناً بلا لون يا سيدي..كنت أراه من النافذة..
(تمت)