ولا شك في أن الحدوث هو عملية، لكن لا يمكن أن نلمس الأمر ذاته في اللغة العربية بين كلمتي سيرورة وصيرورة. حيث أن سيرورة هي اشتقاق من سار، وهو ما يعني التقدم المتتالي، بينما تعني كلمة صيرورة عملية التحوّل التي تعني التقدم والتتالي كذلك، لأنها مشتقة من كلمة صار. وصار هي غير سار، لأنها أبعد وأعمق من كلمة سار التي تعني المشي، وهي أكثر تجريداً منها، لأنها تخص عملية تحوّل، عملية تقدم وتحوّل معاً. والفارق كبير فلسفياً بين الكلمتين، بالضبط لأن الأولى تشير إلى "تراكم كمي"، أي خطوة بعد خطوة، بينما تشير الثانية إلى "تحوّل نوعي" وليس تراكماً كمياً فقط، لأنها تتضمن التقدم لكن مع التحوّل النوعي في إطار أوسع.
إن كلمة صيرورة تعني التقدم والتحول معاً، وهو ما يطابق الديالكتيك، حيث أنها تقدم وتغيّر. هي تراكم كمي وتغير نوعي. بينما كلمة سيرورة تعني التقدم التراكمي، ويمكن أن يستعاض عنها بكلمة مسار التي تعني التقدم إلى الأمام بشكل متتالٍ. لكن هذا المسار لا يتضمن تحولاً نوعياً، بل يتضمن حالة استاتيكية (ثابتة) تقوم على مسير باتجاه معين دون أن يتضمن أي حالة من التحوّل النوعي.
المشكلة هنا ليست لغوية بل فلسفية، أو تحديداً مشكلة منهجية، وهي تخص الماركسية. ففي الماركسية يتفارق منطقان حكما فهم الديالكتيك، الأول كان ينطلق من اعتبار مبدأ التراكم الكمي هو أساس الديالكتيك، وآخر كان يرى أن التراكم الكمي هو جزء من عملية، حيث تتضمن هذه العملية التناقض، وعبر التراكم يتحقق النفي ونفي النفي ليتحقق التغيّر النوعي. المنطق الأول ظل ينحكم للمنطق الميكانيكي، حيث يحدث التراكم المتتالي ليصل إلى لحظة التغيّر، وهو تراكم كمي، وحين يفرض التحوّل النوعي يكون قد قطع مع سابقه، ونفى كل العناصر التي كان يتضمنها. وهو ما كان يشير بليخانوف إليه بالقول أن التراكم الرأسمالي فرض انتفاء السوق الحرة لمصلحة الاحتكار، رغم أن الاحتكار كان يمارس فاعليته في حضن السوق الحرة. وبالتالي كان هذا التراكم الذي أفضى إلى نشوء الاحتكار يتحقق عبر عملية لم تلغِ "البيئة" التي تحقق فيها، أي بيئة السوق الحرة.
ما يظهر هنا هو أن التحوّل النوعي الذي تحقق عبر التراكم الكمي قد قطع مع الشكل القديم. ويمكن تبسيط ذلك بالعودة إلى هيغل، حيث تحدث عن الفريضة والنفي، فالتراكم الكمي فرض تجاوز الفريضة والانتقال إلى النفي، إلى القطع مع الفريضة لمصلحة النفي، ليكون هناك عنصران متقابلان متعاديان. ولا شك في أن جوهر هذا الأمر ما يشير للعودة إلى المنطق الصوري، حيث يقوم على ثنائية فريضة/نفي. وإذا عدنا إلى بليخانوف نلمس ذلك جيداً، حيث أن تجاوز السوق الحرة فرض وجود الاحتكار، بالتالي هناك إما سوق حرة أو احتكار، بينما تتشكّل الرأسمالية من السوق الحرة والاحتكار معاً، من وجود الاحتكار في "بحر" السوق الحرة.
لكن يمكن أن نشير كذلك إلى أن الأمر يتعلق بمنظور تطوري، مسار تطوري دون تناقض أو تحوّل نوعي. فالسيرورة هي عملية تراكمية تطورية متتالية. لهذا يظلّ النظر هنا منحكماً إلى شكل الحركة، إلى تتاليها دون لمس بنيتها.
بينما الديالكتيك هو عملية، وهي عملية تناقضية، وتراكمية، لكنها حين تحقيق نفي النفي لا تقطع مع بدايتها، مع الفريضة، بل تتضمنها، والتحوّل النوعي لا يكون نوعياً إلا بتضمن الفريضة. لهذا هي صيرورة، بما تعنية من عملية تحوّل وتقدم، تغيّر وتقدم. فكل نفي للنفي يتضمن الفريضة ونفيها، وهو بذلك يشكّل حالة نوعية جديدة. هي هي الـ Process، التي تعني صيرورة بالتحديد. فالأمر لا يتعلق بتقدم تراكمي فقط، هذا جزء من عملية أوسع تتضمن تناقضها الذاتي، التناقض الذي يفضي إلى النفي، لكن العملية ذاتها تعيد تركيب التكوين في حالة جديدة. والقطع يتحقق هنا وليس في الشكل الأولي الذي يتمثل في التراكم الكمي، القطع الذي يوصل إلى تكريس النفي كنهاية لمجمل العملية بينما هي خطوة أولى في عملية أوسع. وكما أشرت فإن الاكتفاء بهذا يعني تكريس المنطق الصوري بعيداً عن الديالكتيك.
بهذا لا يعود الأمر متعلقاً باللغة، أو بالكلمة، بل أنه يتعلق بمنهجية تفكير. حيث يظهر واضحاً التمييز بين المنطق الصوري والديالكتيك. ولا شك في أن استخدام كلمة سيرورة يشير إلى ما هو تراكمي، إلى تقدم متتالي، دون أي تضمن لتناقض فيها، وبالتالي إلى بنية متحوّلة من خلال تناقضها الداخلي. وبالتالي نحن هنا إزاء منظور تطوري تراكمي وليس إزاء منظور ديالكتيكي.
_________________________