النفق السري
ــ قصة قصيرة ــ
مرشد كرمو
كان يوماً غائماً في ميتم الراعي الصالح في مدينة الموصل حين أقبلت سيارة تقل فتى تجاوز السادسة عشرة من عمره إلى الميتم ذلك المساء المعتم القارص في شهر كانون الأول سنة 1970 . ترجل الشاب من السيارة الصغيرة وهو يترنح كالسكران من شدة التعب والاعياء ، لا يكاد يستطيع أن يسير على قدميه . ساعده السائق عبر البوابة الخشبية حتى ولج إلى المدخل الأمامي الذي يضم الفتية ثم سلمه إلى الخوري المسؤول عن الميتم . وكان هناك جناح للفتيات اليتامى في البناية الثانية يفصلها عن بناية الذكور سور عالٍ .
قاده الخوري إلى قاعة الطعام حيث تجمع الأولاد وهم يمنّون أنفسهم بوليمة كبيرة . استقبله الصبية بفضول وهم يتفحصون ثيابه الرثة وشعره المسترسل الذي اكتست خصلات منه جزءاً من وجهه الأبيض الذي بدا شاحباً شحوب الموت . تهالك الفتى على أحد الكراسي وهو يحاول جهده أن يفتح عينيه ويدور بوجهه على الوجوه الواجمة ، فيما أنظار الأولاد لا تحيد عن وجهه الكئيب النحيل . ابتدر الخوري الجمع قائلاً :
ــ أقدم لكم ابننا نبيل . لقد فقد والديه وعائلته قبل بضعة أيام أثناء قصف وحشي على قريته ، تليمثا . أريدكم أن تعتبروه أخاكم وأن تشملوه بعطفكم ورعايتكم وأن تساعدوه عن طريق ابداء التعاطف الذي يحتاج إليه .
ثم التفت الخوري إلى الطباخ :
ــ قدم له الطعام في الحال . فهو يبدو في غاية التعب .
كانت معدة الشاب الخاوية تؤلمه ، لكنه استسلم للنوم قبل مجيء الطعام .
في الأيام المقبلة كان نبيل يتجنب بقية الأولاد . فهو يفضّل العزلة والوحدة ، يمضي أحياناً بعض الوقت في الحديقة الخارجية رغم برودة الجو . فيستبد به شعور لا يقاوم بالحنين إلى قريته وإلى أهله وعائلته التي قضت في القصف فتتمثل له كل أحزان حياته . كان الصراع يشتد أحياناً بين الرغبة الطبيعية في الاستمرار في الحياة وبين الرغبة في الفناء كي يلحق بأهله .
وبمرور الزمن ، تعرف نبيل على فاضل،الذي أصبح صديقه الوحيد حيث توطدت العلاقة بينهما بسرعة بسبب قدرة فاضل على الاصغاء إليه بطريقة ذكية .
كان يحلو لنبيل أن يتحدث عن قريته ، تليمثا ، والطريقة التي قتل فيها والداه . كان في ذلك اليوم المشؤوم خارج الدار يلعب مع بعض الأصدقاء وفجأة انطلق زئير الطائرات ، تلقي حممها بطريقة عشوائية على بعض دور القرية ، حيث التجأ عدد من المقاتلين إليها . هرع إلى منزله ليطمئن على أهله . فوجد بأن السقف تهاوى والجدران تهدلت وانطلقت نداءات الاستغاثة والعويل ..... وهنا يتوقف نبيل . فهو لا يقوى على الاستمرار في وصف المنظر البشع الذي رآه .
لكن فاضل سرعان ما يغير الموضوع مستغلاً صوتاً أو منظراً طبيعياً .
قال فاضل يوماً ما وهو يشير إلى السور الذي يفصل بينهما ومبنى الفتيات :
ــ انظر يا نبيل إلى هذا الحائط العالي الذي غطته النباتات الزاحفة .
وحين لم يأبه نبيل بذلك ، أضاف فاضل :
ــ لو تعلم من يسكن خلف هذا الجدار .
تفرس نبيل في السور باهتمام للمرة الأولى وراح يجيل النظر في قمة ذلك الجدار الذي تجاوز ارتفاعه سبعة أمتار .
كانت الريح تداعب قمم الأشجار والهواء يعبق برائحة الأعشاب والأزهار التي فجرتها الأرض وشرعت في الظهور كبراعم في البداية . لكنها لم تلبث أن كبرت وتكورت بفعل حرارة الجو التي كانت ترتفع يوماً بعد يوم . أما الحشيش فقد كان ذا خضرة عميقة كأنه بدوره يحتفي بقدوم الربيع .
وسأله نبيل :
ــ هل حقاً يفصل هذا الحائط بيننا وبين الفتيات ؟
ــ أجل يا نبيل . تصور حائط رقيق لا غير يفصلنا عن أجمل الفتيات في الموصل .
أصاخ الصديقان السمع وقد أحاطا إحدى أذنيهما براحة يدهما . كانت أصوات خافتة لقهقهة الفتيات تصل إلى مسامعهما ، أصوات بدت للشابين كأنغام ملائكية غطت على جميع اهتماماتهما الأخرى . ألصق نبيل أُذنيه على الحائط وأخذ يصغي بشغف . هتف :
ــ هل أستطيع رؤية الفتيات ؟
ضحك فاضل بخبث وقال :
ــ إذا حالفك الحظ وعثرت على النفق السري .
ــ النفق السري ؟ هل تقصد أن هناك نفقاً سرياً بيننا وبين مبنى الفتيات ؟
ــ سمعت أحد الأولاد يقول بأن هناك نفقاً سرياً يتسلل منه أحياناً حين يحل الظلام إلى ميتم الفتيات ويلتقي بحبيبته .
وأضاف وهو يرى علامات الجد على وجه نبيل :
ــ لا شك أنه كان يمزح .
ــ إذن يجب أن نهتدي إلى طريقة ثانية لرؤية الفتيات .
ــ ليس ضرورياً . فلقد حل الربيع . وبعد أيام سيقيم الميتم سفرات . وسيكون بمقدورك أن ترى أولئك الحوريات .
ــ وهل هذهِ السفرات مشتركة مع الفتيات ؟
ــ كلا . لكننا نلتقي هناك .
وبالفعل فقد أعلن الخوري عن سفرة مشتركة يوم الأحد الذي تلى إلى آثار نمرود القريبة . كان النهار حاراً تظلله بعض الغيوم حين انطلق باص الفتيان القديم يشق طريقه في شوارع وطرقات الموصل شرقاً ، وما هي إلا ساعة حتى لاحت الآثار وتوقف الباص فأسرع الفتية بالخروج من الباص وسرعان ما وصل باص الفتيات . وكانت هذهِ المرة الأولى التي يرى فيها نبيل الفتيات اللواتي هبطن من الباص دون أن ينظرن حولهن . بدت الفتيات له كمخلوقات متميزة وغريبة تثير فضوله ، فراح يتفحص تلك الوجوه الخجولة والأجسام الناعمة بنظراته التي تخترق أجسادهم الغضة .
ابتدأت النشاطات بجولة في الآثار تلاها غداء أمام تمثال الثور المجنح . لكن كان من الصعوبة الاختلاط بين الطرفين بسبب وجود الراهبات مع الفتيات ورجال الدين مع الفتية . واستغل نبيل فترة الغداء حيث تناول الطرفان الطعام على مقربة من بعض ، وراح يلقي نظرة متفحصة على كل فتاة لثانية أو ثانيتين، إلى أن استقر بصره على إحدى الفتيات التي لم يقوى على رفع بصره عنها . كانت رائعة الجمال ، طويلة وذات شعر بني مجعد . فأخذ يختلس النظر إليها بنظرات متقدة بين الفينة والأخرى . جلس بعد الغداء على صخرة مع فاضل يعلقان بصوت خفيض على جمال بعضهن . وكان بجلسته تلك يختلس النظرات إلى الفتاة وهي واقفة تتفحص لوحاً على الأرض كتب عليه بالخط المسماري . انتبه فجأة إلى أن الفتاة رفعت رأسها واستدارت ثم حدجته بنظرة دافئة . وحين التقت نظراتهما أخذت تبتسم له . كانت ابتسامة ساحرة تفوق لفحة السوط حرقة . تسمر نبيل في جلسته إلى أن انتبه فاضل إليه فحولت الفتاة أبصارها عنه .
ــ أنت محظوظ يا نبيل .... يا محتال . رأيتها كيف نظرت إليك بوله شديد .
أجاب نبيل وهو يتظاهر بأنه لا يعرف عما يتحدث عنه .
ــ من ؟
ــ لا تتظاهر بالجهل . إنها لا تكف عن النظر إليك . ما أجملها .
كان الباص الآن على وشك العودة بالطلاب إلى الميتم . وهدر صوت الخوري يدعو الجميع للتوجه إلى الباصات .
ــ وما الفائدة يا فاضل ؟ لن أراها لأسابيع عديدة .
ــ من يعلم ؟
وما هي إلا دقائق حتى كان الباص في طريق العودة إلى الميتم . وكان نبيل يفكر بالفتاة وأجهد فكره دون أن يهتدي على طريقة للقاء بها حتى أصبح فريسة أفكاره . لن يراها ثانية قبل شهر . تلك فترة طويلة ، لا بل دهر لا نهاية له . وفجأة ومضت في ذهنه فكرة النفق السري . يجب أن يهتدي إليه ويحاول أن يلتقي بها . كان نبيل كمن صحا فجأة من أثر مخدر طويل الأمد ، فدب النشاط في جسمه الخامل وعادت المشاعر العنيفة إلى قلبه الذي كان صخرة ، خال من أية أحاسيس قبل يوم واحد فقط . كانت الفتاة بمثابة جمرة حارقة اندفعت إلى دواخله وأخذت تكوي أحشاءه . كان يكتوي من عذاب أليم ، لكنه عذاب لذيذ يفضله ألف مرة على الفراغ الذي كان يعيشه قبل أيام . عاد إلى الميتم مفعماً بالغبظة والرضى لا يعكر مشاعره الجذلة سوى فترة الانتظار لشهر آخر .
توالت السفرات بمعدل مرة في الشهر ، لكن حظ نبيل في لقاء الفتاة ذات الشعر البني لم يكن أفضل من ذي قبل ، إذ لم تتاح له فرصة التحدث معها . وكان عزاؤه الوحيد تلك النظرات الملتهبة التي كانت ترمقه الفتاة بها وتدفعه إلى حافة الجنون وتلك الابتسامات الساحرة التي تجعل دقات قلبه تتسارع . كان يتحين الفرصة للتقرب منها كي يتسنى له أن يهمس كلمة أو عبارة في اذنها ، لكن كل ما يحصل عليه هو نظرات دافئة تدخل بعض الاطمئنان إلى قلبه وتمده بشعور بأن الفتاة تكن له مشاعر حقيقية ، فيستسلم لتلك النظرات ويعيش على الأمل . كان ينتظر تلك السفرات على أحر من الجمر ، لكن فكرة رؤيتها مرة في الشهر كانت تدخله في دوامة من الألم ، وعاودته فكرة البحث عن النفق السري .
كانت آخر سفرة الموسم قبل بدء المدارس في أواخر الصيف إلى دير السيدة قرب القوش . كان اليوم قائظاً حيث تصفع شمس الظهيرة الأرض بسياطها اللاهبة فتكاد ترى اللهب يتراقص على الأرض . كان نبيل عازماً أن يتعرف على اسم الفتاة على الأقل وأخذ يتحين الفرصة . كان العطش قد استبد بالطلاب ولم ترو ضمأهم تلك المياه التي تؤخذ من الحب . وفجأة اقترح أحد الرهبان ان يتوجهوا إلى البئر أمام الدير حيث الماء البارد العذب . فتراكض الجميع باتجاه البئر وحلقوا حولها يرتوون من مياهها الباردة ، حيث قام أحدهم بسحب الماء من البئر بدلو ووزعها على الطلاب من كلا الجنسين .
استغل نبيل انشغال الجمع بالماء حيث أخذ الصبية يرشوا بعضهم البعض بعد أن ارتووا . فكان لا ينفك يلاحق الفتاة بأنظاره . ورآها تبتعد قليلاً عن بقية البنات ، تمشي ببطء ثقيل بين الأشجار الصغيرة . فسار نبيل بأتجاهها وهو يلتفت يمنى ويسرى حتى اقترب منها . وما أن انفرد بها حتى استجمع شجاعته وسألها ؟
ــ ما اسمك ؟
خضبت الحمرة وجهها الجميل وابتسمت ابتسامة دافئة .
ــ كيف لا تعرفني .. يا نبيل ؟
قالت الفتاة ذلك بلهجة ودية كمن تعرفه منذ زمن طويل . كانت مفاجأة هائلة لنبيل .
ــ أنتِ تعرفينني ؟
وحين هزت رأسها ، أضاف : أقصد قبل أن أقدم إلى الميتم ؟
ــ طبعاً . وأنتَ أيضاً تعرفني . هل تتذكر قرية تليمثا وذلك البيت الخشبي بين الكنيسة والسوق ؟
ــ بيت العم حنا ؟ وحين هزت رأسها بالإيجاب ، أضاف :
ــ طبعاً أعرفه .
وألقى نظرة متفحصة على الفتاة ، ثم هتف :
ــ لا تقولي أنتِ سميرة ؟
ــ أنا هي ، لقد مضى عليّ في الميتم أربع سنوات بعد أن توفي والدي حنا .
وهتف :
ــ سميرة . لا أصدق أنتِ هنا . أكاد أراكِ وأنتِ فتاة لا تتجاوزين الثانية عشرة بشعرك المجدول .
وابتسمت سميرة وقالت :
ــ حين رأيتك للمرة الأولى مرة في سفرة آثار نمرود لا تعرف ما أصابني . شعرت بسعادة تغمرني وبأن قرية تليمثا بأكملها أصبحت قريبة مني .
انفك شريط ذكرياتهِ وغاب يسترجع تفاصيل كاد أن يطويها النسيان . وأخذت أيام الطفولة في القرية تنساب إلى ذاكرته حيث كان يعرف سميرة منذ نعومة أضفارهما ، فهو يسكن في نفس المنطقة . وتذكر تلك الأوقات الجميلة حين يذهب الجميع إلى الحقول في عيد بعض القديسين وهناك يسرح ويمرح الأولاد من كلا الجنسين وتذكر نبيل تلك الأوقات البريئة التي أمضاها مع سميرة . قطع عليه حبل ذكرياته صوت عالي يطلب من الطلاب التوجه إلى الباصات .
ــ وكيف أستطيع أن أراكِ بعد اليوم ؟
ــ لا أعلم يا نبيل ، لكن ثق . سأفتقدك كثيراً .
هبط قلبه وتمنى لو يستطيع أن يطير بسميرة إلى كوكب نائي . واستطاع أن يتمالك نفسه وقال :
ــ وأنا أيضاً سأفتقدك ... أنتِ ... موجودة في قلبي منذ أن رأيتكِ للمرة الأولى . لكني يجب أن أراك . أنتِ تعلمين بأنه لن يكون هناك سفرات لستة أشهر .
امتدت يده إلى يدها وأمسك يديها وقربهما من صدره .
أحس نبيل بسعادة لا توصف وهو يضغط على تلك الأنامل الناعمة . ابتسمت وقالت بمودة :
ــ لا شك بأننا سنلتقي قريباً .
ــ كيف ؟ وتذكر شيئاً .
ــ هل سمعتِ بالنفق السري ؟
حاولت أن تقول شيئاً . ولكن قبل أن تنطق بجملة أخرى صرخ بهما الخوري أن يتوجها إلى الباص . فقالت بحزن وقد أغرورقت عيناها بالدموع :
ــ إلى اللقاء يا نبيل .
قالت ذلك وابتعدت وهو يشيعها بنظراتهِ . وما هي إلا دقائق حتى كان الباص في طريق العودة .
تهالك نبيل على مقعد في الباص صامتاً مكتئباً وقد شعر بوحدة قاتلة رغم كونه محاطاً ببقية الفتيان.عاد نبيل إلى الميتم تعتلج في صدرهِ مزيج من مشاعر الفرح والقلق الغامض وهو يسترجع في ذاكرته تلك الأيام السعيدة في القرية حين كان يعرف سميرة من المدرسة وخارج المدرسة وهو يكبرها ببضعة أشهر .
ابتدأ العام الدراسي في شهر أيلول حيث احتفل نبيل بعيد ميلاده السابع عشر .
وحاول أن يواظب على مدرسته . لكن وجود سميرة على بعد أمتار عنه دون أن يستطيع أن يراها كان يقضُّ مضجعه ويدخله في كآبة وخاصة إن السفرات الشهرية انتهت ويجب عليه الانتظار إلى الربيع القادم .
كان يمضي أحياناً ساعات وهو يسير بمحاذاة الحائط الذي يفصله عن حبيبته ، فيتخيل إنه يخترق ذلك الحائط ويراها ويضمها إلى صدره ويقبلها . لكنه يفيق من أحلام اليقظة تلك ويلتجئ إلى فاضل ويطلب منه أن يساعده في العثور على النفق السري . وهكذا أمضى الصديقان أياماً وأسابيعاً دون أن يهتديا إلى النفق .
كانت هناك أشجار عالية وبعض الصخور في الحديقة . وفكر نبيل بأن مدخل النفق لابد أن يكون مكسواً ببعضٍ من تلك الصخور .
ــ لابد أن نزيل هذهِ الصخور يا فاضل .
ــ لكنها ثقيلة جداً
ــ إذن يجب أن نستعين ببعض الأولاد .
ــ كلا يا نبيل . سوف ننفضح . ألا تعلم بأن السر ينكشف إذا أطلع عليه أكثر من أثنين .
ــ لكني يجب أن أراها .
أرسل فاضل نظراته حول المكان ولمعت عيناه فجأة .
ــ ربما تستطيع أن تراها يا نبيل
ــ هل أنتَ جاد ؟ متى ؟
ــ اليوم ... وربما هذهِ اللحظة
ــ اليوم ؟ كيف ؟ قل لي بحق السماء . أنت قتلتني .
ــ هل ترى هذهِ الشجرة قرب الحائط ؟
وألقى نبيل نظرة سريعة إلى الشجرة . وفهم ما يرمي إليه فاضل .
ــ بوسعك أن تتسلقها يا نبيل . وقد يحالفك الحظ فترى سميرة .
انبسطت أساريره وأفلت من فمه صيحة خافتة .
ألقى نظرة متفحصة على الشجرة الباسقة .
ــ إنها عالية جداً ... وقد يراني أحدهم في الميتم .
ــ تستطيع أن تتسلق الشجرة غداً أثناء الغداء إذ يتوجه الجميع إلى قاعة الطعام التي لا تطل على الحديقة .
وفي اليوم التالي انسل الصديقان قبل الغداء مباشرة إلى خارج مبنى الميتم باتجاه الحديقة . سار نبيل في رحاب الجنينة وهو يتفحص معالمها وتوقف عند إحدى الأشجار القريبة من السور .
ــ هذهِ الشجرة يا فاضل أعلى الأشجار .
ولم يضيع نبيل أي وقت بل هجم على الشجرة وأحاطها بذراعيه .
ــ مهلاً يا صاحبي .
وأخذ نبيل يتسلق الشجرة وهو يحول بصره بين الحائط وبين الأغصان . كان التسلق شاقاً لكن نبيل كان مصراً على المضي قدماً في تحقيق هدفه ، حتى بلغ قمة أحد الأغصان . كان الآن بارتفاع يوازي قمة الحائط .
ــ هل ترى شيئاً ؟
ــ كلا . يجب أن أتسلق الغصن العالي .
ــ كن حذراً يا نبيل .
وعاود نبيل التسلق حتى بدا ميتم الفتيات يلوح له شيئاً فشيئاً وكان هناك بضع من الفتيات في الحديقة .
كان نبيل قد أوشك على بلوغ قمة الشجرة ولم يتبق سوى غصن رفيع . وضع نبيل قدمه على الغصن ورفع جسده إلى الأعلى فظهر جانب آخر من مبنى الفتيات . مال نبيل بجسدهِ إلى الأمام ليتمكن من أن يلقي نظرة أوضح على المكان . ولكن في هذهِ اللحظة انكسر الغصن وسقط نبيل على الغصن الذي تحته وأخذ يتدحرج من غصن إلى آخر حتى استقر على الأرض الصلبة دون حراك .
جمد فاضل في مكانه لعدة لحظات لا يقوى على الحركة . اقترب من نبيل لكن الأخير كان مضرجاً بدمائه التي تدفقت من أجزاء من جسده جراء الأغصان التي انغرست في جسمه . هرع فاضل إلى الميتم وما هي إلا دقائق حتى كان نبيل في طريقه إلى المستشفى . وأصر فاضل على الذهاب معه .
كان نبيل قد فقد كمية كبيرة من الدم لكنه كان لا يزال على قيد الحياة .
وبعد انتظار ساعات طويلة في ردهة المستشفى ، فهم فاضل بأن نبيل يتأرجح بين الموت والحياة وبأنه لا يستطيع الكلام ولا يستطيع أن يفتح عينيه .
عاد فاضل إلى الميتم وقلبه ينبؤه بأنه لن يرى صديقه بعد اليوم .
في اليوم التالي ذهب فاضل إلى المستشفى سيراً على الأقدام . سمح له الخوري بالذهاب بعد أن أقنعه فاضل بأنه أقرب إنسان إلى نبيل في هذهِ الأرض . وفهم من حديثه مع الممرضة بأن وضع نبيل لم يتغير . طلب فاضل من الممرضة أن تسمح له بدخول غرفة نبيل . وحين رفضت قال لها بأن الشاب سيموت في أية لحظة ولا يوجد أية محاذير في الزيارة . وهكذا استطاع فاضل أن يدخل إلى غرفة نبيل حيث رقد صديقه جثة هامدة . لكنه كان يتنفس .
ــ نبيل . أنا صديقك فاضل . افتح عينيك . أنا فاضل .
وفجأة تحرك نبيل كأن صوت صديقه أعاده إلى الحياة . تشجع فاضل فأخذ يتحدث مع نبيل حتى فتح الأخير عينيه ، لكنه أغلقهما بسرعة .
أسرع فاضل إلى خارج الغرفة وأخبر الممرضة بأن نبيل فتح عينيه . اندفعت الممرضة إلى غرفة نبيل الذي كان قد عاد إلى وضعه النائم الأقرب إلى الموت .
قالت :
ــ اذهب الآن يا بني . تستطيع أن تعود يوم غد . إنه بحاجة للراحة .
وفي الحقيقة لم يصدق أي من في المستشفى بأن نبيل سيعيش ويعود إلى الحياة بسبب النزيف الحاد في مناطق من جسده . سألها فاضل :
ــ هل أستطيع أن أجلب له بعض الفاكهة والحلوى ؟
ــ كلا . لا يمكنه تناول أي شيء صلب .
ــ ألا يوجد شيء أستطيع أن أعمله لنبيل ؟
ــ نعم يا بني .... صلي من أجله .
أدخلت الجملة الأخيرة الرعب إلى قلبه الواجل ، وغادر المستشفى وكلمات الممرضة ترن في اذنه . إنه مائت لا محالة وإلا لماذا طلبت مني أن أصلي من أجله .
في الأيام التالية كان نبيل قد بدأ في الكلام لكن صحته لم تتحسن . وعليه الخضوع لعدد من عمليات خطرة قد تقضي عليه . وهو يرد باقتضاب على كلمات فاضل .
وأدرك الأخير بأن صديقه يعاني من كآبة هائلة ستقتله حتى إن لم تقض عليه العمليات الجراحية .
وقال فاضل ذات يوم بعد انتهاء العملية الأولى :
ــ ستكون على ما يرام يا نبيل . لقد تحدثت مع الممرضة قبل دقائق . قالت بأن العملية تكللت بالنجاح .
وفي الحقيقة لم يتحدث فاضل مع الممرضة ذلك اليوم .
بذل نبيل جهداً كبيراً حتى فتح عينيه وقال وهو يرمق فاضل بنظرة عتاب .
ــ لا تضحك علي يا نبيل . سمعت الطبيب وهو يقول للممرضة بأنه لا يوجد أي فائدة من إجراء هذهِ العمليات لأنها لن تنجيني من الموت . قال الطبيب ذلك بعد انتهاء العملية حيث اعتقد بأني تحت تأثير المخدر .
ــ ستعيش يا نبيل . ستعيش .
ــ كلا . سأموت .
تفرس نبيل بفاضل وقال بهدوء :
ــ أطلب منك أن تقول لسميرة بأني أحبها ، أحبها كثيراً . ستراها بعد بضعة أشهر في إحدى السفرات . قل لها بأنها كانت تعيش في قلبي إلى أن توقف عن النبض . وقل لها أيضاً بأني مت سعيداً لأن حبها جعلني أنسى الخوف وأنسى كل شيء آخر سواها .
ــ اسمع يا نبيل . لن تموت ... يجب أن تعيش . إنك شاب ذكي في مقتبل العمر .
ــ ولماذا أعيش ؟ ولمن ؟ لقد فقدت أهلي ولم يعد لي أقرباء في القرية . والشخص الوحيد الذي كان يربطني بالقرية ، لن استطيع أن أرى سميرة لستة أشهر على الأقل .
وأدرك فاضل بأن وضع نبيل ميؤوس منه . فقرر أن يعمل شيئاً . عليه أن يصل إلى سميرة وربما تستطيع أن تزوره في المستشفى قبل أن يموت .
عاد فاضل إلى الميتم وهو يفكر في طريقة للوصول إلى سميرة . إنه لا يجرؤ أن يقول للخوري بأن نبيل متيم بسميرة . أجهد تفكيره دون أن يتوصل إلى حل . إذن يجب أن يكتشف النفق السري . أمضى فاضل ساعات طويلة ومضنية يبحث عن النفق السري واستعان أيضاً ببعض الأولاد الذين كان يعرف بحيلهم الواسعة .
عاد فاضل إلى المستشفى بعد يومين وقالت له الممرضة بأن نبيل تعرض إلى انتكاسة جديدة ، وقد لا يعيش يوماً آخر . وهو الآن في غرفة النقاهة ، لم يأكل شيئاً في اليومين الأخيرين .
وفي غرفة النقاهة انتبه فاضل إلى الأطعمة التي غطت المائدة الصغيرة والتي لم تُلمس . أما نبيل فقد بدا أقرب إلى الموت من أي وقت مضى . وما أن التقت نظراته بنظرات نبيل المكتئبة الشبه موصدة ، حتى هتف فاضل بطريقة وبنبرة تنطوي على الحماس .
ــ لقد اهتديت إلى النفق السري يا نبيل .
بذل نبيل جهداً جباراً لفتح عينيه وتفرس بفاضل غير مصدق .
ــ نعم يا صديقي . لقد اكتشفتُ مكان النفق السري يا نبيل .
أفلتت من فم نبيل صيحة خافتة وفتح عينيه على سعتهما ورمق فاضل بنظرة بنظرة سريعة وقال :
ــ هل أنتَ جاد ؟
ــ نعم يا نبيل . عرفت مكان النفق السري . تستطيع الآن أن ترى سميرة متى شئت .
وكأن لفظة سميرة أعادته إلى الحياة . إذ بدت على وجهه إمارات السعادة وبدا متأثراً جداً وأخذ يدمدم : أستطيع أن أرى سميرة كل يوم .
استسلم فترة قصيرة لهذهِ النشوة لكن سرعان ما توقف وتغيرت ملامح وجهه .
ــ وما الفائدة يا فاضل . حتى لو تحسنت صحتي ، لن أقوى على السير بعد اليوم . ألا تعلم بأن قدمي كلتيهما قد كسرا ؟
قال فاضل بخبث :
ــ كنتُ عازماً أن لا استعمل النفق ريثما تعود إلى الميتم . لكن ما زلت غير قادر على السير سأذهب وحدي اليوم .
ــ كلا . لن تذهب لوحدك . عدني بأنك لن تذهب .
ــ حسناً أعدك يا نبيل بشرط أن تعود إلى الميتم خلال شهر .
ــ أعدك . لكن أخبرني كيف عثرت على النفق وأين هو ؟
ــ هل تتذكر تلك المصطبة في نهاية الحديقة . جلستُ عليها البارحة وانتبهتُ إلى وجود أحجار مربعة كبيرة تحتها . نهضتُ ودفعتُ المصطبة من مكانها وحاولت أن أحرك أحد الأحجار فإذا بالحجر يتحرك ويظهر تحته سم صغير أخذني إلى حديقة الفتيات . لكني عدتُ أدراجي لأخبرك .
لم يستطع نبيل كتمان ابتهاجه والتمعت عيناه من الفرح .
ــ وهل يعرف أحد بوجود النفق غيرك يا فاضل ؟
ــ كلا . بوسعك أن تخبر من تشاء .
ــ هل أنتَ مجنون ؟
وفي الأيام والأسابيع القادمة كانت صحة نبيل تتحسن باضطراد وقدماه تقويان بسرعة مدهشة أثار استغراب الأطباء الذين توقعوا وفاته قبل أسابيع . ولم يمض الشهر حتى كان نبيل يغادر المستشفى . وفي طريق الميتم همس نبيل في أذن فاضل :
ــ هل أستطيع أن أرى النفق اليوم ؟
ــ كلا . إنك لا تزال تمشي بعكاز .
ــ ليس بعد اليوم . لقد تخلصتُ من العكاز .
ــ سنرى بعد أن نعود .
نهض نبيل في صباح اليوم التالي وسار بخطى ثابتة إلى سرير فاضل :
ــ هيا يا صديقي . لنذهب إلى النفق .
سار الصديقان إلى الحديقة وتعجب فاضل من التقدم الكبير الذي أحرزه نبيل ، إذ بدا يمشي بطريقة طبيعية . جلس فاضل على أول صخرة وطلب من نبيل أن يجلس .
ولما امتثل نبيل ، قال وهو يتفحص ملامح الفتى :
ــ اسمع يا نبيل ، يؤسفني أن أقول لك بأني كذبتُ عليك .
اصفَّرَ وجه نبيل .
ــ ماذا تقصد ؟
ــ لا يوجد نفق بيننا وبين الفتيات ؟
ــ لا يوجد نفق ؟
ــ كلا ياصديقي .
ــ ولماذا قلت لي إذن بأنك اهتديت إليه .
ــ كنتُ خائفاً عليك من الموت .
مرشد كرمو
ــ قصة قصيرة ــ
مرشد كرمو
كان يوماً غائماً في ميتم الراعي الصالح في مدينة الموصل حين أقبلت سيارة تقل فتى تجاوز السادسة عشرة من عمره إلى الميتم ذلك المساء المعتم القارص في شهر كانون الأول سنة 1970 . ترجل الشاب من السيارة الصغيرة وهو يترنح كالسكران من شدة التعب والاعياء ، لا يكاد يستطيع أن يسير على قدميه . ساعده السائق عبر البوابة الخشبية حتى ولج إلى المدخل الأمامي الذي يضم الفتية ثم سلمه إلى الخوري المسؤول عن الميتم . وكان هناك جناح للفتيات اليتامى في البناية الثانية يفصلها عن بناية الذكور سور عالٍ .
قاده الخوري إلى قاعة الطعام حيث تجمع الأولاد وهم يمنّون أنفسهم بوليمة كبيرة . استقبله الصبية بفضول وهم يتفحصون ثيابه الرثة وشعره المسترسل الذي اكتست خصلات منه جزءاً من وجهه الأبيض الذي بدا شاحباً شحوب الموت . تهالك الفتى على أحد الكراسي وهو يحاول جهده أن يفتح عينيه ويدور بوجهه على الوجوه الواجمة ، فيما أنظار الأولاد لا تحيد عن وجهه الكئيب النحيل . ابتدر الخوري الجمع قائلاً :
ــ أقدم لكم ابننا نبيل . لقد فقد والديه وعائلته قبل بضعة أيام أثناء قصف وحشي على قريته ، تليمثا . أريدكم أن تعتبروه أخاكم وأن تشملوه بعطفكم ورعايتكم وأن تساعدوه عن طريق ابداء التعاطف الذي يحتاج إليه .
ثم التفت الخوري إلى الطباخ :
ــ قدم له الطعام في الحال . فهو يبدو في غاية التعب .
كانت معدة الشاب الخاوية تؤلمه ، لكنه استسلم للنوم قبل مجيء الطعام .
في الأيام المقبلة كان نبيل يتجنب بقية الأولاد . فهو يفضّل العزلة والوحدة ، يمضي أحياناً بعض الوقت في الحديقة الخارجية رغم برودة الجو . فيستبد به شعور لا يقاوم بالحنين إلى قريته وإلى أهله وعائلته التي قضت في القصف فتتمثل له كل أحزان حياته . كان الصراع يشتد أحياناً بين الرغبة الطبيعية في الاستمرار في الحياة وبين الرغبة في الفناء كي يلحق بأهله .
وبمرور الزمن ، تعرف نبيل على فاضل،الذي أصبح صديقه الوحيد حيث توطدت العلاقة بينهما بسرعة بسبب قدرة فاضل على الاصغاء إليه بطريقة ذكية .
كان يحلو لنبيل أن يتحدث عن قريته ، تليمثا ، والطريقة التي قتل فيها والداه . كان في ذلك اليوم المشؤوم خارج الدار يلعب مع بعض الأصدقاء وفجأة انطلق زئير الطائرات ، تلقي حممها بطريقة عشوائية على بعض دور القرية ، حيث التجأ عدد من المقاتلين إليها . هرع إلى منزله ليطمئن على أهله . فوجد بأن السقف تهاوى والجدران تهدلت وانطلقت نداءات الاستغاثة والعويل ..... وهنا يتوقف نبيل . فهو لا يقوى على الاستمرار في وصف المنظر البشع الذي رآه .
لكن فاضل سرعان ما يغير الموضوع مستغلاً صوتاً أو منظراً طبيعياً .
قال فاضل يوماً ما وهو يشير إلى السور الذي يفصل بينهما ومبنى الفتيات :
ــ انظر يا نبيل إلى هذا الحائط العالي الذي غطته النباتات الزاحفة .
وحين لم يأبه نبيل بذلك ، أضاف فاضل :
ــ لو تعلم من يسكن خلف هذا الجدار .
تفرس نبيل في السور باهتمام للمرة الأولى وراح يجيل النظر في قمة ذلك الجدار الذي تجاوز ارتفاعه سبعة أمتار .
كانت الريح تداعب قمم الأشجار والهواء يعبق برائحة الأعشاب والأزهار التي فجرتها الأرض وشرعت في الظهور كبراعم في البداية . لكنها لم تلبث أن كبرت وتكورت بفعل حرارة الجو التي كانت ترتفع يوماً بعد يوم . أما الحشيش فقد كان ذا خضرة عميقة كأنه بدوره يحتفي بقدوم الربيع .
وسأله نبيل :
ــ هل حقاً يفصل هذا الحائط بيننا وبين الفتيات ؟
ــ أجل يا نبيل . تصور حائط رقيق لا غير يفصلنا عن أجمل الفتيات في الموصل .
أصاخ الصديقان السمع وقد أحاطا إحدى أذنيهما براحة يدهما . كانت أصوات خافتة لقهقهة الفتيات تصل إلى مسامعهما ، أصوات بدت للشابين كأنغام ملائكية غطت على جميع اهتماماتهما الأخرى . ألصق نبيل أُذنيه على الحائط وأخذ يصغي بشغف . هتف :
ــ هل أستطيع رؤية الفتيات ؟
ضحك فاضل بخبث وقال :
ــ إذا حالفك الحظ وعثرت على النفق السري .
ــ النفق السري ؟ هل تقصد أن هناك نفقاً سرياً بيننا وبين مبنى الفتيات ؟
ــ سمعت أحد الأولاد يقول بأن هناك نفقاً سرياً يتسلل منه أحياناً حين يحل الظلام إلى ميتم الفتيات ويلتقي بحبيبته .
وأضاف وهو يرى علامات الجد على وجه نبيل :
ــ لا شك أنه كان يمزح .
ــ إذن يجب أن نهتدي إلى طريقة ثانية لرؤية الفتيات .
ــ ليس ضرورياً . فلقد حل الربيع . وبعد أيام سيقيم الميتم سفرات . وسيكون بمقدورك أن ترى أولئك الحوريات .
ــ وهل هذهِ السفرات مشتركة مع الفتيات ؟
ــ كلا . لكننا نلتقي هناك .
وبالفعل فقد أعلن الخوري عن سفرة مشتركة يوم الأحد الذي تلى إلى آثار نمرود القريبة . كان النهار حاراً تظلله بعض الغيوم حين انطلق باص الفتيان القديم يشق طريقه في شوارع وطرقات الموصل شرقاً ، وما هي إلا ساعة حتى لاحت الآثار وتوقف الباص فأسرع الفتية بالخروج من الباص وسرعان ما وصل باص الفتيات . وكانت هذهِ المرة الأولى التي يرى فيها نبيل الفتيات اللواتي هبطن من الباص دون أن ينظرن حولهن . بدت الفتيات له كمخلوقات متميزة وغريبة تثير فضوله ، فراح يتفحص تلك الوجوه الخجولة والأجسام الناعمة بنظراته التي تخترق أجسادهم الغضة .
ابتدأت النشاطات بجولة في الآثار تلاها غداء أمام تمثال الثور المجنح . لكن كان من الصعوبة الاختلاط بين الطرفين بسبب وجود الراهبات مع الفتيات ورجال الدين مع الفتية . واستغل نبيل فترة الغداء حيث تناول الطرفان الطعام على مقربة من بعض ، وراح يلقي نظرة متفحصة على كل فتاة لثانية أو ثانيتين، إلى أن استقر بصره على إحدى الفتيات التي لم يقوى على رفع بصره عنها . كانت رائعة الجمال ، طويلة وذات شعر بني مجعد . فأخذ يختلس النظر إليها بنظرات متقدة بين الفينة والأخرى . جلس بعد الغداء على صخرة مع فاضل يعلقان بصوت خفيض على جمال بعضهن . وكان بجلسته تلك يختلس النظرات إلى الفتاة وهي واقفة تتفحص لوحاً على الأرض كتب عليه بالخط المسماري . انتبه فجأة إلى أن الفتاة رفعت رأسها واستدارت ثم حدجته بنظرة دافئة . وحين التقت نظراتهما أخذت تبتسم له . كانت ابتسامة ساحرة تفوق لفحة السوط حرقة . تسمر نبيل في جلسته إلى أن انتبه فاضل إليه فحولت الفتاة أبصارها عنه .
ــ أنت محظوظ يا نبيل .... يا محتال . رأيتها كيف نظرت إليك بوله شديد .
أجاب نبيل وهو يتظاهر بأنه لا يعرف عما يتحدث عنه .
ــ من ؟
ــ لا تتظاهر بالجهل . إنها لا تكف عن النظر إليك . ما أجملها .
كان الباص الآن على وشك العودة بالطلاب إلى الميتم . وهدر صوت الخوري يدعو الجميع للتوجه إلى الباصات .
ــ وما الفائدة يا فاضل ؟ لن أراها لأسابيع عديدة .
ــ من يعلم ؟
وما هي إلا دقائق حتى كان الباص في طريق العودة إلى الميتم . وكان نبيل يفكر بالفتاة وأجهد فكره دون أن يهتدي على طريقة للقاء بها حتى أصبح فريسة أفكاره . لن يراها ثانية قبل شهر . تلك فترة طويلة ، لا بل دهر لا نهاية له . وفجأة ومضت في ذهنه فكرة النفق السري . يجب أن يهتدي إليه ويحاول أن يلتقي بها . كان نبيل كمن صحا فجأة من أثر مخدر طويل الأمد ، فدب النشاط في جسمه الخامل وعادت المشاعر العنيفة إلى قلبه الذي كان صخرة ، خال من أية أحاسيس قبل يوم واحد فقط . كانت الفتاة بمثابة جمرة حارقة اندفعت إلى دواخله وأخذت تكوي أحشاءه . كان يكتوي من عذاب أليم ، لكنه عذاب لذيذ يفضله ألف مرة على الفراغ الذي كان يعيشه قبل أيام . عاد إلى الميتم مفعماً بالغبظة والرضى لا يعكر مشاعره الجذلة سوى فترة الانتظار لشهر آخر .
توالت السفرات بمعدل مرة في الشهر ، لكن حظ نبيل في لقاء الفتاة ذات الشعر البني لم يكن أفضل من ذي قبل ، إذ لم تتاح له فرصة التحدث معها . وكان عزاؤه الوحيد تلك النظرات الملتهبة التي كانت ترمقه الفتاة بها وتدفعه إلى حافة الجنون وتلك الابتسامات الساحرة التي تجعل دقات قلبه تتسارع . كان يتحين الفرصة للتقرب منها كي يتسنى له أن يهمس كلمة أو عبارة في اذنها ، لكن كل ما يحصل عليه هو نظرات دافئة تدخل بعض الاطمئنان إلى قلبه وتمده بشعور بأن الفتاة تكن له مشاعر حقيقية ، فيستسلم لتلك النظرات ويعيش على الأمل . كان ينتظر تلك السفرات على أحر من الجمر ، لكن فكرة رؤيتها مرة في الشهر كانت تدخله في دوامة من الألم ، وعاودته فكرة البحث عن النفق السري .
كانت آخر سفرة الموسم قبل بدء المدارس في أواخر الصيف إلى دير السيدة قرب القوش . كان اليوم قائظاً حيث تصفع شمس الظهيرة الأرض بسياطها اللاهبة فتكاد ترى اللهب يتراقص على الأرض . كان نبيل عازماً أن يتعرف على اسم الفتاة على الأقل وأخذ يتحين الفرصة . كان العطش قد استبد بالطلاب ولم ترو ضمأهم تلك المياه التي تؤخذ من الحب . وفجأة اقترح أحد الرهبان ان يتوجهوا إلى البئر أمام الدير حيث الماء البارد العذب . فتراكض الجميع باتجاه البئر وحلقوا حولها يرتوون من مياهها الباردة ، حيث قام أحدهم بسحب الماء من البئر بدلو ووزعها على الطلاب من كلا الجنسين .
استغل نبيل انشغال الجمع بالماء حيث أخذ الصبية يرشوا بعضهم البعض بعد أن ارتووا . فكان لا ينفك يلاحق الفتاة بأنظاره . ورآها تبتعد قليلاً عن بقية البنات ، تمشي ببطء ثقيل بين الأشجار الصغيرة . فسار نبيل بأتجاهها وهو يلتفت يمنى ويسرى حتى اقترب منها . وما أن انفرد بها حتى استجمع شجاعته وسألها ؟
ــ ما اسمك ؟
خضبت الحمرة وجهها الجميل وابتسمت ابتسامة دافئة .
ــ كيف لا تعرفني .. يا نبيل ؟
قالت الفتاة ذلك بلهجة ودية كمن تعرفه منذ زمن طويل . كانت مفاجأة هائلة لنبيل .
ــ أنتِ تعرفينني ؟
وحين هزت رأسها ، أضاف : أقصد قبل أن أقدم إلى الميتم ؟
ــ طبعاً . وأنتَ أيضاً تعرفني . هل تتذكر قرية تليمثا وذلك البيت الخشبي بين الكنيسة والسوق ؟
ــ بيت العم حنا ؟ وحين هزت رأسها بالإيجاب ، أضاف :
ــ طبعاً أعرفه .
وألقى نظرة متفحصة على الفتاة ، ثم هتف :
ــ لا تقولي أنتِ سميرة ؟
ــ أنا هي ، لقد مضى عليّ في الميتم أربع سنوات بعد أن توفي والدي حنا .
وهتف :
ــ سميرة . لا أصدق أنتِ هنا . أكاد أراكِ وأنتِ فتاة لا تتجاوزين الثانية عشرة بشعرك المجدول .
وابتسمت سميرة وقالت :
ــ حين رأيتك للمرة الأولى مرة في سفرة آثار نمرود لا تعرف ما أصابني . شعرت بسعادة تغمرني وبأن قرية تليمثا بأكملها أصبحت قريبة مني .
انفك شريط ذكرياتهِ وغاب يسترجع تفاصيل كاد أن يطويها النسيان . وأخذت أيام الطفولة في القرية تنساب إلى ذاكرته حيث كان يعرف سميرة منذ نعومة أضفارهما ، فهو يسكن في نفس المنطقة . وتذكر تلك الأوقات الجميلة حين يذهب الجميع إلى الحقول في عيد بعض القديسين وهناك يسرح ويمرح الأولاد من كلا الجنسين وتذكر نبيل تلك الأوقات البريئة التي أمضاها مع سميرة . قطع عليه حبل ذكرياته صوت عالي يطلب من الطلاب التوجه إلى الباصات .
ــ وكيف أستطيع أن أراكِ بعد اليوم ؟
ــ لا أعلم يا نبيل ، لكن ثق . سأفتقدك كثيراً .
هبط قلبه وتمنى لو يستطيع أن يطير بسميرة إلى كوكب نائي . واستطاع أن يتمالك نفسه وقال :
ــ وأنا أيضاً سأفتقدك ... أنتِ ... موجودة في قلبي منذ أن رأيتكِ للمرة الأولى . لكني يجب أن أراك . أنتِ تعلمين بأنه لن يكون هناك سفرات لستة أشهر .
امتدت يده إلى يدها وأمسك يديها وقربهما من صدره .
أحس نبيل بسعادة لا توصف وهو يضغط على تلك الأنامل الناعمة . ابتسمت وقالت بمودة :
ــ لا شك بأننا سنلتقي قريباً .
ــ كيف ؟ وتذكر شيئاً .
ــ هل سمعتِ بالنفق السري ؟
حاولت أن تقول شيئاً . ولكن قبل أن تنطق بجملة أخرى صرخ بهما الخوري أن يتوجها إلى الباص . فقالت بحزن وقد أغرورقت عيناها بالدموع :
ــ إلى اللقاء يا نبيل .
قالت ذلك وابتعدت وهو يشيعها بنظراتهِ . وما هي إلا دقائق حتى كان الباص في طريق العودة .
تهالك نبيل على مقعد في الباص صامتاً مكتئباً وقد شعر بوحدة قاتلة رغم كونه محاطاً ببقية الفتيان.عاد نبيل إلى الميتم تعتلج في صدرهِ مزيج من مشاعر الفرح والقلق الغامض وهو يسترجع في ذاكرته تلك الأيام السعيدة في القرية حين كان يعرف سميرة من المدرسة وخارج المدرسة وهو يكبرها ببضعة أشهر .
ابتدأ العام الدراسي في شهر أيلول حيث احتفل نبيل بعيد ميلاده السابع عشر .
وحاول أن يواظب على مدرسته . لكن وجود سميرة على بعد أمتار عنه دون أن يستطيع أن يراها كان يقضُّ مضجعه ويدخله في كآبة وخاصة إن السفرات الشهرية انتهت ويجب عليه الانتظار إلى الربيع القادم .
كان يمضي أحياناً ساعات وهو يسير بمحاذاة الحائط الذي يفصله عن حبيبته ، فيتخيل إنه يخترق ذلك الحائط ويراها ويضمها إلى صدره ويقبلها . لكنه يفيق من أحلام اليقظة تلك ويلتجئ إلى فاضل ويطلب منه أن يساعده في العثور على النفق السري . وهكذا أمضى الصديقان أياماً وأسابيعاً دون أن يهتديا إلى النفق .
كانت هناك أشجار عالية وبعض الصخور في الحديقة . وفكر نبيل بأن مدخل النفق لابد أن يكون مكسواً ببعضٍ من تلك الصخور .
ــ لابد أن نزيل هذهِ الصخور يا فاضل .
ــ لكنها ثقيلة جداً
ــ إذن يجب أن نستعين ببعض الأولاد .
ــ كلا يا نبيل . سوف ننفضح . ألا تعلم بأن السر ينكشف إذا أطلع عليه أكثر من أثنين .
ــ لكني يجب أن أراها .
أرسل فاضل نظراته حول المكان ولمعت عيناه فجأة .
ــ ربما تستطيع أن تراها يا نبيل
ــ هل أنتَ جاد ؟ متى ؟
ــ اليوم ... وربما هذهِ اللحظة
ــ اليوم ؟ كيف ؟ قل لي بحق السماء . أنت قتلتني .
ــ هل ترى هذهِ الشجرة قرب الحائط ؟
وألقى نبيل نظرة سريعة إلى الشجرة . وفهم ما يرمي إليه فاضل .
ــ بوسعك أن تتسلقها يا نبيل . وقد يحالفك الحظ فترى سميرة .
انبسطت أساريره وأفلت من فمه صيحة خافتة .
ألقى نظرة متفحصة على الشجرة الباسقة .
ــ إنها عالية جداً ... وقد يراني أحدهم في الميتم .
ــ تستطيع أن تتسلق الشجرة غداً أثناء الغداء إذ يتوجه الجميع إلى قاعة الطعام التي لا تطل على الحديقة .
وفي اليوم التالي انسل الصديقان قبل الغداء مباشرة إلى خارج مبنى الميتم باتجاه الحديقة . سار نبيل في رحاب الجنينة وهو يتفحص معالمها وتوقف عند إحدى الأشجار القريبة من السور .
ــ هذهِ الشجرة يا فاضل أعلى الأشجار .
ولم يضيع نبيل أي وقت بل هجم على الشجرة وأحاطها بذراعيه .
ــ مهلاً يا صاحبي .
وأخذ نبيل يتسلق الشجرة وهو يحول بصره بين الحائط وبين الأغصان . كان التسلق شاقاً لكن نبيل كان مصراً على المضي قدماً في تحقيق هدفه ، حتى بلغ قمة أحد الأغصان . كان الآن بارتفاع يوازي قمة الحائط .
ــ هل ترى شيئاً ؟
ــ كلا . يجب أن أتسلق الغصن العالي .
ــ كن حذراً يا نبيل .
وعاود نبيل التسلق حتى بدا ميتم الفتيات يلوح له شيئاً فشيئاً وكان هناك بضع من الفتيات في الحديقة .
كان نبيل قد أوشك على بلوغ قمة الشجرة ولم يتبق سوى غصن رفيع . وضع نبيل قدمه على الغصن ورفع جسده إلى الأعلى فظهر جانب آخر من مبنى الفتيات . مال نبيل بجسدهِ إلى الأمام ليتمكن من أن يلقي نظرة أوضح على المكان . ولكن في هذهِ اللحظة انكسر الغصن وسقط نبيل على الغصن الذي تحته وأخذ يتدحرج من غصن إلى آخر حتى استقر على الأرض الصلبة دون حراك .
جمد فاضل في مكانه لعدة لحظات لا يقوى على الحركة . اقترب من نبيل لكن الأخير كان مضرجاً بدمائه التي تدفقت من أجزاء من جسده جراء الأغصان التي انغرست في جسمه . هرع فاضل إلى الميتم وما هي إلا دقائق حتى كان نبيل في طريقه إلى المستشفى . وأصر فاضل على الذهاب معه .
كان نبيل قد فقد كمية كبيرة من الدم لكنه كان لا يزال على قيد الحياة .
وبعد انتظار ساعات طويلة في ردهة المستشفى ، فهم فاضل بأن نبيل يتأرجح بين الموت والحياة وبأنه لا يستطيع الكلام ولا يستطيع أن يفتح عينيه .
عاد فاضل إلى الميتم وقلبه ينبؤه بأنه لن يرى صديقه بعد اليوم .
في اليوم التالي ذهب فاضل إلى المستشفى سيراً على الأقدام . سمح له الخوري بالذهاب بعد أن أقنعه فاضل بأنه أقرب إنسان إلى نبيل في هذهِ الأرض . وفهم من حديثه مع الممرضة بأن وضع نبيل لم يتغير . طلب فاضل من الممرضة أن تسمح له بدخول غرفة نبيل . وحين رفضت قال لها بأن الشاب سيموت في أية لحظة ولا يوجد أية محاذير في الزيارة . وهكذا استطاع فاضل أن يدخل إلى غرفة نبيل حيث رقد صديقه جثة هامدة . لكنه كان يتنفس .
ــ نبيل . أنا صديقك فاضل . افتح عينيك . أنا فاضل .
وفجأة تحرك نبيل كأن صوت صديقه أعاده إلى الحياة . تشجع فاضل فأخذ يتحدث مع نبيل حتى فتح الأخير عينيه ، لكنه أغلقهما بسرعة .
أسرع فاضل إلى خارج الغرفة وأخبر الممرضة بأن نبيل فتح عينيه . اندفعت الممرضة إلى غرفة نبيل الذي كان قد عاد إلى وضعه النائم الأقرب إلى الموت .
قالت :
ــ اذهب الآن يا بني . تستطيع أن تعود يوم غد . إنه بحاجة للراحة .
وفي الحقيقة لم يصدق أي من في المستشفى بأن نبيل سيعيش ويعود إلى الحياة بسبب النزيف الحاد في مناطق من جسده . سألها فاضل :
ــ هل أستطيع أن أجلب له بعض الفاكهة والحلوى ؟
ــ كلا . لا يمكنه تناول أي شيء صلب .
ــ ألا يوجد شيء أستطيع أن أعمله لنبيل ؟
ــ نعم يا بني .... صلي من أجله .
أدخلت الجملة الأخيرة الرعب إلى قلبه الواجل ، وغادر المستشفى وكلمات الممرضة ترن في اذنه . إنه مائت لا محالة وإلا لماذا طلبت مني أن أصلي من أجله .
في الأيام التالية كان نبيل قد بدأ في الكلام لكن صحته لم تتحسن . وعليه الخضوع لعدد من عمليات خطرة قد تقضي عليه . وهو يرد باقتضاب على كلمات فاضل .
وأدرك الأخير بأن صديقه يعاني من كآبة هائلة ستقتله حتى إن لم تقض عليه العمليات الجراحية .
وقال فاضل ذات يوم بعد انتهاء العملية الأولى :
ــ ستكون على ما يرام يا نبيل . لقد تحدثت مع الممرضة قبل دقائق . قالت بأن العملية تكللت بالنجاح .
وفي الحقيقة لم يتحدث فاضل مع الممرضة ذلك اليوم .
بذل نبيل جهداً كبيراً حتى فتح عينيه وقال وهو يرمق فاضل بنظرة عتاب .
ــ لا تضحك علي يا نبيل . سمعت الطبيب وهو يقول للممرضة بأنه لا يوجد أي فائدة من إجراء هذهِ العمليات لأنها لن تنجيني من الموت . قال الطبيب ذلك بعد انتهاء العملية حيث اعتقد بأني تحت تأثير المخدر .
ــ ستعيش يا نبيل . ستعيش .
ــ كلا . سأموت .
تفرس نبيل بفاضل وقال بهدوء :
ــ أطلب منك أن تقول لسميرة بأني أحبها ، أحبها كثيراً . ستراها بعد بضعة أشهر في إحدى السفرات . قل لها بأنها كانت تعيش في قلبي إلى أن توقف عن النبض . وقل لها أيضاً بأني مت سعيداً لأن حبها جعلني أنسى الخوف وأنسى كل شيء آخر سواها .
ــ اسمع يا نبيل . لن تموت ... يجب أن تعيش . إنك شاب ذكي في مقتبل العمر .
ــ ولماذا أعيش ؟ ولمن ؟ لقد فقدت أهلي ولم يعد لي أقرباء في القرية . والشخص الوحيد الذي كان يربطني بالقرية ، لن استطيع أن أرى سميرة لستة أشهر على الأقل .
وأدرك فاضل بأن وضع نبيل ميؤوس منه . فقرر أن يعمل شيئاً . عليه أن يصل إلى سميرة وربما تستطيع أن تزوره في المستشفى قبل أن يموت .
عاد فاضل إلى الميتم وهو يفكر في طريقة للوصول إلى سميرة . إنه لا يجرؤ أن يقول للخوري بأن نبيل متيم بسميرة . أجهد تفكيره دون أن يتوصل إلى حل . إذن يجب أن يكتشف النفق السري . أمضى فاضل ساعات طويلة ومضنية يبحث عن النفق السري واستعان أيضاً ببعض الأولاد الذين كان يعرف بحيلهم الواسعة .
عاد فاضل إلى المستشفى بعد يومين وقالت له الممرضة بأن نبيل تعرض إلى انتكاسة جديدة ، وقد لا يعيش يوماً آخر . وهو الآن في غرفة النقاهة ، لم يأكل شيئاً في اليومين الأخيرين .
وفي غرفة النقاهة انتبه فاضل إلى الأطعمة التي غطت المائدة الصغيرة والتي لم تُلمس . أما نبيل فقد بدا أقرب إلى الموت من أي وقت مضى . وما أن التقت نظراته بنظرات نبيل المكتئبة الشبه موصدة ، حتى هتف فاضل بطريقة وبنبرة تنطوي على الحماس .
ــ لقد اهتديت إلى النفق السري يا نبيل .
بذل نبيل جهداً جباراً لفتح عينيه وتفرس بفاضل غير مصدق .
ــ نعم يا صديقي . لقد اكتشفتُ مكان النفق السري يا نبيل .
أفلتت من فم نبيل صيحة خافتة وفتح عينيه على سعتهما ورمق فاضل بنظرة بنظرة سريعة وقال :
ــ هل أنتَ جاد ؟
ــ نعم يا نبيل . عرفت مكان النفق السري . تستطيع الآن أن ترى سميرة متى شئت .
وكأن لفظة سميرة أعادته إلى الحياة . إذ بدت على وجهه إمارات السعادة وبدا متأثراً جداً وأخذ يدمدم : أستطيع أن أرى سميرة كل يوم .
استسلم فترة قصيرة لهذهِ النشوة لكن سرعان ما توقف وتغيرت ملامح وجهه .
ــ وما الفائدة يا فاضل . حتى لو تحسنت صحتي ، لن أقوى على السير بعد اليوم . ألا تعلم بأن قدمي كلتيهما قد كسرا ؟
قال فاضل بخبث :
ــ كنتُ عازماً أن لا استعمل النفق ريثما تعود إلى الميتم . لكن ما زلت غير قادر على السير سأذهب وحدي اليوم .
ــ كلا . لن تذهب لوحدك . عدني بأنك لن تذهب .
ــ حسناً أعدك يا نبيل بشرط أن تعود إلى الميتم خلال شهر .
ــ أعدك . لكن أخبرني كيف عثرت على النفق وأين هو ؟
ــ هل تتذكر تلك المصطبة في نهاية الحديقة . جلستُ عليها البارحة وانتبهتُ إلى وجود أحجار مربعة كبيرة تحتها . نهضتُ ودفعتُ المصطبة من مكانها وحاولت أن أحرك أحد الأحجار فإذا بالحجر يتحرك ويظهر تحته سم صغير أخذني إلى حديقة الفتيات . لكني عدتُ أدراجي لأخبرك .
لم يستطع نبيل كتمان ابتهاجه والتمعت عيناه من الفرح .
ــ وهل يعرف أحد بوجود النفق غيرك يا فاضل ؟
ــ كلا . بوسعك أن تخبر من تشاء .
ــ هل أنتَ مجنون ؟
وفي الأيام والأسابيع القادمة كانت صحة نبيل تتحسن باضطراد وقدماه تقويان بسرعة مدهشة أثار استغراب الأطباء الذين توقعوا وفاته قبل أسابيع . ولم يمض الشهر حتى كان نبيل يغادر المستشفى . وفي طريق الميتم همس نبيل في أذن فاضل :
ــ هل أستطيع أن أرى النفق اليوم ؟
ــ كلا . إنك لا تزال تمشي بعكاز .
ــ ليس بعد اليوم . لقد تخلصتُ من العكاز .
ــ سنرى بعد أن نعود .
نهض نبيل في صباح اليوم التالي وسار بخطى ثابتة إلى سرير فاضل :
ــ هيا يا صديقي . لنذهب إلى النفق .
سار الصديقان إلى الحديقة وتعجب فاضل من التقدم الكبير الذي أحرزه نبيل ، إذ بدا يمشي بطريقة طبيعية . جلس فاضل على أول صخرة وطلب من نبيل أن يجلس .
ولما امتثل نبيل ، قال وهو يتفحص ملامح الفتى :
ــ اسمع يا نبيل ، يؤسفني أن أقول لك بأني كذبتُ عليك .
اصفَّرَ وجه نبيل .
ــ ماذا تقصد ؟
ــ لا يوجد نفق بيننا وبين الفتيات ؟
ــ لا يوجد نفق ؟
ــ كلا ياصديقي .
ــ ولماذا قلت لي إذن بأنك اهتديت إليه .
ــ كنتُ خائفاً عليك من الموت .
مرشد كرمو