في رواية سمفونية الجنوب ثمة حكايات صغيرة تحمل معانٍ كبيرة، شجارات تافهة، وتصالحات هينة متسامحة، وكما يقول الحكيم امادو همباتي با « لا وجود لشجارات صغيرة » فالتفاعلات اليومية العابثة هي مصدر كوارثنا التاريخية المهولة ، وهذا ما تعلمنا له حكايات "مريام" عن مآسي الجنوب والشمال في الدولة التشادية الحديثة، ينبأنا طاهر محمد نور؛ عبر نمنمة ناعمة ورصد نابه لتفاصيل الدغل الافريقي الأخضر ابداً ومدائن السياسيين الخربة التي يستعصمون بها من غضب الشعوب المظلومة.
لا احب كتابة الاوراق النقدية حول الفن عموماً، لذلك اتهرب عند الحديث عن الاعمال الفنية الى ما اسميه « قراءات » وهي بلا شك الجانب المشرق من انطباعاتي حول العمل الفني، مذ أن نصّب العلم النقد ميزاناً للاعمال الفنية يحمل بين كفتيه محاسن ومساوئ العمل. وهو جهد مضني يحتاج الى قلب صلب ومعول ماضي لإنجازه كما ينبغي، وأنا قلبي رقيق حين يتعلق الامر بالفن، تأثره التشبيهات والصور الجمالية فيغفر سقطات السرد وذنوب الإعداد.
في رواية سمفونية الجنوب التي تسربت من بين يومياتي المزحومة بسبب إضاءة الاستاذ ابراهيم الاعيسر التي كتبها حولها مؤخراً، -كانت من ضمن خطط الربع الاخير من السنة في القراءة- وجدتُ صديقي « طاهر » كما عهدته فيما يخص قنص السرد وافانين الحكي، عبر فتل حبل القصص المتين. فهو حاذق، ماهر ، نزق وفنان، ولكن ما لفت انتباهي اكثر، هو اسلوب الحكاوي القصيرة، الذي انتهجه في هذه الرواية وهو ما اصطلحت عليه ب"النمنمة" إذ انه عمد على تقسيم التفاصيل اليومية الصغيرة للطفلة « مريام »والقرية الجنوبية، وجمال حياة «الزعيم » الى جزيئات صغيرة ومن ثم دس فيها الحكاية الاساسية وهي مآسي الشمال من تناحر الاقرباء عند « انكول موسى » ووحشية الدولة عند « حامد » و « لال تانكيه » او « صاحب الأتان » كما سمته الصديقات الصغيرات، لتصبح السمفونية متناسقة ومتوازنة هكذا:
جمال الجنوب، خضرته وسلامه مطعّم بقساوة الشمال، صحراءه وحروبه، ثم عسف الدولة وطغيانها كإيقاع مصاحب.
عندما يتحدث « تلبو »عن اي عمل « لطاهر » فلابد من ان يشير الى دهشته المستمرة تجاه تشبيهاته البديعة، فالاخير دائما ما يجد حيلته ليدهش الاول بذوقه الخاص في ابتداع الصور التشبيهية، يقول طاهر :
« مثل حبل مربوط بفرس » ص12
اجد هذا التشبيه البسيط مدهشاً للغاية فأي خيال ذلك الذي ينتبه الى إنقياد الحبل المربوط بفرس، عوضاً عن تشبيه الانقياد الاساسي للفرس عبر اللجام!
وكذلك يشبه طاهر هلع الاطفال من صافرات الزعيم المهاب من الجميع:
« فور ان خدشت بجرسها المفزع طبلات اذانهم ص21 »
هل يستطيع احدكم أن يتخيل هلعه حين يخدش احدهم طبلة اذنه!
اللغة الوصفية المتماسكة اضافة الى الحبكة الدرامية السلسة اعطتا العمل بعداً فنياً خاصاً، عادة ما تجذبني الاعمال الفنية المكتوبة بسجية واطمئنان الى الطبيعة، لاسيما تلك المكتوبة بعيون البراءة والطفولة، ففي رواية « حياة وزمن مايكل ك » لازلت استحضر مشهد مايكل ك تائهاً في البرية خوفاً من الاعتقال، وكيف تصالح مع الطبيعة في المنزل الريفي المهجور، لم استطع التخلص من وجد رواية الجنوب افريقي تلك حتى بعد احد عشر عاماً من اول مطالعة لمتنها، ففي تلك الاعمال نجد أن العالم يبدو اكثر صدقاً واخلاصاً/ اقل شر ونجاسة، حتى وإن تناول العمل حماقات السياسة، وتخابيص سدنتها، كما في « سمفونية الجنوب »
اللغة الشعرية ايضاً كانت حاضرة في مقطوعة الجنوب الاخضر الغنائية هذه، حيث أني استطعت أن ارصد قصيدة مكتملة تليق بجموح شاعر صاعد مثل صديقي « محمد اسامة » وكذلك تغري تفاعلات أخر متطمئن الى مجده الشعري التليد كالأب « وول سوينكا » في
صفحة264 يقول صاحب السمفونية:
« تمر الايام، ولا تنمحي الذكريات.
الذكريات تجيء، كما تجيء الريح.
تمر الايام، ولا تُشفى جراح السنين. »
بإمكاننا اطلاق « مرور متعثر » كعنوان لهذه القصيدة.
المصادفة العجيبة، هي اني قبل اسبوعين دُعيت الى كتابة ورقة نقدية عن هذه الرواية لمناقشتها عبر جلسات منتدى الرواية على تطبيق " الزوم" المنعقدة لمناقشة الروايات السودانية والتي ستناقش فيها هذه الرواية استثناءاً ، ولكني اعتذرت بسبب عدم تمكني من مطالعة الرواية حينها كما أن الجلسات النقدية اتت متوازية مع إلتزامات عمل ملحة لا تتسامح مع التأجيل - وربما بسبب فوبيا النقد- و الآن وبعد مطالعة مراجعة الاستاذ الاعيسر الملهمة التي جعلتني آتي على الرواية في جلستين، ها انا ذا اقول أن هناك صورة بديعة قبضتها ذاكرتي من بين ثنايا عزف « سمفونية الجنوب » وهي تصوير مشهد القدور فوق النار في زيارة « مريام" الليلية لبيت صديقتها الحكيمة "كيومو" حين قال:
« الفحم كان يشتعل تحت قدر صغير، فيما النار تلسع جسد قدر كبير اخر بجواره ص40 »
مقاربة تصويرية تجعلك تتحسس جسدك حين تتخيل معاناة القِدر الكبير فوق النار ، وهو ما اسميه ب« التماس الحسي » في التصوير .
وذلك التماس اتى جلياً عند وصفه لحال « سليمة » اخت حامد عند ظهورها امامه في اول صباح له في قريتها بعد رحلة الشتات الاسري في صحاري الشمال بعد الحرب، وقد بكت لاجل الموتى في ليلها:
«يبدو انها بكت طويلاً طويلاً خلال الليل الذي مات »ص 337
فالبكاء لأجل الموتى جعل الليلة البارحة في عداد الموتى هي الاخرى.
واخيراً ما جعل الحكاية مسلية في هذه الرواية هو الاطار الشعري لحبكتها، حيث تعامل الكاتب مع روايته كقصيدة طويلة، يبث عبرها مآلات الاقدار وجبروت صروف الدهر لمخلوقاته المعذبة أبداً، دون أن يختل حسها الشاعري، وذلك يبدو جلياً في فصولها الشعرية والتي لم تتعدى السطرين او الثلاثة اسطر مثل الفصل 62 من الرواية الكائن تحت عنوان « ركض »والذي جاء في سطرين فقط:
« عليّ الركض في كل الاتجاهات،
مهمتي أن اركض.» ص 325
هناك بعض التنميطات اللونية -وتشبيه واحد- التي لم أستسيغها في الرواية وهي على قلتها اتت مثقلة على ذائقتي اذكر منها وصفه لزعيم القرية:
« زعيم القرية يسير وحيدا ككلب ضال »ص ٢٠
« السبورة الخشبية السوداء كالموت » ص 101
« سبتمبر الاسود » ص 153
ففي اطار الوعي بالذات كان لزاماً علي الاشارة الى ان السواد في الثقافة الافريقية يشير الى الإباء والسؤدد او الى الحياد في اسوء الاحوال مثله مثل الاصفر والابيض فهو لايعني الموت ابداً الا في مخيلة البيض، بل بالعكس في تشاد والسودان بالتحديد ثوب الحداد ابيضاً وكذلك ثوب الصلاة والفرح ابيضاً وذلك ما يجعل قدح الوعي الافريقي مُعلى، فإرتداء ثوب ابيض في الحداد لا يعني باي شكل « تنميط مضاد » وانما محاولة لخلق الحياد عند معادلته بلون ثوب الفرح الابيض هو الاخر.
فحري بنا نحن كُتاب افريقيا « اصحاب الوجوه السوداء » الى خلق التصاوير بعيداً عن انطباع البيض تجاه دلالات الالوان.
تلبو
لا احب كتابة الاوراق النقدية حول الفن عموماً، لذلك اتهرب عند الحديث عن الاعمال الفنية الى ما اسميه « قراءات » وهي بلا شك الجانب المشرق من انطباعاتي حول العمل الفني، مذ أن نصّب العلم النقد ميزاناً للاعمال الفنية يحمل بين كفتيه محاسن ومساوئ العمل. وهو جهد مضني يحتاج الى قلب صلب ومعول ماضي لإنجازه كما ينبغي، وأنا قلبي رقيق حين يتعلق الامر بالفن، تأثره التشبيهات والصور الجمالية فيغفر سقطات السرد وذنوب الإعداد.
في رواية سمفونية الجنوب التي تسربت من بين يومياتي المزحومة بسبب إضاءة الاستاذ ابراهيم الاعيسر التي كتبها حولها مؤخراً، -كانت من ضمن خطط الربع الاخير من السنة في القراءة- وجدتُ صديقي « طاهر » كما عهدته فيما يخص قنص السرد وافانين الحكي، عبر فتل حبل القصص المتين. فهو حاذق، ماهر ، نزق وفنان، ولكن ما لفت انتباهي اكثر، هو اسلوب الحكاوي القصيرة، الذي انتهجه في هذه الرواية وهو ما اصطلحت عليه ب"النمنمة" إذ انه عمد على تقسيم التفاصيل اليومية الصغيرة للطفلة « مريام »والقرية الجنوبية، وجمال حياة «الزعيم » الى جزيئات صغيرة ومن ثم دس فيها الحكاية الاساسية وهي مآسي الشمال من تناحر الاقرباء عند « انكول موسى » ووحشية الدولة عند « حامد » و « لال تانكيه » او « صاحب الأتان » كما سمته الصديقات الصغيرات، لتصبح السمفونية متناسقة ومتوازنة هكذا:
جمال الجنوب، خضرته وسلامه مطعّم بقساوة الشمال، صحراءه وحروبه، ثم عسف الدولة وطغيانها كإيقاع مصاحب.
عندما يتحدث « تلبو »عن اي عمل « لطاهر » فلابد من ان يشير الى دهشته المستمرة تجاه تشبيهاته البديعة، فالاخير دائما ما يجد حيلته ليدهش الاول بذوقه الخاص في ابتداع الصور التشبيهية، يقول طاهر :
« مثل حبل مربوط بفرس » ص12
اجد هذا التشبيه البسيط مدهشاً للغاية فأي خيال ذلك الذي ينتبه الى إنقياد الحبل المربوط بفرس، عوضاً عن تشبيه الانقياد الاساسي للفرس عبر اللجام!
وكذلك يشبه طاهر هلع الاطفال من صافرات الزعيم المهاب من الجميع:
« فور ان خدشت بجرسها المفزع طبلات اذانهم ص21 »
هل يستطيع احدكم أن يتخيل هلعه حين يخدش احدهم طبلة اذنه!
اللغة الوصفية المتماسكة اضافة الى الحبكة الدرامية السلسة اعطتا العمل بعداً فنياً خاصاً، عادة ما تجذبني الاعمال الفنية المكتوبة بسجية واطمئنان الى الطبيعة، لاسيما تلك المكتوبة بعيون البراءة والطفولة، ففي رواية « حياة وزمن مايكل ك » لازلت استحضر مشهد مايكل ك تائهاً في البرية خوفاً من الاعتقال، وكيف تصالح مع الطبيعة في المنزل الريفي المهجور، لم استطع التخلص من وجد رواية الجنوب افريقي تلك حتى بعد احد عشر عاماً من اول مطالعة لمتنها، ففي تلك الاعمال نجد أن العالم يبدو اكثر صدقاً واخلاصاً/ اقل شر ونجاسة، حتى وإن تناول العمل حماقات السياسة، وتخابيص سدنتها، كما في « سمفونية الجنوب »
اللغة الشعرية ايضاً كانت حاضرة في مقطوعة الجنوب الاخضر الغنائية هذه، حيث أني استطعت أن ارصد قصيدة مكتملة تليق بجموح شاعر صاعد مثل صديقي « محمد اسامة » وكذلك تغري تفاعلات أخر متطمئن الى مجده الشعري التليد كالأب « وول سوينكا » في
صفحة264 يقول صاحب السمفونية:
« تمر الايام، ولا تنمحي الذكريات.
الذكريات تجيء، كما تجيء الريح.
تمر الايام، ولا تُشفى جراح السنين. »
بإمكاننا اطلاق « مرور متعثر » كعنوان لهذه القصيدة.
المصادفة العجيبة، هي اني قبل اسبوعين دُعيت الى كتابة ورقة نقدية عن هذه الرواية لمناقشتها عبر جلسات منتدى الرواية على تطبيق " الزوم" المنعقدة لمناقشة الروايات السودانية والتي ستناقش فيها هذه الرواية استثناءاً ، ولكني اعتذرت بسبب عدم تمكني من مطالعة الرواية حينها كما أن الجلسات النقدية اتت متوازية مع إلتزامات عمل ملحة لا تتسامح مع التأجيل - وربما بسبب فوبيا النقد- و الآن وبعد مطالعة مراجعة الاستاذ الاعيسر الملهمة التي جعلتني آتي على الرواية في جلستين، ها انا ذا اقول أن هناك صورة بديعة قبضتها ذاكرتي من بين ثنايا عزف « سمفونية الجنوب » وهي تصوير مشهد القدور فوق النار في زيارة « مريام" الليلية لبيت صديقتها الحكيمة "كيومو" حين قال:
« الفحم كان يشتعل تحت قدر صغير، فيما النار تلسع جسد قدر كبير اخر بجواره ص40 »
مقاربة تصويرية تجعلك تتحسس جسدك حين تتخيل معاناة القِدر الكبير فوق النار ، وهو ما اسميه ب« التماس الحسي » في التصوير .
وذلك التماس اتى جلياً عند وصفه لحال « سليمة » اخت حامد عند ظهورها امامه في اول صباح له في قريتها بعد رحلة الشتات الاسري في صحاري الشمال بعد الحرب، وقد بكت لاجل الموتى في ليلها:
«يبدو انها بكت طويلاً طويلاً خلال الليل الذي مات »ص 337
فالبكاء لأجل الموتى جعل الليلة البارحة في عداد الموتى هي الاخرى.
واخيراً ما جعل الحكاية مسلية في هذه الرواية هو الاطار الشعري لحبكتها، حيث تعامل الكاتب مع روايته كقصيدة طويلة، يبث عبرها مآلات الاقدار وجبروت صروف الدهر لمخلوقاته المعذبة أبداً، دون أن يختل حسها الشاعري، وذلك يبدو جلياً في فصولها الشعرية والتي لم تتعدى السطرين او الثلاثة اسطر مثل الفصل 62 من الرواية الكائن تحت عنوان « ركض »والذي جاء في سطرين فقط:
« عليّ الركض في كل الاتجاهات،
مهمتي أن اركض.» ص 325
هناك بعض التنميطات اللونية -وتشبيه واحد- التي لم أستسيغها في الرواية وهي على قلتها اتت مثقلة على ذائقتي اذكر منها وصفه لزعيم القرية:
« زعيم القرية يسير وحيدا ككلب ضال »ص ٢٠
« السبورة الخشبية السوداء كالموت » ص 101
« سبتمبر الاسود » ص 153
ففي اطار الوعي بالذات كان لزاماً علي الاشارة الى ان السواد في الثقافة الافريقية يشير الى الإباء والسؤدد او الى الحياد في اسوء الاحوال مثله مثل الاصفر والابيض فهو لايعني الموت ابداً الا في مخيلة البيض، بل بالعكس في تشاد والسودان بالتحديد ثوب الحداد ابيضاً وكذلك ثوب الصلاة والفرح ابيضاً وذلك ما يجعل قدح الوعي الافريقي مُعلى، فإرتداء ثوب ابيض في الحداد لا يعني باي شكل « تنميط مضاد » وانما محاولة لخلق الحياد عند معادلته بلون ثوب الفرح الابيض هو الاخر.
فحري بنا نحن كُتاب افريقيا « اصحاب الوجوه السوداء » الى خلق التصاوير بعيداً عن انطباع البيض تجاه دلالات الالوان.
تلبو
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com