صديقة صديق - طبيب مقيم..

أثار فضولي العجوز،الذي اشمأزَّ من رائحته بعض العاملين في المشفى ، وتركوه وحيداً في سريره ، ،دنوت منه أكثر، لأتفحص وجهه جيدا ، بعد أن وضعت على أنفي كمامة ، ولبست قفازات ، احترت من القذارة التي هو فيها.. أظفاره تخبئ تحتها وسخ العمر ، طبقات من الأتربة السوداء سمَّكت كعبيه، حتى أنك تظنها جزءاً من جلده المشقق ، رقبته النحيلة خبأت القسم الكبير من الدهون السوداء في تجاعيدها،أ كثر ما يقزز النفس رائحة البول الجاف الممزوج برائحة عرقه الرطب المتبقع على سرواله ،،رائحة تجعلك تشعر برغبة بالإقياء. كل شيء فيه يدعوك للنفور ما عدا وجهه ، حليق الذقن، نظيف العينين ، حتى شعره الأبيض الملوث ببعض الأتربة لا ينمّ على أنّ هذا الرّأس، النَّظيف لذلك الجّسد .
***•• **
أخذتِ الممرضات يتهرَّبن من خدمته فغادرن غرفته بسرعة.
من أسعفه قال أنّه وجده بالطريق ،وقد أُغمي عليه.
عندما خلعت عنه سترته ،فاجأني هاتفه النقّال كان من أحدث وأغلى الأجهزة ، ظننته حرامي، ما أن نظرت الى الجيب الداخلي ،ووجدت نظاراته والجريدة الملفوفة بعناية المتشربة عرقه وعفونة تمحي اخبارها العريضة ، حتى استبعدت هذا الإحتمال المهين، تناولت هاتفه بحذر مع محاولتي ألا أقلق نومه ووضعته تحت وسادته خشية أن يُسرق منه .
*** ٠**•••. ****
كان ضغط الدّم عنده طبيعي، والأكسجة طبيعية وحتى تحليل الدم كل شيء فيه ضمن الحدود الطبيعية إلا نظراته ،وهي تتفحصني ،والتي كانت تقول مالا أفهمه ... عافت نفسي المكان وهممت بالخروج ... لكن استوقفني سؤاله :
-هل أنت طبيب ؟ قالها بهدوء وبلغة سليمة واضحة لا يشوبها ضعف .
_نعم أنا طبيب .قلتها ولعنت بسرّيّ اللّحظة التي اخترت فيها هذه المهنة.
_ لا بد أنكم تتأففون مني لكنّ هل يوجد حمام هنا، هل تكلّف أحدهم كي يساعدني لأستحمّ .
مضى وقت طويل ولم اغتسل .
- أتعيش لوحدك؟ قلتها ولم أحتج لكثير من الذكاء لاكتشف ذلك .
-لا ..أعيش مع خوفي .
أدهشني رده،كما أذهلني طلبه ،ونفى تماما احتمال ان يكون لصّاً . تأملته قليلاً شعره الأبيض المصفرّ وجبهته التي خطَّ عليها الدهّر كل ما استطاع من اخاديد عمره يقارب السبعين عاما تأبطّ سترته التي تشير الى عزٍّ قديم ببطانتها الحريرية
_مما تخف ؟
_من الموت وحيدا. أجابني على الفور .
اجوبته لا تنسجم مع هيئته البائسة
_كم عمرك ؟
سألني بعد ان أصبحت بباب الغرفة
فاجأني سؤاله كما كل شيء فيه
-سبع وعشرون عاما
-كما توقعَّت..كان ابني بعمرك ؟
أجبته بتلقائية
_ كان ؟؟
لا حول ولا قوة إلا بالله، قلت في نفسي ان كان ابنه ميتاً سيصعب علي تركه وهو يسرد لي حزنه على ولده ..اريد ان اخرج من هنا بلا تأنيب لضميري، لأنني ارهقت بقصص الفقد للأبناء بظل هذه الحرب المجنونة
خرجت بسرعة لاستنشق الهواء النقي ...ونقلت للمرضات رغبة العجوز بالاستحمام ...منهن فغرت فاها لهول المفاجأة وبقيت شاخصة بصرها بي والأخريات تعالت ضحكاتهن وكأنني رويت لهن فكاهة ..اما الأطباء فقذفوا بكل تعبهم على شكل شتائم .
قال المستخدم المتعجرف :من هذا ؟ أيظنُّ نفسه بفندق خمسة نجوم ومن سيكسر نفسه ليساعده ؟...هل أتى ليترك بر اغيثه علينا؟ .
عجبت لردودهم من ساخر وساخط ومستنكر .لم أر الشّفقة على وجه أيٍّ منهم، ماعدا تلك الممرضة التي لازالت فاغرة فاها وصامتة لشدّة دهشتها على كل الأحوال كانت مشهو رة بدهشتها فهي تندهش ان لم يحدث امر يدهشها كل يوم .
عدّت الى العجوز وانا مرتبك كيف سأخبره بأنه لن يجد من يساعده بحلمه هنا
_لا تقلق يابني ولا تتأفف .
كيف قرأ افكاري هذا الرجل أذهلني .
عدلَّ من استلقائه ،و سحب سترته بهدوء ،
بيد مرتجفة مد يده ضمن سترته ،ليقلب الكمّ على سحاب طويل يغلق جيب داخل البطانة ، يمتدّ من كتف السترة الى اسوارة المعصم، ثم سحب رزمة من أوراق مالية أجنبية وقال بلهجة آمرة ابوية
(اعطِ هذه لمن يساعدني بالاستحمام ،اشترِ لي ثيابا نظيفة أولا .)
قالها بثقته من وجود من سيساعده . أخذت النقود بتردد، لكن لا يمكنني الرفض ،فهو لم يتوسلّ لي، بل قالها وهو واثق بأنني لن أرفض طلبه
وانا بحيرة من أمري رنَّ هاتفه
فابتسم وهو يرمقني... هذا ابني
قلت بنفسي الحمد لله هو حي إذاً .
_ أهلاً...أهلا ً...لا ..لا أنا بخير ،والرجل يهتمّ بي، جيداً ...اطمئن ياولدي ....كل شيء على ما يرام...أنا؟
جال بصره في المكان وهو يبحث عن تسمية لمكان تواجده وتابع مرتبكا
(الآن انا في الحديقة )
أنهى محادثته بصوت يصطنع الفرح ، وبطفولة بريئة قال :
_ عذراً... مرغم انا على الكذب ..العجوز الذي يكذب على ولده كي لا يقلقه، هو رجل صادق أليس كذلك ؟ وضحك ضحكة حزينه كطفّل قبض عليه متلبّساً بكذبته...جعلني أشفق عليه ، وتلاشي النفور تجاهه بل وضعت أبي مكانه.
استمر بحديثه بهدوء بعد أن اخترق نظره النافذة الى السماء ، وكأنّه يناجي ربّه ...لا كمن يتكلم مع طبيب مقيم ، يستعجل الساعات كي ينهي عمله .
عَلت نبرة صوته ، و حوّل نظره إلى عينيّ مباشرة ،وأخذ يلوّح بعصبيّة واضحة بقبضته الممسكة بإحكام بهاتفه النقّال :
الرجل الذي يسألني عنه ابني ... مجرم ،قليل الأصل، جاحد نفض أصابعه بخفّة كمن ينثر ماء عالق على كفّه، وتابع بصوت يكاد أن يكون باكياً خائفاً :لقد سجنني ب الحمام عارياً .. وسرق كل ما استطاعه .
صمت قليلاً يحدقّ بقضبان السّرير وتابع بصوت رجل حكيم :
ما استغربت لصوصيته ،أغلب الناس تحوّلت إلى لصوص، ولكلٍ مبرراته، بل استغربت انعدام الرحمة من قلبه وانعدام ضميره.
ألم يفكّر كم خفت؟! كم تعذبت ؟! مضت ساعات طويلة وأنا خائف ان لا يُعثر على جثتي إلا بعد تفسّخها ، ، فكرت بابني ، كم سيحزنه ذلك ،كم سيحرقه الندم ،وأنا لا أريد له هذا العذاب .
الحياة مع الندم جحيم يا ولدي .
قلت له بصوت مخنوق يكبت صوت الدمع بداخلي:
_وكيف خرجت ؟
- بعد ساعات طويلة ، شعرت وكأن الاوكسجين قد نفد من الجو، كان غضبي من سجّاني قد همد ،لذلك بدأت أفكر بهدوء،...كيف سانقذ حياتي أتتني قوة غريبة ، كسرت الباب بحجر الحمام.
الرّوح غالية يا بني، مهما قلنا إننا لا نريد هذه الحياة تجدنا نعشقها ، عندما فتحت كوة بالباب شعرت بأنني انتصرت على الموت، مددت يدي إلى الخارج ،و أدرت القفل، ففتح الباب، شكرت ربيّ أن هذا النذل قد ترك المفتاح بالباب، ولم يأخذه معه ... ليلتها نمت منهكاً ،لكن استيقظت على حقد ،لم اشعر به تجاه اي كائن من قبل.
اخفض صوته وتابع بما يشبه الهمس، وكأنه يسرّ لنفسه:
( أحقد عليه ،نعم أحقد عليه لأنه سلب من حياتي كل طمأنينه، وزرع خوفاً بداخلي ،وأصبحت كطفل صغير أبكي قبل النوم ،ولا اجرؤعلى دخول الحمام ....... مع الأيام فقدت ثقتي بالناس كلهم، و كسبت كما ترى كل هذه القذارة .
أبشع امر تصل إليه هو ان تفقد ثقتك بالناس .)
-لكنك وثقت بي ...أليس كذلك ؟
عادت نظراته تتفحص وجهي :
_ أنت طبيب مثل ابني ...وما ان شعرت بيدك تحت وسادتي تؤمّن هاتفي كي لا يُسرق، حتى عاد لقلبي خيط رفيع من الطمأنينه، ولقد وجدت بعينيك حزنا ، يشبه ما رأيت بعيني ولدي، عندما فقدنا أمه وهو في العشرين من عمره .
فوجئت بفراسته ،
سألته: أين هو الآن ؟
تابع بنفس الوتيرة من الهدوء والحزن وكأنه لم يسمع سؤالي :
-عشنا معا حزناً جميلاً،وهذا ما جعلنا أقرب لبعض أكثر من أي أب وابنه ولما جاءته فرصة التخصص ب أوروبا كان بمثل عمرك الأن ، أخبرني بأنه سيرفض الفرصة كي لا يتركتي وحيداً ..عرفت وقتها انه ينطق بما يريح ضميره، لا بما يريده .
لذلك لم أمنعه بل شجعته على السّفر الذي يصنع به مستقبله هنا ياولدي مستقبلكم محفوف بالماضي .
_ لماذا لم تتزوج ؟
_( أكذب ان قلت لك وفاء للمرحومة لأن الزواج لاعلاقة له بالوفاء أو عدمه ...بل خوفا على مشاعر ولدي )
******
شغلني حديثه عن رائحته ..علقت كلماته في روحي، نسيت ان اضع الكمامة ،ولم أعد اشم شيئا سوى محبة تشع من عينيه الممتنتين.
**********************************
خرجت الى ثلّة من المتأفيفين، الذين لم يتركوا الحديث بعد عن الرجل القذر، ووصفوه بأبشع الصفات، حتى أنهم رأوا من قذارته ما ليس فيه، فقط لحبهم بالمبالغة والثرثرة وليتملّصوا من واجبهم ، انتظرت الى أن صمتوا ،واخبرتهم بأن الرجل سيدفع لمن يهتم به ويحقق له رغبته، ولّوحت برزمة النقود أمام وجوههم ففاحت منها رائحة تشبه الدهن المقلي شعرت بالغثيان إلا ا أنهم اقتربوا مني اكثر وتعلق بصرهم بيدي ليتحققوا من رزمة النقود الاجنبية .
....المستخدم الذي خشي من تركِ العجوز لبراغيثه عليه ...صاح ملهوفاً: أنا ....أنا أساعده .... مسكين هذا العجوز لا بد أنه وحيد وبحاجتنا .
وبسرعة ذهب إلى العجوز ...يقدم له خدمات لم يطلبها بعد ..فوضع نفسه تحت تصرفه ولم يعد يضغط سبابته وإبهامه على أنفه ....وكأن المال يبدد الروائح الكريهة .
حتى الممرضات ذهبن تترى ليقمن بواجبهن على أكمل وجه ... الممرضة المدهوشة تراقب زميلاتها ودهشت أكثر وأكثر ....نظرت إليّ وبصوت منخفض ...قالت :سأتدبّر له ثيابا للنوم .تمتمت وهي تمشي ببطء ...حسبي الله ونعم الوكيل من نفوس البشر .
قلت لها :إنه عصر التحولات السريعة ...لا تندهشي أبدا
______*******______
عند ما أعود إلى البيت ،لن أحدق بوجه ابي بنظراتي اللائمة، لن أعامله بجفاء، لن أحاكمه بمحكمتي الداخلية الممتدة لعشرة اعوام خلت .
يجب أن أشكره لأنه تزوج بعد فقداني لأمي ، على الأقل اراحني من الجمل المنمّقة، التي سأقولها يوما قبل السّفر.
عند عودتي إلى البيت ،سأحب أبي أكثر.
••*•****************************
في صباح اليوم التالي ، وقفت بباب غرفته
، كان العجوز في سريره يجمع حوله ..بعض العاملين في المشفى ، ويقص عليهم حكاياته الطريفة ...والجو يعبق بمحبة ...وبرائحته العطرة تأملته وهو يلتفت الي بنظراته الحنونة
و قلت بنفسي :من مِنّا غسل أدران الآخر.؟

صديقة صديق علي/سوريا
التفاعلات: معاد كريفش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...