يقول جبرا في مقدمة البئر الأولى أن مرحلة الطفولة هي أصل الكينونة، وهو بذلك يوافق ووردزوورث أن الطفل هو والد الرجل. وينتقي جبرا ابراهيم جبرا أحداثاً معينة تركت بصماتها عليه، ورغم ما في هذه الطفولة من قسوة وظلم إلا أن لهذه المرحلة سحرها ووهجها.
الحياة لجبرا هي سلسلة آبار، لكن البئر الأولى هي الأهم وهي الأغنى لأن فيها تتجمع التجارب والرؤى والأصوات بأفراحها وأحزانها. وكل ما يأتي بعدها يتفاعل معها ويساعد صاحبها على تطوير مفاهيمه للحياة وتكيفه معها.
كيف تشكلت البئر الأولى عند جبرا؟
خبرات كثيرة توفرت لجبرا في بئره الأولى، صقلت حواسه، ووسعت مداركه، تفاعل معها بما يحمل من قيم جسدتها قصص أبيه وأفكار أخيه الأكبر يوسف، وبلورت لديه مفاهيم الخير والعدالة الإجتماعية. الأسرة، المدرسة يخففان من حدة قسوة الظروف المعيشية بتشجيع دافىء. صحيح أن كثيراً من هذه الخبرات تولد في اطار ظروف حياة صعبة من الفقر والحاجة، لكن جمال الطبيعة كان ملاذ جبرا، وساعد على أن تتحول هذه الظروف إلى حوافز من أجل خلق بدائل مبدعة لحل مشاكل يصعب حلها بالطرق المعروفة.
جبرا يزرع الأرض ويربي الدجاج والبط والخرفان والخنازير، ويراقب سلوك الحيوانات والطيور. يراقب قطته فلة وهي تطارد الجرذان، ويتابع علاقة أخته سوسن بالقطة. يراقب سلوك الدجاجة التي تفقس بيض البط، وسلوك الخنازير عندما تكتشف، في غياب الرقيب، أن باب الحظيرة مفتوح، فتقرر الهرب من الحظيرة، سلوك الحمير عندما يتدخل غريب في حركتها، وسلوك الناس عندما يشتد الفقر فيبكي الرجال، سلوك القوي عندما يفتقر إلى الحكمة فيصبح أشبه بالمارد الذي سمع عنه ولم يره.
جبرا يعرف معنى قسوة الطبيعة ورعبها عندما يشتد البرد في الشتاء ويدلف السقف، ولا يجد غير صدر أبيه يدفئه. يحمل الثلج بيديه من أجل أن يحمي سطح البيت من الانهيار. فتنطبع في الذاكرة معارك الصراع من أجل البقاء.
جبرا يعرف معنى أن يعطي الفرد من أجل استمرار الآخرين حين يرى والده يكد ويكدح، وما يجنيه لا يكفي لقمة العيش مما يضطره إلى بيع حذاء ابنه جبرا الذي كسبه كجائزة، من أجل استيفاء مصاريف العيد. جبرا يحلم بالحذاء الجديد ولا يلبسه، وتظل هذه حسرة في نفسه، إلى أن يدرك أنها أيضاً حسرة في نفس أبيه حين يسمعه يخاطب أمه، "ليتك يا مريم لم تبيعي ذلك الحذاء. حرمنا الولد منه، ونحن في عيد." لكن أمه التي هي الأخرى فعلت ما فعلت بحكم الحاجة تحاول التخفيف من الشعور بالذنب قائلة، "الذي صار، صار. والبركة فيك يا أبو يوسف، غداً نشتري له ألف حذاء!" لكن جبرا يعرف أن الأمر ليس سهلاً وهو يراقب أباه يصنع لنفسه وطا ينتعله لكل يوم كي يوفر حذاءه الذي بدأ في الإهتراء، والذي لا يملك أن يشتري غيره، للقداس .
جبرا يعرف كيف يفرح الكل من أجل واحد حين يجد من العائلة تشجيعاً ، "عفارم". الكل يتفرج بفرح على دفتره الجديد، وقد عمل بجد من أجل أن يحصل على ثمنه. كل شيء كان يمكن التغاضي عنه إلا عندما يتعلق الأمر بالمدرسة، أو الكذب. لذلك، عندما يستخدم جبرا الدفتر من أجل عمل طقاعات، ويلجأ إلى الكذب من أجل أن يداري غلطته، ويتغيب عن المدرسة دون علم أهله، ويعود إلى البيت عند موعد الانصراف، تقف الأم منه موقفاً حاسماً. ورغم دفاع الجدة عنه، إلا أنه لا يَسْلم من "أكل قتلة" من النوع الفاخر[1]. وربما كان أهم دور لعبته العائلة هو ذلك التشجيع والتعامل مع حماقاته بنوع من التغاضي، أو النكتة أو بتسامح ومحبة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أورد هنا بعض الأمثلة لتعامل العائلة مع جبرا في بعض المواقف. مثلاً، في حكاية حبرا مع الهيطلية، يدعو جبرا رفاقه، من باب التباهي، لتناول الهيطلية، والسبب أنه يريد أن يثبت لهم أن عندهم هيطلية، والتي كانت شيئاً لا يتكرر حدوثه كل يوم في بيت لحم في ذلك الوقت بسبب ظروف الحياة الصعبة. وعندما لا يبقى منها شيئٌ للأب الذي سيعود من عمله في المساء متعباً وجائعاً، يكتشف جبرا نتيجة تباهيه أمام رفاقه، فيطلق ساقيه للريح قبل أن تكتشف أمه ما حدث. ويظل الخوف يطارده إلى أن يعيده الجوع. لكنه يظل خائفاً أن يدخل البيت، فينادى على جدته، لكن أخاه يوسف يخرج إليه ضاحكاً وهو يقول، " تعال، ادخل! تطعم غيرك بالملعقة وأنت تأكل بالمغرفة! عال والله! ويجر جبرا إلى الداخل ليقابل أمه التي كانت عيناها تقدحان بالغضب. ويصف جبرا تلك اللحظة التي تراه فيها أمه قائلاً، " وفجأة رأيت الغضب في عينيها يذوب إلى ما يشبه الضحك، حين قالت، "يا شيطان! أتوزع أكلنا على الناس؟ أتحسب نفسك ابن سليمان جاسر؟ اشبع أولاً، وبعدين أطعم الناس."[2]
وفي موقف آخر، يكتشف يوسف أن جبرا استخدم كتابه الإنكليزي المزين بالصور من أجل أن يعمل صندوق العجب، فيقول عندما يرى جبرا يجهش بالبكاء، " يلعن أبو الكتاب،" ويلتفت يوسف حوله يميناً ويساراً، بكبرياء ويقول، "لا أريد أن يراك أحداً أحد تبكي."[3]
جبرا يستمع إلى قصص والده، فتتشكل عنده مفاهيم العدالة الاجتماعية، والخير والشر، ودور المال في الإفساد. ويصبح أبوه النموذج للصدق والقناعة وعمل الخير وحب الآخرين تماما مثل الناسك وإبراهيم صانع الطواحين بطلي قصته الأثيرة، تلك القصة التي كان يكررها والد جبرا والذي يحمل هو الآخر اسم إبراهيم وكأنه من خلال بطلي هده القصة يتحدث الوالد عن نفسه، فهو أيضا لم يطلب من الدنيا إلا ما يبقيه هو وعائلته على قيد الحياة. جبرا يتعلم من أمه وأبيه وأخيه يوسف عزة النفس، وتتجسد أمامه نماذج يوميه لصمود الإنسان أمام الفقر ونضاله المستمر ضد العوز. وكما كان إبراهيم صانع الطواحين بطل قصة والد جبرا قبل أن يفسده المال، يصبح الأب نفسه بطل رواية كتبها جبرا وهو في الحادية عشر من العمر. جبرا يشعر بالخوف من فقدان أبيه بعد أن داهمه الألم، وأبوه هو رمز الخير، فإذا بروايته الأولى هي حكاية صراع الخير والشر حيث يموت الأب ويترك ثروة لأبنائه الثلاثة الذين يخوضون صراعاً ضد الأشرار لحماية هذه الثروة مع فارق أن الثروة التي تركها والد جبرا لم تكن سوى "أغانيه وحكاياته، وحبه الفائض على كل شيء حوله."[4]
وربما كان أهم دور للأب، والذي ساعد جبرا أن يكون كما هو، هو ذلك الموقف الذي وقفه عندما قرر جبرا أن يترك المدرسة كي يساعد في مسؤوليات البيت خاصة يعد أن أقعد المرض والده عن العمل. قال أبوه بانفعال شديد، "ما دام في عرق ينبض، وما دام في صدري نفس، لن أسمح لك بأن تترك المدرسة." وأردف أبوه، "لماذا؟ لأن الكلمة مقدسة، أي نعم. الكلمة من عند الله. بل الكلمة هي الله، كما جاء في الإنجيل. والكلمة هي الكتاب. "[5]
وفي موقف آخر،عندما طرد المدير جبرا من المدرسة الرشيدية،لأنه لم يبقى في مقعده إلى أن ينتهي زملاؤه من الامتحان، حمل الأب عصاه وخرج على الفور قاصداً الراهب بطرس صومي ، وكان معروفاً بشجاعته الأدبية وقدرته على الإقناع لمرافقته عند المدير من أجل أن يعيد جبرا إلى المدرسة. وعندما يذكر المدير أنه أعاد جبرا إلى البيت، يقول الأب، "كأنك قتلته، وقتلتني يا حضرة المدير." [6]
وموقف يوسف لم يكن بأقل من موقف أبيه في اصراره على استمرار جبرا في المدرسة وعدم تكرار غلطته هو. لكن الدور الأهم الذي لعبه يوسف كان في وضع الكتب بين يدي جبرا. كانت الثروة التي تضمنها صندوق الكتب خاصته والتي لعبت دوراً هاماً في تطوير ميول جبرا القرائية وفيما بعد الكتابية. ففي هذا الصندوق، تعرف جبرا على تراث أدبي وإنساني يكتشف جبرا فيه "كليلة ودمنة"، و"حكايات لافونتين" من خلال إطلاعه على كتاب "بحر الآداب"، ويقرأ في "مجاني الأدب" الكثير من الحكم ومأثورات والتواريخ والأشعار، ويتعرف من خلاله على أسماء تبهره مثل الثعالبي والغزالي والمسعودي ...تتضح أهميتها فيما بعد. كما يقرأ جبرا كتاب "مغامرات روبنسون كروزو"، وسيرة عنترة، وتغريبة بني هلال، وروايات بوليسية متعددة . ويطلع على الأدب الكلاسيكي من خلال كتاب"سير الأبطال" الذي يتعرف من خلاله على شخصيات الأدب اليوناني مثل أخيل، هكتور، هرقل...أبطال ملاحم الإغريق وأساطيرهم. وهذا الكتاب اشتراه جبرا بقرشين حيث قام أخوه يوسف بإعطائه ثمن الكتاب الذي كان قد وفره من أجل شراء قاموس لنفسه
لكن أكثر ما أثر في جبرا من كنوز صندوق الكتب هو حكايات ألف ليلة وليلة. فيها كان يبحر إلى عالم بعيد مسحور، "يموج بالألوان والأنغام، وكله جنائن من أشجار باسقة وأزهار فاغمة، تتلاعب بينها الطيور والصبايا..." وبقيت أوراق ألف ليلة وليلة تعد كما يقول جبرا" بلذة غامضة، تكاد تكون سرية، أعود إليها بين حين وآخر، أقرأ فيها ما أستطيع، على ما بينها من ثغرات عريضة، في شيء من التسلسل حسب أرقام لياليها."[7] وكان جبرا يروي هذه الحكايات، إضافة لحكايات أبيه لرفاقه، وكان يتمتع بسردها مضيفاً إليها ما تجود به القريحة. وإذا كانت المعرفة سلطة، فإن جبرا أخذ سلطته على أترابه من هذه المعرفة التي تتجسد في القصص والحكايات والتي لم تتوفر لمعظم أترابه في منطقة بيت لحم. وإذا كانت نظرية تعديل السلوك صادقة من حيث أن السلوك محكوم بنتائجه، فانه من الممكن أن يكون الرضا والإعتزاز الذي كان يشعر به جبرا ولّد عنده تلك الرغبة في مزيد من القراءة ومزيد من الإضافات المثيرة للحكايات كي تصبح أكثر تشويقاً ومتعة.
وربما كان خيال جبرا الذي يرافق قراءة الكتب وخاصة قصص ألف ليلة وليلة، من العوامل التي أدت إلى انشداد جبرا إلى شخصية البطل. ويصف جبرا نفسه عندما كان منسجماً في القراءة، وفي لحظة مشحونة بالتوقع، دخلت أمه عائدة من السوق، وألقت سلتها الملأى مما اشترته من بندورة وكوسى وباذنجان، وصاحت به، " الله يخليك يا حبيبي اسحب لي تنكة من البئر." ويعلق جبرا، "بسرعة تشتت حلمي البعيد، رغم أنني وأنا أدلو الدلو في البئر، ثم أرفعه طافحاً الى السطح وأفرغه في التنكة، كنت أحاول استعادة بعضه في خيالي المحموم."[8]
ومن ألف ليلة وليلة إلى القصص الدينية التي تركت بصماتها على مخيلة الطفل والد الرجل. الكلمات تتحول إلى صور ضمن مكان وزمان. جبرا يتصور الله وهو يجبل الطين كما يجبله عمال البناء، ويبحث عن قابيل في وجوه الناس في الطريق، ويتمنى لو أن نوحاً لم يصعد الحمار إلى سفينته، بعد تجربته مع الحمار الذي تركه متألماً وقد رفسه.
جبرا يتأثر بالقصص الدينية، و يفكر بالملائكة والشياطين ويهيئ له خياله الطفل أن ملاكي الخير والشر يقف كل منهما على أحد كتفيه، واحد يحاول إغواءه والآخر يحثه على العمل الصالح. ويصبح الضمير مجسماً بالصور التي يرسمها الخيال، وينتاب ابن التاسعة القلق من أشياء لا يستطيع فهمها. وهنا يبرز دور والد جبرا الذي ساعده في تشكيل سلم القيم لديه، وفي تجاوز قلقه من مفاهيم مجردة يتم تلقينها للطلاب مثل مفهوم الخطيئة. يقول والد جبرا معطياً للمفهم المجرد للخطيئة بعداً سلوكياً يمكن فهمه، " الخطيئة يا بني هي السرقة، والكذب، لا تسرق، ولا تكذب... لا تكثر من القسم باسمه المبارك. ثم ، لا تشتم.. الشتيمة في نظر الله خطيئة." يسمع جبرا تفسير أبيه ويعلق قائلاً، "صعبة كانت وصايا أبي، ولكنني لم أنسها قط."[9]
جبرا يتأثر بالحكايات التي يتناقلها الناس عن المارد فترعبه العتمة، ويصبح اقتحامها ميدان تحدي. "وقد تحديته أكثر من مرة، باقتحام بعض الغرف المهدمة، ولكنني لم أره، لحسن حظي أو لسوء حظه. غير أن الرعب كان لذيذاً، ينتهي بالخروج للنور."[10] تماماً مثل شعور قارىء قصص المغامرات التي يعيشها على أنها حقيقة من البداية حتى النهاية وهذا ما يجعل الرعب ممتعاً، خاصة عندما تمر التجربة دون أذى على من خاضها.
جبرا يصغي لكلمات الألعاب والقصائد، ويحلق في صورها، وينطلق به الخيال إلى ما بعد الصور وما قبلها، لتؤسس عنده بدايات الحكايات. ففي لعبة "يا عونيا" يتخيل جبرا عونيا "بدوية سمراء سوداء العينين، خمرية الخدين، تترنح جدائلها المسترسلات فوق نهديها تسقي جملها المحبوب، قطر الندى من راحتي كفيها."[11]
جبرا يلعب لعباً إيهاميا فتصبح الشجرة طائرة، وهو طيارها، ويبحث عن الأسود والنمور كما هو الحال في الأفلام التي يشاهدها في دير "أبونا انطون"، ويصنع بحره - حفرة في احدى الحواكير، يجمع فيها مياه المطر. وبعد أن ينتهي من سحب الماء بالدلو، ويجمعه بالتنكة ويسقي شتلات الماء ، يجلس في أعلى شجرة التوت بين أغصانها وأوراقها، ويرفع صوته بما يقرأ. وقد يرفعه بالغناء، وكان غناؤه "يتدفق في الوادي، ويملأه، ويفيض عنه إلى الجبال."[12]
خيال مجنح يجعل من الصوت صورة ذهنية تتحول إلى صورة حسية فتتقاطع ملكة التعبير بالكلمات مع ملكة التعبير بالرسم. جبرا يتأمل الكنائس بهيكلها المنقوش بالزخارف المذهبة ولوحاتها المعلقة على الجدران فتفتن عيناه. وتتفتح عينا جبرا على جمال الخط العربي ومرشده في ذلك الخطاط حسام اشتيه فيدخل إلى عالم من الرهافة في التكوين البصري، ويستشعر الكلمة المرئية مما أغنى تجربته الجمالية في حياته النقدية فيما بعد. وكان للخطاط شحادة عبد السميع، زميل جبرا على مقاعد الدراسة دور في الإطلاع على كيفية تخطيط الآيات القرآنية، وتعلم منه قواعد الخط الثلث والفارسي، وكان قد تعلم من حسام اشتيه قواعد خط الرقعة. من هنا يكتشف جبرا الأشكال والألوان والخطوط ويقتحم عالم التشكيل.
ومن قواعد الخط إلى قواعد اللغة. القواعد عند الأستاذ فهيم جبور كانت مرتبطة باعراب أبيات الشعر الصعبة. وتعلم جبرا من فهيم جبور الذي علّمه تحدي اللغة، في سنتين، ما لم يتعلمه من أحد سواه، وما بقي أساساً لتعامله مع الكتابة فيما بعد. وربما كان لطريقة معلمه - تحويل درس القواعد إلى لعبة تحدي في البحث عن العلاقات بين الكلمات- دور في تعلق جبرا بدروس القواعد، وإفادته منها.
جبرا تأسره الموسيقى منذ طفولته المبكرة. وترتبط اللغة السريانية "بأناشيد وتراتيل تعود إلى أزمان سحيقة في القدم وفق مقامات كان الشمامسة يتقنونها." وكان لكل يوم في الأسبوع لحن خاص به، ولمواسم الصيام لحنها، وللأعياد لحنها."[13] وكان على جبرا، كونه طالباً في المدرسة، أن يحفظ ذلك كله سماعاً. يحفظ التراتيل، ويشارك في الكورال ويتعلم أكثر من آلة موسيقية. وكان على جبرا أن يتعلم قراءة النوتا الموسيقية من اليمين ومن الشمال، وإذا اقتضى الأمر فبالمقلوب. ولا بد أن لهذه التمارين أثر في جعل عملية القراءة سهلة على جبرا مما جعله لا يكل من القراءة الطويلة أو الصعبة.
ويتطور الحس بالموسيقى عند جبرا بعد التحاقه بدير "أبونا أنطون" حيث كان الرهبان المشرفون على الدير مولعين بالفنون وبخاصة الموسيقى والتمثيل المسرحي. وكانوا يختارون ذوي الأصوات الجميلة للكورس الكنسي، ويعلمونهم أصول النغم والسولفاج، ويجعلونهم ينشدون باللاتينية أناشيد متعددة الأصوات تعود الى عصر النهضة الإيطالية والعهد الباروكي.
جبرا يلتحق بفرقة الكشافة والكورال، يتعلم قرع الطبل وعزف الكلارينيت، ويكتشف عالم الأصوات في الكنيسة وفي الأعراس، ومن خلال الإصغاء للصدافين، والميجانا والعتابا، والدلعونة. جبرا يراقب ما يحدث أمامه، ويستمع للأصوات التي تنبعث أثناء القداس ويغوص في عوالم أخرى.
جبرا يعرف معنى العطش والجوع حتى شفا الموت، وتجربة المتاهة حتى شفا الرعب، وتترك هاتين التجربتين آثاراً عميقاً في النفس، نرد آثارها كما يقول جبرا في السنين التالية من حياته. هل هي تجربة الإقتراب من الموت؟ أم هي تجربة التعلق بالحياة؟ هل هو الفردوس أم مملكة الموت؟ عاد منها جبرا أشد قدرة على الحياة؟ ربما لذة الرعب تكمن في المغامرة التي تظل تعطي الأمل بالنجاة، وهذا ما قاله جبرا عن تجربة الرعب من العتمة والرعب من مواجهة المارد.
لكن أهم ما حمله جبرا من بئره الأولى هو الإطار الذي احتوى كل ما حمل في الذاكرة. البيوت التي سكنها بآبارها التي تميز البيت التلحمي، وبيته الأكبر منطقة بيت لحم التي تتميز بجبليتها، ومنحدراتها التي امتلأت بأشجار الزيتون، وصخورها التي تنبت بين ثغراتها زعرورة أو عشبة يتيمة، لا يعلم أحد من زرعها. حمل جبرا في الذاكرة طبيعة منطقة بيت لحم بمواسمها. أيام "جداد" الزيتون، والدلعونة تشكل خلفية المشهد لفصل الخريف يغنيها الجميع من رجال ونساء وأطفال. وللدلعونة، طقوس المجوز والشبابة وما توحيه. يسرح خيال جبرا محاولاً فهم الكلمات البدوية التي تثيرها كلمات الدلعونة، متخيلاً الوجوه التي تعبر عنها الكلمات. وهنا يتزاوج اللحن مع الكلمات مع الصورة التي تنطبع في الذاكرة لتبحث لها عن مخرج على الورق.
وفي الشتاء عيد الميلاد، وصلاة منتصف الليل. تتلألأ ساحة المهد بالأضواء الكهربائية القليلة، وانعكاساتها المشعشعة في تجمعات المياه بين البلاطات الكبيرة، وباعة الحلاوة، وباعة المشويات، وباعة الكستناء، وباعة السحلب، "والناس في حركة دائبة كأن أحداً منهم لن يأوي الى فراشه في تلك الليلة."[14]
وفي موسم الربيع، يأتي عيد القيامة، فتخضر الحواكير المهملة، وتزهر الأرض بألوانها. "الحنّون الأصفر، والحنون الأزرق، والحنون البنفسجي، والأحمر، القاني، بلون الدم: شقائق النعمان. ترفع رؤوسها الشقائق للشمس، والندى يتلألأ على وريقاتها، من بين الحجارة، والأشواك، والأعشاب الغريبة."[15]
وفي فصل الصيف، حيث اجازة المدارس، يلعب الأطفال ألعابهم الإيقاعية ، و بالفرانة، وطيارة الورق، والنقافة، ولعبة طقة واجري. وبيت لحم يدهشها كل جديد مهما كان صغيراً. السيرك، رقص الغجر، مراقصة الدب، الحاوي وهو ينفخ في مزماره والحيات تتمايل على النغم.
وتظل في الذاكرة أيضاً الأماكن الهامة التي تركت بصماتها عليه مثل الأديرة التي تميزت بها المنطقة والتي تعطي بيت لحم الكثير من شخصيتها العمرانية والاجتماعية مثل أديرة الروم الأورثودكس ، وأديرة الفرانسيسكان، وأديرة السالزيان وأهمها دير "أبونا أنطون كما يسميه الناس. هذا الدير الذي شهد تفتح جبرا على الموسيقى وعلى الفن السابع.
ذاكرة جبرا تحمل البيوت التي سكنها والمدارس التي التحق بها، والكنائس التي حملت رسومات ونقوش استوقفته. كنيسة المهد وشوارع مدينة بيت لحم القديمة، وبيوتها التي ارتبطت بأسماء أصحابها. والأماكن التي تاه فيها كان في تل خريطون الملقب بالفرديس أو في شوارع القدس القديمة. أيضاً الأماكن التي عمل فيها وهو طفل وعمل فيها أبوه أو أخوه. وجريمة القتل التي ارتكبها ميكيل العائد من التشيلي، والتي كانت أول قتل يشعر به جبرا حيث شاهد بركة الدم الداكنة والبلاط والحائط الملطخين دماً والتي تشير الى انتفاضات الطعين العنيفة.
ويصور جبرا الفقر المدقع الذي كان يميز بيت لحم من خلال التطرق إما لأحداث كبيرة أثرت على الحياة في المنطقة كالهجرة، والتي أقفلت الكثير من البيوت التي بقيت بانتظار أصحابها.
أو من خلال رصد لقطات تكشف هذا الفقر. يصف جبرا الرقع التي تميز الملابس، وكيف كان بشارة، وهو السباك الذي عمل عنده جبرا لطيفاً يعطيه قرشاً كي يشتري لنفسه شيئاً يأكله، لكنه كان يفضل شراء المجلات أو الكتب رغم جوعه. ويصور جبرا كيف كان العمال والحرفيون يتدبرون أمورهم المعيشية بجهد وكد. وكيف كانت طبخة الهيطلية حدثاً هاماً في ذلك الوقت، وكيف اضطر ألوه للعمل رغم مرضه من أجل لقمة العيش.
البئر الأولى وتداعياتها:
بصمات الطفولة تترك آثارها على الفتى اليافع وتظهر في كتاباته ، وفي رسوماته، وفي عشقه للموسقى. وربما كان أهم مؤشر لأهمية البئر الأولى هي في كون خبراتها بقيت عالقة رغم الزمن، تنساب من خلال شخصياته، وفي خلفيات مشاهده، وعبر الأحداث التي التقطتها عين الطفل الذي لم يتجاوز الثانية عشر من العمر. في كتاب البئر الأولى، تعمل قلم أديب متمرس ينتقي أحداثاً بعينها، وكما يقول جبرا عن البئر الأولى، "تفرض نفسها على ذاكرتي، وتنضح في دمي برقة لا أستطيع تفسيرها، وجمال يتزايد مع الزمن، وشاعرية تزيدها الآلام توقداً، ومفارقات تتوازى بغرابتها مع العشق الطفولي لكل دقيقة من تلك الحياة التي قد تبدو الآن في الكثير منها قاسية، وظالمة، ومرفوضة." الذاكرة في الصغر تنتقي اللحظات التي تختزنها لما بعد، ولكل لحظة مختزنة عمر يوازي حميمية هذه اللحظة وحرارتها والانفعالات التي تصاحبها، وهذا ما يعطيها جواز السفر نحو المستقبل، وتحتفظ بوهجها بعد عمر بعيد، وكأن الذاكرة هي الهوية التي تجعل من جبرا فلسطينياً في داخل مجتمع آخر. هو الغريب الذي يأتي إلى مكان ما، يجد نفسه موضوع منافسة ، أما هو، فله مُثلُه، وقيمه، مما يجعله لا ينافس أحداً سوى نفسه. "أنا لم أنافس أحداً قط. أقحمت إقحاما في حشد من الغرباء كنت الأول بينهم." [16] وهذه بالضبط، شخصية وليد مسعود، وأبطاله الذين هم من أصل فلسطيني متواجدين في مجتمع غير فلسطيني، جزء منهم موجود وجوء منهم بعيد، الأمر الذي يضفي علنهم غموضاً لافتاً ويصبحون دائماً مركز الاهتمام من قبل المحيطين بهم.
ذاكرة جبرا تحمل منطقة بيت لحم بعاداتها وطقوسها، بطبّها الشعبي وبالعرافين، بفلاحيها، وببدوها وبسكان المدينة. بمعلميها، بحرفييها من صدّافين وسباكين، وحجارين، بتعدديتها بناسها العاديين الذين يهتمون بالصلاة كما يهتمون بالسياسة، بأحداثها الكبيرة وأحداثها الصغيرة. وتجد تأثير هذه الحياة مجسداً في أكثر من قصة أو رواية. مثلاً، في قصة الغرامافون، التي ورد ذكرها سابقاً، تصوير للورشة التي عمل فيها جبرا عندما كان صغيراً، مع فارق أن اسمه في هذه القصة هو يعقوب، والسباك بشارة، يدعى في القصة حنا. أما البرنس يوسف فقد حافظ جبرا على اسمه كما في الواقع.
كانت طفولة جبرا قاسية، وكانت المدرسة له "بطلابها ومعلميها، بكتبها وأجوائها، مهرباً وملاذاً، كالطبيعة نفسها."[17] ومن يملك الطبيعة الجميلة والمأساة، يكون "شاعراً" كما يقول جبرا على لسان وليد عساف في رواية السفينة، "الفلسطينيون كلهم شعراء. بالفطرة. قد لا يكتبون شعراً، ولكنهم شعراء، لأنهم عرفوا شيئين اثنين هامين. جمال الطبيعة، والمأساة. ومن يجمع بين هذين، لا بد أن يكون شاعراً."[18] فكيف إذا ما كانت المأساة هي مسلسل لا ينقطع من المآسي.
في أكثر من رواية، وفي أكثر من قصة، وفي أكثر من لوحة، تبرز بيت لحم إما بطبيعتها الجغرافية والاجتماعية من خلال لقطة معينة للحياة الشعبية في تلك الفترة. مثلاً، في قصة "المغنون في الظلال" ،[19] وهي واحدة من المجموعة القصصية "عرق وبدايات من حرف الياء" ، تبدو مدينة بيت لحم واضحة بمشهدها الطبيعي والاجتماعي، بعاداتها وتقاليدها. الدلعونة، صوت العود، والشمس التي تتراقص على أشجار الزيتون التي تدخل عميقاً في الزمن.
وفي قصة "الشجار" التي وردت في المجموعة القصصية "عرق وبدايات من حرف الياء"، ينقل جبرا صورة للحارات في مدينة بيت لحم، وجورة العناب في القدس، حيث يضطر الناس لفتح نوافذهم كي يدخل منها الضوء، لكن ذلك يعني بالضرورة أن تنتفي الخصوصية لكل جار. وفي هذه القصة، ندرك أن الطفل الراوي هو جبرا، وتنعكس علاقة جبرا بأمه على علاقة البطل بأمه. والزقاق الذي يجري فيه الشجار شبيه باكتظاظ بعض البيوت أو الحارات التي سكنها جيرا وهو طفل، أكان ذلك في بيت لحم أو في القدس. يهرب الطفل إلى الحواكير ثم إلى الوادي، يقفز مع صديقه من صخرة إلى صخرة، ثم يرميان الحجارة في الماء كي يريا الرشاش. تماماً كما كان جبرا يفعل حينما ينفرد بالطبيعة ويتوحد معها عبر انفراده بشجرة التوت والخروب. هناك يقرأ الشعر ويغني. في الطبيعة يتجدد.
أيضاً، يصور جبرا في قصة "الشجار"علاقة أمه بأبيه، عندما كان يأتي في آخر النهار متعباً، فتغسل له رجليه في الطشت، بينما يجلس الطفل في حجر أبيه. ويناوله أبوه شيئاً أحضره معه، لكن الطفل دائم السؤال، "متى سنخرج من هذه الدار يا أبي؟ فيجيب الأب: " حين تكبر وتشتغل."[20] وكما كان والد جبرا يفعل مع ابنه، يبدأ الوالد بقص الحكاية إلى الطفل، إلا أن صراخاً يجعل الأب يتوقف. وهنا ينقبض صدر الطفل، ونعلم بعدها عن مقتل جارهم أبو مراد، وكأن جبرا في هذه القصة، يستذكر حادثة القتل التي قام بها مايكل العائد من الأرجنتين، والتي وصفها في البئر الأولى، فتأتي مشاعر الطفل في القصة مماثلة لمشاعر الطفل جبرا في البئر الأولى عندما حدثت جريمة القتل.
ويظل في ذاكرة جبرا زلزال سنة 1927 الذي هز فلسطين،[21] وكان عندها في السابعة من العمر. ولم تستطع السنون محو لحظات الرعب التي شعرها الطفل، وها هو يتذكر آثار هذا الزلزال في رواية "البحث عن وليد مسعود". ويذكر جبرا كيف انطلق مع الصبية مرعوبين إلى الخارج، وكيف رأى "الحجارة تتساقط من أعلى المبنى القديم، وتتكوم في ركام أبيض مريع." الدمار والتجدد. فكرة السيول والعنقاء. بعد كل محنة هناك بداية فتية، وتجدد على صعيد جبرا نفسه، وعلى صعيد الأمة كما جاء في كتاب شارع الأميرات. [22]
وتظل بصمات ألف ليلة وليلة تتدخل في قصص جبرا. يذكر جبرا في البئر الأولى كيف تأثر بألف ليلة وليلة التي قرأها في عمر مبكر، وكيف كتب عن رجل يحلم بفتاة جميلة، فيرسمها، إلى أن يلتقي بها وإذا بها مثل الصورة.[23] وفي المجموعة القصصية "عرق وبدايات من حرف الياء" قصة مشابهة، هي "ملتقى الأحلام" والتي تتحدث عن كاتب رسام يرسم دائماً صورة امرأة، إلى أن يلتقي مرة بفتاة تكون مثل الصورة تماما.[24]
كما أن تعلق جبرا بالكتب لا يضاهيه سوى تعلقه بالموسيقى. وفي قصة "الغرامافون" التي تضمنتها مجموعة "عرق وبدايات من حرف الياء" والتي تبين أهمية الموسيقى للطفل الصغير الذي كان يعمل في ورشة لسباك، هي نفس الورشة التي عمل بها جبرا وهو طفل. والشخصيات في القصة، هي نفس الشخصيات في الواقع - المعلم ، وتابعه ”البرنس" يوسف الذي حمل الاسم نفسه محتفظاً باللقب نفسه ونفس الخصائص التي كونتها .[25]
لقطات مماثلة ترد في أكثر من قصة أو رواية لتمازج الموسيقى مع الطبيعة، مع الإنسان. وربما تكون قصة "الرجل الذي كان يعشق الموسيقى"، وهي إحدى قصص مجموعة "عرق وبدايات من حرف الياء" [26] هي رغبة ساورت جبرا في الإنعتاق من عالم الجسد البشري إلى الالتحام بالطبيعة عبر موسيقى باخ، وهو أحب الموسيقيين إلى قلبه، فتتجاوب الجبال والسماوات الألحان المدوية. هكذا يصبح الموت خلوداً حيث يتحد مع الطبيعة وموسيقى باخ، فيقهر الموت. وما أقرب موسيقى باخ من موسيقى الكنيسة التي طالما حركت مشاعر جبرا وهو طفل. والإشارات الضارعة "يا حمل الله الحامل خطايا العالم ارحمنا!"[27] عاطفة تحرك شخصياته الأساسية مثل وليد مسعود، وسعيد عساف. يقول جبرا على لسان سعيد عساف عن هذه الألحان والتضرعات، "هذه كلها تغمرني بأحاسيس كالهستيريا. فأنا أريد أن أتمزق عندها – أتمزق فرحاً وطرباً، وأسى وحزناً. لأن الجمال حزين – أجمل ما في الحياة حزين، كبلادي."[28]
موسيقى الكنيسة مع أيقوناتها ونقوشها تتوحد في ذاكرة جبرا مع أنغام الدلعونة وإيقاعها أيام الحصاد . وكما تنساب الموسيقى من البئر الأولى إلى قصص جبرا ورواياته، تنساب التشكيلات البصرية من البئر الأولى لتشكل لوحات جبرا فيما بعد. وفي واحدة من اللوحات الزيتية التي ساهم فيها جبرا في المعرض الأول لجماعة بغداد للفن الحديث، تبدو ثلاث قرويات فلسطينيات، رسمهن جبرا في عام 1948، وقد جلسن أرضاً بأثوابهن الزرقاء والخضراء والحمراء حول سلة من الفاكهة. ويشبههن جبرا بأنهن "ربات للكبرياء والبقاء الأبدي".[29] . وربما كانت طفولة جبرا الغنية بالتذوق الجمالي والحس بالموسيقى هي الأرضية التي شيدت عليها أفكاره في الموسيقى والفن التشكيلي وأفكاره في النقد الفني ليكون فناناً تشكيلياً وناقداً فنياً وليشكل مع الفنان جواد سليم جماعة بغداد للفن الحديث في 21 نيسان، عام 1951.
وفي الختام، يمكن القول أن بيت لحم التي تضم في حناياها مهد المسح تجعل أبناءها يشعرون بالامتياز. إما بسبب إيمانهم بذلك، أو بسبب إيمان الآخرين به. وفي قصة "سيدة البحيرات" التي وردت في كتاب "شارع الأميرات"[30] وهو الجزء الثاني من السيرة الذاتية لجبرا، يلتقي جبرا بسيدة ذات رداء أبيض تتعامل معه بقدسية عالية، وكأنه رؤيا لكونه من بلد السيد المسيح ولأنه يعرف لغته. وربما تكون السيدة نفسها هي رؤيا جبرا نفسه يعبر فيها عن امتيازه واعتزازه بفلسطينيته وبكونه من بلد المسيح، ويتحدث بلغة قريبة من اللغة التي تحدث بها المسيح منذ نحو ألفي عام .
هذه مقتطفات من تأثير البئر الأولى لطفولة جبرا على حياته الأدبية والفنية، هي قليل من شواهد كثيرة مماثلة تبرز في معظم ما كتب جبرا للمهتمين بالموضوع.
[1] البئر الأولى، ص 38
[2] البئر الأولى ، ص 24
[3] البئر الأولى، ص 54
[4] البئر الأولى، ص 203
[5] البئر الأولى، ص 176 -177
[6] البئر الأولى، ص 264
[7] البئر الأولى ، ص 195
[8] البئر الأولى، ص 195
[9] البئر الأولى ص ص 89 -90
[10] البئر الأولى ص 61
[11] البئر الأولى، ص 62
[12] البئر الأولى، ص 182
[13] البئر الأولى، ص 70
[14] البئر الأولى، ص 102
[15] البئر الأولى، ص 75
[16] البئر الأولى، ص، 173
[17] البئر الأولى، ص 228
[18] السفينة، ص 17
[19] عرق وبدايات من حرف الياء، ص ص 39-46
[20] عرق وبدايات من حرف الياء، صص 110 -114
[21] البئر الأولى، ص117
[22] شارع الأميرات، ص 203
[23] البئر الأولى، ص 191
[24] عرق وبدايات من حرف الياء ص ص 62-87
[25] عرق وبدايات من حرف الياء، ص ص 47 -61
[26] عرق وبدايات من حرف الياء، ، ص 198 -202
[27] البئر الأولى، ص 73
[28] السفينة، ص 19
[29] البئر الأولى، ص 115
[30] شارع الأميرات، ص ص 41-52
الحياة لجبرا هي سلسلة آبار، لكن البئر الأولى هي الأهم وهي الأغنى لأن فيها تتجمع التجارب والرؤى والأصوات بأفراحها وأحزانها. وكل ما يأتي بعدها يتفاعل معها ويساعد صاحبها على تطوير مفاهيمه للحياة وتكيفه معها.
كيف تشكلت البئر الأولى عند جبرا؟
خبرات كثيرة توفرت لجبرا في بئره الأولى، صقلت حواسه، ووسعت مداركه، تفاعل معها بما يحمل من قيم جسدتها قصص أبيه وأفكار أخيه الأكبر يوسف، وبلورت لديه مفاهيم الخير والعدالة الإجتماعية. الأسرة، المدرسة يخففان من حدة قسوة الظروف المعيشية بتشجيع دافىء. صحيح أن كثيراً من هذه الخبرات تولد في اطار ظروف حياة صعبة من الفقر والحاجة، لكن جمال الطبيعة كان ملاذ جبرا، وساعد على أن تتحول هذه الظروف إلى حوافز من أجل خلق بدائل مبدعة لحل مشاكل يصعب حلها بالطرق المعروفة.
جبرا يزرع الأرض ويربي الدجاج والبط والخرفان والخنازير، ويراقب سلوك الحيوانات والطيور. يراقب قطته فلة وهي تطارد الجرذان، ويتابع علاقة أخته سوسن بالقطة. يراقب سلوك الدجاجة التي تفقس بيض البط، وسلوك الخنازير عندما تكتشف، في غياب الرقيب، أن باب الحظيرة مفتوح، فتقرر الهرب من الحظيرة، سلوك الحمير عندما يتدخل غريب في حركتها، وسلوك الناس عندما يشتد الفقر فيبكي الرجال، سلوك القوي عندما يفتقر إلى الحكمة فيصبح أشبه بالمارد الذي سمع عنه ولم يره.
جبرا يعرف معنى قسوة الطبيعة ورعبها عندما يشتد البرد في الشتاء ويدلف السقف، ولا يجد غير صدر أبيه يدفئه. يحمل الثلج بيديه من أجل أن يحمي سطح البيت من الانهيار. فتنطبع في الذاكرة معارك الصراع من أجل البقاء.
جبرا يعرف معنى أن يعطي الفرد من أجل استمرار الآخرين حين يرى والده يكد ويكدح، وما يجنيه لا يكفي لقمة العيش مما يضطره إلى بيع حذاء ابنه جبرا الذي كسبه كجائزة، من أجل استيفاء مصاريف العيد. جبرا يحلم بالحذاء الجديد ولا يلبسه، وتظل هذه حسرة في نفسه، إلى أن يدرك أنها أيضاً حسرة في نفس أبيه حين يسمعه يخاطب أمه، "ليتك يا مريم لم تبيعي ذلك الحذاء. حرمنا الولد منه، ونحن في عيد." لكن أمه التي هي الأخرى فعلت ما فعلت بحكم الحاجة تحاول التخفيف من الشعور بالذنب قائلة، "الذي صار، صار. والبركة فيك يا أبو يوسف، غداً نشتري له ألف حذاء!" لكن جبرا يعرف أن الأمر ليس سهلاً وهو يراقب أباه يصنع لنفسه وطا ينتعله لكل يوم كي يوفر حذاءه الذي بدأ في الإهتراء، والذي لا يملك أن يشتري غيره، للقداس .
جبرا يعرف كيف يفرح الكل من أجل واحد حين يجد من العائلة تشجيعاً ، "عفارم". الكل يتفرج بفرح على دفتره الجديد، وقد عمل بجد من أجل أن يحصل على ثمنه. كل شيء كان يمكن التغاضي عنه إلا عندما يتعلق الأمر بالمدرسة، أو الكذب. لذلك، عندما يستخدم جبرا الدفتر من أجل عمل طقاعات، ويلجأ إلى الكذب من أجل أن يداري غلطته، ويتغيب عن المدرسة دون علم أهله، ويعود إلى البيت عند موعد الانصراف، تقف الأم منه موقفاً حاسماً. ورغم دفاع الجدة عنه، إلا أنه لا يَسْلم من "أكل قتلة" من النوع الفاخر[1]. وربما كان أهم دور لعبته العائلة هو ذلك التشجيع والتعامل مع حماقاته بنوع من التغاضي، أو النكتة أو بتسامح ومحبة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أورد هنا بعض الأمثلة لتعامل العائلة مع جبرا في بعض المواقف. مثلاً، في حكاية حبرا مع الهيطلية، يدعو جبرا رفاقه، من باب التباهي، لتناول الهيطلية، والسبب أنه يريد أن يثبت لهم أن عندهم هيطلية، والتي كانت شيئاً لا يتكرر حدوثه كل يوم في بيت لحم في ذلك الوقت بسبب ظروف الحياة الصعبة. وعندما لا يبقى منها شيئٌ للأب الذي سيعود من عمله في المساء متعباً وجائعاً، يكتشف جبرا نتيجة تباهيه أمام رفاقه، فيطلق ساقيه للريح قبل أن تكتشف أمه ما حدث. ويظل الخوف يطارده إلى أن يعيده الجوع. لكنه يظل خائفاً أن يدخل البيت، فينادى على جدته، لكن أخاه يوسف يخرج إليه ضاحكاً وهو يقول، " تعال، ادخل! تطعم غيرك بالملعقة وأنت تأكل بالمغرفة! عال والله! ويجر جبرا إلى الداخل ليقابل أمه التي كانت عيناها تقدحان بالغضب. ويصف جبرا تلك اللحظة التي تراه فيها أمه قائلاً، " وفجأة رأيت الغضب في عينيها يذوب إلى ما يشبه الضحك، حين قالت، "يا شيطان! أتوزع أكلنا على الناس؟ أتحسب نفسك ابن سليمان جاسر؟ اشبع أولاً، وبعدين أطعم الناس."[2]
وفي موقف آخر، يكتشف يوسف أن جبرا استخدم كتابه الإنكليزي المزين بالصور من أجل أن يعمل صندوق العجب، فيقول عندما يرى جبرا يجهش بالبكاء، " يلعن أبو الكتاب،" ويلتفت يوسف حوله يميناً ويساراً، بكبرياء ويقول، "لا أريد أن يراك أحداً أحد تبكي."[3]
جبرا يستمع إلى قصص والده، فتتشكل عنده مفاهيم العدالة الاجتماعية، والخير والشر، ودور المال في الإفساد. ويصبح أبوه النموذج للصدق والقناعة وعمل الخير وحب الآخرين تماما مثل الناسك وإبراهيم صانع الطواحين بطلي قصته الأثيرة، تلك القصة التي كان يكررها والد جبرا والذي يحمل هو الآخر اسم إبراهيم وكأنه من خلال بطلي هده القصة يتحدث الوالد عن نفسه، فهو أيضا لم يطلب من الدنيا إلا ما يبقيه هو وعائلته على قيد الحياة. جبرا يتعلم من أمه وأبيه وأخيه يوسف عزة النفس، وتتجسد أمامه نماذج يوميه لصمود الإنسان أمام الفقر ونضاله المستمر ضد العوز. وكما كان إبراهيم صانع الطواحين بطل قصة والد جبرا قبل أن يفسده المال، يصبح الأب نفسه بطل رواية كتبها جبرا وهو في الحادية عشر من العمر. جبرا يشعر بالخوف من فقدان أبيه بعد أن داهمه الألم، وأبوه هو رمز الخير، فإذا بروايته الأولى هي حكاية صراع الخير والشر حيث يموت الأب ويترك ثروة لأبنائه الثلاثة الذين يخوضون صراعاً ضد الأشرار لحماية هذه الثروة مع فارق أن الثروة التي تركها والد جبرا لم تكن سوى "أغانيه وحكاياته، وحبه الفائض على كل شيء حوله."[4]
وربما كان أهم دور للأب، والذي ساعد جبرا أن يكون كما هو، هو ذلك الموقف الذي وقفه عندما قرر جبرا أن يترك المدرسة كي يساعد في مسؤوليات البيت خاصة يعد أن أقعد المرض والده عن العمل. قال أبوه بانفعال شديد، "ما دام في عرق ينبض، وما دام في صدري نفس، لن أسمح لك بأن تترك المدرسة." وأردف أبوه، "لماذا؟ لأن الكلمة مقدسة، أي نعم. الكلمة من عند الله. بل الكلمة هي الله، كما جاء في الإنجيل. والكلمة هي الكتاب. "[5]
وفي موقف آخر،عندما طرد المدير جبرا من المدرسة الرشيدية،لأنه لم يبقى في مقعده إلى أن ينتهي زملاؤه من الامتحان، حمل الأب عصاه وخرج على الفور قاصداً الراهب بطرس صومي ، وكان معروفاً بشجاعته الأدبية وقدرته على الإقناع لمرافقته عند المدير من أجل أن يعيد جبرا إلى المدرسة. وعندما يذكر المدير أنه أعاد جبرا إلى البيت، يقول الأب، "كأنك قتلته، وقتلتني يا حضرة المدير." [6]
وموقف يوسف لم يكن بأقل من موقف أبيه في اصراره على استمرار جبرا في المدرسة وعدم تكرار غلطته هو. لكن الدور الأهم الذي لعبه يوسف كان في وضع الكتب بين يدي جبرا. كانت الثروة التي تضمنها صندوق الكتب خاصته والتي لعبت دوراً هاماً في تطوير ميول جبرا القرائية وفيما بعد الكتابية. ففي هذا الصندوق، تعرف جبرا على تراث أدبي وإنساني يكتشف جبرا فيه "كليلة ودمنة"، و"حكايات لافونتين" من خلال إطلاعه على كتاب "بحر الآداب"، ويقرأ في "مجاني الأدب" الكثير من الحكم ومأثورات والتواريخ والأشعار، ويتعرف من خلاله على أسماء تبهره مثل الثعالبي والغزالي والمسعودي ...تتضح أهميتها فيما بعد. كما يقرأ جبرا كتاب "مغامرات روبنسون كروزو"، وسيرة عنترة، وتغريبة بني هلال، وروايات بوليسية متعددة . ويطلع على الأدب الكلاسيكي من خلال كتاب"سير الأبطال" الذي يتعرف من خلاله على شخصيات الأدب اليوناني مثل أخيل، هكتور، هرقل...أبطال ملاحم الإغريق وأساطيرهم. وهذا الكتاب اشتراه جبرا بقرشين حيث قام أخوه يوسف بإعطائه ثمن الكتاب الذي كان قد وفره من أجل شراء قاموس لنفسه
لكن أكثر ما أثر في جبرا من كنوز صندوق الكتب هو حكايات ألف ليلة وليلة. فيها كان يبحر إلى عالم بعيد مسحور، "يموج بالألوان والأنغام، وكله جنائن من أشجار باسقة وأزهار فاغمة، تتلاعب بينها الطيور والصبايا..." وبقيت أوراق ألف ليلة وليلة تعد كما يقول جبرا" بلذة غامضة، تكاد تكون سرية، أعود إليها بين حين وآخر، أقرأ فيها ما أستطيع، على ما بينها من ثغرات عريضة، في شيء من التسلسل حسب أرقام لياليها."[7] وكان جبرا يروي هذه الحكايات، إضافة لحكايات أبيه لرفاقه، وكان يتمتع بسردها مضيفاً إليها ما تجود به القريحة. وإذا كانت المعرفة سلطة، فإن جبرا أخذ سلطته على أترابه من هذه المعرفة التي تتجسد في القصص والحكايات والتي لم تتوفر لمعظم أترابه في منطقة بيت لحم. وإذا كانت نظرية تعديل السلوك صادقة من حيث أن السلوك محكوم بنتائجه، فانه من الممكن أن يكون الرضا والإعتزاز الذي كان يشعر به جبرا ولّد عنده تلك الرغبة في مزيد من القراءة ومزيد من الإضافات المثيرة للحكايات كي تصبح أكثر تشويقاً ومتعة.
وربما كان خيال جبرا الذي يرافق قراءة الكتب وخاصة قصص ألف ليلة وليلة، من العوامل التي أدت إلى انشداد جبرا إلى شخصية البطل. ويصف جبرا نفسه عندما كان منسجماً في القراءة، وفي لحظة مشحونة بالتوقع، دخلت أمه عائدة من السوق، وألقت سلتها الملأى مما اشترته من بندورة وكوسى وباذنجان، وصاحت به، " الله يخليك يا حبيبي اسحب لي تنكة من البئر." ويعلق جبرا، "بسرعة تشتت حلمي البعيد، رغم أنني وأنا أدلو الدلو في البئر، ثم أرفعه طافحاً الى السطح وأفرغه في التنكة، كنت أحاول استعادة بعضه في خيالي المحموم."[8]
ومن ألف ليلة وليلة إلى القصص الدينية التي تركت بصماتها على مخيلة الطفل والد الرجل. الكلمات تتحول إلى صور ضمن مكان وزمان. جبرا يتصور الله وهو يجبل الطين كما يجبله عمال البناء، ويبحث عن قابيل في وجوه الناس في الطريق، ويتمنى لو أن نوحاً لم يصعد الحمار إلى سفينته، بعد تجربته مع الحمار الذي تركه متألماً وقد رفسه.
جبرا يتأثر بالقصص الدينية، و يفكر بالملائكة والشياطين ويهيئ له خياله الطفل أن ملاكي الخير والشر يقف كل منهما على أحد كتفيه، واحد يحاول إغواءه والآخر يحثه على العمل الصالح. ويصبح الضمير مجسماً بالصور التي يرسمها الخيال، وينتاب ابن التاسعة القلق من أشياء لا يستطيع فهمها. وهنا يبرز دور والد جبرا الذي ساعده في تشكيل سلم القيم لديه، وفي تجاوز قلقه من مفاهيم مجردة يتم تلقينها للطلاب مثل مفهوم الخطيئة. يقول والد جبرا معطياً للمفهم المجرد للخطيئة بعداً سلوكياً يمكن فهمه، " الخطيئة يا بني هي السرقة، والكذب، لا تسرق، ولا تكذب... لا تكثر من القسم باسمه المبارك. ثم ، لا تشتم.. الشتيمة في نظر الله خطيئة." يسمع جبرا تفسير أبيه ويعلق قائلاً، "صعبة كانت وصايا أبي، ولكنني لم أنسها قط."[9]
جبرا يتأثر بالحكايات التي يتناقلها الناس عن المارد فترعبه العتمة، ويصبح اقتحامها ميدان تحدي. "وقد تحديته أكثر من مرة، باقتحام بعض الغرف المهدمة، ولكنني لم أره، لحسن حظي أو لسوء حظه. غير أن الرعب كان لذيذاً، ينتهي بالخروج للنور."[10] تماماً مثل شعور قارىء قصص المغامرات التي يعيشها على أنها حقيقة من البداية حتى النهاية وهذا ما يجعل الرعب ممتعاً، خاصة عندما تمر التجربة دون أذى على من خاضها.
جبرا يصغي لكلمات الألعاب والقصائد، ويحلق في صورها، وينطلق به الخيال إلى ما بعد الصور وما قبلها، لتؤسس عنده بدايات الحكايات. ففي لعبة "يا عونيا" يتخيل جبرا عونيا "بدوية سمراء سوداء العينين، خمرية الخدين، تترنح جدائلها المسترسلات فوق نهديها تسقي جملها المحبوب، قطر الندى من راحتي كفيها."[11]
جبرا يلعب لعباً إيهاميا فتصبح الشجرة طائرة، وهو طيارها، ويبحث عن الأسود والنمور كما هو الحال في الأفلام التي يشاهدها في دير "أبونا انطون"، ويصنع بحره - حفرة في احدى الحواكير، يجمع فيها مياه المطر. وبعد أن ينتهي من سحب الماء بالدلو، ويجمعه بالتنكة ويسقي شتلات الماء ، يجلس في أعلى شجرة التوت بين أغصانها وأوراقها، ويرفع صوته بما يقرأ. وقد يرفعه بالغناء، وكان غناؤه "يتدفق في الوادي، ويملأه، ويفيض عنه إلى الجبال."[12]
خيال مجنح يجعل من الصوت صورة ذهنية تتحول إلى صورة حسية فتتقاطع ملكة التعبير بالكلمات مع ملكة التعبير بالرسم. جبرا يتأمل الكنائس بهيكلها المنقوش بالزخارف المذهبة ولوحاتها المعلقة على الجدران فتفتن عيناه. وتتفتح عينا جبرا على جمال الخط العربي ومرشده في ذلك الخطاط حسام اشتيه فيدخل إلى عالم من الرهافة في التكوين البصري، ويستشعر الكلمة المرئية مما أغنى تجربته الجمالية في حياته النقدية فيما بعد. وكان للخطاط شحادة عبد السميع، زميل جبرا على مقاعد الدراسة دور في الإطلاع على كيفية تخطيط الآيات القرآنية، وتعلم منه قواعد الخط الثلث والفارسي، وكان قد تعلم من حسام اشتيه قواعد خط الرقعة. من هنا يكتشف جبرا الأشكال والألوان والخطوط ويقتحم عالم التشكيل.
ومن قواعد الخط إلى قواعد اللغة. القواعد عند الأستاذ فهيم جبور كانت مرتبطة باعراب أبيات الشعر الصعبة. وتعلم جبرا من فهيم جبور الذي علّمه تحدي اللغة، في سنتين، ما لم يتعلمه من أحد سواه، وما بقي أساساً لتعامله مع الكتابة فيما بعد. وربما كان لطريقة معلمه - تحويل درس القواعد إلى لعبة تحدي في البحث عن العلاقات بين الكلمات- دور في تعلق جبرا بدروس القواعد، وإفادته منها.
جبرا تأسره الموسيقى منذ طفولته المبكرة. وترتبط اللغة السريانية "بأناشيد وتراتيل تعود إلى أزمان سحيقة في القدم وفق مقامات كان الشمامسة يتقنونها." وكان لكل يوم في الأسبوع لحن خاص به، ولمواسم الصيام لحنها، وللأعياد لحنها."[13] وكان على جبرا، كونه طالباً في المدرسة، أن يحفظ ذلك كله سماعاً. يحفظ التراتيل، ويشارك في الكورال ويتعلم أكثر من آلة موسيقية. وكان على جبرا أن يتعلم قراءة النوتا الموسيقية من اليمين ومن الشمال، وإذا اقتضى الأمر فبالمقلوب. ولا بد أن لهذه التمارين أثر في جعل عملية القراءة سهلة على جبرا مما جعله لا يكل من القراءة الطويلة أو الصعبة.
ويتطور الحس بالموسيقى عند جبرا بعد التحاقه بدير "أبونا أنطون" حيث كان الرهبان المشرفون على الدير مولعين بالفنون وبخاصة الموسيقى والتمثيل المسرحي. وكانوا يختارون ذوي الأصوات الجميلة للكورس الكنسي، ويعلمونهم أصول النغم والسولفاج، ويجعلونهم ينشدون باللاتينية أناشيد متعددة الأصوات تعود الى عصر النهضة الإيطالية والعهد الباروكي.
جبرا يلتحق بفرقة الكشافة والكورال، يتعلم قرع الطبل وعزف الكلارينيت، ويكتشف عالم الأصوات في الكنيسة وفي الأعراس، ومن خلال الإصغاء للصدافين، والميجانا والعتابا، والدلعونة. جبرا يراقب ما يحدث أمامه، ويستمع للأصوات التي تنبعث أثناء القداس ويغوص في عوالم أخرى.
جبرا يعرف معنى العطش والجوع حتى شفا الموت، وتجربة المتاهة حتى شفا الرعب، وتترك هاتين التجربتين آثاراً عميقاً في النفس، نرد آثارها كما يقول جبرا في السنين التالية من حياته. هل هي تجربة الإقتراب من الموت؟ أم هي تجربة التعلق بالحياة؟ هل هو الفردوس أم مملكة الموت؟ عاد منها جبرا أشد قدرة على الحياة؟ ربما لذة الرعب تكمن في المغامرة التي تظل تعطي الأمل بالنجاة، وهذا ما قاله جبرا عن تجربة الرعب من العتمة والرعب من مواجهة المارد.
لكن أهم ما حمله جبرا من بئره الأولى هو الإطار الذي احتوى كل ما حمل في الذاكرة. البيوت التي سكنها بآبارها التي تميز البيت التلحمي، وبيته الأكبر منطقة بيت لحم التي تتميز بجبليتها، ومنحدراتها التي امتلأت بأشجار الزيتون، وصخورها التي تنبت بين ثغراتها زعرورة أو عشبة يتيمة، لا يعلم أحد من زرعها. حمل جبرا في الذاكرة طبيعة منطقة بيت لحم بمواسمها. أيام "جداد" الزيتون، والدلعونة تشكل خلفية المشهد لفصل الخريف يغنيها الجميع من رجال ونساء وأطفال. وللدلعونة، طقوس المجوز والشبابة وما توحيه. يسرح خيال جبرا محاولاً فهم الكلمات البدوية التي تثيرها كلمات الدلعونة، متخيلاً الوجوه التي تعبر عنها الكلمات. وهنا يتزاوج اللحن مع الكلمات مع الصورة التي تنطبع في الذاكرة لتبحث لها عن مخرج على الورق.
وفي الشتاء عيد الميلاد، وصلاة منتصف الليل. تتلألأ ساحة المهد بالأضواء الكهربائية القليلة، وانعكاساتها المشعشعة في تجمعات المياه بين البلاطات الكبيرة، وباعة الحلاوة، وباعة المشويات، وباعة الكستناء، وباعة السحلب، "والناس في حركة دائبة كأن أحداً منهم لن يأوي الى فراشه في تلك الليلة."[14]
وفي موسم الربيع، يأتي عيد القيامة، فتخضر الحواكير المهملة، وتزهر الأرض بألوانها. "الحنّون الأصفر، والحنون الأزرق، والحنون البنفسجي، والأحمر، القاني، بلون الدم: شقائق النعمان. ترفع رؤوسها الشقائق للشمس، والندى يتلألأ على وريقاتها، من بين الحجارة، والأشواك، والأعشاب الغريبة."[15]
وفي فصل الصيف، حيث اجازة المدارس، يلعب الأطفال ألعابهم الإيقاعية ، و بالفرانة، وطيارة الورق، والنقافة، ولعبة طقة واجري. وبيت لحم يدهشها كل جديد مهما كان صغيراً. السيرك، رقص الغجر، مراقصة الدب، الحاوي وهو ينفخ في مزماره والحيات تتمايل على النغم.
وتظل في الذاكرة أيضاً الأماكن الهامة التي تركت بصماتها عليه مثل الأديرة التي تميزت بها المنطقة والتي تعطي بيت لحم الكثير من شخصيتها العمرانية والاجتماعية مثل أديرة الروم الأورثودكس ، وأديرة الفرانسيسكان، وأديرة السالزيان وأهمها دير "أبونا أنطون كما يسميه الناس. هذا الدير الذي شهد تفتح جبرا على الموسيقى وعلى الفن السابع.
ذاكرة جبرا تحمل البيوت التي سكنها والمدارس التي التحق بها، والكنائس التي حملت رسومات ونقوش استوقفته. كنيسة المهد وشوارع مدينة بيت لحم القديمة، وبيوتها التي ارتبطت بأسماء أصحابها. والأماكن التي تاه فيها كان في تل خريطون الملقب بالفرديس أو في شوارع القدس القديمة. أيضاً الأماكن التي عمل فيها وهو طفل وعمل فيها أبوه أو أخوه. وجريمة القتل التي ارتكبها ميكيل العائد من التشيلي، والتي كانت أول قتل يشعر به جبرا حيث شاهد بركة الدم الداكنة والبلاط والحائط الملطخين دماً والتي تشير الى انتفاضات الطعين العنيفة.
ويصور جبرا الفقر المدقع الذي كان يميز بيت لحم من خلال التطرق إما لأحداث كبيرة أثرت على الحياة في المنطقة كالهجرة، والتي أقفلت الكثير من البيوت التي بقيت بانتظار أصحابها.
أو من خلال رصد لقطات تكشف هذا الفقر. يصف جبرا الرقع التي تميز الملابس، وكيف كان بشارة، وهو السباك الذي عمل عنده جبرا لطيفاً يعطيه قرشاً كي يشتري لنفسه شيئاً يأكله، لكنه كان يفضل شراء المجلات أو الكتب رغم جوعه. ويصور جبرا كيف كان العمال والحرفيون يتدبرون أمورهم المعيشية بجهد وكد. وكيف كانت طبخة الهيطلية حدثاً هاماً في ذلك الوقت، وكيف اضطر ألوه للعمل رغم مرضه من أجل لقمة العيش.
البئر الأولى وتداعياتها:
بصمات الطفولة تترك آثارها على الفتى اليافع وتظهر في كتاباته ، وفي رسوماته، وفي عشقه للموسقى. وربما كان أهم مؤشر لأهمية البئر الأولى هي في كون خبراتها بقيت عالقة رغم الزمن، تنساب من خلال شخصياته، وفي خلفيات مشاهده، وعبر الأحداث التي التقطتها عين الطفل الذي لم يتجاوز الثانية عشر من العمر. في كتاب البئر الأولى، تعمل قلم أديب متمرس ينتقي أحداثاً بعينها، وكما يقول جبرا عن البئر الأولى، "تفرض نفسها على ذاكرتي، وتنضح في دمي برقة لا أستطيع تفسيرها، وجمال يتزايد مع الزمن، وشاعرية تزيدها الآلام توقداً، ومفارقات تتوازى بغرابتها مع العشق الطفولي لكل دقيقة من تلك الحياة التي قد تبدو الآن في الكثير منها قاسية، وظالمة، ومرفوضة." الذاكرة في الصغر تنتقي اللحظات التي تختزنها لما بعد، ولكل لحظة مختزنة عمر يوازي حميمية هذه اللحظة وحرارتها والانفعالات التي تصاحبها، وهذا ما يعطيها جواز السفر نحو المستقبل، وتحتفظ بوهجها بعد عمر بعيد، وكأن الذاكرة هي الهوية التي تجعل من جبرا فلسطينياً في داخل مجتمع آخر. هو الغريب الذي يأتي إلى مكان ما، يجد نفسه موضوع منافسة ، أما هو، فله مُثلُه، وقيمه، مما يجعله لا ينافس أحداً سوى نفسه. "أنا لم أنافس أحداً قط. أقحمت إقحاما في حشد من الغرباء كنت الأول بينهم." [16] وهذه بالضبط، شخصية وليد مسعود، وأبطاله الذين هم من أصل فلسطيني متواجدين في مجتمع غير فلسطيني، جزء منهم موجود وجوء منهم بعيد، الأمر الذي يضفي علنهم غموضاً لافتاً ويصبحون دائماً مركز الاهتمام من قبل المحيطين بهم.
ذاكرة جبرا تحمل منطقة بيت لحم بعاداتها وطقوسها، بطبّها الشعبي وبالعرافين، بفلاحيها، وببدوها وبسكان المدينة. بمعلميها، بحرفييها من صدّافين وسباكين، وحجارين، بتعدديتها بناسها العاديين الذين يهتمون بالصلاة كما يهتمون بالسياسة، بأحداثها الكبيرة وأحداثها الصغيرة. وتجد تأثير هذه الحياة مجسداً في أكثر من قصة أو رواية. مثلاً، في قصة الغرامافون، التي ورد ذكرها سابقاً، تصوير للورشة التي عمل فيها جبرا عندما كان صغيراً، مع فارق أن اسمه في هذه القصة هو يعقوب، والسباك بشارة، يدعى في القصة حنا. أما البرنس يوسف فقد حافظ جبرا على اسمه كما في الواقع.
كانت طفولة جبرا قاسية، وكانت المدرسة له "بطلابها ومعلميها، بكتبها وأجوائها، مهرباً وملاذاً، كالطبيعة نفسها."[17] ومن يملك الطبيعة الجميلة والمأساة، يكون "شاعراً" كما يقول جبرا على لسان وليد عساف في رواية السفينة، "الفلسطينيون كلهم شعراء. بالفطرة. قد لا يكتبون شعراً، ولكنهم شعراء، لأنهم عرفوا شيئين اثنين هامين. جمال الطبيعة، والمأساة. ومن يجمع بين هذين، لا بد أن يكون شاعراً."[18] فكيف إذا ما كانت المأساة هي مسلسل لا ينقطع من المآسي.
في أكثر من رواية، وفي أكثر من قصة، وفي أكثر من لوحة، تبرز بيت لحم إما بطبيعتها الجغرافية والاجتماعية من خلال لقطة معينة للحياة الشعبية في تلك الفترة. مثلاً، في قصة "المغنون في الظلال" ،[19] وهي واحدة من المجموعة القصصية "عرق وبدايات من حرف الياء" ، تبدو مدينة بيت لحم واضحة بمشهدها الطبيعي والاجتماعي، بعاداتها وتقاليدها. الدلعونة، صوت العود، والشمس التي تتراقص على أشجار الزيتون التي تدخل عميقاً في الزمن.
وفي قصة "الشجار" التي وردت في المجموعة القصصية "عرق وبدايات من حرف الياء"، ينقل جبرا صورة للحارات في مدينة بيت لحم، وجورة العناب في القدس، حيث يضطر الناس لفتح نوافذهم كي يدخل منها الضوء، لكن ذلك يعني بالضرورة أن تنتفي الخصوصية لكل جار. وفي هذه القصة، ندرك أن الطفل الراوي هو جبرا، وتنعكس علاقة جبرا بأمه على علاقة البطل بأمه. والزقاق الذي يجري فيه الشجار شبيه باكتظاظ بعض البيوت أو الحارات التي سكنها جيرا وهو طفل، أكان ذلك في بيت لحم أو في القدس. يهرب الطفل إلى الحواكير ثم إلى الوادي، يقفز مع صديقه من صخرة إلى صخرة، ثم يرميان الحجارة في الماء كي يريا الرشاش. تماماً كما كان جبرا يفعل حينما ينفرد بالطبيعة ويتوحد معها عبر انفراده بشجرة التوت والخروب. هناك يقرأ الشعر ويغني. في الطبيعة يتجدد.
أيضاً، يصور جبرا في قصة "الشجار"علاقة أمه بأبيه، عندما كان يأتي في آخر النهار متعباً، فتغسل له رجليه في الطشت، بينما يجلس الطفل في حجر أبيه. ويناوله أبوه شيئاً أحضره معه، لكن الطفل دائم السؤال، "متى سنخرج من هذه الدار يا أبي؟ فيجيب الأب: " حين تكبر وتشتغل."[20] وكما كان والد جبرا يفعل مع ابنه، يبدأ الوالد بقص الحكاية إلى الطفل، إلا أن صراخاً يجعل الأب يتوقف. وهنا ينقبض صدر الطفل، ونعلم بعدها عن مقتل جارهم أبو مراد، وكأن جبرا في هذه القصة، يستذكر حادثة القتل التي قام بها مايكل العائد من الأرجنتين، والتي وصفها في البئر الأولى، فتأتي مشاعر الطفل في القصة مماثلة لمشاعر الطفل جبرا في البئر الأولى عندما حدثت جريمة القتل.
ويظل في ذاكرة جبرا زلزال سنة 1927 الذي هز فلسطين،[21] وكان عندها في السابعة من العمر. ولم تستطع السنون محو لحظات الرعب التي شعرها الطفل، وها هو يتذكر آثار هذا الزلزال في رواية "البحث عن وليد مسعود". ويذكر جبرا كيف انطلق مع الصبية مرعوبين إلى الخارج، وكيف رأى "الحجارة تتساقط من أعلى المبنى القديم، وتتكوم في ركام أبيض مريع." الدمار والتجدد. فكرة السيول والعنقاء. بعد كل محنة هناك بداية فتية، وتجدد على صعيد جبرا نفسه، وعلى صعيد الأمة كما جاء في كتاب شارع الأميرات. [22]
وتظل بصمات ألف ليلة وليلة تتدخل في قصص جبرا. يذكر جبرا في البئر الأولى كيف تأثر بألف ليلة وليلة التي قرأها في عمر مبكر، وكيف كتب عن رجل يحلم بفتاة جميلة، فيرسمها، إلى أن يلتقي بها وإذا بها مثل الصورة.[23] وفي المجموعة القصصية "عرق وبدايات من حرف الياء" قصة مشابهة، هي "ملتقى الأحلام" والتي تتحدث عن كاتب رسام يرسم دائماً صورة امرأة، إلى أن يلتقي مرة بفتاة تكون مثل الصورة تماما.[24]
كما أن تعلق جبرا بالكتب لا يضاهيه سوى تعلقه بالموسيقى. وفي قصة "الغرامافون" التي تضمنتها مجموعة "عرق وبدايات من حرف الياء" والتي تبين أهمية الموسيقى للطفل الصغير الذي كان يعمل في ورشة لسباك، هي نفس الورشة التي عمل بها جبرا وهو طفل. والشخصيات في القصة، هي نفس الشخصيات في الواقع - المعلم ، وتابعه ”البرنس" يوسف الذي حمل الاسم نفسه محتفظاً باللقب نفسه ونفس الخصائص التي كونتها .[25]
لقطات مماثلة ترد في أكثر من قصة أو رواية لتمازج الموسيقى مع الطبيعة، مع الإنسان. وربما تكون قصة "الرجل الذي كان يعشق الموسيقى"، وهي إحدى قصص مجموعة "عرق وبدايات من حرف الياء" [26] هي رغبة ساورت جبرا في الإنعتاق من عالم الجسد البشري إلى الالتحام بالطبيعة عبر موسيقى باخ، وهو أحب الموسيقيين إلى قلبه، فتتجاوب الجبال والسماوات الألحان المدوية. هكذا يصبح الموت خلوداً حيث يتحد مع الطبيعة وموسيقى باخ، فيقهر الموت. وما أقرب موسيقى باخ من موسيقى الكنيسة التي طالما حركت مشاعر جبرا وهو طفل. والإشارات الضارعة "يا حمل الله الحامل خطايا العالم ارحمنا!"[27] عاطفة تحرك شخصياته الأساسية مثل وليد مسعود، وسعيد عساف. يقول جبرا على لسان سعيد عساف عن هذه الألحان والتضرعات، "هذه كلها تغمرني بأحاسيس كالهستيريا. فأنا أريد أن أتمزق عندها – أتمزق فرحاً وطرباً، وأسى وحزناً. لأن الجمال حزين – أجمل ما في الحياة حزين، كبلادي."[28]
موسيقى الكنيسة مع أيقوناتها ونقوشها تتوحد في ذاكرة جبرا مع أنغام الدلعونة وإيقاعها أيام الحصاد . وكما تنساب الموسيقى من البئر الأولى إلى قصص جبرا ورواياته، تنساب التشكيلات البصرية من البئر الأولى لتشكل لوحات جبرا فيما بعد. وفي واحدة من اللوحات الزيتية التي ساهم فيها جبرا في المعرض الأول لجماعة بغداد للفن الحديث، تبدو ثلاث قرويات فلسطينيات، رسمهن جبرا في عام 1948، وقد جلسن أرضاً بأثوابهن الزرقاء والخضراء والحمراء حول سلة من الفاكهة. ويشبههن جبرا بأنهن "ربات للكبرياء والبقاء الأبدي".[29] . وربما كانت طفولة جبرا الغنية بالتذوق الجمالي والحس بالموسيقى هي الأرضية التي شيدت عليها أفكاره في الموسيقى والفن التشكيلي وأفكاره في النقد الفني ليكون فناناً تشكيلياً وناقداً فنياً وليشكل مع الفنان جواد سليم جماعة بغداد للفن الحديث في 21 نيسان، عام 1951.
وفي الختام، يمكن القول أن بيت لحم التي تضم في حناياها مهد المسح تجعل أبناءها يشعرون بالامتياز. إما بسبب إيمانهم بذلك، أو بسبب إيمان الآخرين به. وفي قصة "سيدة البحيرات" التي وردت في كتاب "شارع الأميرات"[30] وهو الجزء الثاني من السيرة الذاتية لجبرا، يلتقي جبرا بسيدة ذات رداء أبيض تتعامل معه بقدسية عالية، وكأنه رؤيا لكونه من بلد السيد المسيح ولأنه يعرف لغته. وربما تكون السيدة نفسها هي رؤيا جبرا نفسه يعبر فيها عن امتيازه واعتزازه بفلسطينيته وبكونه من بلد المسيح، ويتحدث بلغة قريبة من اللغة التي تحدث بها المسيح منذ نحو ألفي عام .
هذه مقتطفات من تأثير البئر الأولى لطفولة جبرا على حياته الأدبية والفنية، هي قليل من شواهد كثيرة مماثلة تبرز في معظم ما كتب جبرا للمهتمين بالموضوع.
[1] البئر الأولى، ص 38
[2] البئر الأولى ، ص 24
[3] البئر الأولى، ص 54
[4] البئر الأولى، ص 203
[5] البئر الأولى، ص 176 -177
[6] البئر الأولى، ص 264
[7] البئر الأولى ، ص 195
[8] البئر الأولى، ص 195
[9] البئر الأولى ص ص 89 -90
[10] البئر الأولى ص 61
[11] البئر الأولى، ص 62
[12] البئر الأولى، ص 182
[13] البئر الأولى، ص 70
[14] البئر الأولى، ص 102
[15] البئر الأولى، ص 75
[16] البئر الأولى، ص، 173
[17] البئر الأولى، ص 228
[18] السفينة، ص 17
[19] عرق وبدايات من حرف الياء، ص ص 39-46
[20] عرق وبدايات من حرف الياء، صص 110 -114
[21] البئر الأولى، ص117
[22] شارع الأميرات، ص 203
[23] البئر الأولى، ص 191
[24] عرق وبدايات من حرف الياء ص ص 62-87
[25] عرق وبدايات من حرف الياء، ص ص 47 -61
[26] عرق وبدايات من حرف الياء، ، ص 198 -202
[27] البئر الأولى، ص 73
[28] السفينة، ص 19
[29] البئر الأولى، ص 115
[30] شارع الأميرات، ص ص 41-52
روز شوملي مصلح - البئر الأولى وجبرا ابراهيم جبرا
روز شوملي مصلح - البئر الأولى وجبرا ابراهيم جبرا
www.ahewar.org