أمل الكردفاني - تأوهات الخلاص.. قصة قصيرة

١- الإختبار:
قمت بدفنها.. كانت جثث الثلاث الأخريات مردوفات فوق بعضهن. وأَضحَت تغطية الجثة الرابعة أكثر صعوبة، ليس لأن الرائحة قاتلة ولا الظلمة كالحة، ولكن لأن الجثة الأخيرة لا محالة ستبرز من فوق الأرض. النسوة الثلاثة فوق بعضهن عاريات وممشوقات في رقدتهن الأخيرة، ومحاجرهن فارغة. أما الرابعة فقد بدأت تتحلل لتوها. تلك الرائحة تغمرني داخل الغرفة بين الفينة والأخرى. وضعتُ باباً خشبيا قديما فوق قبرهن وأهلت التراب. ثم صعدت عليه وبدأت أضرب بأرجلي علًَه يهبط قليلا فيحاذي مستوى الأرض. وكان الخوف يدفع بالعرق في سائر خلايا جسدي.
لم تشرق الشمس منذ وقت طويل، والحر يستطيل مخترقاً خياشيمي حتى أعطس. كيف سأنام قرب هذه الجثث؟ وعندما يزورني نسوة اخريات كيف أستطيع إخفاء ذلك البروز الترابي أمام غرفتي. غرفتي بلا باب، بل تنفتح مطلة مباشرة على باحة البيت الترابية. يزحف الظلام بين حواف القبر الجماعي، ويتخلل الشقوق ويلتف حول قسمات تلكم الجماجم الكئيبة. حين أرفع بصري إلى السماء تواجهني حلاكة غامرة بالخوف.
"متى ستشرق الشمس؟" لقد اختفت منذ بضعة أشهر، ومع ذلك ازدادت حرارة الجو.
يخفق قلبي، حين أسمع طرقات خفيفة على باب المنزل. فأمضي وابتعد بالزائر عن الغرفة، لكنه يصر على الإقتراب. أصطحبه مبتعداً عن حواف القبر. من الجيد أن الظلام يغطي ملامح وجهي المرهق.. وإن كان لا يخفي عطر الجثث..
...

٢- الرسالة

ليس الموت شغل البشر الشاغل وليس الحب؛ بل الكره..ذلك الحكم المستمر بالإدانة لكل ما حولهم، وذلك بالتحديد ما يحاصر إنفتاح إراداهم نحو الحياة، وذلك بدوره ما يجعلهم قابعين في الموت وهم أحياء.
كان الحكم بالإدانة والموت على النسوة الأربعة حكماً اعترافياً يجعله من أكثر الأحكام إتساماً بيقين القاضي والجلاد...وحين أدور من خلف الواحدة منهن وأضع رأسها بين ذراعيَّ فأكسر عنقها بسرعة.. أسمع تلك الآهة المحترقة..آهة الخلاص..
....

٣- التبليغ

كان عليَّ أن أحفر وأحفر وأحفر..وعليَّ أن أحفر بعمق أكبر.. فالجثث تتزايد.. والأحكام الإعترافية تتزايد.. فبدأت في هدم الغرفة..
....

٤- الأتباع

فلتبق أيها الليل.. لا تنجلي.. هكذا بت أخاف النهار.. والجموع الغفيرة تضيئ عيدان الثقاب وتحيط بي.. فأرى وجوههم المقتضبة الشاحبة..
- إنها كوميديا جادة..وتراجيديا ساخرة..إنه إختيار صائب ذلك الذي اتخذتموه..تعالوا إلىَّ يا جميع المتعبين والمثقلين بالأحمال..
فيتضافرون حولي، ويضعون أياديهم فوق رأسي.
- إنكم هنا القضاة.. وأنتم المتهمون.. وأنتم الجلادون..
فتبدأ حفلة تكسير الرقاب.. دون أن تشرق الشمس.. وترتفع تأوهات الخلاص..
...

٥- التأسيس

ومن منزل لآخر ومن مدينة لأخرى ومن بلد لآخر، كنت أؤسس لمحاكم الظلام..
تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين المثقلين بالأحمال..
...

٦- التجلِّي

يلطم سموم الليل وجهي، وأعبر جسر الدموع، حيث تمر من تحته المياه السوداء.. أرى فقاقيع تَنَفُّس السمك تخفق على السطح.. تتكور وتنفجر بخفة وصمت..ثم تهدأ المياه.. ليس للمياه لون فهي منافقة، تتلون مع كل ما فوقها وحولها وتحتها. لكنها أبداً لا تبدو كما هي لأنها لا تملك نفسها.
- أيها النبي..
تهمس الأرواح من تحت الماء..
- لِمَ لا تهبط إلينا..
- أين النسوة الاربعة؟
فتخرج أربع سمكات تنظر نحوي وتقول بصوت واحد:
"لم نجد الحب حتى هنا"
ثم تختفي تحت ظلمة الماء..
....

٧- الخلاص

إن العالم مؤسس على السرقة، لو تأسس على تبادل المنفافع المجردة لما أصاب الغنى بعض الناس.
وهو يخاطبهم كثائر، تنظر الفتيات نحوه بإعجاب كبطل مهموم بالعدالة.. لكنه في الواقع كان يسرقهم بدوره..
فتتبعته..
كان يسير وهو يرمي أعقاب السجائر تحت قدميه.. كان يدخن السجارة حتى يبلغ عقبها فتحترق تلك الحلقة القطنية. كان يدخنها بقسوة..
- إنك قابل للموت ولست بطلاً..
أقول فيتوقف ويلتفت إلى الخلف ببطء ثم يرمقني بنظرة قلقة..
- تبدو كلحن يسهل نسيانه..
- من أنت؟
أدور حوله متأملاً ملامحه في الظلام..
- لن تشرق الشمس أبداً..
يبتلع غصة ويخرج علبة سجائره ليشعل لفافة منها؛
لكن سجارته تسقط من فمه وأجره من رقبته المكسورة إلى ناصية الزقاق الضيق..
...

٨- التخلي

القمر يتحول للون أحمر، ومن أحد مرتفعاته أرى الأرض تنطفئ..
- إنني أقدم استقالتي..
- غير مسموح لك بذلك..
- ولكنني اكتفيت من الموت..إن هذه ليست وظيفة نبي..إنها ليست وظيفة بشرية..
- هذا ليس خيارك..
- سأتمرد..
- لن تستطيع..
.....

٩- الحقيقة

كنت أنظر من النافذة إلى الحديقة الخضراء.. دخلت الممرضة فوضعت لي طعام الإفطار الخالي من الملح وكوب عصير برتقال..
سألتها:
- عادت الشمس لتشرق من جديد..
قالت بغير اكتراث وهي تخرج..
- إنها تشرق دائماً..مواعيد الدواء..
ثم غادرَت..
فنظرتُ إلى عدة زهرات قرمزية على غصن واحد تتمايل مع نسمات الصباح..وبدورهن؛ التفتت الزهرات نحوي وابتسمن وغمزن وهن يعضضن شفاههن غير المرئية..
تركت سريري الأبيض ونهضت لأراقبهن من وراء النافذة عن كثب، لكنهن استدرن وعدن لحالتهن الأولى..
كان العالم مستقراً..
وكانت الجثث الأربعة تحت الزهرات تغذيها بأثير الحياة..
دخلت الممرضة وهي تحمل الأدوية والحقن ثم طلبت مني الاسترخاء..
كانت سمراء ممتلئة الجسم..ويدها جافة..
- ابنك ذو الساق الواحدة..
سقطت الحقنة من يدها ورفعت رأسها نحوي بدهشة..فتابعت:
- سيموت الآن..إذهبي وودعيه..
ترقرقت عيونها بدموع حمراء، ثم فرت من أمامي وهي تكتم فزعها..
كان من المفترض أن تكون هذه هي آخر مهمة لكنني قدمت استقالتي قبلها..
إن الحياة ليست سرقة بل تكامل مع الموت..غير أنها حقيقة لا أستطيع كبشري أن أتقبل كآبتها بلا ألم..أليس كذلك؟

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...