دارت الأرض دورتها، توقفت مع منتصف النهار في شارع السودان، المرأة خمسينية، ورغم ذلك تبدو مقوسة الظهر، تدفع جسدها المترهل بصعوبة في الهواء الساخن، مشيتها عرجاء بطيئة تكنس تراب الرصيف بثوبها الاسود الفضفاض، تتكئ على عصى معدنية قديمة، عيونها الضيقة الباهتة مغلفة بزجاج نظارة سميك يحمله شمبر بلاستيك رخيص، رأسها مرفوعة الى السماء كأنها تتفحص حمأة شمس غاضبة. حركتها على الأرض بطيئة للغاية، لكن تبدو متحدية للزمن وللايام التي تكومت بشراسة فوق كاهلها. العرق الذي تفصد من جبينها ارهق ما تبقى من عينيها، وصعب من اهتزازات جسدها البدين الذي أصبح عبئا لايطاق. حلمها الذي تطارده الآن وهي تضرب بعصاها الأرض في الدنيا الساخنة ان تتحرر من سجن الجسد المعتل والآمها التي تصاحبها ليل نهار. حلمها الوحيد في الحياة ان تتخفف من قسوة الجسد عليها وان تقف أمام حوض المطبخ مثل زمان منتصبة القوام من دون الآم، تصنع طعامها، تغسل المواعين، وتنظف منزلها بيسر، وتخرج للسوق بحرية وتناكف الباعة وتمرح معهم وتشتري اشياءها بنفسها. الآم العمود الفقري والمفاصل اهتاجت عليها فجأة منذ سنوات، وفي اعقاب وفاة الزوج ودفنه خارج البلاد. البنات تزوجن، الولد هج، والوحدة قاتلة رغم التفاف بعض الأقارب والصديقات. في مستشفى الجامعة فحصها طبيب شاب وسيم الطلة والملامح، ابتسم لها، اخبرها "انتي في حاجتة الى عملية جراحية تخلصك من كل تلك المتاعب" ، ابتهجت، ثم اغتمت، " لكن معييش فلوس يادكتور"، اتسعت ابتسامة الواثق والتي التقطتها عينيها بسرعة اراحتها جدا " موش هاتدفعي فلوس، فقط ثلاثة الآف ثمن الآشعة والفحوصات، والفين عشان فحص الكورونا، والشرايح والمسامير والعملية علينا، وانا منتظرك يالا تعالي بسرعة". قلبها الواهن استعاد عافيته فجأة، تراقص على نغمة فرحة التحرر من سجن الجسد الواهن أخيرا، خرجت من باب العيادة، نزقة، متخففة، تردد مع نفسها بصوت كاد صداه ينفلت من بين اسنانها " خمسة الآف يمكن تدبيرهم من أي مكان ربنا يهون وأقدر امشي". كأنها تتحرك الآن في المستقبل، بوابة مستشفى الجامعة خلفها، وأمل الخروج من سجن الجسد العليل يلوح أمامها بخمسة الآف جنيه. سيارة الميكروباص الأجرة وقفت أمامها، ساعدوها في الصعود بعصاتها، لا تزال منتشية بفرحة الأمل، وصورة الطبيب الباسم تتملك كيانها لاتريد ان تفلتها. صفير الهاتف لايتوقف، انتبهت، خرجت من نشوتها. على الطرف الآخر ابنتها الكبرى، اجابت وكانت في حالة فريدة من النزق " انا في الطريق، راجعة حالا، الدكتور قال لي هاتمشي وتبقي كويسة، لازم لك عملية ونركب لك شريحتين وشوية مسامير وترجعي زي الأول، انا نفسي اعرف امشي كويس واطبخ وانظف البيت، قال لي العملية والشرايح والمسامير ببلاش بس هاتدفعي ثلاثة الاف للتحاليل والاشاعات والفين للكورونا، وهامشي وهابق كويسة واعرف اشتغل في البيت"، طال الحديث مع الابنة القلقة وطالت الفرحة والنشوة لمجرد ظهور الأمل بالافراج والتحرر. توقفت السيارة، انزلوها بصعوبة الى أرضية الشارع، لايوجد مكان خارج عن نطاق سيطرة الشمس المحرقة، انتحت جانبا، ارادت ان تستند خلف جدار، أو ان تجلس فوق حجر في مكان مظلل تتخفف قليلا من اوجاع الجسد وقد عادت بعد تراجع الفرحة والنشوة. الجسد لايزال صامد. استدارت برأسها حواليها يمينا ويسارا مثل رادار يرغب في التقاط بقعة سحرية للراحة، الناس حولها يفرون بسرعة من الصهد، لا احد يراها، لا احد يهتم، فشل الرادار في التقاط بقعة سحرية للراحة، لكن لم تفشل اذنيها من التقاط صوت الهاتف الذي كانت رناته تتابع بتوالي، استخرجته من باطن جيب العباءة السحيق، كف يدها متشبث بما اوتيت من قوة برأس العصى التي تتكأ عليها، والكف الأخرى قابض على الهاتف الصغير تحاول حشره داخل اذنها الواهنة لعلها تتسمع شيئا مريحا. مع الصوت على الجانب الآخر توافقت ضربات قلبها الذي تحاول السيطرة عليه بأدوية الضغط مع عقرب الساعة الذي يلهث فوق معصمها لا يلوي على شيء. لم تكن أشباح الناس التي تتحرك حولها في تجهم وعدم اكتراث دمى بلاستيكية جامدة بقدر ما كانت عوالم تلتمع داخلها ومضات من الرغبة واشتهاء الأيام. الصوت على الجانب الآخر كان لأحدهم قبل ان يهج في صبح يوم عاصف قبل خمس سنوات في أحد القوارب التي تمخر عباب الموت والمجهول الى ايطاليا، ابنها الوحيد فوق اربع بنات، حيلتها الذي خرجت به من الدنيا، لكنه خرج من دنياها بمجرد ان اكتمل نمو شاربه بعد معركة هائلة مع ايامه ومع الجميع، عاش مستسلما لخيالاته وأحلام اليقظة وامنياته التي لاتتحقق سوى فوق وسادته. اضطربت ظروف تعليمه، لم يتمكن من طرق ابواب الجامعه مثل شقيقاته البنات، لم يتمكن من الاستقرار في وظيفة من الوظائف التي سكنوه فيها، لم يتمكن من الاندماج عاطفيا مع امه الملهوفة. طالبهم بضرورة منحه مبلغ كبير للسفر للخارج. عقب استفاقتها من الصدمة دارت على الاقارب وأزواج البنات، باعت ذهبها ودفعت له تكاليف الذهاب والاختفاء من واقعها. غادر حاملا معه برود وتبلد الواثق من نجاحه وعودته ملياردير. الان يهاتفها بعد كل هذه السنوات للمرة الأولى، دارت الأرض من حولها دورة اضافية، لم تعد الشمس شمس، ولا الحرارة ساخنة، ولا الناس الغائمين متجهمين، فقط صورة الطبيب الباسم وعودة الحياة، كأن كل شيء تحول مع بحة صوته التي تحفظها عن ظهر قلب والمنبعثة عبر الهاتف القديم، " ازيك يا امي، طمنيني عليكي"، لم تتمكن من السيطرة على مستوى نغمة صوتها، والفرح الذي يتقافز ويتطاير في الهواء الذي لم يعد ساخنا الآن، " حبيبي، احنا كلنا بخير اتطمن، اسأل عليك جيرانا اللي ابنهم مسافر معاك ويطمنوني، خليك في نفسك انت بس وطمني عليك كل ما تقدر". الصوت المتقطع في الهاتف والقادم عبر الآف الأميال والذي تلتقطه أذن عليلة ضعفت قوتها لم يكن حميميا ولا ودودا، بل جامد، ابلغها بحسم واضح " محتاج قرشين ضروري يا امي، اتصرفي باي طريقة والا هاروح السجن". ثم انتابت الهاتف حالة خرس مفاجئة، تحول الى قطعة حديد بعد ان كان منذ أقل من دقيقة كتلة هائلة من الدفئ والحميمية. مازال مقبوضا في كفها تضغطه باصابعها المتيبسة الناشفة تقبضة، دارت على الأرض مذهولة، مقبوضة، خطواتها العرجاء مع عصاها تزمجر فوق الأسفلت الساخن، جذبتها بقوة موجة الحنين والشوق للغائب الحاضر داخلها، والقلق والاضطراب الذي جلبه لها. الآن لم يعد هناك شرايح ولا مسامير، ولا حركة طبيعية، ولا خروج من أسر الجسد الواهن، بل الاطمئنان على الغائب الذي هج في صبح من دون استئذان. عفويتها الغريبة دائما تجهض مفعول أية الفاظ أو مفردات يتفوه بها اخواته البنات أو ازواجهن في لحظات الانفعال والغضب، من النفاذ الى داخلها وتعكيرها، مثل " ده ولد عاق، قلبه جامد، بعد كل اللي عملته معاه ولايتذكرك بمكالمة تليفون". الآن تراها تمضي في شارع السودان مقوسة الظهر، متكأة على عصاها تحجل، تتفرس الوجوه الغائمة حولها، تحمل داخلها حنينا ولهفة للولد الغائب، وقلقا واضطرابا وهما بقدر جبل المقطم. دلفت مع ايقاعها البطيء، تميز طريقها تحت قدميها بصعوبة، لا أحد في الشارع في منتصف هذا النهار يستطيع تمييزها بسهولة من زخم فوضى الشارع وسيارات النقل الجماعي، والملاكي والموتوسيكلات، والدواب وعربات الكارو، وبشر من كل الاصناف والاشكال، وضوضاء منسكبة من جميع الاتجهات، وحفر واشغالات طريق، وقمامة في كل مكان.