كان من الطبيعى ألا تنسى مكتبة الإسكندرية الاحتفال بمرور ثمانين عامًا على صدور كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى صدر سنة 1938، وذلك بعد عامينِ من توقيع مصر لــ «معاهدة 1936» التى تعترف إنجلترا فيها بأن مصر دولة مستقلة، وقد أُعقبت معاهدة 1936 بـــ «اتفاقية مونترو» فى سويسرا 1937، وهما المعاهدتان اللتان حققتا لمصر موافقة دولية على إلغاء نظام الامتيازات الأجنبية التى كانت تتعارض مع استقلالها. وما بين المعاهدتين أخذت النخبة المصرية تطرح على نفسها الأسئلة الخاصة بأشكال المستقبل الثقافى والسياسى لدولة مصر المستقلة، خصوصًا بعد أن حقق دستور 1923 لمصر مطالب الدولة المدنية فى قضايا الحرية والعدل ونظام الحكم على السواء. وهو أمر فرض على طه حسين أن يفرِّغ نفسه ويكتب كتابه الشهير عن «مستقبل الثقافة فى مصر» سنة 1938 بعد عام واحد من توقيع «اتفاقية مونترو».
.........................................................................
وكان الكتاب مشروعًا لثقافة المستقبل الذى تتطلع إليه مصر بعد أن حصلت على حريتها كاملة غير منقوصة نظريًّا على الأقل. ولذلك أطلق طه حسين على كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر». ومن يتأمل الكتاب جيدًا، يجد أنه مشروع لتغيير الثقافة فى علاقتها بالتعليم تغييرًا جذريًّا. والغريب أننا عندما نقرأ هذا الكتاب اليوم، بعد مرور ثمانين عامًا، نجد أن الكتاب يبدو كما لو كان مكتوبًا لنا اليوم، فأغلب المشكلات التى كان يتحدث عنها طه حسين - خصوصًا فيما يتصل بكل من الثقافة بوجه عام والتعليم بوجه خاص - لا تزال إلى اليوم مشكلات موجودة ومستعصية على الحل. وهو أمر يؤكد أن مشروع طه حسين لا يزال مشروعًا معاصرًا، ولا يزال صالحًا للقراءة والتطبيق على السواء. وقد أعدتُ قراءة الكتاب استعدادًا لملتقى مكتبة الإسكندرية الذى عُقِد ما بين 25 و 26 ديسمبر 2018. وقد حضرتُ الجلسة الافتتاحية مع نخبة كبيرة تضم الدكتور مفيد شهاب، والدكتور على الدين هلال، والدكتور صلاح فضل، ودرية شرف الدين والشيخ أسامة الأزهرى، والدكتور مصطفى الفقى الذى قاد الجلسة بظُرفه المعهود ودبلوماسيته التى تجمع بين الأطراف المتضادة فى سلاسة ويسر. وابتدأت الجلسة بحديث الدكتور مفيد شهاب عن دور مكتبة الإسكندرية فى النهوض بالثقافة، والدور الذى يمكن أن تلعبه فى تحرير وتطوير الثقافة العربية المعاصرة. وبعده جاء دورى الذى ألقيتُ فيه كلمة حول الموضوع الذى سبق أن طلب منى الدكتور مصطفى الفقى الحديث فيه وهو على وجه التحديد عن كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر». وكانت المكتبة قد أعادت طبعه طبعة جديدة بدراسة وتقديم الدكتور سعيد إسماعيل على، الباحث المعروف فى علوم التربية. وكان المجلس الأعلى للثقافة قد طبع هذا الكتاب طبعة حديثة بتقديم كاتب هذه السطور سنة 2013، وهو العام نفسه الذى أعادت فيه الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعه فى طبعة قدَّم لها بدراسة مختلفة الدكتور أحمد زكريا الشلق. وقد سبق للمجلس الأعلى للثقافة أن أقام احتفالًا ضخمًا بمناسبة مرور خمسين عامًا على صدور هذا الكتاب سنة 1988. والحق أننى لم أجد فارقًا كبيرًا بين السنة التى احتفلنا فيها بالكتاب فى المجلس الأعلى للثقافة فى عام 1988 وما اختتمنا به عام 2018 فى مكتبة الإسكندرية. فالثقافة لا تزال كما هى، تشكو المشكلات نفسها التى تحدَّث عنها طه حسين فى الطبعة الأولى من كتابه سنة 1938، ولا تزال مصر إلى اليوم تعانيها على مستويات متنوعة وفى مجالات عديدة. الطريف أن صديقى الأستاذ سيد محمود قد نبَّهنى بعد أن انتهت الجلسة، إلى أن طه حسين «قد قام بمراجعة جذرية لأفكاره فى الكتاب، وأقر فى حوار مع الصحفى الراحل محمود عوض، تضمنه كتابه «شخصيات» بأنه تمنى لو أعاد طبع الكتاب وراجع فيه الكثير من مقولاته، وبالذات حول التعليم». ولذلك كان من الطبيعى أن أراجع بدورى كتاب «شخصيات» الذى أشار إليه سيد محمود، وقرأتُ مرة ثانية ما كتبه محمود عوض من حوار مع طه حسين عن كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر». وفى الحوار يعدد طه حسين بعض أخطائه، ومنها أنه كتب نقدًا مرًّا لكتاب «النظرات» للمنفلوطى، وأنه كان غير موضوعى فى نقده، لأنه ركَّز على اصطياد الأخطاء اللغوية بدلًا من أن يركز على نقد موضوع الكتاب. وذكر طه حسين من ضمن هذه الأخطاء أنه أخطأ خطأ بالغًا، عندما قرر إلغاء تدريس اللغات الأجنبية فى التعليم الابتدائى وهو وزير للمعارف. وبرر ذلك بقوله: «كنتُ أريد أن أقوِّى معرفة التلاميذ باللغة العربية، ووقتها تصورت أن تدريس الإنجليزية يؤثر على استيعابهم للعربية. رأى خاطئ وقرار خاطئ ما زال مستمرًا.. لا التلميذ استمر يدرس لغة أجنبية، ولا هو حتى- أصبح يعرف لغته العربية». ويستطرد طه حسين فى أنه فكَّر أكثر من مرة فى إعادة النظر فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، ويضيف إلى ذلك ما نصه: «لقد سجلت فى الكتاب ملاحظاتى على الثقافة فى مصر سنة 1936، ولو عدتُ إلى تأليفه اليوم من جديد فسوف أقول: زفت.. مستقبل الثقافة.. زفت». والحق أن هذه الكلمات واضحة، فهو يتحدث فى مرارة عن مستقبل الثقافة التى انحدرت إلى حد ملحوظ سنة 1972، وهى السنة الثانية من حكم أنور السادات الذى كان قد تحالف مع جماعات الإسلام السياسى على ضرب التيار الصاعد فى الثقافة والتعليم المصريينِ، والانتقال بهما من ثقافة وتعليم مدنيينِ عصريينِ مفتوحينِ على العالم كله إلى ثقافة وتعليم منغلقينِ، يكتسبانِ طابعًا دينيًّا ضيق الأفق، وذلك ضمن عملية «التديين» الهائلة التى قام بها السادات وحلفاؤه من جماعات الإسلام السياسى لكى يواجه خصومه من اليساريين الذين كانوا مؤمنين- مثل عبد الناصر- بأفكار طه حسين التحررية التى وضعها ضمن كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر». ولذلك رأى طه حسين فى سنة 1972 أن حال الثقافة المصرية قد أصبح حالًا سيئًا إلى أبعد حد، وهو ما عبر عنه فى مرارة، واصفًا حاضر الثقافة المصرية بأنه قد أصبح «زفت»، وأن مستقبلها بالتالى «زفت» أيضًا. وهذا كلام واضح معناه أن الزمن الساداتى قد أغفل على نحو متعمد المشروع العظيم الذى انطوى عليه كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»، كما يدل على أن المشروع الثقافى التعليمى لكتاب طه حسين، قد تم تجاهله عمدًا ومع سبق الإصرار، وأن ما تحقق منه جزئيًّا- فى زمن عبد الناصر قد أصبح متجاهَلًا تمامًا فى الزمن الساداتى الذى قام بالانقلاب على الزمن الناصرى سياسيًّا وثقافيًّا وتعليميًّا واقتصاديًّا ودستوريًّا، فقد أحل الزمن الساداتى مشروع الدولة الدينية فى دستور 1971محل مشروع الدولة المدنية فى دستور 1923، حين وافق على إضافة المادة التى ترد القوانين والدستور إلى الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذى أدى مع تعاقب الزمن إلى اتساع دائرة التعصب الدينى واضهاد الأقباط وازدهار نزعات التكفير والجماعات الإرهابية التى اغتالت السادات نفسه عقابًا على تحالفه معها. وقد كانت بصيرة طه حسين ترى علامات ذلك كله، وترهص بعواقبه. وكان اغتيال السادات مفارقة محزنة، لم ينجُ المجتمع المصرى من آثارها المتداعية إلى اليوم. وهى آثار تدفعنا فى هذه الأيام - على وجه التحديد - إلى استعادة المشروع الثقافى الوطنى لطه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، الذى كتبه منذ ثمانين عامًا. يدفعنا إلى ذلك ما نشعر به، فى هذه الأيام، من خَلل فى الوعى بقضايا الهوية الثقافية، ومن التباس فى فهم ثقافة الدولة المدنية الحديثة بلوازمها التى تربط ما بين الحرية والديمقراطية ومبادئ العدل الاجتماعى والتقدم على كل المستويات فى الدولة الوطنية التى تقوم على مبدأ المواطنة، فضلًا عن الأسئلة الأخرى التى لا نزال نطرحها على أنفسنا عن دور التعليم الحديث فى الوطن، من حيث هو دور يرتبط بإشاعة ثقافة التقدم لا التخلف فى الوطن المصرى الذى لا تمييز بين أبنائه: ذكورًا كانوا أو إناثًا، مسلمين أو أقباطًا، فضلًا عن الدور الثقافى المصرى المهم فى علاقة مصر بالدول العربية، خصوصًا من منظور التعدد والتنوع لا الهيمنة أو المركزية. وإذا جئنا إلى المشكلة الأولى التى يطرحها كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» من هذا المنظور، أعنى مشكلة الهوية الثقافية لمصر، بعد أن رُدَّت إليها الحرية بإحياء دستور 1923، وأُعيدت إليها الكرامة بتحقيق الاستقلال: يبدأ طه حسين فى الإجابة عن هذا السؤال بــ «أن العقل المصرى قد اتصل، من جهة، بأقطار الشرق القريب اتصالًا منظمًا مؤثرًا فى حياته ومتأثرًا بها، واتصل من جهة أخرى، بالعقل اليونانى منذ عصوره الأولى، اتصال تعاون وتوافق وتبادل مستمر منظم للمنافع، فى الفن والسياسة والاقتصاد. ويعنى ذلك أن العقل المصرى منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشىء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها، فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط. فالبحر الأبيض المتوسط هو المؤثر الأساسى فى تكوين الحضارة المصرية وفى تكوين العقل المصرى، وإذا لم يكن بدٌ من اعتبار البيئة فى تقدير هذا المؤثر، فمن اللغو والسخف أن أفكر فى غير البحر الأبيض المتوسط، وفى الظروف التى أحاطت به، والأمم التى عاشت حوله». ويمضى طه حسين فى تصوره ذلك، مؤكدًا أنه ليس هناك عقل أوروبى يمتاز عن هذا العقل الشرقى الذى يعيش فى مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب، وإنما عقل واحد، تختلف عليه الظروف المتباينة المتضادة، فتؤثر فيه آثار متباينة متضادة، ولكن جوهره واحد ليس فيه تفاوت ولا اختلاف. ويعنى ذلك على المستوى المادى أن المثل الأعلى للمصرى فى حياته المادية، إنما هو المثل الأعلى للأوروبى فى حياته المادية، كما أن حياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها وألوانها أوربية خالصة، ابتداء من نظام الحكم الذى نقلناه عن الأوروبيين نقلًا فى غير تحرج أو تردد. وإذا عِبنا أنفسنا بشىء من هذه الناحية، فإنما نعيبها بالإبطاء فى نقل ما عند الأوروبيين من نُظم الحكم وأشكال الحياة السياسية. فنحن لا نزال حائرين بين الحكم المطلق والحكم المقيد. وهل الحياة الدستورية النيابية إلا شيء أخذناه من أوروبا أخذًا ونقلناه عنها نقلًا؟ فلم نكد نستمتع به حتى اتصل بحياتنا وامتزج بدمائنا، وأصبح حبه غذاء لنفوسنا، وقوامًا لعقولنا وعنصرًا من عناصر ضمائرنا. والتعليم عندنا، هل فعلنا من شيء أكثر من أننا أقمنا صروحه ووضعنا برامجه ومناهجه منذ القرن الماضى على النحو الأوروبى الخالص. وإذًن فالعقل المصرى لا يختلف كثيرًا عن العقل الأوروبى، والفارق بينهما لا يتصل بطبائع الأشياء وإنما يتصل بالزمان ليس غير. فقد بدأ الأوروبيون حياتهم الحديثة فى القرن الخامس عشر، وأخَّرنا التُّرك العثمانيون فبدأنا حياتنا فى القرن التاسع عشر. ولو أن الله عصمنا من الفتح العثمانى لاستمر اتصالنا بأوروبا ولشاركناها فى نهضتها، ولسلكنا معها إلى الحياة الحديثة نفس الطرق التى سلكتها، ولتغير وجه العالم، ولكان للحضارة الحديثة شأن غير شأنها الآن. ولكن لحسن الحظ فما نعرفه من تقدم العالم يمكن أن يُبلِّغنا فى عصر قصير ما أنفق الأوروبيون فى سبيله مئات السنين». ويؤكد طه حسين لقارئه: «إن الواجب الوطنى الصحيح، بعد أن حققنا الاستقلال وأقررنا الديمقراطية فى مصر، إنما هو أن نبذل ما نملك وما لا نملك من القوة والجهد ومن الوقت والمال، لنُشعر المصريين أفرادًا وجماعات أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلة، وللقوة لا الضعف، وللسيادة لا للاستكانة». ويمكن أن نلاحظ فى النص الذى نقلتُه عن طه حسين تأكيده تعبير«الواجب الوطنى الصحيح». وهو تعبير يعنى امتلاء الوعى المصرى بمعنى «الوطن» وما يلزم عنه من مبادئ المواطنة التى أقرَّها دستور 1923 الذى ساوى بين المواطنين جميعًا، ولم يفرِّق بين مصرى ومسيحى أو حتى يهودى، فقد كان شعار ثورة 1919 «الدين لله والوطن للجميع». ولهذا سوف نجد طه حسين يكرر كلمة «الوطن» وصفة «الوطنى» على نحو يلفت الانتباه، فيحدِّثنا عن حاجتنا إلى «قوة الدفاع الوطنى» كما يحدثنا عن «أرض الوطن». وهو ما يدفعه إلى الحديث عن حاجتنا إلى الاستقلال باقتصادنا الوطنى مؤكدًا أننا نريد «الاستقلال العلمى والفنى والأدبى»، كما نريد «الحرية الداخلية وقوامها النظام الديمقراطى، والحرية الخارجية وقوامها الاستقلال الصحيح، والقوة التى تحوط هذا الاستقلال». ولا تعنى هذه الأفكار أو التعبيرات التنكر للأشقاء العرب الذين لا يقعون على حوض البحر الأبيض المتوسط، كما أنها لا تعنى أيضًا أى خطر على الصفة الإسلامية فى «شخصياتنا» القومية، أو على ما ورثناه عن ماضينا المجيد من التراث الفرعونى الأقدم، أو التراث العربى الإسلامى الأحدث، فالاتصال بأوروبا التى كانت تمثل التقدم فى ذلك الوقت لم يكن خطرًا على مصر التى تبدو خصائصها الذاتية واضحة بيِّنة «يشخصها إقليمها الجغرافى الذى نعيش فيه»، كما تشخصها لغتها العربية وتراثها الفنى والأدبى، فالانتساب إلى ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط لا يعنى الانسلاخ عن الجذور العربية والإسلامية أو حتى الفرعونية، فطه حسين يمكن أن يقول عن نفسه فى هذا الكتاب ما قاله بعده نجيب محفوظ (فى كلمة حفل تقليده جائزة نوبل التى ألقاها نيابة عنه الكاتب محمد سلماوى فى احتفال الأكاديمية السويدية عام 1988) عندما وصف نفسه بأنه ابن حضارتينِ عظيمتينِ: الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية. وهذا هو ما كان يعرفه طه حسين حق المعرفة، فهو لا يريد أن يبنى مستقبلًا منفصلًا عن الماضى العظيم لهاتينِ الحضارتينِ على السواء، وإنما كان يريد أن يجعل منهما دافعًا للتقدم ودافعًا لكل مصرى مثقف يحب وطنه، و«أن تكون حياتنا الحديثة ملائمة لمجدنا القديم، وأن يكون نشاطنا الحديث محققًا لرأينا فى أنفسنا حين كنا نطالب بالاستقلال، ومحققًا لرأى الأمم المتحضرة فينا حين رضيت لنا عن هذا الاستقلال، وحين أظهرت لنا ما أظهرت من الترحيب وحسن اللقاء فى جنيف». وأخيرًا يريد طه حسين أن يشعر كل مصرى مثقف، محب لوطنه... «بألا نلقَى الأوروبى فنشعر بأن بيننا وبينه من الفروق ما يبيح له الاستعلاء علينا والاستخفاف بنا». ولذلك يرى طه حسين أن من أهم مسئوليات الدولة تعليم الشعب تعليمًا يسهم فى تحديث حياة المصريين من ناحية، ويقضى على الأمية خصوصًا «أن كثرة المصريين المطلقة لا تزال جاهلة جهلًا مطلقًا، فلا بد من أن تقوم الديمقراطية بتعليمها، وبتعليمها على النحو الملائم لأصول الديمقراطية وغاياتها». والدولة وحدها هى التى ينبغى أن تضع المناهج والبرامج لهذا التعليم، وأن تشرف عليه إشرافًا دقيقًا، فالتعليم هو المقوِّم الأساسى للشخصية المصرية أولًا، وللقضاء على الأمية العامة الشاملة ثانيًا. ويؤكد طه حسين أن الفئة المتعلمة فى مصر (فى عام 1938) لا تصل إلى الـــ 20 % من مجموع الشعب المصرى. وقد جرَّ - ما ذهب إليه طه حسين من انتساب الثقافة المصرية أو العقل المصرى إلى حوض البحر الأبيض المتوسط - عليه سخط أطراف عدة على امتداد العالم العربى والإسلامى. وكان على رأس المهاجمين، أنصار الدولة الدينية، ومنهم حسن البنا الذى ألقى محاضرة نقدية عن الكتاب فى جمعية الشبان المسلمين، ولحِق به سيد قطب فى كتاباته المضادة لطه حسين فى الاتجاه نفسه. أما أنصار الدولة المدنية من الليبراليين المصريين فقد آزروه فيما كتب، ودعموه فيما ذهب إليه، وحاولوا عندما أُتيح لهم الاشتراك فى الحكم أن يطبِّقوا مقترحاته فى إصلاح التعليم والثقافة بقدر المستطاع، وبقدر ما تسمح به التوازيات الاستثنائية. لكن ظلت المشكلات الكثيرة التى أشار إليها طه حسين باقية مثل: تكدس الفصول، وغياب الحرية الفكرية، وازدواج التعليم ومخاطره، فضلًا عن الاستبداد السياسى وتأثيره جنبًا إلى جنب الصراع بين الكم والكيف، وأخيرًا الفساد والمحسوبية. وهكذا ظل الكثير من عيوب التعليم والثقافة، فى عهد طه حسين، متوارَثًا إلى أن حاول جمال عبد الناصر مع ثورة يوليو 1952 أن يحقق عددًا من أحلام طه حسين، أهمَّها أن يكون التعليم كالماء والهواء حقًّا لكل مواطن، ومنها اقتران التنمية الصناعية والاقتصادية بالتنمية التعليمية والثقافية، فى مشروع متحد متآزر ومتجاوب الأطراف من التنمية البشرية. ولكن الزمن الساداتى الذى جاء بما ينقض المشروع التنويرى لزمن عبد الناصر، دفع بنا إلى مزالق «التديين» الذى غلب العلم فى دولة العلم والإيمان، فلم يبقَ إلا «ترييف» المدينة، وإطلاق سراح رأسمالية طفيلية فى انفتاح «سداح مداح»، فانتشرت أخلاق القرية، وتأسس نمط الحاكم المستبد «العمدة». وكانت النتيجة أن فرضت أخلاق القرية وعقليتها على عقلية الأمة التى كانت تحلم بتعليم حديث وثقافة واعية، يلغيانِ الفارق الحضارى بيننا وبين الغرب الأوروبى أولًا، وبيننا وبين الغرب الأمريكى ثانيًا، وبيننا وبين العالم كله أخيرًا.
(وللمقال بقية)
.........................................................................
وكان الكتاب مشروعًا لثقافة المستقبل الذى تتطلع إليه مصر بعد أن حصلت على حريتها كاملة غير منقوصة نظريًّا على الأقل. ولذلك أطلق طه حسين على كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر». ومن يتأمل الكتاب جيدًا، يجد أنه مشروع لتغيير الثقافة فى علاقتها بالتعليم تغييرًا جذريًّا. والغريب أننا عندما نقرأ هذا الكتاب اليوم، بعد مرور ثمانين عامًا، نجد أن الكتاب يبدو كما لو كان مكتوبًا لنا اليوم، فأغلب المشكلات التى كان يتحدث عنها طه حسين - خصوصًا فيما يتصل بكل من الثقافة بوجه عام والتعليم بوجه خاص - لا تزال إلى اليوم مشكلات موجودة ومستعصية على الحل. وهو أمر يؤكد أن مشروع طه حسين لا يزال مشروعًا معاصرًا، ولا يزال صالحًا للقراءة والتطبيق على السواء. وقد أعدتُ قراءة الكتاب استعدادًا لملتقى مكتبة الإسكندرية الذى عُقِد ما بين 25 و 26 ديسمبر 2018. وقد حضرتُ الجلسة الافتتاحية مع نخبة كبيرة تضم الدكتور مفيد شهاب، والدكتور على الدين هلال، والدكتور صلاح فضل، ودرية شرف الدين والشيخ أسامة الأزهرى، والدكتور مصطفى الفقى الذى قاد الجلسة بظُرفه المعهود ودبلوماسيته التى تجمع بين الأطراف المتضادة فى سلاسة ويسر. وابتدأت الجلسة بحديث الدكتور مفيد شهاب عن دور مكتبة الإسكندرية فى النهوض بالثقافة، والدور الذى يمكن أن تلعبه فى تحرير وتطوير الثقافة العربية المعاصرة. وبعده جاء دورى الذى ألقيتُ فيه كلمة حول الموضوع الذى سبق أن طلب منى الدكتور مصطفى الفقى الحديث فيه وهو على وجه التحديد عن كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر». وكانت المكتبة قد أعادت طبعه طبعة جديدة بدراسة وتقديم الدكتور سعيد إسماعيل على، الباحث المعروف فى علوم التربية. وكان المجلس الأعلى للثقافة قد طبع هذا الكتاب طبعة حديثة بتقديم كاتب هذه السطور سنة 2013، وهو العام نفسه الذى أعادت فيه الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعه فى طبعة قدَّم لها بدراسة مختلفة الدكتور أحمد زكريا الشلق. وقد سبق للمجلس الأعلى للثقافة أن أقام احتفالًا ضخمًا بمناسبة مرور خمسين عامًا على صدور هذا الكتاب سنة 1988. والحق أننى لم أجد فارقًا كبيرًا بين السنة التى احتفلنا فيها بالكتاب فى المجلس الأعلى للثقافة فى عام 1988 وما اختتمنا به عام 2018 فى مكتبة الإسكندرية. فالثقافة لا تزال كما هى، تشكو المشكلات نفسها التى تحدَّث عنها طه حسين فى الطبعة الأولى من كتابه سنة 1938، ولا تزال مصر إلى اليوم تعانيها على مستويات متنوعة وفى مجالات عديدة. الطريف أن صديقى الأستاذ سيد محمود قد نبَّهنى بعد أن انتهت الجلسة، إلى أن طه حسين «قد قام بمراجعة جذرية لأفكاره فى الكتاب، وأقر فى حوار مع الصحفى الراحل محمود عوض، تضمنه كتابه «شخصيات» بأنه تمنى لو أعاد طبع الكتاب وراجع فيه الكثير من مقولاته، وبالذات حول التعليم». ولذلك كان من الطبيعى أن أراجع بدورى كتاب «شخصيات» الذى أشار إليه سيد محمود، وقرأتُ مرة ثانية ما كتبه محمود عوض من حوار مع طه حسين عن كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر». وفى الحوار يعدد طه حسين بعض أخطائه، ومنها أنه كتب نقدًا مرًّا لكتاب «النظرات» للمنفلوطى، وأنه كان غير موضوعى فى نقده، لأنه ركَّز على اصطياد الأخطاء اللغوية بدلًا من أن يركز على نقد موضوع الكتاب. وذكر طه حسين من ضمن هذه الأخطاء أنه أخطأ خطأ بالغًا، عندما قرر إلغاء تدريس اللغات الأجنبية فى التعليم الابتدائى وهو وزير للمعارف. وبرر ذلك بقوله: «كنتُ أريد أن أقوِّى معرفة التلاميذ باللغة العربية، ووقتها تصورت أن تدريس الإنجليزية يؤثر على استيعابهم للعربية. رأى خاطئ وقرار خاطئ ما زال مستمرًا.. لا التلميذ استمر يدرس لغة أجنبية، ولا هو حتى- أصبح يعرف لغته العربية». ويستطرد طه حسين فى أنه فكَّر أكثر من مرة فى إعادة النظر فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، ويضيف إلى ذلك ما نصه: «لقد سجلت فى الكتاب ملاحظاتى على الثقافة فى مصر سنة 1936، ولو عدتُ إلى تأليفه اليوم من جديد فسوف أقول: زفت.. مستقبل الثقافة.. زفت». والحق أن هذه الكلمات واضحة، فهو يتحدث فى مرارة عن مستقبل الثقافة التى انحدرت إلى حد ملحوظ سنة 1972، وهى السنة الثانية من حكم أنور السادات الذى كان قد تحالف مع جماعات الإسلام السياسى على ضرب التيار الصاعد فى الثقافة والتعليم المصريينِ، والانتقال بهما من ثقافة وتعليم مدنيينِ عصريينِ مفتوحينِ على العالم كله إلى ثقافة وتعليم منغلقينِ، يكتسبانِ طابعًا دينيًّا ضيق الأفق، وذلك ضمن عملية «التديين» الهائلة التى قام بها السادات وحلفاؤه من جماعات الإسلام السياسى لكى يواجه خصومه من اليساريين الذين كانوا مؤمنين- مثل عبد الناصر- بأفكار طه حسين التحررية التى وضعها ضمن كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر». ولذلك رأى طه حسين فى سنة 1972 أن حال الثقافة المصرية قد أصبح حالًا سيئًا إلى أبعد حد، وهو ما عبر عنه فى مرارة، واصفًا حاضر الثقافة المصرية بأنه قد أصبح «زفت»، وأن مستقبلها بالتالى «زفت» أيضًا. وهذا كلام واضح معناه أن الزمن الساداتى قد أغفل على نحو متعمد المشروع العظيم الذى انطوى عليه كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»، كما يدل على أن المشروع الثقافى التعليمى لكتاب طه حسين، قد تم تجاهله عمدًا ومع سبق الإصرار، وأن ما تحقق منه جزئيًّا- فى زمن عبد الناصر قد أصبح متجاهَلًا تمامًا فى الزمن الساداتى الذى قام بالانقلاب على الزمن الناصرى سياسيًّا وثقافيًّا وتعليميًّا واقتصاديًّا ودستوريًّا، فقد أحل الزمن الساداتى مشروع الدولة الدينية فى دستور 1971محل مشروع الدولة المدنية فى دستور 1923، حين وافق على إضافة المادة التى ترد القوانين والدستور إلى الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذى أدى مع تعاقب الزمن إلى اتساع دائرة التعصب الدينى واضهاد الأقباط وازدهار نزعات التكفير والجماعات الإرهابية التى اغتالت السادات نفسه عقابًا على تحالفه معها. وقد كانت بصيرة طه حسين ترى علامات ذلك كله، وترهص بعواقبه. وكان اغتيال السادات مفارقة محزنة، لم ينجُ المجتمع المصرى من آثارها المتداعية إلى اليوم. وهى آثار تدفعنا فى هذه الأيام - على وجه التحديد - إلى استعادة المشروع الثقافى الوطنى لطه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، الذى كتبه منذ ثمانين عامًا. يدفعنا إلى ذلك ما نشعر به، فى هذه الأيام، من خَلل فى الوعى بقضايا الهوية الثقافية، ومن التباس فى فهم ثقافة الدولة المدنية الحديثة بلوازمها التى تربط ما بين الحرية والديمقراطية ومبادئ العدل الاجتماعى والتقدم على كل المستويات فى الدولة الوطنية التى تقوم على مبدأ المواطنة، فضلًا عن الأسئلة الأخرى التى لا نزال نطرحها على أنفسنا عن دور التعليم الحديث فى الوطن، من حيث هو دور يرتبط بإشاعة ثقافة التقدم لا التخلف فى الوطن المصرى الذى لا تمييز بين أبنائه: ذكورًا كانوا أو إناثًا، مسلمين أو أقباطًا، فضلًا عن الدور الثقافى المصرى المهم فى علاقة مصر بالدول العربية، خصوصًا من منظور التعدد والتنوع لا الهيمنة أو المركزية. وإذا جئنا إلى المشكلة الأولى التى يطرحها كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» من هذا المنظور، أعنى مشكلة الهوية الثقافية لمصر، بعد أن رُدَّت إليها الحرية بإحياء دستور 1923، وأُعيدت إليها الكرامة بتحقيق الاستقلال: يبدأ طه حسين فى الإجابة عن هذا السؤال بــ «أن العقل المصرى قد اتصل، من جهة، بأقطار الشرق القريب اتصالًا منظمًا مؤثرًا فى حياته ومتأثرًا بها، واتصل من جهة أخرى، بالعقل اليونانى منذ عصوره الأولى، اتصال تعاون وتوافق وتبادل مستمر منظم للمنافع، فى الفن والسياسة والاقتصاد. ويعنى ذلك أن العقل المصرى منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشىء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها، فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط. فالبحر الأبيض المتوسط هو المؤثر الأساسى فى تكوين الحضارة المصرية وفى تكوين العقل المصرى، وإذا لم يكن بدٌ من اعتبار البيئة فى تقدير هذا المؤثر، فمن اللغو والسخف أن أفكر فى غير البحر الأبيض المتوسط، وفى الظروف التى أحاطت به، والأمم التى عاشت حوله». ويمضى طه حسين فى تصوره ذلك، مؤكدًا أنه ليس هناك عقل أوروبى يمتاز عن هذا العقل الشرقى الذى يعيش فى مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب، وإنما عقل واحد، تختلف عليه الظروف المتباينة المتضادة، فتؤثر فيه آثار متباينة متضادة، ولكن جوهره واحد ليس فيه تفاوت ولا اختلاف. ويعنى ذلك على المستوى المادى أن المثل الأعلى للمصرى فى حياته المادية، إنما هو المثل الأعلى للأوروبى فى حياته المادية، كما أن حياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها وألوانها أوربية خالصة، ابتداء من نظام الحكم الذى نقلناه عن الأوروبيين نقلًا فى غير تحرج أو تردد. وإذا عِبنا أنفسنا بشىء من هذه الناحية، فإنما نعيبها بالإبطاء فى نقل ما عند الأوروبيين من نُظم الحكم وأشكال الحياة السياسية. فنحن لا نزال حائرين بين الحكم المطلق والحكم المقيد. وهل الحياة الدستورية النيابية إلا شيء أخذناه من أوروبا أخذًا ونقلناه عنها نقلًا؟ فلم نكد نستمتع به حتى اتصل بحياتنا وامتزج بدمائنا، وأصبح حبه غذاء لنفوسنا، وقوامًا لعقولنا وعنصرًا من عناصر ضمائرنا. والتعليم عندنا، هل فعلنا من شيء أكثر من أننا أقمنا صروحه ووضعنا برامجه ومناهجه منذ القرن الماضى على النحو الأوروبى الخالص. وإذًن فالعقل المصرى لا يختلف كثيرًا عن العقل الأوروبى، والفارق بينهما لا يتصل بطبائع الأشياء وإنما يتصل بالزمان ليس غير. فقد بدأ الأوروبيون حياتهم الحديثة فى القرن الخامس عشر، وأخَّرنا التُّرك العثمانيون فبدأنا حياتنا فى القرن التاسع عشر. ولو أن الله عصمنا من الفتح العثمانى لاستمر اتصالنا بأوروبا ولشاركناها فى نهضتها، ولسلكنا معها إلى الحياة الحديثة نفس الطرق التى سلكتها، ولتغير وجه العالم، ولكان للحضارة الحديثة شأن غير شأنها الآن. ولكن لحسن الحظ فما نعرفه من تقدم العالم يمكن أن يُبلِّغنا فى عصر قصير ما أنفق الأوروبيون فى سبيله مئات السنين». ويؤكد طه حسين لقارئه: «إن الواجب الوطنى الصحيح، بعد أن حققنا الاستقلال وأقررنا الديمقراطية فى مصر، إنما هو أن نبذل ما نملك وما لا نملك من القوة والجهد ومن الوقت والمال، لنُشعر المصريين أفرادًا وجماعات أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلة، وللقوة لا الضعف، وللسيادة لا للاستكانة». ويمكن أن نلاحظ فى النص الذى نقلتُه عن طه حسين تأكيده تعبير«الواجب الوطنى الصحيح». وهو تعبير يعنى امتلاء الوعى المصرى بمعنى «الوطن» وما يلزم عنه من مبادئ المواطنة التى أقرَّها دستور 1923 الذى ساوى بين المواطنين جميعًا، ولم يفرِّق بين مصرى ومسيحى أو حتى يهودى، فقد كان شعار ثورة 1919 «الدين لله والوطن للجميع». ولهذا سوف نجد طه حسين يكرر كلمة «الوطن» وصفة «الوطنى» على نحو يلفت الانتباه، فيحدِّثنا عن حاجتنا إلى «قوة الدفاع الوطنى» كما يحدثنا عن «أرض الوطن». وهو ما يدفعه إلى الحديث عن حاجتنا إلى الاستقلال باقتصادنا الوطنى مؤكدًا أننا نريد «الاستقلال العلمى والفنى والأدبى»، كما نريد «الحرية الداخلية وقوامها النظام الديمقراطى، والحرية الخارجية وقوامها الاستقلال الصحيح، والقوة التى تحوط هذا الاستقلال». ولا تعنى هذه الأفكار أو التعبيرات التنكر للأشقاء العرب الذين لا يقعون على حوض البحر الأبيض المتوسط، كما أنها لا تعنى أيضًا أى خطر على الصفة الإسلامية فى «شخصياتنا» القومية، أو على ما ورثناه عن ماضينا المجيد من التراث الفرعونى الأقدم، أو التراث العربى الإسلامى الأحدث، فالاتصال بأوروبا التى كانت تمثل التقدم فى ذلك الوقت لم يكن خطرًا على مصر التى تبدو خصائصها الذاتية واضحة بيِّنة «يشخصها إقليمها الجغرافى الذى نعيش فيه»، كما تشخصها لغتها العربية وتراثها الفنى والأدبى، فالانتساب إلى ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط لا يعنى الانسلاخ عن الجذور العربية والإسلامية أو حتى الفرعونية، فطه حسين يمكن أن يقول عن نفسه فى هذا الكتاب ما قاله بعده نجيب محفوظ (فى كلمة حفل تقليده جائزة نوبل التى ألقاها نيابة عنه الكاتب محمد سلماوى فى احتفال الأكاديمية السويدية عام 1988) عندما وصف نفسه بأنه ابن حضارتينِ عظيمتينِ: الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية. وهذا هو ما كان يعرفه طه حسين حق المعرفة، فهو لا يريد أن يبنى مستقبلًا منفصلًا عن الماضى العظيم لهاتينِ الحضارتينِ على السواء، وإنما كان يريد أن يجعل منهما دافعًا للتقدم ودافعًا لكل مصرى مثقف يحب وطنه، و«أن تكون حياتنا الحديثة ملائمة لمجدنا القديم، وأن يكون نشاطنا الحديث محققًا لرأينا فى أنفسنا حين كنا نطالب بالاستقلال، ومحققًا لرأى الأمم المتحضرة فينا حين رضيت لنا عن هذا الاستقلال، وحين أظهرت لنا ما أظهرت من الترحيب وحسن اللقاء فى جنيف». وأخيرًا يريد طه حسين أن يشعر كل مصرى مثقف، محب لوطنه... «بألا نلقَى الأوروبى فنشعر بأن بيننا وبينه من الفروق ما يبيح له الاستعلاء علينا والاستخفاف بنا». ولذلك يرى طه حسين أن من أهم مسئوليات الدولة تعليم الشعب تعليمًا يسهم فى تحديث حياة المصريين من ناحية، ويقضى على الأمية خصوصًا «أن كثرة المصريين المطلقة لا تزال جاهلة جهلًا مطلقًا، فلا بد من أن تقوم الديمقراطية بتعليمها، وبتعليمها على النحو الملائم لأصول الديمقراطية وغاياتها». والدولة وحدها هى التى ينبغى أن تضع المناهج والبرامج لهذا التعليم، وأن تشرف عليه إشرافًا دقيقًا، فالتعليم هو المقوِّم الأساسى للشخصية المصرية أولًا، وللقضاء على الأمية العامة الشاملة ثانيًا. ويؤكد طه حسين أن الفئة المتعلمة فى مصر (فى عام 1938) لا تصل إلى الـــ 20 % من مجموع الشعب المصرى. وقد جرَّ - ما ذهب إليه طه حسين من انتساب الثقافة المصرية أو العقل المصرى إلى حوض البحر الأبيض المتوسط - عليه سخط أطراف عدة على امتداد العالم العربى والإسلامى. وكان على رأس المهاجمين، أنصار الدولة الدينية، ومنهم حسن البنا الذى ألقى محاضرة نقدية عن الكتاب فى جمعية الشبان المسلمين، ولحِق به سيد قطب فى كتاباته المضادة لطه حسين فى الاتجاه نفسه. أما أنصار الدولة المدنية من الليبراليين المصريين فقد آزروه فيما كتب، ودعموه فيما ذهب إليه، وحاولوا عندما أُتيح لهم الاشتراك فى الحكم أن يطبِّقوا مقترحاته فى إصلاح التعليم والثقافة بقدر المستطاع، وبقدر ما تسمح به التوازيات الاستثنائية. لكن ظلت المشكلات الكثيرة التى أشار إليها طه حسين باقية مثل: تكدس الفصول، وغياب الحرية الفكرية، وازدواج التعليم ومخاطره، فضلًا عن الاستبداد السياسى وتأثيره جنبًا إلى جنب الصراع بين الكم والكيف، وأخيرًا الفساد والمحسوبية. وهكذا ظل الكثير من عيوب التعليم والثقافة، فى عهد طه حسين، متوارَثًا إلى أن حاول جمال عبد الناصر مع ثورة يوليو 1952 أن يحقق عددًا من أحلام طه حسين، أهمَّها أن يكون التعليم كالماء والهواء حقًّا لكل مواطن، ومنها اقتران التنمية الصناعية والاقتصادية بالتنمية التعليمية والثقافية، فى مشروع متحد متآزر ومتجاوب الأطراف من التنمية البشرية. ولكن الزمن الساداتى الذى جاء بما ينقض المشروع التنويرى لزمن عبد الناصر، دفع بنا إلى مزالق «التديين» الذى غلب العلم فى دولة العلم والإيمان، فلم يبقَ إلا «ترييف» المدينة، وإطلاق سراح رأسمالية طفيلية فى انفتاح «سداح مداح»، فانتشرت أخلاق القرية، وتأسس نمط الحاكم المستبد «العمدة». وكانت النتيجة أن فرضت أخلاق القرية وعقليتها على عقلية الأمة التى كانت تحلم بتعليم حديث وثقافة واعية، يلغيانِ الفارق الحضارى بيننا وبين الغرب الأوروبى أولًا، وبيننا وبين الغرب الأمريكى ثانيًا، وبيننا وبين العالم كله أخيرًا.
(وللمقال بقية)