الشعور بكونك كاتباً قبل أن تكون قد كتبت أي شيء هو غرور لا يستند إلى الواقع أو التاريخ الشخصي. لكني أرى اليوم أنه دون هذا الاعتقاد الذي لا دليل عليه لا يصبح المرء كاتباً. إنه قرار، وإيمان، وفعل جذري إلى درجة أن بوسعنا القول مثل المتدينين: إن مجرد امتلاك الإيمان هو شكل من أشكال الخلاص. (الكاتب والآخر، ٧٨).
في ظلام السجن، وتحت وطأة الانفراد والشعور بفقدان الحرية.. عاش ليسكانو ثلاثة عشر عاماً أعاد فيها تشكيل نفسه، وبقدرة الإنسان غير المتناهية على التكيف والتأقلم مع الظروف العسيرة؛ كان ليسكانو يعيش في زنزانته، مع فائض من الوقت، وضيق في المكان، يواجه نفسه، دون أن يقوي على عمل شيء آخر. كانت تلك لحظات غير عادية.. وجد فيها ليسكانو نفسه مرغماً على مكاشفة نفسه، ومحاورتها، والاكتفاء بها عن العالم الخارجي! وهناك قرر ليسكانو أن يكون كاتباً.
وبقراره ذاك.. لم يولد ليسكانو من جديد وحسب، بل ولد معه ليسكانو الكاتب، الكاتب القادر على الوصول إلى أعماق الذات الإنسانية، والقادر على الانشطار إلى اثنين يتفحص أحدهما الآخر، ثم يكتب تقريره عنه بوضوح وصراحة وقلم رشيق.. مساحة قوته وتألقه هي الـ"أنا" لا الآخرون؛ فقد جعل من نفسه "أنا" و"آخر" في نفس الوقت، يعبر عن هذه القدرة النادرة المحدودة معاً بقوله: "تعلمنا الكتابة الحديث مع النفس، ولست متأكداً من أنها تعلمنا الحديث مع الآخرين". (الكاتب والآخر، ٨٦).
والحقيقة أن الكتابة تعلمنا الحديث مع كل آخر، أياً يكن هذا الآخر: إنساناً، شجرة، قمراً سارياً، موجة، هباءة سابحة على غير هدى في نهر من شعاع... ولكن ليسكانو عاش أسير تجربته الفردية القاسية، ولم يعد يجد في ذاته قدرة على بذل جهد جديد لإعادة التقولب وفق شروط العالم الذي تفتحت عليه عيناه مجددا بعدما أطلق سراحه.
عشت مع كتابه العجاب "الكاتب والآخر" أياماً لا توصف، كنت أرتشفه على مهل، وأتلوه على مكث، عشت مع ليسكانو واقعيته وسوداويته، وإشراقاته، ولفت انتباهي في كتابه أمور لا تحصى.. وعلى من استبد به الفضول أن يقرأ الكتاب ويعيش التجربة بذاته.
أما الذي أود أن أنعم النظر فيه فيما تبقى من مساحة هذه التدوينة؛ فهو: قرار الكتابة! قرار أن تكون كاتباً، اللحظة التي تسير فيها بملء إرادتك، وبغض النظر عن كل اعتبار آخر، إلى عالم الكتابة.. وتطرق بابه، وتنغمس في بحيرته الباردة حينا، الفوارة حينا آخر، أن تقرر مكابدة القلم والورق، في انتظار لحظة فتح من فوق، ودفقة إلهام من هناك، من الأعماق. أن تقرر -بكامل قوى عقلك- بناء شخصيات من العدم، وتكوين عالم في صفحات رواية، أن تقرر تكثيف الشعور حتى يصير حبرا على ورق!
صارت الكتابة بالنسبة لـ ليسكانو عالماً، بل صارت العالم الذي لا يعرف غيره، ويا للسجن! إنه قادر على أن يسكنك ولو أطلق سراحك.. ولكن سجن الكتابة نعم السجن لمن صبر على لأوائه!
وإن سألت عن لأواء الكتابة ما هي؟ فاقرأ معاناة ليسكانو في ليلة عادية من الليالي التي يمر بها الكتّاب:
لا تتقدم الرواية أبداً، لا لأنها لا تذهب إلى أي مكان، بل لأنها، ببساطة، لا تتحرك. أكاد أعيد قراءة ما أكتبه يومياً دون أن أنجح في الزيادة عليه، إلا أن التوجه صوب هذه الأوراق، وعلى الرغم من كل شيء، يعني البقاء على قيد الحياة. إنني لا أعيش يومي إلا من أجل الوصول إلى هذه الأوراق والتقدم فيها قليلاً، قليلاً جداً، فهذا ينقذني، وينقذ ليلتي، الليلة الجديدة. (الكاتب والآخر، ٧٢)
إنه قرارٌ إذن.. قرار أن تكون كاتباً..
وهو يعني أن تمنح الكتابةَ نفسَك، وتهبها حياتك، كما وهبها ليسكانو كل شيء حتى عدّها كل شيء!
إذا كنت في الثانية عشرة من عمري قد عرفت أني أريد أن أصبح كاتباً، وإذا صار هذا لاحقاً مبتغاي لسنوات عديدة، وإذا لم أعش إلا من أجل أن أبدأ الكتابة يوماً، فإن الأدب لم يعد اليوم نقطة الوصول، والسعادةَ التي تنتظرني في المستقبل. الأدب اليوم هو الواقع، إذ لا أستطيع أن أفعل شيئاً آخر سوى الكتابة. بطريقة أو بأخرى أنا أحيا من أجل أن أكتب، فالقضية ليست عجزي عن هجر الكتابة، وإنما لا أملك شيئاً آخر أتعلق به. إن أنا حذفت الساعات التي أمضيها في الكتابة، وفي التفكير فيما علي أن أكتبه، وفي تدوين ملاحظات من أجل الكتابة - إن طرحت هذه الساعات فإنه، وبدون مبالغة، لن يبقى أي شيء في حياتي؛ أي شيء على الإطلاق. (الكاتب والآخر، ٢٢)
وهكذا.. لن تعطيك الكتابة الحقة بعضها حتى تعطيها كُلّك!
أما أكثر من يكتبون، وأكثر ما يُكتب، فهو كلامٌ عادي، وبين الكلام والكتابة مثل ما بين جناح الزنبور وجناح الباز!
كارلوس ليسكانو..
* منقول
في ظلام السجن، وتحت وطأة الانفراد والشعور بفقدان الحرية.. عاش ليسكانو ثلاثة عشر عاماً أعاد فيها تشكيل نفسه، وبقدرة الإنسان غير المتناهية على التكيف والتأقلم مع الظروف العسيرة؛ كان ليسكانو يعيش في زنزانته، مع فائض من الوقت، وضيق في المكان، يواجه نفسه، دون أن يقوي على عمل شيء آخر. كانت تلك لحظات غير عادية.. وجد فيها ليسكانو نفسه مرغماً على مكاشفة نفسه، ومحاورتها، والاكتفاء بها عن العالم الخارجي! وهناك قرر ليسكانو أن يكون كاتباً.
وبقراره ذاك.. لم يولد ليسكانو من جديد وحسب، بل ولد معه ليسكانو الكاتب، الكاتب القادر على الوصول إلى أعماق الذات الإنسانية، والقادر على الانشطار إلى اثنين يتفحص أحدهما الآخر، ثم يكتب تقريره عنه بوضوح وصراحة وقلم رشيق.. مساحة قوته وتألقه هي الـ"أنا" لا الآخرون؛ فقد جعل من نفسه "أنا" و"آخر" في نفس الوقت، يعبر عن هذه القدرة النادرة المحدودة معاً بقوله: "تعلمنا الكتابة الحديث مع النفس، ولست متأكداً من أنها تعلمنا الحديث مع الآخرين". (الكاتب والآخر، ٨٦).
والحقيقة أن الكتابة تعلمنا الحديث مع كل آخر، أياً يكن هذا الآخر: إنساناً، شجرة، قمراً سارياً، موجة، هباءة سابحة على غير هدى في نهر من شعاع... ولكن ليسكانو عاش أسير تجربته الفردية القاسية، ولم يعد يجد في ذاته قدرة على بذل جهد جديد لإعادة التقولب وفق شروط العالم الذي تفتحت عليه عيناه مجددا بعدما أطلق سراحه.
عشت مع كتابه العجاب "الكاتب والآخر" أياماً لا توصف، كنت أرتشفه على مهل، وأتلوه على مكث، عشت مع ليسكانو واقعيته وسوداويته، وإشراقاته، ولفت انتباهي في كتابه أمور لا تحصى.. وعلى من استبد به الفضول أن يقرأ الكتاب ويعيش التجربة بذاته.
أما الذي أود أن أنعم النظر فيه فيما تبقى من مساحة هذه التدوينة؛ فهو: قرار الكتابة! قرار أن تكون كاتباً، اللحظة التي تسير فيها بملء إرادتك، وبغض النظر عن كل اعتبار آخر، إلى عالم الكتابة.. وتطرق بابه، وتنغمس في بحيرته الباردة حينا، الفوارة حينا آخر، أن تقرر مكابدة القلم والورق، في انتظار لحظة فتح من فوق، ودفقة إلهام من هناك، من الأعماق. أن تقرر -بكامل قوى عقلك- بناء شخصيات من العدم، وتكوين عالم في صفحات رواية، أن تقرر تكثيف الشعور حتى يصير حبرا على ورق!
صارت الكتابة بالنسبة لـ ليسكانو عالماً، بل صارت العالم الذي لا يعرف غيره، ويا للسجن! إنه قادر على أن يسكنك ولو أطلق سراحك.. ولكن سجن الكتابة نعم السجن لمن صبر على لأوائه!
وإن سألت عن لأواء الكتابة ما هي؟ فاقرأ معاناة ليسكانو في ليلة عادية من الليالي التي يمر بها الكتّاب:
لا تتقدم الرواية أبداً، لا لأنها لا تذهب إلى أي مكان، بل لأنها، ببساطة، لا تتحرك. أكاد أعيد قراءة ما أكتبه يومياً دون أن أنجح في الزيادة عليه، إلا أن التوجه صوب هذه الأوراق، وعلى الرغم من كل شيء، يعني البقاء على قيد الحياة. إنني لا أعيش يومي إلا من أجل الوصول إلى هذه الأوراق والتقدم فيها قليلاً، قليلاً جداً، فهذا ينقذني، وينقذ ليلتي، الليلة الجديدة. (الكاتب والآخر، ٧٢)
إنه قرارٌ إذن.. قرار أن تكون كاتباً..
وهو يعني أن تمنح الكتابةَ نفسَك، وتهبها حياتك، كما وهبها ليسكانو كل شيء حتى عدّها كل شيء!
إذا كنت في الثانية عشرة من عمري قد عرفت أني أريد أن أصبح كاتباً، وإذا صار هذا لاحقاً مبتغاي لسنوات عديدة، وإذا لم أعش إلا من أجل أن أبدأ الكتابة يوماً، فإن الأدب لم يعد اليوم نقطة الوصول، والسعادةَ التي تنتظرني في المستقبل. الأدب اليوم هو الواقع، إذ لا أستطيع أن أفعل شيئاً آخر سوى الكتابة. بطريقة أو بأخرى أنا أحيا من أجل أن أكتب، فالقضية ليست عجزي عن هجر الكتابة، وإنما لا أملك شيئاً آخر أتعلق به. إن أنا حذفت الساعات التي أمضيها في الكتابة، وفي التفكير فيما علي أن أكتبه، وفي تدوين ملاحظات من أجل الكتابة - إن طرحت هذه الساعات فإنه، وبدون مبالغة، لن يبقى أي شيء في حياتي؛ أي شيء على الإطلاق. (الكاتب والآخر، ٢٢)
وهكذا.. لن تعطيك الكتابة الحقة بعضها حتى تعطيها كُلّك!
أما أكثر من يكتبون، وأكثر ما يُكتب، فهو كلامٌ عادي، وبين الكلام والكتابة مثل ما بين جناح الزنبور وجناح الباز!
كارلوس ليسكانو..
* منقول