أجريت هذا الحوار مع زفزاف بتكليف من القاص والناقد المصري يحيى حقي(1905ـ1992) وهو وقتئذ من كبار أدباء مصر ويرأس تحرير المجلة الأدبية الأولى» المجلة» التي خصصت عددا ممتازا للقصة والرواية العربية، حضر فيه أعلامها البارزون، وصدر بتاريخ فاتح دجنبر 1070 العدد 157 لم يسبق أن نشر في المغرب وكأنما طواه النسيان بينما هو طري كأنه ابن يومه. كان حوارا في جلسات مع الراحل بين شقته وأوقات ممتعة في شاطئ عين الدياب. وأعده، وبشهادته، من أشمل وأهم ما تحدث به عن حياته وتجربته في الأدب وعوالمه وفنيته القصصية، وهو وثيقة مطلوبة لكل من يدرس نصوصه، خصوصا أنه بناه على ما أنجز وبوعي نقدي ناضج واجتماعي نيّر، وما استشرفه للمستقبل لم يخطئ أبدا، رحمه الله، هو الذي رسخ فن القص في أدبنا، وجميع من جاء بعده مدين له بكيفية وبأخرى، نعم تلته تجارب مجددة ومجربة مغربيا وعربيا، ويبقى الرائد والمعلم. نشير إلى أن العنوان الأصلي للحوار هو الموضوع أعلاه حرصنا عليه كم ا على سائر النص لم نغير كلمة منه.
p ما هو الجو الاجتماعي والثقافي، وكذا المستوى المادي الذي نشأت فيه ككاتب؟
n فقر، فقر، فقر باتجاه الرياح الأربع. ذلك هو الجو الاجتماعي الذي عشت فيه، والجو الثقافي، أيضا. أنت تعرف ولا شك الشيء الكثير عن الهزال الذي تعاني منه الثقافة المغربية المعاصرة. كما أن أسباب ذلك واضحة وجلية، وهي في حاجة فقط إلى قليل من التمحيص. لأتحدث أولا عن المستوى المادي الذي عشت فيه، والذي له ارتباط وثيق بوضعيتي الاجتماعية التي هي وضعية ابن عائلة فقيرة.
أنت تعرف، ولا شك، أنني كنت بائع صحف. اشتغلت، أيضا، خياطا. كنت أبيع صحفا لا أعرف ما فيها. لكن في ما بعد، بدت أملأ صفحات هذه الصحف دون أن يعرف محرروها ذلك. وانتقلت إلى مكاتبها محررا أو مساعد محرر ([جريدة] «العلم» مثلا ( أعتقد أن الظروف لم تحن بعد لأقيئ طفولتي على القراء. كنت شقيا، ولكن كان هناك من هو أشقى مني، باختصار بقيت عندي رواسب من تلك الطفولة، رواسب نفسية لم تعقدني بقدر ما جعلتني أحظى بفهم تقريبي للحياة. فلطالما نمت تحت سلالم[ أدراج] العمارات. شيء آخر علمتنيه الحياة: عندما كنت صبيا كانت لي صلة وثيقة بهذا العالم الفسيح عن طريق الميناء. كنت أختلف إلى تلك البواخر التي يملأها ملاحون من جميع الجنسيات. كان المغاربة الذين يشتغلون لحساب بعض الشركات الفرنسية، أطيبهم وأجودهم. وكنت أحلم بأن أصير مثلهم، لأنهم ـ بالنسبة لي في ذلك الوقت ـ كانوا يعطون للمال قيمة. أما الطعام، الطعام الذي كنت أفتقده خارج الميناء، فقد كان متوفرا في مطابخ البواخر التجارية. ولك أن تتخيل فرحة الذي لا يجد حتى قطعة خبز أسود، بينما هو الآن أمام مطبخ بجميع أصناف الأطعمة. قلت سابقا لم يحن الوقت بعد لأروي طفولتي.
أما عن الجو الثقافي فله علاقة بالجو العام الذي أشرت إليه. عندما وقعت الحوادث المعروفة في أرجاء المملكة بعد 1960[القصد حوادث الدار البيضاء في 23 مارس التلاميذية والعمالية، سقط فيها عديد ضحايا، وأعلنت بعدها حالة الاستثناء في المغرب] وسكت كل الشعراء والكتاب الجبناء، وتحفظت بعض الصحف والأقلام. شرعت في كتابة قصائد ذات طابع ثوري بعدما كنت أكتب لنفسي قصائد غزلية وذاتية، لم تكن سوى محاولات بسيطة ورديئة، تحت تأثير الشابي وجبران ونعيمة وعلي محمود طه، وبالفرنسية فرلين وهوغو وبودلير. وكنت أحلم أن أصبح شاعرا كبيرا يكتب بالعربية والفرنسية( بعد ذلك اكتشفت آخرين: أراغون، إيلوار، أرتو، بيكابيا، الخ) لكن عندما بدأت النشر بالعربية كرهت الفرنسية لارتباطها بجو استعماري عام، ولأنها لغة قوم يتميزون بالفظاظة والغلظة والعنصرية. وهذا لم يمنعني من قراءة بعض المؤلفات التي لم تترجم إلى العربية. ولعل أقرب شيء إلى نفسي في الفكر الفرنسي القرنان الثامن عشر والتسع عشر، حيث تتجلى في هذين القرنين عبقرية الفرنسي وإبداعه وأصالته، وبالتالي إضافته إلى التاريخ الإنساني، ولا أعتقد أن فرنسا ستجود في ما بعد بمثل ما جادت به في هذين القرنين. وحتى في القرن العشرين، نجد أن فرنسا قد أضاعت شخصيتها في تيار حضاري وفكري عام تسير عام تسير فيه أوروبا، نظرا للعوامل التاريخية التي تشد هذه الدول إلى بعضها البعض. بالطبع، لست بصدد تقييم حضارة أكبر من أن تقيم، ولكني أردت فقط أن أشير إلى أني حاولت بقدر الإمكان أن أرتوي من هذا النبع الزاخر الذي أكره مصدره.
ولأعد مرة أخرى إلى الجو الثقافي الذي عشت فيه، فأشير إلى أنه كان مجدبا، ولكن هذا لم يمنعني من قراءة بعض الكتب والكتاب العرب والأجانب في سن مبكرة، وعلى سبيل المثال، اطلعت على كثير من النصوص العربية للجاهلية، كما تأثرت بالكتاب العرب المعاصرين الذين ساهموا في بداية النهضة، وإن كان تأثيرهم في قد اختفى نسبيا الآن، فقد قرأت ولي الدين يكن وفارس الشدياق والمنفلوطي والمويلحي واليازجيين وأحمد أمين وطه حسين والزيات والرافعي وغيرهم. وكان إعجابي بأسلوب طه حسين شديدا، ولطالما قلدته في إنشاءاتي المدرسية.
p إلى أي مدى كان له ولهذا الأثر في توجيهك إلى كتابة القصة؟
n أعتقد أني أجبت على جزء من هذا السؤال لدى إجابتي عن السؤال الأول. ولمزيد من الوضوح أقول، إن هذه العوامل جميعها انطلاقا من القاعدة الاجتماعية التي تقابلها قاعدة ثقافية أخرى، وأعني هنا بالقاعدة الاجتماعية الواقع بعيدا عن أي تجريد. قلت، إن هذه العوامل كلها عندما اكتشفت ذات يوم أنها تتعارض مع نفسها، أي الثقافة كتجريد تقف أمام الواقع كمعطى محسوس قائم بالرغم من الثقافة ومني، حاولت أن أحل التناقض، لذلك اتجهت إلى الكتابة. بدأت بالشعر أولا، وكنت بحاجة إلى وسيلة تعبيرية تهز ـ كما يقول ألان بوسكي ـ القناطر العقلية. وجدت أن الشعر لا يمس إلا أقلية عندها تخمة، لذلك اتجهت إلى كتابة القصة القصيرة والرواية حتى أمس الأغلبية؛ وحتى أهز القناطر العقلية: قناطر عقلي الشخصية، أولا، فقناطر الآخرين.
p هل كان نزوعك إلى كتابة الأقصوصة نزوعا تلقائيا، أم أنه نتيجة تأثر أو مجاراة للذين يكتبون القصة؟
n لم أفكر يوما ما في كتابة القصة بوجه عام أو الأقصوصة كما تريد أن تحددها أنت. إنما دعني أروي لك هذه الحكاية: عندما كنت صغيرا اشتريت دفترا وقررت أن أملأه في تلك العطلة الصيفية بالكتابة عن نفسي وعن عائلتي وعن سفرة متخيلة. إذا أردنا أن نحلل ذلك نفسيا، نقول إن تلك الرحلة التي تخيلها الطفل في صباه وأخذ يعبر عنها كتابة، كانت بمثابة تعويض حقيقي عن رغبة ألحت عليه. فالطفل الصغير إذن لم يكن يسافر مثل يفعل زملاؤه في المدرسة أثناء العطل. وعندما يعودون في أول السنة الدراسية ليستأنفوا تعليمهم، كانوا يقضون الأسابيع الأولى في رواية ما حدث أثناء الرحلات والأسفار التي قاموا بها مع عائلاتهم إلى مدن أخرى، أما الطفل الصغير الذي يتخيل نفسه وقد سافر فقد حاول أن يصب ذكراه على شكل قصة أو حكاية، أو إن شئت خيال يصلح لأن يحل محل»teste»(اختبار) لمن يريد أن يدرس حياة ما، لشخص ما، في ظروف ما.
لكني في سن أخرى، اكتشفت أني قرأت العديد من القصص القصيرة والروايات لكتاب عالميين مشهورين ومغمورين. وتساءلت لماذا لا أجرب حظي في التعبير عن مآزقي النفسية بالقصة. وبمعنى آخر، لماذا لا أروي للناس الأشياء التي حصلت، تحصل، أو ستحصل لي. فبدأت أقول لهم وأحدثهم عما شاهدته أو فكرت فيه أو حلمت به. لكن ذلك لم يدم إلا فترة قصيرة. التقيت في قراءاتي بقصاصين جادين ينظرون إلى العالم نظرات أخرى تتميز بين الشدة واللين، وبين العنف والضعف. عثرت لديهم على مواقف تستحق التقدير مهما كان حظها من الخطأ أو الصواب، فاقترحت على نفسي: لماذا لا يكون لي موقفي الخاص؟ وبعد ذلك، للآخرين الحق في الحكم عليه. وهكذا عندما انتظرت من الآخرين هذا « الحكم ـ القيمة» برز التناقض والتعارض بشكل واضح لديهم. [قلت] معهم الحق، فنظرة كل واحد منا إلى العالم تختلف. إذا كان الوعي هو الذي يعطي للأشياء وجودها الحقيقي في اللحظة، فإن الأشياء تتضمن حقيقتها بالنسبة للآخرين حتى في غيابي، وبمعنى آخر: إذا كانت هناك قيمة أبرزها للعالم، فإن هذه القيمة لا تستمد وجودها إلا من عدة أحكام، أي من حكمك أنت، وحكم هذا، أو ذاك. النتيجة، هي أني بالرغم من اختلاف الآخرين معي، فإنني قررت أن أتخذ موقفا من الحياة. ولقد حاولت أن أعبر عن هذا الموقف بالقصة، وأنا الآن في طريق التعبير عنه، وسأمضي كل حياتي محاولا التعبير عنه، وأنا متأكد ـ أني لست بمستطيع إيفاءه حقه، لأنه صعب وعسير رغم موقفي الخاص. ولا شك أني بدأت أفهم أن موقفي الخاص هو « أنا» بمطلقها ومحدوديتها وعراقيلها ومطامحها. ولك في النهاية حكمك الخاص على كون ممارستي كتابة القصة كانت نزوعا تلقائيا أم لا.
p من هم القصاصون الذين تأثرت بهم في إنشاء الأقصوصة؟ وهل وجدت تيارات جذبتك إليها دون غيرها؟
n قرأت لكثير من القصاصين والروائيين، وكان لكل قصاص لحظة القراءة تأثير خاص علي، فكان هؤلاء الكتاب بمثل» إلهامات» بالنسبة لي. على سبيل المثال، عندما انتهيت من قراءة رواية» الموت في البندقية» لتوماس مان التي ظل أثرها قويا عليّ عدة شهور، كتبت قصة» النتوءات». وإذا تأملت في في الرواية والقصة معا، تجد أن لا علاقة بينهما سوى كثافة الجو القصصي. كذلك حاولت أن أفعل عندما انتهيت من قراءة رواية» موت سيجموند» لد.ه. لورنس. هكذا حاولت أن أكتب قصة شجاعة فاضحة، نابية، صادمة الشعور. لكن القصة لم تكن فاضحة ولا نابية ولا أي شيء، بل كانت» في انتظار النوم» التي قال عنها الناقد المصري صبري حافظ بأنها تقترب من أسلوب همنغواي. أحيانا يأتي التأثر متأخرا جدا. فقد قرأت رواية» أجراس بال» لأراغون ( في 400 صفحة) منذ سنوات، لكن شيئا منها بقي في نفسي، فأنشأت رواية» شيء غير متوقع ولكنه ضروري» التي نشر فصل منها في مجلة «شعر» البيروتية. وإذا اطلعت على الروايتين تجد الفرق واضحا بينهما شكلا ومضمونا.» أجراس بال» تتحدث عن تفسخ البورجوازية ومطامحها الخائبة ومحاولة البروليتاريا والطبقة الشغيلة استعادة الاعتبار، والجو عمالي محض يدور في مدينة بال، يقابله جو بورجوازي متعفن؛ بينما رواية «شيء غير متوقع..» تعرض صراع الإنسان أمام غريزة البقاء مقابل التخلي عن جميع القيم التي تطرحها العلائق الأسرية، فالقصة تروي غرق مركب صيد وانتظار قرية» المهدية» رجوع المركب، عبثا، وأثناء هذا الانتظار تطرح قضايا ذات بعد أخلاقي. لأريد أن أقول بهذا، أن رواية أراغون كانت» إلهاما» فقط لكتابة روايتي، وهذا يحصل لكثير من الكتاب.
لا أزال أذكر أني قرأت مثلا عن قاص، أعتقد أنه سومرست موم، كتب ذات يوم أنه قبل الشروع في الكتابة صباحا بدأ بمطالعة صفحتين أو ثلاثا من كتاب ما، ربما تكون تلك الصفحات بمثابة منشط عقلي، وفي الوقت نفسه تلهم الكاتب وتعطيه الفرصة للتحليق. لذلك من المفروض على أي كاتب حقيقي أن يقرأ ويقرأ بكثرة. القراءة أحيانا تكون أنفع من التجربة، لأن التجربة في حاجة إلى اختمار قبل أن يعبر عنها الكاتب، والاختمار يحتاج إلى وقت طويل، والحياة، كما تعلم، قصيرة.
أخلص من هذا كله إلى أنني لا أعرف بالضبط في ما إذا كنت قد تأثرت بكتاب بعينه في يوم ما. وأذكر مثلا أني قرأت قصة لكاتب من أمريكا اللاتينية بعنوان:» بين الجبال» لا أذكر حتى اسمه، لا يزال لها وقع خاص في نفسي أكثر مما هو لبعض الأعمال العالمية الشهيرة التي قرأت. كما أني اهتززت لقصة» في صباح مشمس»لإمانويل روبلس أكثر مما فعلت لدى قراءتي لرواية» الغريب» لكامو. أحيانا، إن رسالة كتبها شخص متوسط الثقافة من الأقاليم بعث بها إلى عائلتك تكون ذات وقع خاص وأثر بيِّن في نفسك، وتلهمك ما لا يلهمك إياه هيرفي بازان[روائي فرنسي معروف خاصة برواياته السير ذاتية]أو هنري تروايات[روائي فرنسي] أو أمين يوسف غراب[قاص وسينمائي مصري].
p وأنت تكتب القصة، ماذا كان فهمك لهذا الفن؟
n لا يمكن أن أعطيك تعريفا مدرسيا لفن القصة بوصفه أحد الفنون التعبيرية التي كثر استهلاكها في عصرنا. ولكني أقول قولي السابق: إني أنظر إلى القصة كوسيلة تعبيرية صالحة بالنسبة لي على الأقل عن موقفي من الحياة ومن الآخرين ومن نفسي. إن القصة هي أداة تتضمن اهتمامي ومشاريعي بالمعنى الميتافيزيقي التي لا أستطيع التعبير عنها مباشرة. وحيث أن اللغة تظل دائما قاصرة عن التعبير بدقة، فلماذا لا نحاول أن « نولّد» من الجمل جملا أخرى ومن الخيال أخيلة أخرى، آملين فقط الدوران حول الحقيقة لا الوصول إليها نهائيا. أعتبر القصة أداتي ووسيلتي إلى ذلك. فهي وحدها تستطيع أن تقربنا من تلك» الميثولوجيا اليومية « التي تحدث عنها أراغون في كتابه Le Paysan de Paris ( فلاح باريس)(1926) [ في هذا الكتاب يعتبر أراغون أن باريس هي مختبر لميثولوجيا عصرية، تتعقد وتنفك بقدر ما يستغرق الكاتب في أمكنتها الرمزية، وخلافا للميثولوجيا القديمة، الإغريقية، فإن الحديثة منها تستند على أشياء ملموسة، يومية، وبالنتيجة، فهي تالفة؛ (وبعد ذاك سيظل فهمي للقصة مخالفا) لفهمك أنت، وفهم القارئ، أو فهم أي كاتب قصة آخر.
p إلى أي اتجاه ترى إنتاجك القصصي ينتمي؟
n ـ أترك ذلك للنقاد:
ـ أدونيس: « نعم، إنتاجك يعجبني»؛
ـ صبري حافظ: « غنائية شعرية»( مجلة الآداب)؛
ـ محمد روميش: « واقعية ناضجة»( مجلة المجلة)؛
ـ إبراهيم الخطيب:» تجريبية في القصة»( آفاق، المغربية)؛
ـ محمد شكري: « أبعاد ميتافيزيقية»( م. الآداب).
p ما هي الاهتمامات الأساس التي كانت تشغلك دون غيرها في قصصك؟
n تعلم أني استطعت أن أقضي بإرادتي عدة شهور في البيت، ولم أغادره إلا لماما. كنت إذ ذاك طالبا بكلية الآداب، قسم الفلسفة. حرت وتساءلت عن أشياء تخصني وتخص العالم من حولي. حاولت أن أعبر عن ذلك في رواية» أرصفة وجدران»(1974) وجاءت الرواية ضعيفة البناء، غير أنها محاولة لإثارة بعض القضايا الجوهرية في حياة شخص يحس بانفراده وبضعفه وقوته معا، أمام الضغط الاجتماعي وعقدة الاضطهاد. في هذه الفترة بالذات، كنت قد فقدت الثقة بكل شيء، حتى بنفسي. ناديت على والدتي، وقلت لها:» كيف تثبتين لي أنك أمي؟»، ولأنها لم تفهمني، فقد بكت وانسحبت إلى غرفة أخرى، وسمعت بكاءها. عبرت عن ذلك، وحاولت أن أعبر عنه في « أرصفة وجدران» وفي قصص أخرى متعددة. كانت هذه هي الفترة حقيقة ذات أبعاد ميتافيزيقية، وكانت النتيجة عدة قصص:» الموت وما بعده»، « الدفن»، « الشمس تشرق مرة واحدة»،» النتوءات» و» الطريق إلى غرفة مضيئة» و» العصافير» وغيرها. ولقد بدأت ملامح هذا الاتجاه مبكرة عندي في قصص قصيرة كتبتها في سن العشرين، مثل « حالة» و» عربة الأطفال الصغيرة» و» غدا يموت العالم» و» أحزان النساء». في هاتين القصتين الأخيرتين حاولت أن أظهر فيهما نزوعي نحو التجريب في سن مبكرة. كان لذلك كله ارتباط برفض عام لجميع المقولات الجاهزة التي كنت قد بدأت في تخطيها وتعويضها بمقولات أخرى نابعة من فردانيتي. ونصل في النهاية إلى أن القصة كانت بالنسبة لي مقرونة بجو نفسي عام وخاص، أي أنها دائما وأبدا كانت تقف بمثابة المتنفس الوحيد وكذا المنفذ إلى مخرج للخلاص. وقد كان لهذا التيار الذي سرت فيه امتداد، إذ اتضح لي أن القصص التي كتبتها في ما بعد تضرب على الوتر نفسه، بمعنى محاولة الجمع بين اهتماماتي الميتافيزيقية المحض، وبين اهتماماتي الأخرى التي تندرج ضمن تيار آخر عام، وهو الشعور بأني منخرط بالرغم مني في هيئة كبيرة اسمها» المجتمع»، لذلك جاءت قصصا متضاربة المحتوى أحيانا ، وقد يبدو للناقد أنها ليست مكتوبة من طرف كاتب واحد، بل من طرف كاتبين، أو أكثر. خذ على سبيل المثال قصصا كتبت في فترات متباعدة دبجتها يراعة شخص واحد بعينه، منفعل وفاعل ومتفاعل: «أنشودة المساء الحزينة»؛ «الحصان البشري»؛ «مدى منتشر لكنه قفر»؛ «المستقيم والمنحني»؛ «عندما تدليت من فوق»؛ الطفل والكلب»؛ « في الظهيرة وكانت الشمس»؛ الخ، وتتوج هذه المجموعة كلها قصة طويلة نسبيا تحت عنوان:» الديدان التي تنحني» حاولت أن أجمع فيها كل شيء: أسلوب السرد المبسط، المونولوغ الداخلي، الوصف الفوتوغرافي، الحوار عير المترابط،( هذا من ناحية الشكل)؛ أما من ناحية المحتوى، فهو دائما نفسه: التفسخ العائلي، مصير الإنسان (بالمعنى الفلسفي العام، وهذا موضوع ألح عليه دائما)، التفسخ الاجتماعي، العُرف، بمفهومه الباسكالي وارتفاعه فوق الدين والواقع والإنسان نفسه (يؤخذ مثالا: رواية:» شيء غير متوقع ولكنه ضروري»، وقصتا « الموت وما بعده» و» الديدان التي تنحني».
p كيف ترى صراع القوى الاجتماعية وانعكاس هذا الصراع على المثقفين، وهل تبلور شيء منه في إنتاجك القصصي، وكيف؟
n عندما حصلنا على استقلالنا سنة 1956 الذي لم يكن تاما، إذ أن بعض المناطق كانت تحت قبضة الاستعمار، كان طبيعيا أن تمر البلاد من نفس الطريق التي مرت منها البلدان حديثة العهد بالاستقلال. لقد تحول كثير من المناضلين والوطنيين في السابق إلى فئة جشعة، لأن هذه الفئة أرادت جزاء عما قدمته من خدمات ضد الاستعمار، فبدأ توزيع الغنيمة وذهب المواطن العادي، الأمي، الجاهل، ضحية لهذا الجشع، وتكونت عندنا بسرعة بورجوازية وطنية احتكرت بسرعة البرق واستولت على الأجهزة التي خلقها المستعمرون، فوزعت الأراضي المسترجعة على صنف من الناس دون غيرهم، واحتكر تسيير بعض الشركات أناس، بينما صار الآخرون في عداد المستخدَمين. ووقع التناقض والصراع. غير أن هذا الصراع لم يظهر إلا سنة 1961ـ 1980 بوضوح، فلما أفاقت فئة من غفلتها ووجدت نفسها مهضومة الحق، وكان نصيبها من «مكافأة» الاستقلال ضئيلا، أعلنت التمرد والثورة.
هذا هو تفسيري بصراحة لهذه الفترة. أما انعكاس ذلك وأثره على المثقفين، فقد كان واضحا جليا، ليس على مستوى الأدب والكتابة فقط، ولكن على مستوى الحياة العملية. ظهر في هذه الفترة أدب رديء مقلد للأدب المصري الرديء الذي كان يُكتب قبل ثورة 1952( أعني ذلك الأدب الرخيص غير الناضج فنيا)؟ أدب يتحدث عن الحب والخيانة والتطلعات البورجوازية لكن بأسلوب رديء فج. وأحس هؤلاء المتأدبون كأنهم يعيشون في جنة عدن وأنهم بعد حصولهم على الاستقلال لم يعودوا في حاجة إلى الالتفات إلى المجتمع، بل أصبح همهم هو إفراغ مرضهم النفسي على بعض القراء على قلتهم. ونظرا للمرحلة التي كانت تجتازها البلاد، فقد كان من المستحيل العثور على مفكر حر في ذلك الوقت ينبه إلى خطر الظاهرة. وسوف ننتظر خمس أو ست سنوات أخرى ليظهر بعض الشبان الذين سيسلطون الضوء على الأخطاء الشائعة والكثيرة التي برزت على شتى المستويات، ولست في حاجة لأن أعدد أسماءهم، لأن معالم تفكيرهم لم تتحدد بعد، وكل ما يميزهم هو هذه الثورة العارمة، وهذا الرفض القار، الذي واجهوا به التعفن على المستويات كافة.
لقد كانت فترة 1959ـ 1961 فترة غياب كلي عن الشعور بالواجب. وفي هذا الوقت بالذات ارتكبت بعض الفئات» الثورية» أخطاء لا تغتفر.
بقيت هناك كلمة أخيرة: بعد سنة 1961، وبعد الحوادث المعروفة[ إشارة هنا إلى حملة اعتقالات واسعة طالت أطر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وأحكام إعدام صدرت في حق بعض قادته، منهم من فر إلى الخارج، المهدي بن بركة بالذات، بتهمة التآمر على الحكم] لزم كثير من المثقفين الصمت، وباع بعضهم نفسه بثمن بخس، ولكنهم لم يكونوا مثقفين بالمعنى الصحيح. كانوا متربصين بالفرص وانتهازيين، وأعتقد أن الوقت لم يحن بعد لتسمية الأشياء بمسمياتها.
p هل تعتقد أن القصة القصيرة في المغرب استطاعت أن تصبح فنا راسخ الجذور؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الاتجاهات أو التيارات التي تتفرع إليها؟
n لست أدري بالضبط ما هو المقصود بعبارة» فن راسخ الجذور». إذا كنت تريد النضج، فإني أقول: إن القصة القصيرة في المغرب تختلف من ناحية القيمة الفنية والفكرية عما وصلت إليه القصة في العالم العربي على الخصوص، وأوروبا بصفة عامة. إننا نجد بعض القصص القصيرة ذات مستوى رفيع، وهي كثيرة ومتنوعة ذات مرام واتجاهات مختلفة من ناحية المحتوى يسوءني أحيانا أنني لا أجد التصاقا تاما بالبيئة المغربية. وأعتقد أن ذلك راجع إلى قلة من يتعاطى هذا الفن، ونظرا لانتشار الأمية والجهل في أرجاء المملكة. هل تستطيع أن تدلني على روائي صحرواي عندنا يصور هذه البيئة وينقلها إلينا ويسلط الضوء على تلك المناطق النائية في الجنوب أو الشرق. وبالمثل، هل هناك كاتب أو قاص استطاع أن يستوحي قصصه ورواياته من جبال الأطلس أو جبال الريف في الشمال؟ لشد ما تعجبني تلك القصص ذات الطابع المحلي المحض شريطة أن يتوفر المستوى الفني. إنها تشعرك أنك أمام كاتب مقتدر، خبر الوسط الذي يكتب عنه، واستطاع أن يمرن ثقافته ويجعلها قادرة على استيعاب تجاربه وخبراته ومشاهداته. تعجبني بهذا الصدد بعض قصص محمد شكري من طنجة، ومحمد بيدي، وإ. الخوري من البيضاء ورفيقة الطبيعة. وبغض النظر عن الإطار الفني الذي صبت فيه هذه القصص، فإن قيمتها تكمن في نقل حركية وسط معين، وتسجيل عادات وأعراف وقيم أخلاقية كان من الممكن لها أن تمحي لو لم يترصدها الكاتب. لا يجب أن يفهم من هذا أني أدعو إلى الوثائقية في القصة، ولكني أدعو ـ وهذه دعوة قديمة ـ إلى الارتباط الأصيل بالوسط الاجتماعي ومحاولة سبر أغواره. مثلا، إن رواية» سبعة أبواب» لعبد الكريم غلاب رغم أسلوبها ولغتها اللذين يعتمدان البهرجة والتزويق في اللفظ، والعناية بالفصل والوصل على حد تعبير الجرجاني، استطاعت أن تسجل بأمانة فترة معينة من تاريخ وطن. ليس هذا فقط. ولكنها نقلت أعرافا وعادات ونظاما اجتماعيا، يعتبر غريبا كل الغرابة بالنسبة للجيل الطالع. ومهما يكن مضمون الرواية السياسي، فإنها استطاعت أن تجد لنفسها مكانا في تاريخ الأدب المغربي، ولعل قيمة روايات إدريس الشرايبي تكمن في تصوير المجتمع المغربي تصويرا يتميز إلى حد ما بالدقة والعناية. إن هناك محاولات جادة من طرف بعض الكتاب الشباب، وأعتقد أنهم سيستطيعون في مستقبل قريب شق طريقهم رغم كل العراقيل والمحاذير في وجوههم. ولقد أغرت هذه الحركة القصصية كثيرا من الباحثين الجانب والنقاد، فقدمت عدة أطروحات جامعية عن فن القصة في المغرب الأقصى، وقد أحرز طالب إسباني على الدكتوراه بميزة جيدة لتناوله موضوع القصة عندنا، كما قدم في الاتحاد السوفياتي الطالب أوكتام كاليكوف أطروحته عن القصة المغربية، وفي المغرب قدم أحمد اليبوري رسالة ماجستير في الموضوع نفسه. واهتم شتوان بوكا من المجر بهذا الفن، وقدم قراءات قصصية، ودرس هو وطلبته قصصا لكل من محمد ديب ورفيقة الطبيعة وربيع وغلاب وزفزاف. وأخيرا وليس آخرا سيتقدم الطالب المغربي أحمد المديني قريبا في الجزائر ليناقش أطروحته في موضوع فن القصة القصيرة في المغرب.
بدأ زفزاف محاولاته الأدبية البكر بكتابة قصائد عمودية ومن الشعر المرسل، منها:
ـ أغنية الرماد (مجلة آفاق، ع 4، 1963).
ـ صليب وأمل( مجلة أقلام، ع4،1964).
ـ الغير (جريدة العلم،11 مارس، 1968).
ـ نكرولوجيا ( مجلة» شعر» بيروت،1969)، وهي أنضج قصائد النثر بتنويه يوسف الخال.
بين 1965 و1969 انتظم بكتابة مذكرات صحفية، بجريدة العلم (الرباط) وضع لها عنوانا عاما هو:» يوميات على الطريق». وكانت جريدة العلم وقتئذ تنشر نثريات مماثلة عبارة عن خواطر وانطباعات عن الحياة والمجتمع وبعض الهواجس الذاتية، لكتاب من فريقها هم عبد الجبار السحيمي، وعبد المجيد بن جلون، ومحمد العربي المساري، بصفة خاصة. بيد أن زفزاف لم يقتصر في هذه المحاولات على نهج كتابة الخواطر، ليكتب مقالات ذات منحى أدبي ونقدي، وقفنا على عديد منها في العلم ومنابر مختلفة، نسجل منها الآتي:
ـ تعليق على قصائد، آفاق، ع3،1963.
ـ من الشعر الفرنسي، مجلة دعوة الحق، ع7، 1964.
ـ أشعار من المنفى، العلم، 4 نوفمبر، 1965.
ـ التجربة الشعرية عند عزرا باوند، العلم،24 سبتمبر،1965.
ـ التزام الشعر، العلم،5 نونبر 1965.
ـ مفهوم الشعر عند كلوديل، العلم، 17فبراير، 1967.
ـ مفهوم الفن الشعري(قصيدة فرلين)، العلم، 20أكتوبر 167.
ـ دراسة لديوان» أشواك بلا ورد» لمحمد بم دفعة، العلم، 20 نونبر،1967.
ـ النموذج الثوري في شعر البياتي، العلم ،1 نونبر1968.
ـ عن النقد الأدبي، العلم، 4غشت،1968
ـ الشعر والثورة، العلم، (العلم الثقافي)، 19مايو، 1972.
ـ من أجل نقد أدبي صحيح، المحرر،9 مارس1975.
ـ بليز ساندرار ولعبة الشعر القديم، جريدة المحرر، 13 غشت،1975.
من الانتقال بين عناوين هذه المقالات يمكن للدارس أو المتتبع ان يلحظ، أولا، كيف أنها تطرق جميعها مسائل وعناوين أدبية حديثة. كونها ثانيا، موزعة بين الأدبين العربي والغربي. وثالثا، أن مناط الاهتمام غربيا هو الأدب الفرنسي. وقد كان زفزاف من القلائل جدا من أبناء وأدباء جيله الصاعدين ممن ازدوجت ثقافتهم، إذ غرف قراءة من الأدب الفرنسي، شعرا ونثرا، وهو ما شحذ تدريجيا موهبته القصصية، ودفعه إلى ترجمة عديد قصص لكتاب واقعيين. لذلك ينبغي لمن يدرس قصة زفزاف أن يستحضر هذه الثقافة وينتبه إلى تأثيرها، وذلك خلافا لغيره مثل مبارك ربيع، محمد إبراهيم بوعلو، أو إدريس الخوري، اقتصر تعليمهم أو قراءتهم على اللغة العربية وحدها، وهذا واضح في نوعية إنتاجهم.
الأعمال القصصية:
بدأ محمد زفزاف يشر قصصه منذ نهاية حقبة الستينات، في منابر مغربية محدودة، وخارج المغرب، بين القاهرة ودمشق وبغداد، حيث تم الاعتراف مبكرا بموهبته، بين كتاب مرموقين.
وقد نشر المجاميع القصصية التالية:
ـ حوار في ليل متأخر(باكورته)، منشورات وزارة الثقافة، 1970.
ـ بيوت واطئة، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1977.
ـ الأقوى، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1978 .
ـ الشجرة المقدسة، الدار البيضاء، 1980.
ـ غجر في الغابة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982.
ـ ملك الجن، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،1988.
ـ الملاك الأبيض، الدار البيضاء، منشورات عكاظ، 1988.
ـ العربة، الدار البيضاء، 1993.
ـ بائعة الورد، الدار البيضاء، 1996.
الأعمال الروائية:
ـ المرأة والوردة، منشورات غاليري(سلسلة الكتاب الحديث)، بيروت،1972، تلتها طبعة مغربية سنة 1981.
ـ أرصفة وجدران، منشورات وزارة الإعلام (سلسلة كتابات جديدة)، بغداد، 1974.
قبور في الماء، الدار العربية للكتاب، ليبيا ـ تونس، 1978.
* تستوجب الدقة منا أن نسجل تاريخ صدور هذه الرواية، والإحالة إليها في منبر آخر؛ فهي نفسها تحمل عنوان:» شيء غير متوقع ولكنه ضروري» مجلة شعر، بيروت، 1969.
ـ الأفعى البحر، المطابع السريعة، الدار البيضاء، 1979.
ـ بيضة الديك، منشورات الجامعة، الدار البيضاء، 1984.
ـ محاولة عيش، الدار البيضاء، 1985.
الثعلب الذي يظهر ويختفي، منشورات أوراق، الدار البيضاء، 1989.
ـ الحي الخلفي، الدار البيضاء، 1992.
ـ أفواه واسعة، الدار البيضاء، 1998.
نصوص مسرحية:
ـ بيت الرامود، ( العلم، العلم الثقافي)1969.
ـ الكلب مقتول على الرصيف، مجلة المعرفة، ومجلة اللوتس، دمشق، 1972.
ـ ما حدث للشاعر فرنسيس جام في جنوب المغرب، مجلة الأقلام، بغداد،1976.
ـ أسماك وعصافير ملونة وأشياء أخرى، جريدة الاتحاد الاشتراكي، الدار البيضاء.
p ما هو الجو الاجتماعي والثقافي، وكذا المستوى المادي الذي نشأت فيه ككاتب؟
n فقر، فقر، فقر باتجاه الرياح الأربع. ذلك هو الجو الاجتماعي الذي عشت فيه، والجو الثقافي، أيضا. أنت تعرف ولا شك الشيء الكثير عن الهزال الذي تعاني منه الثقافة المغربية المعاصرة. كما أن أسباب ذلك واضحة وجلية، وهي في حاجة فقط إلى قليل من التمحيص. لأتحدث أولا عن المستوى المادي الذي عشت فيه، والذي له ارتباط وثيق بوضعيتي الاجتماعية التي هي وضعية ابن عائلة فقيرة.
أنت تعرف، ولا شك، أنني كنت بائع صحف. اشتغلت، أيضا، خياطا. كنت أبيع صحفا لا أعرف ما فيها. لكن في ما بعد، بدت أملأ صفحات هذه الصحف دون أن يعرف محرروها ذلك. وانتقلت إلى مكاتبها محررا أو مساعد محرر ([جريدة] «العلم» مثلا ( أعتقد أن الظروف لم تحن بعد لأقيئ طفولتي على القراء. كنت شقيا، ولكن كان هناك من هو أشقى مني، باختصار بقيت عندي رواسب من تلك الطفولة، رواسب نفسية لم تعقدني بقدر ما جعلتني أحظى بفهم تقريبي للحياة. فلطالما نمت تحت سلالم[ أدراج] العمارات. شيء آخر علمتنيه الحياة: عندما كنت صبيا كانت لي صلة وثيقة بهذا العالم الفسيح عن طريق الميناء. كنت أختلف إلى تلك البواخر التي يملأها ملاحون من جميع الجنسيات. كان المغاربة الذين يشتغلون لحساب بعض الشركات الفرنسية، أطيبهم وأجودهم. وكنت أحلم بأن أصير مثلهم، لأنهم ـ بالنسبة لي في ذلك الوقت ـ كانوا يعطون للمال قيمة. أما الطعام، الطعام الذي كنت أفتقده خارج الميناء، فقد كان متوفرا في مطابخ البواخر التجارية. ولك أن تتخيل فرحة الذي لا يجد حتى قطعة خبز أسود، بينما هو الآن أمام مطبخ بجميع أصناف الأطعمة. قلت سابقا لم يحن الوقت بعد لأروي طفولتي.
أما عن الجو الثقافي فله علاقة بالجو العام الذي أشرت إليه. عندما وقعت الحوادث المعروفة في أرجاء المملكة بعد 1960[القصد حوادث الدار البيضاء في 23 مارس التلاميذية والعمالية، سقط فيها عديد ضحايا، وأعلنت بعدها حالة الاستثناء في المغرب] وسكت كل الشعراء والكتاب الجبناء، وتحفظت بعض الصحف والأقلام. شرعت في كتابة قصائد ذات طابع ثوري بعدما كنت أكتب لنفسي قصائد غزلية وذاتية، لم تكن سوى محاولات بسيطة ورديئة، تحت تأثير الشابي وجبران ونعيمة وعلي محمود طه، وبالفرنسية فرلين وهوغو وبودلير. وكنت أحلم أن أصبح شاعرا كبيرا يكتب بالعربية والفرنسية( بعد ذلك اكتشفت آخرين: أراغون، إيلوار، أرتو، بيكابيا، الخ) لكن عندما بدأت النشر بالعربية كرهت الفرنسية لارتباطها بجو استعماري عام، ولأنها لغة قوم يتميزون بالفظاظة والغلظة والعنصرية. وهذا لم يمنعني من قراءة بعض المؤلفات التي لم تترجم إلى العربية. ولعل أقرب شيء إلى نفسي في الفكر الفرنسي القرنان الثامن عشر والتسع عشر، حيث تتجلى في هذين القرنين عبقرية الفرنسي وإبداعه وأصالته، وبالتالي إضافته إلى التاريخ الإنساني، ولا أعتقد أن فرنسا ستجود في ما بعد بمثل ما جادت به في هذين القرنين. وحتى في القرن العشرين، نجد أن فرنسا قد أضاعت شخصيتها في تيار حضاري وفكري عام تسير عام تسير فيه أوروبا، نظرا للعوامل التاريخية التي تشد هذه الدول إلى بعضها البعض. بالطبع، لست بصدد تقييم حضارة أكبر من أن تقيم، ولكني أردت فقط أن أشير إلى أني حاولت بقدر الإمكان أن أرتوي من هذا النبع الزاخر الذي أكره مصدره.
ولأعد مرة أخرى إلى الجو الثقافي الذي عشت فيه، فأشير إلى أنه كان مجدبا، ولكن هذا لم يمنعني من قراءة بعض الكتب والكتاب العرب والأجانب في سن مبكرة، وعلى سبيل المثال، اطلعت على كثير من النصوص العربية للجاهلية، كما تأثرت بالكتاب العرب المعاصرين الذين ساهموا في بداية النهضة، وإن كان تأثيرهم في قد اختفى نسبيا الآن، فقد قرأت ولي الدين يكن وفارس الشدياق والمنفلوطي والمويلحي واليازجيين وأحمد أمين وطه حسين والزيات والرافعي وغيرهم. وكان إعجابي بأسلوب طه حسين شديدا، ولطالما قلدته في إنشاءاتي المدرسية.
p إلى أي مدى كان له ولهذا الأثر في توجيهك إلى كتابة القصة؟
n أعتقد أني أجبت على جزء من هذا السؤال لدى إجابتي عن السؤال الأول. ولمزيد من الوضوح أقول، إن هذه العوامل جميعها انطلاقا من القاعدة الاجتماعية التي تقابلها قاعدة ثقافية أخرى، وأعني هنا بالقاعدة الاجتماعية الواقع بعيدا عن أي تجريد. قلت، إن هذه العوامل كلها عندما اكتشفت ذات يوم أنها تتعارض مع نفسها، أي الثقافة كتجريد تقف أمام الواقع كمعطى محسوس قائم بالرغم من الثقافة ومني، حاولت أن أحل التناقض، لذلك اتجهت إلى الكتابة. بدأت بالشعر أولا، وكنت بحاجة إلى وسيلة تعبيرية تهز ـ كما يقول ألان بوسكي ـ القناطر العقلية. وجدت أن الشعر لا يمس إلا أقلية عندها تخمة، لذلك اتجهت إلى كتابة القصة القصيرة والرواية حتى أمس الأغلبية؛ وحتى أهز القناطر العقلية: قناطر عقلي الشخصية، أولا، فقناطر الآخرين.
p هل كان نزوعك إلى كتابة الأقصوصة نزوعا تلقائيا، أم أنه نتيجة تأثر أو مجاراة للذين يكتبون القصة؟
n لم أفكر يوما ما في كتابة القصة بوجه عام أو الأقصوصة كما تريد أن تحددها أنت. إنما دعني أروي لك هذه الحكاية: عندما كنت صغيرا اشتريت دفترا وقررت أن أملأه في تلك العطلة الصيفية بالكتابة عن نفسي وعن عائلتي وعن سفرة متخيلة. إذا أردنا أن نحلل ذلك نفسيا، نقول إن تلك الرحلة التي تخيلها الطفل في صباه وأخذ يعبر عنها كتابة، كانت بمثابة تعويض حقيقي عن رغبة ألحت عليه. فالطفل الصغير إذن لم يكن يسافر مثل يفعل زملاؤه في المدرسة أثناء العطل. وعندما يعودون في أول السنة الدراسية ليستأنفوا تعليمهم، كانوا يقضون الأسابيع الأولى في رواية ما حدث أثناء الرحلات والأسفار التي قاموا بها مع عائلاتهم إلى مدن أخرى، أما الطفل الصغير الذي يتخيل نفسه وقد سافر فقد حاول أن يصب ذكراه على شكل قصة أو حكاية، أو إن شئت خيال يصلح لأن يحل محل»teste»(اختبار) لمن يريد أن يدرس حياة ما، لشخص ما، في ظروف ما.
لكني في سن أخرى، اكتشفت أني قرأت العديد من القصص القصيرة والروايات لكتاب عالميين مشهورين ومغمورين. وتساءلت لماذا لا أجرب حظي في التعبير عن مآزقي النفسية بالقصة. وبمعنى آخر، لماذا لا أروي للناس الأشياء التي حصلت، تحصل، أو ستحصل لي. فبدأت أقول لهم وأحدثهم عما شاهدته أو فكرت فيه أو حلمت به. لكن ذلك لم يدم إلا فترة قصيرة. التقيت في قراءاتي بقصاصين جادين ينظرون إلى العالم نظرات أخرى تتميز بين الشدة واللين، وبين العنف والضعف. عثرت لديهم على مواقف تستحق التقدير مهما كان حظها من الخطأ أو الصواب، فاقترحت على نفسي: لماذا لا يكون لي موقفي الخاص؟ وبعد ذلك، للآخرين الحق في الحكم عليه. وهكذا عندما انتظرت من الآخرين هذا « الحكم ـ القيمة» برز التناقض والتعارض بشكل واضح لديهم. [قلت] معهم الحق، فنظرة كل واحد منا إلى العالم تختلف. إذا كان الوعي هو الذي يعطي للأشياء وجودها الحقيقي في اللحظة، فإن الأشياء تتضمن حقيقتها بالنسبة للآخرين حتى في غيابي، وبمعنى آخر: إذا كانت هناك قيمة أبرزها للعالم، فإن هذه القيمة لا تستمد وجودها إلا من عدة أحكام، أي من حكمك أنت، وحكم هذا، أو ذاك. النتيجة، هي أني بالرغم من اختلاف الآخرين معي، فإنني قررت أن أتخذ موقفا من الحياة. ولقد حاولت أن أعبر عن هذا الموقف بالقصة، وأنا الآن في طريق التعبير عنه، وسأمضي كل حياتي محاولا التعبير عنه، وأنا متأكد ـ أني لست بمستطيع إيفاءه حقه، لأنه صعب وعسير رغم موقفي الخاص. ولا شك أني بدأت أفهم أن موقفي الخاص هو « أنا» بمطلقها ومحدوديتها وعراقيلها ومطامحها. ولك في النهاية حكمك الخاص على كون ممارستي كتابة القصة كانت نزوعا تلقائيا أم لا.
p من هم القصاصون الذين تأثرت بهم في إنشاء الأقصوصة؟ وهل وجدت تيارات جذبتك إليها دون غيرها؟
n قرأت لكثير من القصاصين والروائيين، وكان لكل قصاص لحظة القراءة تأثير خاص علي، فكان هؤلاء الكتاب بمثل» إلهامات» بالنسبة لي. على سبيل المثال، عندما انتهيت من قراءة رواية» الموت في البندقية» لتوماس مان التي ظل أثرها قويا عليّ عدة شهور، كتبت قصة» النتوءات». وإذا تأملت في في الرواية والقصة معا، تجد أن لا علاقة بينهما سوى كثافة الجو القصصي. كذلك حاولت أن أفعل عندما انتهيت من قراءة رواية» موت سيجموند» لد.ه. لورنس. هكذا حاولت أن أكتب قصة شجاعة فاضحة، نابية، صادمة الشعور. لكن القصة لم تكن فاضحة ولا نابية ولا أي شيء، بل كانت» في انتظار النوم» التي قال عنها الناقد المصري صبري حافظ بأنها تقترب من أسلوب همنغواي. أحيانا يأتي التأثر متأخرا جدا. فقد قرأت رواية» أجراس بال» لأراغون ( في 400 صفحة) منذ سنوات، لكن شيئا منها بقي في نفسي، فأنشأت رواية» شيء غير متوقع ولكنه ضروري» التي نشر فصل منها في مجلة «شعر» البيروتية. وإذا اطلعت على الروايتين تجد الفرق واضحا بينهما شكلا ومضمونا.» أجراس بال» تتحدث عن تفسخ البورجوازية ومطامحها الخائبة ومحاولة البروليتاريا والطبقة الشغيلة استعادة الاعتبار، والجو عمالي محض يدور في مدينة بال، يقابله جو بورجوازي متعفن؛ بينما رواية «شيء غير متوقع..» تعرض صراع الإنسان أمام غريزة البقاء مقابل التخلي عن جميع القيم التي تطرحها العلائق الأسرية، فالقصة تروي غرق مركب صيد وانتظار قرية» المهدية» رجوع المركب، عبثا، وأثناء هذا الانتظار تطرح قضايا ذات بعد أخلاقي. لأريد أن أقول بهذا، أن رواية أراغون كانت» إلهاما» فقط لكتابة روايتي، وهذا يحصل لكثير من الكتاب.
لا أزال أذكر أني قرأت مثلا عن قاص، أعتقد أنه سومرست موم، كتب ذات يوم أنه قبل الشروع في الكتابة صباحا بدأ بمطالعة صفحتين أو ثلاثا من كتاب ما، ربما تكون تلك الصفحات بمثابة منشط عقلي، وفي الوقت نفسه تلهم الكاتب وتعطيه الفرصة للتحليق. لذلك من المفروض على أي كاتب حقيقي أن يقرأ ويقرأ بكثرة. القراءة أحيانا تكون أنفع من التجربة، لأن التجربة في حاجة إلى اختمار قبل أن يعبر عنها الكاتب، والاختمار يحتاج إلى وقت طويل، والحياة، كما تعلم، قصيرة.
أخلص من هذا كله إلى أنني لا أعرف بالضبط في ما إذا كنت قد تأثرت بكتاب بعينه في يوم ما. وأذكر مثلا أني قرأت قصة لكاتب من أمريكا اللاتينية بعنوان:» بين الجبال» لا أذكر حتى اسمه، لا يزال لها وقع خاص في نفسي أكثر مما هو لبعض الأعمال العالمية الشهيرة التي قرأت. كما أني اهتززت لقصة» في صباح مشمس»لإمانويل روبلس أكثر مما فعلت لدى قراءتي لرواية» الغريب» لكامو. أحيانا، إن رسالة كتبها شخص متوسط الثقافة من الأقاليم بعث بها إلى عائلتك تكون ذات وقع خاص وأثر بيِّن في نفسك، وتلهمك ما لا يلهمك إياه هيرفي بازان[روائي فرنسي معروف خاصة برواياته السير ذاتية]أو هنري تروايات[روائي فرنسي] أو أمين يوسف غراب[قاص وسينمائي مصري].
p وأنت تكتب القصة، ماذا كان فهمك لهذا الفن؟
n لا يمكن أن أعطيك تعريفا مدرسيا لفن القصة بوصفه أحد الفنون التعبيرية التي كثر استهلاكها في عصرنا. ولكني أقول قولي السابق: إني أنظر إلى القصة كوسيلة تعبيرية صالحة بالنسبة لي على الأقل عن موقفي من الحياة ومن الآخرين ومن نفسي. إن القصة هي أداة تتضمن اهتمامي ومشاريعي بالمعنى الميتافيزيقي التي لا أستطيع التعبير عنها مباشرة. وحيث أن اللغة تظل دائما قاصرة عن التعبير بدقة، فلماذا لا نحاول أن « نولّد» من الجمل جملا أخرى ومن الخيال أخيلة أخرى، آملين فقط الدوران حول الحقيقة لا الوصول إليها نهائيا. أعتبر القصة أداتي ووسيلتي إلى ذلك. فهي وحدها تستطيع أن تقربنا من تلك» الميثولوجيا اليومية « التي تحدث عنها أراغون في كتابه Le Paysan de Paris ( فلاح باريس)(1926) [ في هذا الكتاب يعتبر أراغون أن باريس هي مختبر لميثولوجيا عصرية، تتعقد وتنفك بقدر ما يستغرق الكاتب في أمكنتها الرمزية، وخلافا للميثولوجيا القديمة، الإغريقية، فإن الحديثة منها تستند على أشياء ملموسة، يومية، وبالنتيجة، فهي تالفة؛ (وبعد ذاك سيظل فهمي للقصة مخالفا) لفهمك أنت، وفهم القارئ، أو فهم أي كاتب قصة آخر.
p إلى أي اتجاه ترى إنتاجك القصصي ينتمي؟
n ـ أترك ذلك للنقاد:
ـ أدونيس: « نعم، إنتاجك يعجبني»؛
ـ صبري حافظ: « غنائية شعرية»( مجلة الآداب)؛
ـ محمد روميش: « واقعية ناضجة»( مجلة المجلة)؛
ـ إبراهيم الخطيب:» تجريبية في القصة»( آفاق، المغربية)؛
ـ محمد شكري: « أبعاد ميتافيزيقية»( م. الآداب).
p ما هي الاهتمامات الأساس التي كانت تشغلك دون غيرها في قصصك؟
n تعلم أني استطعت أن أقضي بإرادتي عدة شهور في البيت، ولم أغادره إلا لماما. كنت إذ ذاك طالبا بكلية الآداب، قسم الفلسفة. حرت وتساءلت عن أشياء تخصني وتخص العالم من حولي. حاولت أن أعبر عن ذلك في رواية» أرصفة وجدران»(1974) وجاءت الرواية ضعيفة البناء، غير أنها محاولة لإثارة بعض القضايا الجوهرية في حياة شخص يحس بانفراده وبضعفه وقوته معا، أمام الضغط الاجتماعي وعقدة الاضطهاد. في هذه الفترة بالذات، كنت قد فقدت الثقة بكل شيء، حتى بنفسي. ناديت على والدتي، وقلت لها:» كيف تثبتين لي أنك أمي؟»، ولأنها لم تفهمني، فقد بكت وانسحبت إلى غرفة أخرى، وسمعت بكاءها. عبرت عن ذلك، وحاولت أن أعبر عنه في « أرصفة وجدران» وفي قصص أخرى متعددة. كانت هذه هي الفترة حقيقة ذات أبعاد ميتافيزيقية، وكانت النتيجة عدة قصص:» الموت وما بعده»، « الدفن»، « الشمس تشرق مرة واحدة»،» النتوءات» و» الطريق إلى غرفة مضيئة» و» العصافير» وغيرها. ولقد بدأت ملامح هذا الاتجاه مبكرة عندي في قصص قصيرة كتبتها في سن العشرين، مثل « حالة» و» عربة الأطفال الصغيرة» و» غدا يموت العالم» و» أحزان النساء». في هاتين القصتين الأخيرتين حاولت أن أظهر فيهما نزوعي نحو التجريب في سن مبكرة. كان لذلك كله ارتباط برفض عام لجميع المقولات الجاهزة التي كنت قد بدأت في تخطيها وتعويضها بمقولات أخرى نابعة من فردانيتي. ونصل في النهاية إلى أن القصة كانت بالنسبة لي مقرونة بجو نفسي عام وخاص، أي أنها دائما وأبدا كانت تقف بمثابة المتنفس الوحيد وكذا المنفذ إلى مخرج للخلاص. وقد كان لهذا التيار الذي سرت فيه امتداد، إذ اتضح لي أن القصص التي كتبتها في ما بعد تضرب على الوتر نفسه، بمعنى محاولة الجمع بين اهتماماتي الميتافيزيقية المحض، وبين اهتماماتي الأخرى التي تندرج ضمن تيار آخر عام، وهو الشعور بأني منخرط بالرغم مني في هيئة كبيرة اسمها» المجتمع»، لذلك جاءت قصصا متضاربة المحتوى أحيانا ، وقد يبدو للناقد أنها ليست مكتوبة من طرف كاتب واحد، بل من طرف كاتبين، أو أكثر. خذ على سبيل المثال قصصا كتبت في فترات متباعدة دبجتها يراعة شخص واحد بعينه، منفعل وفاعل ومتفاعل: «أنشودة المساء الحزينة»؛ «الحصان البشري»؛ «مدى منتشر لكنه قفر»؛ «المستقيم والمنحني»؛ «عندما تدليت من فوق»؛ الطفل والكلب»؛ « في الظهيرة وكانت الشمس»؛ الخ، وتتوج هذه المجموعة كلها قصة طويلة نسبيا تحت عنوان:» الديدان التي تنحني» حاولت أن أجمع فيها كل شيء: أسلوب السرد المبسط، المونولوغ الداخلي، الوصف الفوتوغرافي، الحوار عير المترابط،( هذا من ناحية الشكل)؛ أما من ناحية المحتوى، فهو دائما نفسه: التفسخ العائلي، مصير الإنسان (بالمعنى الفلسفي العام، وهذا موضوع ألح عليه دائما)، التفسخ الاجتماعي، العُرف، بمفهومه الباسكالي وارتفاعه فوق الدين والواقع والإنسان نفسه (يؤخذ مثالا: رواية:» شيء غير متوقع ولكنه ضروري»، وقصتا « الموت وما بعده» و» الديدان التي تنحني».
p كيف ترى صراع القوى الاجتماعية وانعكاس هذا الصراع على المثقفين، وهل تبلور شيء منه في إنتاجك القصصي، وكيف؟
n عندما حصلنا على استقلالنا سنة 1956 الذي لم يكن تاما، إذ أن بعض المناطق كانت تحت قبضة الاستعمار، كان طبيعيا أن تمر البلاد من نفس الطريق التي مرت منها البلدان حديثة العهد بالاستقلال. لقد تحول كثير من المناضلين والوطنيين في السابق إلى فئة جشعة، لأن هذه الفئة أرادت جزاء عما قدمته من خدمات ضد الاستعمار، فبدأ توزيع الغنيمة وذهب المواطن العادي، الأمي، الجاهل، ضحية لهذا الجشع، وتكونت عندنا بسرعة بورجوازية وطنية احتكرت بسرعة البرق واستولت على الأجهزة التي خلقها المستعمرون، فوزعت الأراضي المسترجعة على صنف من الناس دون غيرهم، واحتكر تسيير بعض الشركات أناس، بينما صار الآخرون في عداد المستخدَمين. ووقع التناقض والصراع. غير أن هذا الصراع لم يظهر إلا سنة 1961ـ 1980 بوضوح، فلما أفاقت فئة من غفلتها ووجدت نفسها مهضومة الحق، وكان نصيبها من «مكافأة» الاستقلال ضئيلا، أعلنت التمرد والثورة.
هذا هو تفسيري بصراحة لهذه الفترة. أما انعكاس ذلك وأثره على المثقفين، فقد كان واضحا جليا، ليس على مستوى الأدب والكتابة فقط، ولكن على مستوى الحياة العملية. ظهر في هذه الفترة أدب رديء مقلد للأدب المصري الرديء الذي كان يُكتب قبل ثورة 1952( أعني ذلك الأدب الرخيص غير الناضج فنيا)؟ أدب يتحدث عن الحب والخيانة والتطلعات البورجوازية لكن بأسلوب رديء فج. وأحس هؤلاء المتأدبون كأنهم يعيشون في جنة عدن وأنهم بعد حصولهم على الاستقلال لم يعودوا في حاجة إلى الالتفات إلى المجتمع، بل أصبح همهم هو إفراغ مرضهم النفسي على بعض القراء على قلتهم. ونظرا للمرحلة التي كانت تجتازها البلاد، فقد كان من المستحيل العثور على مفكر حر في ذلك الوقت ينبه إلى خطر الظاهرة. وسوف ننتظر خمس أو ست سنوات أخرى ليظهر بعض الشبان الذين سيسلطون الضوء على الأخطاء الشائعة والكثيرة التي برزت على شتى المستويات، ولست في حاجة لأن أعدد أسماءهم، لأن معالم تفكيرهم لم تتحدد بعد، وكل ما يميزهم هو هذه الثورة العارمة، وهذا الرفض القار، الذي واجهوا به التعفن على المستويات كافة.
لقد كانت فترة 1959ـ 1961 فترة غياب كلي عن الشعور بالواجب. وفي هذا الوقت بالذات ارتكبت بعض الفئات» الثورية» أخطاء لا تغتفر.
بقيت هناك كلمة أخيرة: بعد سنة 1961، وبعد الحوادث المعروفة[ إشارة هنا إلى حملة اعتقالات واسعة طالت أطر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وأحكام إعدام صدرت في حق بعض قادته، منهم من فر إلى الخارج، المهدي بن بركة بالذات، بتهمة التآمر على الحكم] لزم كثير من المثقفين الصمت، وباع بعضهم نفسه بثمن بخس، ولكنهم لم يكونوا مثقفين بالمعنى الصحيح. كانوا متربصين بالفرص وانتهازيين، وأعتقد أن الوقت لم يحن بعد لتسمية الأشياء بمسمياتها.
p هل تعتقد أن القصة القصيرة في المغرب استطاعت أن تصبح فنا راسخ الجذور؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الاتجاهات أو التيارات التي تتفرع إليها؟
n لست أدري بالضبط ما هو المقصود بعبارة» فن راسخ الجذور». إذا كنت تريد النضج، فإني أقول: إن القصة القصيرة في المغرب تختلف من ناحية القيمة الفنية والفكرية عما وصلت إليه القصة في العالم العربي على الخصوص، وأوروبا بصفة عامة. إننا نجد بعض القصص القصيرة ذات مستوى رفيع، وهي كثيرة ومتنوعة ذات مرام واتجاهات مختلفة من ناحية المحتوى يسوءني أحيانا أنني لا أجد التصاقا تاما بالبيئة المغربية. وأعتقد أن ذلك راجع إلى قلة من يتعاطى هذا الفن، ونظرا لانتشار الأمية والجهل في أرجاء المملكة. هل تستطيع أن تدلني على روائي صحرواي عندنا يصور هذه البيئة وينقلها إلينا ويسلط الضوء على تلك المناطق النائية في الجنوب أو الشرق. وبالمثل، هل هناك كاتب أو قاص استطاع أن يستوحي قصصه ورواياته من جبال الأطلس أو جبال الريف في الشمال؟ لشد ما تعجبني تلك القصص ذات الطابع المحلي المحض شريطة أن يتوفر المستوى الفني. إنها تشعرك أنك أمام كاتب مقتدر، خبر الوسط الذي يكتب عنه، واستطاع أن يمرن ثقافته ويجعلها قادرة على استيعاب تجاربه وخبراته ومشاهداته. تعجبني بهذا الصدد بعض قصص محمد شكري من طنجة، ومحمد بيدي، وإ. الخوري من البيضاء ورفيقة الطبيعة. وبغض النظر عن الإطار الفني الذي صبت فيه هذه القصص، فإن قيمتها تكمن في نقل حركية وسط معين، وتسجيل عادات وأعراف وقيم أخلاقية كان من الممكن لها أن تمحي لو لم يترصدها الكاتب. لا يجب أن يفهم من هذا أني أدعو إلى الوثائقية في القصة، ولكني أدعو ـ وهذه دعوة قديمة ـ إلى الارتباط الأصيل بالوسط الاجتماعي ومحاولة سبر أغواره. مثلا، إن رواية» سبعة أبواب» لعبد الكريم غلاب رغم أسلوبها ولغتها اللذين يعتمدان البهرجة والتزويق في اللفظ، والعناية بالفصل والوصل على حد تعبير الجرجاني، استطاعت أن تسجل بأمانة فترة معينة من تاريخ وطن. ليس هذا فقط. ولكنها نقلت أعرافا وعادات ونظاما اجتماعيا، يعتبر غريبا كل الغرابة بالنسبة للجيل الطالع. ومهما يكن مضمون الرواية السياسي، فإنها استطاعت أن تجد لنفسها مكانا في تاريخ الأدب المغربي، ولعل قيمة روايات إدريس الشرايبي تكمن في تصوير المجتمع المغربي تصويرا يتميز إلى حد ما بالدقة والعناية. إن هناك محاولات جادة من طرف بعض الكتاب الشباب، وأعتقد أنهم سيستطيعون في مستقبل قريب شق طريقهم رغم كل العراقيل والمحاذير في وجوههم. ولقد أغرت هذه الحركة القصصية كثيرا من الباحثين الجانب والنقاد، فقدمت عدة أطروحات جامعية عن فن القصة في المغرب الأقصى، وقد أحرز طالب إسباني على الدكتوراه بميزة جيدة لتناوله موضوع القصة عندنا، كما قدم في الاتحاد السوفياتي الطالب أوكتام كاليكوف أطروحته عن القصة المغربية، وفي المغرب قدم أحمد اليبوري رسالة ماجستير في الموضوع نفسه. واهتم شتوان بوكا من المجر بهذا الفن، وقدم قراءات قصصية، ودرس هو وطلبته قصصا لكل من محمد ديب ورفيقة الطبيعة وربيع وغلاب وزفزاف. وأخيرا وليس آخرا سيتقدم الطالب المغربي أحمد المديني قريبا في الجزائر ليناقش أطروحته في موضوع فن القصة القصيرة في المغرب.
بدأ زفزاف محاولاته الأدبية البكر بكتابة قصائد عمودية ومن الشعر المرسل، منها:
ـ أغنية الرماد (مجلة آفاق، ع 4، 1963).
ـ صليب وأمل( مجلة أقلام، ع4،1964).
ـ الغير (جريدة العلم،11 مارس، 1968).
ـ نكرولوجيا ( مجلة» شعر» بيروت،1969)، وهي أنضج قصائد النثر بتنويه يوسف الخال.
بين 1965 و1969 انتظم بكتابة مذكرات صحفية، بجريدة العلم (الرباط) وضع لها عنوانا عاما هو:» يوميات على الطريق». وكانت جريدة العلم وقتئذ تنشر نثريات مماثلة عبارة عن خواطر وانطباعات عن الحياة والمجتمع وبعض الهواجس الذاتية، لكتاب من فريقها هم عبد الجبار السحيمي، وعبد المجيد بن جلون، ومحمد العربي المساري، بصفة خاصة. بيد أن زفزاف لم يقتصر في هذه المحاولات على نهج كتابة الخواطر، ليكتب مقالات ذات منحى أدبي ونقدي، وقفنا على عديد منها في العلم ومنابر مختلفة، نسجل منها الآتي:
ـ تعليق على قصائد، آفاق، ع3،1963.
ـ من الشعر الفرنسي، مجلة دعوة الحق، ع7، 1964.
ـ أشعار من المنفى، العلم، 4 نوفمبر، 1965.
ـ التجربة الشعرية عند عزرا باوند، العلم،24 سبتمبر،1965.
ـ التزام الشعر، العلم،5 نونبر 1965.
ـ مفهوم الشعر عند كلوديل، العلم، 17فبراير، 1967.
ـ مفهوم الفن الشعري(قصيدة فرلين)، العلم، 20أكتوبر 167.
ـ دراسة لديوان» أشواك بلا ورد» لمحمد بم دفعة، العلم، 20 نونبر،1967.
ـ النموذج الثوري في شعر البياتي، العلم ،1 نونبر1968.
ـ عن النقد الأدبي، العلم، 4غشت،1968
ـ الشعر والثورة، العلم، (العلم الثقافي)، 19مايو، 1972.
ـ من أجل نقد أدبي صحيح، المحرر،9 مارس1975.
ـ بليز ساندرار ولعبة الشعر القديم، جريدة المحرر، 13 غشت،1975.
من الانتقال بين عناوين هذه المقالات يمكن للدارس أو المتتبع ان يلحظ، أولا، كيف أنها تطرق جميعها مسائل وعناوين أدبية حديثة. كونها ثانيا، موزعة بين الأدبين العربي والغربي. وثالثا، أن مناط الاهتمام غربيا هو الأدب الفرنسي. وقد كان زفزاف من القلائل جدا من أبناء وأدباء جيله الصاعدين ممن ازدوجت ثقافتهم، إذ غرف قراءة من الأدب الفرنسي، شعرا ونثرا، وهو ما شحذ تدريجيا موهبته القصصية، ودفعه إلى ترجمة عديد قصص لكتاب واقعيين. لذلك ينبغي لمن يدرس قصة زفزاف أن يستحضر هذه الثقافة وينتبه إلى تأثيرها، وذلك خلافا لغيره مثل مبارك ربيع، محمد إبراهيم بوعلو، أو إدريس الخوري، اقتصر تعليمهم أو قراءتهم على اللغة العربية وحدها، وهذا واضح في نوعية إنتاجهم.
الأعمال القصصية:
بدأ محمد زفزاف يشر قصصه منذ نهاية حقبة الستينات، في منابر مغربية محدودة، وخارج المغرب، بين القاهرة ودمشق وبغداد، حيث تم الاعتراف مبكرا بموهبته، بين كتاب مرموقين.
وقد نشر المجاميع القصصية التالية:
ـ حوار في ليل متأخر(باكورته)، منشورات وزارة الثقافة، 1970.
ـ بيوت واطئة، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1977.
ـ الأقوى، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1978 .
ـ الشجرة المقدسة، الدار البيضاء، 1980.
ـ غجر في الغابة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982.
ـ ملك الجن، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،1988.
ـ الملاك الأبيض، الدار البيضاء، منشورات عكاظ، 1988.
ـ العربة، الدار البيضاء، 1993.
ـ بائعة الورد، الدار البيضاء، 1996.
الأعمال الروائية:
ـ المرأة والوردة، منشورات غاليري(سلسلة الكتاب الحديث)، بيروت،1972، تلتها طبعة مغربية سنة 1981.
ـ أرصفة وجدران، منشورات وزارة الإعلام (سلسلة كتابات جديدة)، بغداد، 1974.
قبور في الماء، الدار العربية للكتاب، ليبيا ـ تونس، 1978.
* تستوجب الدقة منا أن نسجل تاريخ صدور هذه الرواية، والإحالة إليها في منبر آخر؛ فهي نفسها تحمل عنوان:» شيء غير متوقع ولكنه ضروري» مجلة شعر، بيروت، 1969.
ـ الأفعى البحر، المطابع السريعة، الدار البيضاء، 1979.
ـ بيضة الديك، منشورات الجامعة، الدار البيضاء، 1984.
ـ محاولة عيش، الدار البيضاء، 1985.
الثعلب الذي يظهر ويختفي، منشورات أوراق، الدار البيضاء، 1989.
ـ الحي الخلفي، الدار البيضاء، 1992.
ـ أفواه واسعة، الدار البيضاء، 1998.
نصوص مسرحية:
ـ بيت الرامود، ( العلم، العلم الثقافي)1969.
ـ الكلب مقتول على الرصيف، مجلة المعرفة، ومجلة اللوتس، دمشق، 1972.
ـ ما حدث للشاعر فرنسيس جام في جنوب المغرب، مجلة الأقلام، بغداد،1976.
ـ أسماك وعصافير ملونة وأشياء أخرى، جريدة الاتحاد الاشتراكي، الدار البيضاء.
وضع القصة في المغرب الأقصى - AL ITIHAD
حوار شامل مع محمد زفزاف أجريت هذا الحوار مع زفزاف بتكليف من القاص والناقد المصري يحيى حقي(1905ـ1992) وهو وقتئذ
alittihad.info