إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
أسرة موقع الناقد العراقي
أيّ مرمىً بعيد كان السنافي يتوق إليه كأن يلعقَ بلسانه الدبق عسل الجسد الفاتن، بكل ضراوة الكائن المقهور – ويهصر الخصر الرخص بكفّيه الخشنتين – تلك الفاتنة التي كانوا يسمونها فاطمة الصفراء: المشعة كالذهب والمتلألئة كالهالة الخاطفة ترقد الآن على حشائش البر المظلم – وتنتظر أن يقيء كل عفوناته الفجة على جسدها اللدن خارق الجمال. فاطمة كلها الآن بين يديه: خائرة ذلولة، مهيضة الجناح – بعد أن قامر من أجلها بكل ما يملك من: ذهب التهريب وأثمان الأسلحة النارية – لكي يقبض بإحساسه الوحشي على حريق الحلم الغادر: فاطمة بعينيها النجلاوين اليقظتين وشقرة رمشيها الباذخين وشعرها الكثيف المصفف كتلاً معقوصة بلمعاته الذهبية وهو يضفي على وجهها المستطيل المكابر غابة من الغموض الآسر/ ولم يجانب المغرمون بها كبد الصواب حين لقبوها بفاطمة الصفراء مليكة السواحل، فهي تخطر عبر الليالي البهيجة بقامتها الفارعة يلفّها الوشاح المطرّز بأطواق الفضة، بصحبة قباطنة السفن، أو قراصنة البحار ورجال الأعمال الأجانب – لم يرها احد يوماً بصحبة رجل من رجال الوطن الساحليين – لذا كان الصيادون يتندرون بأفواههم النتنة: إن مطربة الحي لاتطرب – وفاطمة الصفراء قد خصّت رجالهم في خيالها المريض وأنزلتهم من حساباتها … مما حدا بالسنافي أن ينتفض في سرّه ويغيب عن الساحل ومقام الصيادين طويلاً.
البوادي كلها للذئب الطليق
دخل السنافي من أقصر الطرق وأخطرها حين نفَّذ أول ضربة تهريب ناجحة – فمن كان يظنّ أن الأعور الوسخ يقود سيارة الشفروليت بدون أرقام، ولا مصابيح، ويفوج ليلاً حيث القمر الغائب عن الصحراء والوقت شتاء والسماء تنذر بهطول المطر، وهو يقتحم البادية المنخفضة – تُطارده كلاب الرعاة والدوريات الخاطفة والذئاب الكاسرة ولم تظفر به (شهور انسحقت وأيام انهدرت حتى ظفر السنافي بأول بارقة نجاح حين كلفه احد الرجالات في البادية بصفقة التهريب – وبعدها جاء متخفياً إلى المدينة وغسل عفن جسده في الحمام العمومي وقد شرع يدلك له جسمه صبيان بوزرتين مزركشتين – ثم جاب المدينة متخفياً بزيّ عربي: دشداشة رمادية وكوفية حمراء وعوينات سود).
كانت دربه للخمرة على حدة، ودربه لليقظة على حدة
إذ شرع السنافي أن يشق لنفسه درباً مظلّلة بغاب الخيال – درباً ملتوية لا يعرفها سوى أصفيائه المغمورين. تكررت غزواته وقد وثق به رجال البوادي المهربين حين صار مثلاً للجسارة وخرق الحواجز.
الإسفنجة الحجرية
كانت فاطمة امرأة ساحليةٍ، غامضة السيرة، وغيابها الطويل عن مشهد المدينة يضفي على سيرتها ألغازاً وأساطير – فهي إضافة إلى كونها خارقة الجمال كانت تضنّ بنفسها على أبناء جلدتها حتى ولو كان أحدهم أغنى الأغنياء – وهي بذكراها البعيدة تثير اشتعالاً محيّراً بالأفئدة المنفعلة التي تركع وتصلي للفتنة والجمال، وكانت بحق من السبائك النادرة جداً، وهي أنموذج للمرأة الكيّسة، الراقية، المتمنعة، البعيدة المنال – وأغلب شباب الساحل كانوا متعطلين أو بحارة سفن، أو صيادين فقراء من جوّابي السواحل، فقد كانوا يضمرون لها حسداً وحقداً عنيفين – كانت بالنسبة إليهم تمثل القمة، فكيف الوصول إليها..؟ والصدود لا تنتهي، إنها عادة تختفي في مراكب البحر/ وذات ليلة وضّاءة لمح السنافي تلك الهالة الخارقة التي يسمونها الصفراء في لحظة جمال فريدة فأطلق زفرة طويلة وراح يدمن الخيال فيها، ظلّ يمتصّ كبواته ولذائذه كالإسفنجة الحجرية التي يتكلس عليها غبن الروح ومع ذلك تمتص قطرات الجرح الذي لا يندمل.
الزبالة والمخيلة والفعل العجيب
يوم كان السنافي شريداً بعوزه وانخذاله، وبعينه الواحدة المستفزة، وهو يثير التقزز في نفوس الآخرين، وصلت حاله الكسيحة إلى التلوي مخموراً في أقصى المزابل المغمورة بالذباب ودخان النفايات متمرغاً على الأوراق النتنة والزجاجات الفارغة والخرق الجائفة يعصره القهر والحرمان ومع كل تلك المحنة والارتباك حيث الغوص في أسفل قاع الحياة المرير كانت هناك جرثومة حية تتحرك بجسارة وتمور في الينبوع المتدفق تحت صخور القلب العملاقة (لقد طاف به خاطر سريع، غامض، كالقدر الأهوج: هي مرة واحدة يا سنافي يعبر بها الإنسان على جسر الأرض ليغزو صحارى الحياة وغابات الواقع الملتحم ثم يلفظ أنفاسه وحيداً مثل ذئب اجرد يتلاشى في هجير الفلوات الموحشة/ كلنا نموت يا سنافي وعار الإنسان هو القهر والخذلان – فما عليك سوى أن تغزو/ والغزوة الأولى رغم فجائعها ومآسيها لا تخلو من جمال،،)
كانت تلك الكلمات تبرق كندى الثلج الأبيض الكثيف وتتلاشى سريعاً في شحوب الحلم السريع البارد – وبعدها تقوم القيامة ويشتعل فتيل الحريق في روح السنافي الجسور الممرّغ بنخاع الجيفة – ووثب في جوف الظلمة وقد تراءت أمامه هالات الموج والنور والعري الذهبي ونشيد انتصار الكائن المسكر، وهو يبطش بلحوم النساء، وأكداس الأطعمة الفريدة، إنه وقت مضى منهزماً أمامه إلى غير رجعة – حيث المزابل الغاطسة والأرصفة الذليلة، مكانها فقط لخطى الخانعين.
إغارة الفاتح وانتصاره العاصف
هاهو يسلك الطريق البعيد، ولو تأملنا قليلاً في تاريخ فتوته لرأيناه مدمن سينما من الطراز الأول – كان مبهوراً بأفلام الرعاة الهوليوودية وأفلام القرصنة العنيفة، إضافة إلى ذلك وعبر تجوالاته المديدة وهو يتصفح المجلات الملونة ويخالط عصابات المدن الساحلية والبحارة الأجانب وشذاذ الآفاق حتى إذا رأى تظاهرة عارمة كان يقذف بنفسه في جوفها متضامناً مع الجموع الصاخبة – ولكنه في أواخر النهار، يلوذ بنفسه ويسلك الدرب الوحيدة، العزلاء، للكائن المجرد من الأسلحة التي يواجه بها ضربات الحياة.
وباختصار، كان السنافي قد اكتسب قليلا من التمدن مع ثلة من أصدقائه، بائسي السواحل وفقراء الأكواخ الصيادين.
(بعد عمليات سريعة صار بجعبته المال، لكن المال القليل لا يكفي. وفكرة المال نفسها لا تكفي . والنساء وحدهن لا يكفين. إنما ترسخ به خاطر الغزو، وجرثومة الفعل، الطافح، المتدفق/ والجسارة الغامضة، والاندفاع الأهوج صوب أكثر المجاهيل غموضاً).
شرع ينفق المال، مراوغاً، لأجل صيد اخرق، فكان يصرخ في أعتى نوباته: كل كلاب البراري السائبة أنا اشتريتها. اجمعوا لي كلاب الحدائق المسلسلة، أو المسعورة، والجبانة، والكلاب الجرباء، كلها أنا اشتريتها – فكان السنافي لا يملّ من الشراء مما حيّر رجال البوادي المهربين: ماذا هناك ياسنافي..؟ أي جُنون هذا.؟
– لا عليكم.
هكذا أجابهم وذهنه الشارد يُحلّق في أبعد الأهداف. وظلّ يخفي الكلاب في أقفاص حديد واسعة وأعدّ العدة شهوراً يحشر الكلاب حشراً، يجيعها حتى تعترك وتصطرع وتدمى فكوكها وعيونها وخطومها وبعد ذلك يفسح لها المجال بنقل قسم منها إلى قفص آخر ثم يقوم بإطعامها حتى الشبع الكثيف ليعيد الكرّة ثانية بتجويعها وحشرها حشراً في جموع عاوية وقد كلف عليها رجلا ملثماً، بلا شكل واضح يقوم بإطعامها قليلا من اللحوم.
أكمل رجاله ثلاثة أقفاص تحوي تسعين كلباً، وكل قفص يسع ثلاثين وقد جرت العملية بعد جهد محموم من المران والترقب والانتظار. (وكان يوم عيد حي فالمخافر الحدودية شبه خالية، والسنافي يزحف ليلا ويقود ثلاث سيارات مكشوفة عليها ثلاثة أقفاص حديد مكتظة بالكلاب المصابة بالسعار… الأضواء مطفأة: السيارتان الأولى والثانية تزحفان على الرمل الأملس المرصوص/ وعبر وثبة ترقب رفع رجاله البوابتين الحديد للقفصين المحمولين فوق السيارتين ثم شرعوا يغرزون أسياخ الحديد بجسوم الكلاب المستفزة: وطفقت هاربة كالأسماك اللابطة تحت انفساح الموج الهفهاف/ كانت تتوثب باستقامات صاروخية واندفاعها المحموم صوب المخفر الخافت الضوء يجعلها تهدر بسطوة الوحوش المفترسة/ لقد وهمت أزلام الكمارك القليلي العدد تمزق وتبطش بالذي أمامها ويلوذ الآخرون بالفرار – ثم تأهّب رجاله لمسح الفضاء القريب بعد سيطرتهم الفعلية على المخفر، تحوّطاً لأي طارئ مفاجئ بعد أن فتحوا القفص الثالث وهرعت كلابه تعوي في الهواء الفسيح دفاقة كالموج الرمادي وهي تتلاشى على كل المديات والاتجاهات صوب المراصد والثغور الخالية ثم تغيب في أبدية الرمل والظلام.
كانت العملية معدّة والبضاعة على الخط الحدودي بالانتظار، جرى ذلك ضمن مخطط دقيق وتوقيت منضبط: حينئذ مرّ رجال البوادي بالبضاعة ظافرين/ تلك العملية الجنونية صارت مثلاً يتغنى به رجال التهريب في كل مكان/ ورفل رجاله بالأثمان الباهظة وأكداس الحرير وسبائك الذهب.
غيبة السنافي السريعة
في مجاهيل المدن والحياة والزمن
كان السنافي وبإلهام فجائي قد أوقف مغامراته الليلية: حيث أدرك بحسّه الحذر وخياله المتدفق أن اسمه قد صار معروضاً على كل مخافر البلاد الحدودية ودوريات الكمارك ومراكز الشرطة، وان أي سقطة في أول كمين منصوب تعني النهاية المحزنة والفجيعة المخجلة، لذا صار لزاماً عليه أن يتخفى بزيّ آخر، وباسم آخر، وأوراق ثبوتية أخرى، وفعلاً غادر بلمح البرق وكثافة زمن محتدم/ متسارع، مائع حيناً، حديدياً حيناً آخر، ولكنه، أي الزمن، يبقى قاهر الأحوال والمال والرجال، فصار السنافي مجرد نقطة باهتة، متلاشية في تراب الريح والمسافات.
ظلت أجنحة المدينة المطوية المنضغطة برتابة الحياة يجلّلها سكون أقرب إلى الموت البطيء/ حتى إذا مرّت المليكة بمهابتها وأحدثت تلك الرعشة، قل الصدمة والقشعريرة والدفقات العنيفة في دم الأجساد والعقول/ حينئذ تتألق العيون الراكدة وتنبعث الصبوات وينتفض كل سكير وصعلوك ومحروم – بعدها الكل يستحم بشعاع السنافي وذكراه التي لا تموت عبر غزواته ومعوناته التي لا تنسى – فيبدأ زفير الحسرات – حسرات ما بعدها حسرات –.
ـ أين أنت يا سنافي – هاهي المليكة، العصية على قلبك الجسور تتخايل بأذيال ثوبها المورد بالنجوم تمسح به تراب ساحلنا الحزين – اخرج لتر جمالها وكأنه لا يفنى أبد الآبدين – أين انتهيت وضعت وضاع حلم عمرك الجميل…
(وذات يوم حزين وبارد، ماعت فيه الشمس، وذبلت وأرخت شعرها الليموني على الحيطان – عاد السنافي متلبساً بثوب رجل أخرق مأفون: كان يمثل دوراً اقرب إلى العته والخبال– وفي حانات البحر حيث الحياة تتقطر كحبات الندى، وتتمايع – واهنة، ناحلة كالأفاعي المتخمة بأثقال الشبق – وهناك في أقصى زاوية خافتة يكرع السنافي بيرته المثلجة ويقضي لياليه الحمراء متخفياً بصخبه السري عبر الخطى الأكثر سرية لينتزع رفاق صباه الصعاليك الميامين كالشعرة من العجين/ ولكن ظلت في مكنونه حسرة ما بعدها حسرة وهي – طريقة الوصول إلى قمة الوجود العالية – وكيف يمكن الوصول إلى فاطمة المحصنة كالقلعة التي لا تدكّها مدافع السنين / لذا كان يتلفت يميناً وشمالاً، ينفق ويرشي، ويطأطئ الرأس المكابر أحيانا من اجل الوصول إلى قوادتها ونسة/ والأخيرة تطرد وبشراسة كل الوسطاء المرتشين/ وحين ارتفع الرقم المعروض وفاحت ضخامة العرض بدأت ونسة تلعب لعبتها فسألت الوسيط:
ـ واعورار عينه..!؟ أولا يعرف السنافي حجمه الحقيقي ومكانه المكين أمام المليكة الصفراء خالبة لبّ السواحل.
كانت ونسة تناور بدهاء القوادة الأصيلة، لتعقد اكبر صفقة في تأريخ السمسرة وبشروط شبه تعجيزية.
(أواخر الليل وزجاجة الويسكي المستكينة يتركها السنافي إلى النصف، وينهض – يمشي وحيداً فوق الرمل المبتلّ بمياه البحر، وقد كان مهموماً يداعب قدميه الموج، ثم قفل راجعاً إلى زاويته الموحشة، وحيداً، يرود به درب متعرج مظلم: هنا طاف به خاطر آخر: انتهت يا سنافي مغامرة المال وحان الوقت لقطاف المليكة من غصنها العتيد/ هرع السنافي يستحضر أمواله – يذلها، ويستجمع أرصدته، ليذيبها في بوتقة الذهن المنفعل إلى أقصى غايات الانفعال – وكانت قدحة الفعل…!
ـ فاطمة ولا شيء في الكون غيرها.
ظلت ونسة تبتزّ منه المال، بالتدريج، وهو يرخي لها الخيط حتى كان الرقم الخيالي المتفق عليه – ولا يعرف سرّه أحد، إلا ربّ العالمين – وتم موعد الوقيعة واللقاء الذي سيكون– وقد كان..!
قيامة الجسد الكبرى
المليكة معرّاة تماماً في ظلام الصحراء الفاحم، كان السنافي يلثم فاهاً متحرجاً، ومضطرباً اشدّ الاضطراب/ ثمة الهواء البريّ الضاغط/ وبياض الأفق المعلق، وخيوط الحلكة المفككة التي يفتت الهواء ظلموتها البارد. كلها تزرع شوكة الخوف في قلبه الراعف. وماءت فاطمة تتمنع كالقطة السيامية الثقيلة، وشرع يسكب في فمها كأساً من الخمر المحلاة بالسكر والهيل فطفقت أنوثتها تتدفق سيالة – كانت قد مدّت جسمها الفارع، على طوله، والهواء المتململ، الذلول يتمسح بعُريها الخلاب. أخذ يحبو قربها مثل كلب شبق، عنيف وهو يدلق الخمرة الفاخرة على طول جسمها الهائل وهي تتململ وتتمغط (لا أحد يصدق – آ، أهكذا تمضي الأمور وتسقط ثمار الوجود الذهبية في فمك الكريه يا سنافي..؟ هل أنت حي أم ميت..؟ والمليكة المطهمة بعناقيد الفردوس وخرز اللحم الفيروزي تنام قربك..؟ لامس جسمها بلسانك وتأكّد هل إنها المليكة بدمها ولحمها أم أنت مجرد حالم مفلس وتلك الهذيانات هي وليدة أحلامك الشوهاء..؟).
وغاص أكثر في المغامرة، إذ هبطت على خياله الجامح فكرة انسكبت مثل سحابة عاهرة على ذهنه المورّم بالجموحات: سأدعو كل رفاق العمر المحرومين وأستلّهم من خرائبهم المأمونة، ومن فوق تخوتهم المحطمة ومن خاناتهم المخنفسة بعطن الظلام – أقتادهم إلى ليلتي الهائلة لينهلوا من عبق الفردوس الأرضي، يا إلهي، وكان السكر قد تعتعه، ثم بعث بالسائق يدعو سبعة من أصفياء العمر الأفذاذ الذين أدمنوا الأحلام المفلسة – وكان السائق يعرف زواياهم، ودروبهم الضائعة كلها.
(طلبت منه القوادة ونسة في بادئ الأمر أن تكون المطارحة في أرقى الشقق الساحلية ولكنه أبى بعناد وصلابة:
ـ أنا ابن البراري الفسيحة والسواحل الرطبة والليالي الممتدة على رمال الحرية… لفاطمة الأمان وسأفرش لها البرّ زهراً، وفوق حشائش الربيع العطرة سأذلل لها الأفرشة الفاخرة والنجاد المطرزة وسيكون مقامها مكيناً وأميناً في منخفض ساحر– يا ونسة ثقي، لفاطمة الأمان، كل الأمان – وكان للسنافي ما أراد.
غربة الدخول إلى المليكة المغزوة
احتشدوا سبعتهم في البر المظلم، الزاخر بالهواء النقي البارد – ومن فوق الفراش النائي المرصّع بالزجاجات وطوق الجلسة العامرة بضغط الخمرة والشهوة.
تدفق الرجل الأول بكل حرمانات السنين، وقهر الأبدية – لقد غزاها بعنفه الأخرق – وهي تلعن السنافي وتبصق في الهواء عليه، وعلى امتهانها، وخيانة ليلتها، وخسّته وغدره المفاجئ بإدخاله أغراباً عليها/ كان ذلك الرجل ثملاً طافحاً بالفحولة/ وأنثى الطبيعة تنحني لقوانين الظلام الغامضة، كان قد انحنى يقبل قدميها البيضاوين باندفاع الكائن الأخرق، وسهم الخمرة ينغرز في وسن العقل. كان الهواء صافياً جداً ويتغلغل كالضوء الدبق، المتخثر في التصاق الجسدين/ وحين أقدم عليها الرجل الثاني، كان مأفوناً بحق، وغارت عليه عاصفة المفاجأة فشرع يقبل يدي السنافي ورجليه على تحقيقه اكبر أمنية من أماني العمر التي لا تتحقق إلا في أفلام السينما/ ثم غزاها الرجل الثالث بعد أن غاب صاحباه في نشوة الشوارع الوردية – قال الرجل الذي يواجهها: لو تأتين معي دقيقة نتوه هناك، تحت الأعماق الوردية ننزل بخطانا العارية – كان كلامه خرفاً، ولم يفعل معها شيئاً فتبع صديقيه وقد كانا يلهجان بإسم فاطمة ويغردان في المقاهي والحانات: يا ناس يا عجايب أخيراً سقطت فاطمة مليكة السواحل في شباكنا فشربنا خمرتها وأكلنا تفاحتها. إنها هناك تتمرّغ في أحضان السنافي وصحبه الشجعان (قرب احدهم وجهه – ماذا تقولان..؟ وأين كنتما..؟ أجاباه فوراً: لو رأيت فخذيها المنعنعين، البارقين كالنصال، وهما يتماوجان بالبياض الطافح، ويتدفقان بشقرتهما القاتلة حيث اللعاب الفضيّ يسيح على صدرها وصدورنا كالزنجبيل لجننت فوراً)-
ولما التقاها الرابع وقد كان أبلقاً كسلوقي يحسّ الضعة والهوان إذ كانت السماء تضغط على قلبه فأطلق قبلة على سرتها المربعة: هذا يكفي – فقط هذا يكفي – أنا غريب وحائر يا إله – وأطلقت فاطمة حشرجة فيها ميوعة وخدر وانفلات هائل من الزفرات العاوية تنبع من أعمق أعماق الأنثى الخالدة – نوحها يذكرك بتلوي الأفاعي الرمادية، الدكناء، والقطط المكبوتة، المنفعلة/ هي ورطة مخجلة يا سنافي، إنها ليست امرأة، إنما هي بقرة مقدسة، ها، ها، وغامت عيناه ليفسح المجال للرجل الخامس الذي تقدم منها منفعلاً:
ـ أنا لا أفعل شيئاً إلا أن ابصق وبحرارة على هذا الجمال الممرغ بتراب البراري الغبراء – تُف – هذا يكفيني/ وظلت فاطمة تبكي/ وحين عاد إلى صحبه قرب الساحل كانت رائحة الإشاعة تزكم كل الأنوف/ وعلى عجل غير متوقع اقبل عليها الرجلان السادس والسابع وكانا ضئيلين إذ راحا يقبلانها بحنو، وحزن، وطيبة، من شعرها، وعينيها، وثدييها وقدميها: اعذرينا يا فاطمة فما نحن من أولئك الأنذال وليست لنا قوة الرجال الأشداء، وفحولة الشباب – لقد مضى زماننا البهيّ – ونحن أمامك مجرد حطام رجلين … مسخين من مسوخ الخمرة وتلافها/ كانا يترنحان، منخذلين، يائسين وقد طفقا يغيبان، ملوحين بأكف ذابلة.
البهجة الورقاء والهاجس المعتم
رفعت فاطمة قامتها الفرعاء المتململة، وتطلعت إلى وديان السماء المشعة بفضة النجوم/ تنحت قليلاً لتسحب أنفاساً سريعة وطلبت كأساً من الخمرة لتطفئ عارها وعريها وخجلها المهين/ غامت عيناها وغاصتا، بعيداً في عمق الأغوار البعيدة. أرادت أن تغفو على العشب النائم وتطلق سعيراً من الضحك الأسود. لمعت سرتها أثناء انغراز مؤخرتها في الحشيش الليّن لتنقلب. كان السنافي ثملاً/ وتعانقا معاً بطريقة ميكانيكية ليغوصا في موجٍ زنخ من الأنفاس الراكدة/ فهو الآن يغيب عن وعي اللحظات الذائبة في قرارة العمر الممتد من هنا إلى آخر زقاق عتيق مدرع بالرطوبة كان قد قطعه طفلاً صافياً عبر المدينة/ ثمة هاجس متبق من كأس مترعة لآخر بهجة من مباهج الليل/ زحف على يديه وهي ترقبه يشم التراب البارد، والشعاع العالي هناك ونداء الساحل الرطب العائم غب ضوء المقاهي والحانات (صرخات صاعقة ودويّ آدميّ. ماذا جرى..؟ الناس تتلفت..؟ إلى كل الاتجاهات وتسأل عن مصير المليكة. وبين صخب وضجيج كان السنافي قد خلع كل ثيابه وشرع يغوص تحت الأنغام الهائلة التي لا تمتّ بصلة إلى الحقيقة/ الآن هو معلق بصلبان الأثير / في الزئبقيات التي تضخّها الأخيلة الجامحة).
رفعت ذراعيها اللدنتين وتراقص زنداها الثقيلان، فبانَ الزبد المشعر تحت إبطيها البضّين/ وساحت فحولته على ركبتيه وخرّ أمام القلب صريعاً/ أمام قلبه المنفعل الملغم بالشبق/ فركت له جبهته – وعلى مضض تجرّعت كأساً أخيرة – ،، تجرّعتها كي تقتل قرفها وسآمتها المريرتين من عفونة جسدها الذي صار مضمخاً بزهر العهر الكثيف/ وحين ضخّ عليها صرعته الأخيرة ركلته بقدمها البيضاء المجلوة بالرشاقة… سقط السنافي إلى الوراء، ولملم الإهانة، وقبل أن تنهض قبض على شعرها الكثيف وشدّه على زنده ، ثم بدأ يسحب، كلاهما عاريان من عرايا الوجود الكثيف المظلم/ وفحّ نبض الصحراء/ وفحّ موج البحر البعيد/ وفي ذيّاك المدى المجهول الأسود صارا يركضان/ وهو يسحب وهي خلفه تركض مثل نعجة يقودها ذئب مارد طليق (فاضت رائحة الإشاعة على كل أحياء المدينة وحانات الساحل: إن فاطمة الصفراء قد خطفوها وشدوا عليها في البر المظلم – وتلقفت القوادة ونسة طعنة الخبر السريع فأسرعت كالبرق المداهم إلى مخفر شرطة الساحل وأعلنت أن المليكة اختطفت من قبل السنافي وحثالته الصعاليك/ خرجت دوريتان مسلحتان تطوفان حول الساحل أولا تترصدان الوضع والخبر/ كان صعاليك السنافي قد تفرقوا وغابوا في الليل المشتعل وخلّفوا ورائهم اكبر الفضائح التي مرّت بها تلك المدينة المطلة على الساحل).
الآن خلا الجو للسنافي تماماً وقرّب شفتيه من فمها وفوجئ ببصقة حارقة تلهب عينيه/ ماذا دهاك يا فاطمة..؟ وفيما هما هكذا عاريان التمعت في البر البعيد أضواء و خبت/ كان قد أنهضها، وطاف بها، في رقص دائريّ أهوج – وفي عتو لهاثهما المجنون كانا يترنحان وحولهما تترنح الأحجار الناعمة البيضاء، والقنافذ الرمادية، وحشائش الموسيقى المنبعثة من دفق الأتربة العارية، والحفر المقفلة بالفراغ وفوقهما عصافير النجوم المزغبة تتساقط كالدراهم الوهمية – حيث الليل الفاحم يتسع وينشطر مع حجم الصحراء ومداها الهائل/ لقد انقدحت كشافات الضوء الباهر، وانطفأت فجأة لكن الإيقاع الحتمي لسرّ البر وأسطورة المليكة العارية بين يديه – كل ذنب ينسيه فداحة الخطر وخوف العارف بمكمنه ومعمعة خرابه وأساه.
عين مطفأة وظلام مديد هائل
قال اركضي، اركضي، أمامنا ثلج الأمان – وكانت هي تركض وتجرجر كفلها الضخم الملطخ بنصاعة البياض، وفي تلك الأثناء أبرقت سيارة نجدة مسلحة إلى مركز الشرطة العام أعلمتهم بكل التفاصيل/ كانت مفاجأة هائلة أن يتصدر اسم السنافي مركز الخبر بعد أن داخت المخافر الحدودية والدوريات الساحلية في البحث عنه/ وبعد غيبة طويلة أصبح السنافي في عداد المنسيين وها هو الآن يطلّ عليهم بعينه العوراء متحدياً/ وبالمناسبة كان أول ما تبادر إلى أذهان رجال الشرطة هو المواجهة الشرسة مع السنافي إذ عززوا بدوريات إضافية ومعهم ونسة هي الدليل، حيث انعطفت معهم لتدلّهم على بقعة البرّ المظلم.
بعد دورة رقص وفجور بين السنافي والمليكة – على نغم عاصف شعشعت من بعيد لوامض الخطر – فقد أحسّ بكل حركة من الحركات التي ليست لصالحه / قادها إلى منخفض متعرج ومكثف بأطواق العشب الخشن والشجيرات الرمادية المتشابكة / وفي حفرة تسعهما بضيق مدّد جسدها الفارع الخدران، بلدونته الهائلة ولم تكن المليكة تنطق بحرف ولم تتأوّه فأذعنت بشبه غيبوبة ونامت على ظهرها فألصق جبهته المعروقة على جبهتها وصدره المشعر على صدرها ثم أطبق سرّته الممحوة على سرتها المربعة/ كان يلتحم معها بنشوة أزلية فأغرق وجهه بصحن وجهها وقد كان الأخير زاخراً بالدموع – كانت فاطمة تبكي لأول مرة حين أحسّته يبكي مثلها فطوّقته وضمّته إليها بدفق لحظة لا تفسّر – زاخرة بالنجوى والندم وبخبط الأسرار العليا للعاطفة الغامضة المشبعة بالنسوغ المتدفقة من أسفل ينابيع الإنسان فكانت أضوائهم تعري عريهما الأسيف: فقد اقتلعوا السنافي من حضن المليكة اقتلاعاً ثم اقتادوه أمامهم.
ـ أي رحمة إلهية أوقعتكَ في كمائننا يا سنافي..؟
ـ كنتُ مللتُ كل شيء.
ـ أنت الآن صيدنا الثمين يا أعور.
حشروا فاطمة داخل سيارة النجدة إلى جوار قوادتها ونسة وغابوا.
وبقي السنافي يخطو وحيداً، محاطاً بالأسلحة المدججة وحوله أربعة سيارات مكتظة برجال الشرطة/ وحين طافت به سيارة النجدة على طول الساحل البحريّ كان يتأمّل البحر ومشهد المدينة العتيقة التي أحبّها بكل جوارحه – ثم شرع ينقل نظراته الأخيرة قبل أن يغرز احدهم نصل حربته الباشطة في عينه المعافاة الراسخة ليغمر الأرض ظلام مديد هائل.
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
أسرة موقع الناقد العراقي
أيّ مرمىً بعيد كان السنافي يتوق إليه كأن يلعقَ بلسانه الدبق عسل الجسد الفاتن، بكل ضراوة الكائن المقهور – ويهصر الخصر الرخص بكفّيه الخشنتين – تلك الفاتنة التي كانوا يسمونها فاطمة الصفراء: المشعة كالذهب والمتلألئة كالهالة الخاطفة ترقد الآن على حشائش البر المظلم – وتنتظر أن يقيء كل عفوناته الفجة على جسدها اللدن خارق الجمال. فاطمة كلها الآن بين يديه: خائرة ذلولة، مهيضة الجناح – بعد أن قامر من أجلها بكل ما يملك من: ذهب التهريب وأثمان الأسلحة النارية – لكي يقبض بإحساسه الوحشي على حريق الحلم الغادر: فاطمة بعينيها النجلاوين اليقظتين وشقرة رمشيها الباذخين وشعرها الكثيف المصفف كتلاً معقوصة بلمعاته الذهبية وهو يضفي على وجهها المستطيل المكابر غابة من الغموض الآسر/ ولم يجانب المغرمون بها كبد الصواب حين لقبوها بفاطمة الصفراء مليكة السواحل، فهي تخطر عبر الليالي البهيجة بقامتها الفارعة يلفّها الوشاح المطرّز بأطواق الفضة، بصحبة قباطنة السفن، أو قراصنة البحار ورجال الأعمال الأجانب – لم يرها احد يوماً بصحبة رجل من رجال الوطن الساحليين – لذا كان الصيادون يتندرون بأفواههم النتنة: إن مطربة الحي لاتطرب – وفاطمة الصفراء قد خصّت رجالهم في خيالها المريض وأنزلتهم من حساباتها … مما حدا بالسنافي أن ينتفض في سرّه ويغيب عن الساحل ومقام الصيادين طويلاً.
البوادي كلها للذئب الطليق
دخل السنافي من أقصر الطرق وأخطرها حين نفَّذ أول ضربة تهريب ناجحة – فمن كان يظنّ أن الأعور الوسخ يقود سيارة الشفروليت بدون أرقام، ولا مصابيح، ويفوج ليلاً حيث القمر الغائب عن الصحراء والوقت شتاء والسماء تنذر بهطول المطر، وهو يقتحم البادية المنخفضة – تُطارده كلاب الرعاة والدوريات الخاطفة والذئاب الكاسرة ولم تظفر به (شهور انسحقت وأيام انهدرت حتى ظفر السنافي بأول بارقة نجاح حين كلفه احد الرجالات في البادية بصفقة التهريب – وبعدها جاء متخفياً إلى المدينة وغسل عفن جسده في الحمام العمومي وقد شرع يدلك له جسمه صبيان بوزرتين مزركشتين – ثم جاب المدينة متخفياً بزيّ عربي: دشداشة رمادية وكوفية حمراء وعوينات سود).
كانت دربه للخمرة على حدة، ودربه لليقظة على حدة
إذ شرع السنافي أن يشق لنفسه درباً مظلّلة بغاب الخيال – درباً ملتوية لا يعرفها سوى أصفيائه المغمورين. تكررت غزواته وقد وثق به رجال البوادي المهربين حين صار مثلاً للجسارة وخرق الحواجز.
الإسفنجة الحجرية
كانت فاطمة امرأة ساحليةٍ، غامضة السيرة، وغيابها الطويل عن مشهد المدينة يضفي على سيرتها ألغازاً وأساطير – فهي إضافة إلى كونها خارقة الجمال كانت تضنّ بنفسها على أبناء جلدتها حتى ولو كان أحدهم أغنى الأغنياء – وهي بذكراها البعيدة تثير اشتعالاً محيّراً بالأفئدة المنفعلة التي تركع وتصلي للفتنة والجمال، وكانت بحق من السبائك النادرة جداً، وهي أنموذج للمرأة الكيّسة، الراقية، المتمنعة، البعيدة المنال – وأغلب شباب الساحل كانوا متعطلين أو بحارة سفن، أو صيادين فقراء من جوّابي السواحل، فقد كانوا يضمرون لها حسداً وحقداً عنيفين – كانت بالنسبة إليهم تمثل القمة، فكيف الوصول إليها..؟ والصدود لا تنتهي، إنها عادة تختفي في مراكب البحر/ وذات ليلة وضّاءة لمح السنافي تلك الهالة الخارقة التي يسمونها الصفراء في لحظة جمال فريدة فأطلق زفرة طويلة وراح يدمن الخيال فيها، ظلّ يمتصّ كبواته ولذائذه كالإسفنجة الحجرية التي يتكلس عليها غبن الروح ومع ذلك تمتص قطرات الجرح الذي لا يندمل.
الزبالة والمخيلة والفعل العجيب
يوم كان السنافي شريداً بعوزه وانخذاله، وبعينه الواحدة المستفزة، وهو يثير التقزز في نفوس الآخرين، وصلت حاله الكسيحة إلى التلوي مخموراً في أقصى المزابل المغمورة بالذباب ودخان النفايات متمرغاً على الأوراق النتنة والزجاجات الفارغة والخرق الجائفة يعصره القهر والحرمان ومع كل تلك المحنة والارتباك حيث الغوص في أسفل قاع الحياة المرير كانت هناك جرثومة حية تتحرك بجسارة وتمور في الينبوع المتدفق تحت صخور القلب العملاقة (لقد طاف به خاطر سريع، غامض، كالقدر الأهوج: هي مرة واحدة يا سنافي يعبر بها الإنسان على جسر الأرض ليغزو صحارى الحياة وغابات الواقع الملتحم ثم يلفظ أنفاسه وحيداً مثل ذئب اجرد يتلاشى في هجير الفلوات الموحشة/ كلنا نموت يا سنافي وعار الإنسان هو القهر والخذلان – فما عليك سوى أن تغزو/ والغزوة الأولى رغم فجائعها ومآسيها لا تخلو من جمال،،)
كانت تلك الكلمات تبرق كندى الثلج الأبيض الكثيف وتتلاشى سريعاً في شحوب الحلم السريع البارد – وبعدها تقوم القيامة ويشتعل فتيل الحريق في روح السنافي الجسور الممرّغ بنخاع الجيفة – ووثب في جوف الظلمة وقد تراءت أمامه هالات الموج والنور والعري الذهبي ونشيد انتصار الكائن المسكر، وهو يبطش بلحوم النساء، وأكداس الأطعمة الفريدة، إنه وقت مضى منهزماً أمامه إلى غير رجعة – حيث المزابل الغاطسة والأرصفة الذليلة، مكانها فقط لخطى الخانعين.
إغارة الفاتح وانتصاره العاصف
هاهو يسلك الطريق البعيد، ولو تأملنا قليلاً في تاريخ فتوته لرأيناه مدمن سينما من الطراز الأول – كان مبهوراً بأفلام الرعاة الهوليوودية وأفلام القرصنة العنيفة، إضافة إلى ذلك وعبر تجوالاته المديدة وهو يتصفح المجلات الملونة ويخالط عصابات المدن الساحلية والبحارة الأجانب وشذاذ الآفاق حتى إذا رأى تظاهرة عارمة كان يقذف بنفسه في جوفها متضامناً مع الجموع الصاخبة – ولكنه في أواخر النهار، يلوذ بنفسه ويسلك الدرب الوحيدة، العزلاء، للكائن المجرد من الأسلحة التي يواجه بها ضربات الحياة.
وباختصار، كان السنافي قد اكتسب قليلا من التمدن مع ثلة من أصدقائه، بائسي السواحل وفقراء الأكواخ الصيادين.
(بعد عمليات سريعة صار بجعبته المال، لكن المال القليل لا يكفي. وفكرة المال نفسها لا تكفي . والنساء وحدهن لا يكفين. إنما ترسخ به خاطر الغزو، وجرثومة الفعل، الطافح، المتدفق/ والجسارة الغامضة، والاندفاع الأهوج صوب أكثر المجاهيل غموضاً).
شرع ينفق المال، مراوغاً، لأجل صيد اخرق، فكان يصرخ في أعتى نوباته: كل كلاب البراري السائبة أنا اشتريتها. اجمعوا لي كلاب الحدائق المسلسلة، أو المسعورة، والجبانة، والكلاب الجرباء، كلها أنا اشتريتها – فكان السنافي لا يملّ من الشراء مما حيّر رجال البوادي المهربين: ماذا هناك ياسنافي..؟ أي جُنون هذا.؟
– لا عليكم.
هكذا أجابهم وذهنه الشارد يُحلّق في أبعد الأهداف. وظلّ يخفي الكلاب في أقفاص حديد واسعة وأعدّ العدة شهوراً يحشر الكلاب حشراً، يجيعها حتى تعترك وتصطرع وتدمى فكوكها وعيونها وخطومها وبعد ذلك يفسح لها المجال بنقل قسم منها إلى قفص آخر ثم يقوم بإطعامها حتى الشبع الكثيف ليعيد الكرّة ثانية بتجويعها وحشرها حشراً في جموع عاوية وقد كلف عليها رجلا ملثماً، بلا شكل واضح يقوم بإطعامها قليلا من اللحوم.
أكمل رجاله ثلاثة أقفاص تحوي تسعين كلباً، وكل قفص يسع ثلاثين وقد جرت العملية بعد جهد محموم من المران والترقب والانتظار. (وكان يوم عيد حي فالمخافر الحدودية شبه خالية، والسنافي يزحف ليلا ويقود ثلاث سيارات مكشوفة عليها ثلاثة أقفاص حديد مكتظة بالكلاب المصابة بالسعار… الأضواء مطفأة: السيارتان الأولى والثانية تزحفان على الرمل الأملس المرصوص/ وعبر وثبة ترقب رفع رجاله البوابتين الحديد للقفصين المحمولين فوق السيارتين ثم شرعوا يغرزون أسياخ الحديد بجسوم الكلاب المستفزة: وطفقت هاربة كالأسماك اللابطة تحت انفساح الموج الهفهاف/ كانت تتوثب باستقامات صاروخية واندفاعها المحموم صوب المخفر الخافت الضوء يجعلها تهدر بسطوة الوحوش المفترسة/ لقد وهمت أزلام الكمارك القليلي العدد تمزق وتبطش بالذي أمامها ويلوذ الآخرون بالفرار – ثم تأهّب رجاله لمسح الفضاء القريب بعد سيطرتهم الفعلية على المخفر، تحوّطاً لأي طارئ مفاجئ بعد أن فتحوا القفص الثالث وهرعت كلابه تعوي في الهواء الفسيح دفاقة كالموج الرمادي وهي تتلاشى على كل المديات والاتجاهات صوب المراصد والثغور الخالية ثم تغيب في أبدية الرمل والظلام.
كانت العملية معدّة والبضاعة على الخط الحدودي بالانتظار، جرى ذلك ضمن مخطط دقيق وتوقيت منضبط: حينئذ مرّ رجال البوادي بالبضاعة ظافرين/ تلك العملية الجنونية صارت مثلاً يتغنى به رجال التهريب في كل مكان/ ورفل رجاله بالأثمان الباهظة وأكداس الحرير وسبائك الذهب.
غيبة السنافي السريعة
في مجاهيل المدن والحياة والزمن
كان السنافي وبإلهام فجائي قد أوقف مغامراته الليلية: حيث أدرك بحسّه الحذر وخياله المتدفق أن اسمه قد صار معروضاً على كل مخافر البلاد الحدودية ودوريات الكمارك ومراكز الشرطة، وان أي سقطة في أول كمين منصوب تعني النهاية المحزنة والفجيعة المخجلة، لذا صار لزاماً عليه أن يتخفى بزيّ آخر، وباسم آخر، وأوراق ثبوتية أخرى، وفعلاً غادر بلمح البرق وكثافة زمن محتدم/ متسارع، مائع حيناً، حديدياً حيناً آخر، ولكنه، أي الزمن، يبقى قاهر الأحوال والمال والرجال، فصار السنافي مجرد نقطة باهتة، متلاشية في تراب الريح والمسافات.
ظلت أجنحة المدينة المطوية المنضغطة برتابة الحياة يجلّلها سكون أقرب إلى الموت البطيء/ حتى إذا مرّت المليكة بمهابتها وأحدثت تلك الرعشة، قل الصدمة والقشعريرة والدفقات العنيفة في دم الأجساد والعقول/ حينئذ تتألق العيون الراكدة وتنبعث الصبوات وينتفض كل سكير وصعلوك ومحروم – بعدها الكل يستحم بشعاع السنافي وذكراه التي لا تموت عبر غزواته ومعوناته التي لا تنسى – فيبدأ زفير الحسرات – حسرات ما بعدها حسرات –.
ـ أين أنت يا سنافي – هاهي المليكة، العصية على قلبك الجسور تتخايل بأذيال ثوبها المورد بالنجوم تمسح به تراب ساحلنا الحزين – اخرج لتر جمالها وكأنه لا يفنى أبد الآبدين – أين انتهيت وضعت وضاع حلم عمرك الجميل…
(وذات يوم حزين وبارد، ماعت فيه الشمس، وذبلت وأرخت شعرها الليموني على الحيطان – عاد السنافي متلبساً بثوب رجل أخرق مأفون: كان يمثل دوراً اقرب إلى العته والخبال– وفي حانات البحر حيث الحياة تتقطر كحبات الندى، وتتمايع – واهنة، ناحلة كالأفاعي المتخمة بأثقال الشبق – وهناك في أقصى زاوية خافتة يكرع السنافي بيرته المثلجة ويقضي لياليه الحمراء متخفياً بصخبه السري عبر الخطى الأكثر سرية لينتزع رفاق صباه الصعاليك الميامين كالشعرة من العجين/ ولكن ظلت في مكنونه حسرة ما بعدها حسرة وهي – طريقة الوصول إلى قمة الوجود العالية – وكيف يمكن الوصول إلى فاطمة المحصنة كالقلعة التي لا تدكّها مدافع السنين / لذا كان يتلفت يميناً وشمالاً، ينفق ويرشي، ويطأطئ الرأس المكابر أحيانا من اجل الوصول إلى قوادتها ونسة/ والأخيرة تطرد وبشراسة كل الوسطاء المرتشين/ وحين ارتفع الرقم المعروض وفاحت ضخامة العرض بدأت ونسة تلعب لعبتها فسألت الوسيط:
ـ واعورار عينه..!؟ أولا يعرف السنافي حجمه الحقيقي ومكانه المكين أمام المليكة الصفراء خالبة لبّ السواحل.
كانت ونسة تناور بدهاء القوادة الأصيلة، لتعقد اكبر صفقة في تأريخ السمسرة وبشروط شبه تعجيزية.
(أواخر الليل وزجاجة الويسكي المستكينة يتركها السنافي إلى النصف، وينهض – يمشي وحيداً فوق الرمل المبتلّ بمياه البحر، وقد كان مهموماً يداعب قدميه الموج، ثم قفل راجعاً إلى زاويته الموحشة، وحيداً، يرود به درب متعرج مظلم: هنا طاف به خاطر آخر: انتهت يا سنافي مغامرة المال وحان الوقت لقطاف المليكة من غصنها العتيد/ هرع السنافي يستحضر أمواله – يذلها، ويستجمع أرصدته، ليذيبها في بوتقة الذهن المنفعل إلى أقصى غايات الانفعال – وكانت قدحة الفعل…!
ـ فاطمة ولا شيء في الكون غيرها.
ظلت ونسة تبتزّ منه المال، بالتدريج، وهو يرخي لها الخيط حتى كان الرقم الخيالي المتفق عليه – ولا يعرف سرّه أحد، إلا ربّ العالمين – وتم موعد الوقيعة واللقاء الذي سيكون– وقد كان..!
قيامة الجسد الكبرى
المليكة معرّاة تماماً في ظلام الصحراء الفاحم، كان السنافي يلثم فاهاً متحرجاً، ومضطرباً اشدّ الاضطراب/ ثمة الهواء البريّ الضاغط/ وبياض الأفق المعلق، وخيوط الحلكة المفككة التي يفتت الهواء ظلموتها البارد. كلها تزرع شوكة الخوف في قلبه الراعف. وماءت فاطمة تتمنع كالقطة السيامية الثقيلة، وشرع يسكب في فمها كأساً من الخمر المحلاة بالسكر والهيل فطفقت أنوثتها تتدفق سيالة – كانت قد مدّت جسمها الفارع، على طوله، والهواء المتململ، الذلول يتمسح بعُريها الخلاب. أخذ يحبو قربها مثل كلب شبق، عنيف وهو يدلق الخمرة الفاخرة على طول جسمها الهائل وهي تتململ وتتمغط (لا أحد يصدق – آ، أهكذا تمضي الأمور وتسقط ثمار الوجود الذهبية في فمك الكريه يا سنافي..؟ هل أنت حي أم ميت..؟ والمليكة المطهمة بعناقيد الفردوس وخرز اللحم الفيروزي تنام قربك..؟ لامس جسمها بلسانك وتأكّد هل إنها المليكة بدمها ولحمها أم أنت مجرد حالم مفلس وتلك الهذيانات هي وليدة أحلامك الشوهاء..؟).
وغاص أكثر في المغامرة، إذ هبطت على خياله الجامح فكرة انسكبت مثل سحابة عاهرة على ذهنه المورّم بالجموحات: سأدعو كل رفاق العمر المحرومين وأستلّهم من خرائبهم المأمونة، ومن فوق تخوتهم المحطمة ومن خاناتهم المخنفسة بعطن الظلام – أقتادهم إلى ليلتي الهائلة لينهلوا من عبق الفردوس الأرضي، يا إلهي، وكان السكر قد تعتعه، ثم بعث بالسائق يدعو سبعة من أصفياء العمر الأفذاذ الذين أدمنوا الأحلام المفلسة – وكان السائق يعرف زواياهم، ودروبهم الضائعة كلها.
(طلبت منه القوادة ونسة في بادئ الأمر أن تكون المطارحة في أرقى الشقق الساحلية ولكنه أبى بعناد وصلابة:
ـ أنا ابن البراري الفسيحة والسواحل الرطبة والليالي الممتدة على رمال الحرية… لفاطمة الأمان وسأفرش لها البرّ زهراً، وفوق حشائش الربيع العطرة سأذلل لها الأفرشة الفاخرة والنجاد المطرزة وسيكون مقامها مكيناً وأميناً في منخفض ساحر– يا ونسة ثقي، لفاطمة الأمان، كل الأمان – وكان للسنافي ما أراد.
غربة الدخول إلى المليكة المغزوة
احتشدوا سبعتهم في البر المظلم، الزاخر بالهواء النقي البارد – ومن فوق الفراش النائي المرصّع بالزجاجات وطوق الجلسة العامرة بضغط الخمرة والشهوة.
تدفق الرجل الأول بكل حرمانات السنين، وقهر الأبدية – لقد غزاها بعنفه الأخرق – وهي تلعن السنافي وتبصق في الهواء عليه، وعلى امتهانها، وخيانة ليلتها، وخسّته وغدره المفاجئ بإدخاله أغراباً عليها/ كان ذلك الرجل ثملاً طافحاً بالفحولة/ وأنثى الطبيعة تنحني لقوانين الظلام الغامضة، كان قد انحنى يقبل قدميها البيضاوين باندفاع الكائن الأخرق، وسهم الخمرة ينغرز في وسن العقل. كان الهواء صافياً جداً ويتغلغل كالضوء الدبق، المتخثر في التصاق الجسدين/ وحين أقدم عليها الرجل الثاني، كان مأفوناً بحق، وغارت عليه عاصفة المفاجأة فشرع يقبل يدي السنافي ورجليه على تحقيقه اكبر أمنية من أماني العمر التي لا تتحقق إلا في أفلام السينما/ ثم غزاها الرجل الثالث بعد أن غاب صاحباه في نشوة الشوارع الوردية – قال الرجل الذي يواجهها: لو تأتين معي دقيقة نتوه هناك، تحت الأعماق الوردية ننزل بخطانا العارية – كان كلامه خرفاً، ولم يفعل معها شيئاً فتبع صديقيه وقد كانا يلهجان بإسم فاطمة ويغردان في المقاهي والحانات: يا ناس يا عجايب أخيراً سقطت فاطمة مليكة السواحل في شباكنا فشربنا خمرتها وأكلنا تفاحتها. إنها هناك تتمرّغ في أحضان السنافي وصحبه الشجعان (قرب احدهم وجهه – ماذا تقولان..؟ وأين كنتما..؟ أجاباه فوراً: لو رأيت فخذيها المنعنعين، البارقين كالنصال، وهما يتماوجان بالبياض الطافح، ويتدفقان بشقرتهما القاتلة حيث اللعاب الفضيّ يسيح على صدرها وصدورنا كالزنجبيل لجننت فوراً)-
ولما التقاها الرابع وقد كان أبلقاً كسلوقي يحسّ الضعة والهوان إذ كانت السماء تضغط على قلبه فأطلق قبلة على سرتها المربعة: هذا يكفي – فقط هذا يكفي – أنا غريب وحائر يا إله – وأطلقت فاطمة حشرجة فيها ميوعة وخدر وانفلات هائل من الزفرات العاوية تنبع من أعمق أعماق الأنثى الخالدة – نوحها يذكرك بتلوي الأفاعي الرمادية، الدكناء، والقطط المكبوتة، المنفعلة/ هي ورطة مخجلة يا سنافي، إنها ليست امرأة، إنما هي بقرة مقدسة، ها، ها، وغامت عيناه ليفسح المجال للرجل الخامس الذي تقدم منها منفعلاً:
ـ أنا لا أفعل شيئاً إلا أن ابصق وبحرارة على هذا الجمال الممرغ بتراب البراري الغبراء – تُف – هذا يكفيني/ وظلت فاطمة تبكي/ وحين عاد إلى صحبه قرب الساحل كانت رائحة الإشاعة تزكم كل الأنوف/ وعلى عجل غير متوقع اقبل عليها الرجلان السادس والسابع وكانا ضئيلين إذ راحا يقبلانها بحنو، وحزن، وطيبة، من شعرها، وعينيها، وثدييها وقدميها: اعذرينا يا فاطمة فما نحن من أولئك الأنذال وليست لنا قوة الرجال الأشداء، وفحولة الشباب – لقد مضى زماننا البهيّ – ونحن أمامك مجرد حطام رجلين … مسخين من مسوخ الخمرة وتلافها/ كانا يترنحان، منخذلين، يائسين وقد طفقا يغيبان، ملوحين بأكف ذابلة.
البهجة الورقاء والهاجس المعتم
رفعت فاطمة قامتها الفرعاء المتململة، وتطلعت إلى وديان السماء المشعة بفضة النجوم/ تنحت قليلاً لتسحب أنفاساً سريعة وطلبت كأساً من الخمرة لتطفئ عارها وعريها وخجلها المهين/ غامت عيناها وغاصتا، بعيداً في عمق الأغوار البعيدة. أرادت أن تغفو على العشب النائم وتطلق سعيراً من الضحك الأسود. لمعت سرتها أثناء انغراز مؤخرتها في الحشيش الليّن لتنقلب. كان السنافي ثملاً/ وتعانقا معاً بطريقة ميكانيكية ليغوصا في موجٍ زنخ من الأنفاس الراكدة/ فهو الآن يغيب عن وعي اللحظات الذائبة في قرارة العمر الممتد من هنا إلى آخر زقاق عتيق مدرع بالرطوبة كان قد قطعه طفلاً صافياً عبر المدينة/ ثمة هاجس متبق من كأس مترعة لآخر بهجة من مباهج الليل/ زحف على يديه وهي ترقبه يشم التراب البارد، والشعاع العالي هناك ونداء الساحل الرطب العائم غب ضوء المقاهي والحانات (صرخات صاعقة ودويّ آدميّ. ماذا جرى..؟ الناس تتلفت..؟ إلى كل الاتجاهات وتسأل عن مصير المليكة. وبين صخب وضجيج كان السنافي قد خلع كل ثيابه وشرع يغوص تحت الأنغام الهائلة التي لا تمتّ بصلة إلى الحقيقة/ الآن هو معلق بصلبان الأثير / في الزئبقيات التي تضخّها الأخيلة الجامحة).
رفعت ذراعيها اللدنتين وتراقص زنداها الثقيلان، فبانَ الزبد المشعر تحت إبطيها البضّين/ وساحت فحولته على ركبتيه وخرّ أمام القلب صريعاً/ أمام قلبه المنفعل الملغم بالشبق/ فركت له جبهته – وعلى مضض تجرّعت كأساً أخيرة – ،، تجرّعتها كي تقتل قرفها وسآمتها المريرتين من عفونة جسدها الذي صار مضمخاً بزهر العهر الكثيف/ وحين ضخّ عليها صرعته الأخيرة ركلته بقدمها البيضاء المجلوة بالرشاقة… سقط السنافي إلى الوراء، ولملم الإهانة، وقبل أن تنهض قبض على شعرها الكثيف وشدّه على زنده ، ثم بدأ يسحب، كلاهما عاريان من عرايا الوجود الكثيف المظلم/ وفحّ نبض الصحراء/ وفحّ موج البحر البعيد/ وفي ذيّاك المدى المجهول الأسود صارا يركضان/ وهو يسحب وهي خلفه تركض مثل نعجة يقودها ذئب مارد طليق (فاضت رائحة الإشاعة على كل أحياء المدينة وحانات الساحل: إن فاطمة الصفراء قد خطفوها وشدوا عليها في البر المظلم – وتلقفت القوادة ونسة طعنة الخبر السريع فأسرعت كالبرق المداهم إلى مخفر شرطة الساحل وأعلنت أن المليكة اختطفت من قبل السنافي وحثالته الصعاليك/ خرجت دوريتان مسلحتان تطوفان حول الساحل أولا تترصدان الوضع والخبر/ كان صعاليك السنافي قد تفرقوا وغابوا في الليل المشتعل وخلّفوا ورائهم اكبر الفضائح التي مرّت بها تلك المدينة المطلة على الساحل).
الآن خلا الجو للسنافي تماماً وقرّب شفتيه من فمها وفوجئ ببصقة حارقة تلهب عينيه/ ماذا دهاك يا فاطمة..؟ وفيما هما هكذا عاريان التمعت في البر البعيد أضواء و خبت/ كان قد أنهضها، وطاف بها، في رقص دائريّ أهوج – وفي عتو لهاثهما المجنون كانا يترنحان وحولهما تترنح الأحجار الناعمة البيضاء، والقنافذ الرمادية، وحشائش الموسيقى المنبعثة من دفق الأتربة العارية، والحفر المقفلة بالفراغ وفوقهما عصافير النجوم المزغبة تتساقط كالدراهم الوهمية – حيث الليل الفاحم يتسع وينشطر مع حجم الصحراء ومداها الهائل/ لقد انقدحت كشافات الضوء الباهر، وانطفأت فجأة لكن الإيقاع الحتمي لسرّ البر وأسطورة المليكة العارية بين يديه – كل ذنب ينسيه فداحة الخطر وخوف العارف بمكمنه ومعمعة خرابه وأساه.
عين مطفأة وظلام مديد هائل
قال اركضي، اركضي، أمامنا ثلج الأمان – وكانت هي تركض وتجرجر كفلها الضخم الملطخ بنصاعة البياض، وفي تلك الأثناء أبرقت سيارة نجدة مسلحة إلى مركز الشرطة العام أعلمتهم بكل التفاصيل/ كانت مفاجأة هائلة أن يتصدر اسم السنافي مركز الخبر بعد أن داخت المخافر الحدودية والدوريات الساحلية في البحث عنه/ وبعد غيبة طويلة أصبح السنافي في عداد المنسيين وها هو الآن يطلّ عليهم بعينه العوراء متحدياً/ وبالمناسبة كان أول ما تبادر إلى أذهان رجال الشرطة هو المواجهة الشرسة مع السنافي إذ عززوا بدوريات إضافية ومعهم ونسة هي الدليل، حيث انعطفت معهم لتدلّهم على بقعة البرّ المظلم.
بعد دورة رقص وفجور بين السنافي والمليكة – على نغم عاصف شعشعت من بعيد لوامض الخطر – فقد أحسّ بكل حركة من الحركات التي ليست لصالحه / قادها إلى منخفض متعرج ومكثف بأطواق العشب الخشن والشجيرات الرمادية المتشابكة / وفي حفرة تسعهما بضيق مدّد جسدها الفارع الخدران، بلدونته الهائلة ولم تكن المليكة تنطق بحرف ولم تتأوّه فأذعنت بشبه غيبوبة ونامت على ظهرها فألصق جبهته المعروقة على جبهتها وصدره المشعر على صدرها ثم أطبق سرّته الممحوة على سرتها المربعة/ كان يلتحم معها بنشوة أزلية فأغرق وجهه بصحن وجهها وقد كان الأخير زاخراً بالدموع – كانت فاطمة تبكي لأول مرة حين أحسّته يبكي مثلها فطوّقته وضمّته إليها بدفق لحظة لا تفسّر – زاخرة بالنجوى والندم وبخبط الأسرار العليا للعاطفة الغامضة المشبعة بالنسوغ المتدفقة من أسفل ينابيع الإنسان فكانت أضوائهم تعري عريهما الأسيف: فقد اقتلعوا السنافي من حضن المليكة اقتلاعاً ثم اقتادوه أمامهم.
ـ أي رحمة إلهية أوقعتكَ في كمائننا يا سنافي..؟
ـ كنتُ مللتُ كل شيء.
ـ أنت الآن صيدنا الثمين يا أعور.
حشروا فاطمة داخل سيارة النجدة إلى جوار قوادتها ونسة وغابوا.
وبقي السنافي يخطو وحيداً، محاطاً بالأسلحة المدججة وحوله أربعة سيارات مكتظة برجال الشرطة/ وحين طافت به سيارة النجدة على طول الساحل البحريّ كان يتأمّل البحر ومشهد المدينة العتيقة التي أحبّها بكل جوارحه – ثم شرع ينقل نظراته الأخيرة قبل أن يغرز احدهم نصل حربته الباشطة في عينه المعافاة الراسخة ليغمر الأرض ظلام مديد هائل.
قصي الخفاجي: فاطمة مليكة السواحل (ملف/43) - الناقد العراقي
إشارة: جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على...
www.alnaked-aliraqi.net