يعرف أصدقائي القريبين أنني لاأثق مطلقا في مستوى ما أكتبه، وأعتمد دائما على هؤلاء الأصدقاء في الحصول على قدر من الاطمئنان يسمح لي بالاستمرار في الكتابة. والحقيقة أنهم يشجعونني، ويمنحوني طاقة تدفعني لكتابة هذا الجانب الطارئ، الطارئ فعلا، فلم أفكر يوما في كتابة مثل هذه الأوراق التي تختلط فيها السيرة الذاتية بالمسكوت عنه من تاريخ جيلنا الثقافي والشخصي.والحقيقة أيضا أنني أتذكر وأكتشف ، عبر الكتابة ذاتها ،كيف وماذا أكتب.
على أي حال، كنت قبل أسبوعين قد حاولت تقديم ملامح سريعة لواحد من المؤثرين بقوة في جيلنا وهو الراحل الكبير غالب هلسا، وهنا أحاول أن أفعل الشئ نفسه مع ابراهيم منصور أحد رؤساء البهجة والاستقامة والاستغناء وخفة الروح . لم يكتب ، والأدق لم ينشر سوى قصتين فقط قرأتهما في " جاليري 68 " هما اليوم 24 ساعة، والحزن من الجانب والأمام، إلى جانب ترجمات متفرقة، أتذكر منها ترجمته لكتاب عن محاضر محادثات كامب دافيد، كما أتذكر تحريره لسيرة الفاجومي أحمد فؤاد نجم، وقد نشرها منجّمة في جريدة الوطن الكويتية. سمح لي بقراءة مسودات قليلة شبه ممزقة ومكتوبة بالقلم الرصاص، لبدايات قصص لم تكن تختلف كثيرا عن القصتين المشار إليهما. وحكى لي أيضا عن مشروع كبير، لم يكن قد استقر على شكله الفني، عن عمارت وممرات وسط البلد العريقة، والمباذل والأحداث الكبرى والشخصيات التي طبعت المكان بطابعها، لكنه لم يجرؤ، وربما لم يهتم بالشروع في كتابته.
ومع كل هذا كان يمتلك سلطة ونفوذا أدبيين يستمدهما من الحيّز الذي يشغله، من وجوده الفيزيقي.ابرهيم إبن عائلة كبيرة ومن سكان المعادي، وانخرط في الراية، أحد أقوى التنظيمات الشيوعية السرية، منذ دخوله كلية الحقوق، واستطاع في وقت وجيز أن يجنّد صديقه وجاره علاء الديب في التنظيم، وبذل جهدا هائلا من أجل ذلك، فعلاء عصيّ على أي التزام، وبالفعل وبعد عدة شهور تم استبعاده لعدم تنفيذ تكليفاته الحزبية،حسبما صرّح هو لإحدى الصحف .
وبوصفه حارس جيل الستينات العتيد، لعب دورا محوريا في إصدار مجلة جاليري 68 منذ كانت مجرد حلم بعيد المنال.كان طويلا، بل عملاقا نحيلا يشاكس طوب الأرض على مقهى ريش، وشاهدته في إحدى المرات وهويقلّب مخبرا سئ الحظ، تعب كثيرا وهو يتابع المناقشات الدائرة دون أن يفهم شيئا ليكتبه في تقاريره، وتوسم في إبراهيم الخير وسأله سؤالا مباشرا: سيادتك في تنظيم سري؟ ولك أن تتخيل الحفلة التي نصبها ابراهيم للمخبر.
بات من المسلّم به أنه يجب استشارة ابراهيم منصور في أي عمل ثقافي، وكان رأيه في أي كتابة يكاد يكون جواز المرور لأي كتاب جيد، ولم يكن متمتعا بالنفوذ والسلطة فقط، بل كان رأيه مسموعا ومؤثرا، على الرغم من أنه كان عاطلا عن العمل إلا من بعض الترجمات الطياري. استغنى بإرادته ولم يكن يريد أي شئ من أي جهة. وبعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بدأ في التردد على بيروت وعمل مع عدة صحف، وبعد ترحيل الفلسطينيين عام 1982 من بيروت، عمل مع إحدى المجلات التي تصدر من قبرص، وتعلم قيادة الموتوسيكل، واعتاد أن يتجول به على شاطئ البحر.
ابراهيم منصور أيضا كان الوحيد في مصر الذي رفع لافتة يدعو فيها لإسقاط اتفاقيات كامب ديفيد ، وسار بها منطلقا من مقهى ريش حتى قٌبض عليه بعد دقائق قليلة.وشارك وهم الرجل العجوز الذي فقد أسنانه ولم يهتم، في إضراب عن الطعام في نقابة المحامين من أجل القضية الفلسطينية.
في مرضه الأخير مارس 2004 لم يمكث إلا أسابيع قلية، وعندما مات كتب خيري شلبي أن موته كان أكبر " مقلب" عمله في أصدقائه.
محمود الورداني
على أي حال، كنت قبل أسبوعين قد حاولت تقديم ملامح سريعة لواحد من المؤثرين بقوة في جيلنا وهو الراحل الكبير غالب هلسا، وهنا أحاول أن أفعل الشئ نفسه مع ابراهيم منصور أحد رؤساء البهجة والاستقامة والاستغناء وخفة الروح . لم يكتب ، والأدق لم ينشر سوى قصتين فقط قرأتهما في " جاليري 68 " هما اليوم 24 ساعة، والحزن من الجانب والأمام، إلى جانب ترجمات متفرقة، أتذكر منها ترجمته لكتاب عن محاضر محادثات كامب دافيد، كما أتذكر تحريره لسيرة الفاجومي أحمد فؤاد نجم، وقد نشرها منجّمة في جريدة الوطن الكويتية. سمح لي بقراءة مسودات قليلة شبه ممزقة ومكتوبة بالقلم الرصاص، لبدايات قصص لم تكن تختلف كثيرا عن القصتين المشار إليهما. وحكى لي أيضا عن مشروع كبير، لم يكن قد استقر على شكله الفني، عن عمارت وممرات وسط البلد العريقة، والمباذل والأحداث الكبرى والشخصيات التي طبعت المكان بطابعها، لكنه لم يجرؤ، وربما لم يهتم بالشروع في كتابته.
ومع كل هذا كان يمتلك سلطة ونفوذا أدبيين يستمدهما من الحيّز الذي يشغله، من وجوده الفيزيقي.ابرهيم إبن عائلة كبيرة ومن سكان المعادي، وانخرط في الراية، أحد أقوى التنظيمات الشيوعية السرية، منذ دخوله كلية الحقوق، واستطاع في وقت وجيز أن يجنّد صديقه وجاره علاء الديب في التنظيم، وبذل جهدا هائلا من أجل ذلك، فعلاء عصيّ على أي التزام، وبالفعل وبعد عدة شهور تم استبعاده لعدم تنفيذ تكليفاته الحزبية،حسبما صرّح هو لإحدى الصحف .
وبوصفه حارس جيل الستينات العتيد، لعب دورا محوريا في إصدار مجلة جاليري 68 منذ كانت مجرد حلم بعيد المنال.كان طويلا، بل عملاقا نحيلا يشاكس طوب الأرض على مقهى ريش، وشاهدته في إحدى المرات وهويقلّب مخبرا سئ الحظ، تعب كثيرا وهو يتابع المناقشات الدائرة دون أن يفهم شيئا ليكتبه في تقاريره، وتوسم في إبراهيم الخير وسأله سؤالا مباشرا: سيادتك في تنظيم سري؟ ولك أن تتخيل الحفلة التي نصبها ابراهيم للمخبر.
بات من المسلّم به أنه يجب استشارة ابراهيم منصور في أي عمل ثقافي، وكان رأيه في أي كتابة يكاد يكون جواز المرور لأي كتاب جيد، ولم يكن متمتعا بالنفوذ والسلطة فقط، بل كان رأيه مسموعا ومؤثرا، على الرغم من أنه كان عاطلا عن العمل إلا من بعض الترجمات الطياري. استغنى بإرادته ولم يكن يريد أي شئ من أي جهة. وبعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بدأ في التردد على بيروت وعمل مع عدة صحف، وبعد ترحيل الفلسطينيين عام 1982 من بيروت، عمل مع إحدى المجلات التي تصدر من قبرص، وتعلم قيادة الموتوسيكل، واعتاد أن يتجول به على شاطئ البحر.
ابراهيم منصور أيضا كان الوحيد في مصر الذي رفع لافتة يدعو فيها لإسقاط اتفاقيات كامب ديفيد ، وسار بها منطلقا من مقهى ريش حتى قٌبض عليه بعد دقائق قليلة.وشارك وهم الرجل العجوز الذي فقد أسنانه ولم يهتم، في إضراب عن الطعام في نقابة المحامين من أجل القضية الفلسطينية.
في مرضه الأخير مارس 2004 لم يمكث إلا أسابيع قلية، وعندما مات كتب خيري شلبي أن موته كان أكبر " مقلب" عمله في أصدقائه.
محمود الورداني
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com