ما زالت الصور فوق الجدران تعبث بأحلامه، تهرب إلي زنابق المغامرات ولحظات ترابط على جذوة الخيال الجامح، بعض الصور أطرافها ممزقه والبعض الآخر مليء بالتجاعيد المحشوة بطحين الغبار، رغم محاصرة السنوات لهذه الصور ، إلا أنه يرفض نزعها عن الحائط لأنها تشكل مواجهة دائمة مع أحلامه التي سلبت منه وضاعت في دروب الحياة، لكن هناك بريقاً يتسلل تحت جلده بين حين وحين يعانق الأمل الحزين.
الصور تمثل أبطاله وهم يمتطون الخيول، قبعات ومسدسات وسنابك ملتصقة بمؤخرة جزماتهم المتسخة التي لم تلمع منذ أن وطئت الأرض، صحاري شاسعة ووديان عميقة وجبال شاهقة حيث يرحل فيها صدى وقع خطوات الخيول كأنها دقات شياطين على صدر طبله كبيرة تعلن أسرار الموت، داعبت الأفلام مخيلته فعاش مراهقته مرتكباً أثم التغلغل في أشباح هؤلاء الأبطال الذين يتحركون برجولة وفروسية فوق الشاشة البيضاء الكبيرة، أصبح يحلم بأن يصبح بطلاً كهؤلاء ـ عرف بعد ذلك أنهم يطلقون علي هؤلاء الأبطال رعاة البقر ـ، كان يحلم بأن يضع علي خاصرته مسدساً يستله بسرعة رمش العين ليردي العدو قتيلا من رصاصة واحده تستقر مباشرة في القلب، ثم يمتطي حصانه الذي هو في ذات الوقت صديقه الأمين الذي يهرع إليه في وقت الشدة ويكون مستعدا رهن إشارته، تاركاً خلفه جثة عدوه غارقة في دمها، وأشعة الشمس تزحف ببطء نحوها حتي تبني فوقها بركاً من الحروق الجافة تنتظر النسور كي تأتي لتلتهم جثة فوزه.
أمام شاشة السينما يحمل عشقه ليصبه حرصا وشغفا، تشده الأحداث ويغوص في إضاءة ملامح الأبطال حتى تخيم علي جسده الصغير خيمة النشوة والتعجب، حفظ أسماء الأبطال، جون وين، كلينت استوود، يول برنر، غاري كوبر، جليانو جيما، غريغوري بك .. وجوه وأسماء حلقت فوق حلمه الكاوبويي ، كان يتودد الي العاملين في سينما ديانا في مدينته الناصرة كي يعطوه صوراً ـ أفيشات ــ لهؤلاء الأبطال حتي يعلقها في غرفته، وحين كان يعلق صورة جديدة لأحدهم يشعر أن العالم قد فتح أمامه وأصبح في حضرة الرجولة والفروسية فارسا ينضم إليهم ويدخل حلمه إلي ثقوب الغياب الذي يشده إلي الفضول ويلسعه بانبهاره حتي يصحو ويكتشف أنه أمام صورة تشهد علي ازدهار أحلامه.
غرق في أفلام الكاوبوي حتى إنه طلب من والده مرة أن يشتري له حصاناً، وأراد والده أن يمسك طرفي السخرية منه فقال له : رح اشتريلك حصان بلاستيك ومسدس بلاستيك!!
ونظر إليه مزمجراً بعيونه التي ضاق صبرها من هذا الابن الحالم.. وبقيت شاشة السينما مرتعاً لأحلامه، لم تشهد الذبول حتي عندما بين له عمه المثقف أن رعاة البقر ما هم إلا جزء من المذابح التاريخية التي ارتكبت بحق الهنود الحمر وأنهم رمز السيطرة والهيمنة الامريكية.. لم يسمع كلامه بل امتص عباراته وأفرغها في ملامح الوجوه الممتدة على جدران غرفته.. وإمعانا في تجديد ذيول الاهتمام منع والده من دهن الغرفة ووطن والدته علي أن الغرفة ستبقي هكذا ما دام هو حياً.. وانصاعوا لرغباته.
اسراب السنوات تمر، أغلقت السينما أبوابها وتغيرت ملامح البناية وتكسرت لوحة الإعلان الخشبية التي كان يلصق عليها صوراً من الافلام مع أسماء الأبطال.. وذابت الشاشة الكبيرة لتصبح جداراً يحتضن رفوفاً خشبية لبيع مستحضرات التجميل والتنظيف، وغادرت السينما مكانها ولم تعد توحي للمارة أنه كانت هنا يوماً سينما، وبقي الكاوبوي مسيطراً عليه، يحمله بالحلم إلي السفر وحصانه يطارد الخيال متوغلاً بالوحدة وقسوة التذكر.
اقتني جهاز (فيديو) كي يشاهد أفلام (رعاة البقر) لكن متعة الشاشة السينمائية فُقدت أمام شاشة التلفزيون وصغر حجم الخيول والمسدسات والقبعات ولم تعد ملامح الأبطال تظهر عمقها وتفاصيلها التي كانت تصلبه علي اذرع الانبهار.. هروب شقيقه البكر كسر الحلم، هروب لا يعرف طريقه.. وصادر والده الضحكات والأحلام.. أصبح يخفي خيالته حتى لا ينهره والده ويشتمه وينعته بالمجنون.. واتسعت العيون التي تجلس على حافة الانتظار.. ونسي ملامح أبطاله لكن يعود بسرعة إلى حزن أمه التي فرت منها أمومتها نحوه ونحو إخوته لتشكل امومة خاصة للابن الغائب، امومة مبتلة بالابتهالات والدموع.. وأخيراً عرفوا بعد سنوات.. علموا أن الابن التحق بإحدى المنظمات الفلسطينية وأصبح مناضلاً، وقد وصلت سراً إليهم صوراً له مرتديا اللباس العسكري المرقط وفي يده رشاشاً ، وبدأ جسد أخيه يدخل في حلمه.. وبدأت خطوات أخيه وذراعيه وملامحه الصلبة تصوب فوهة عنادها نحو خياله.. وأصبح ينتظر العروض العسكرية بفارغ الصبر علي شاشة التلفزيون، تشده حركات العسكريين وانضباطهم.. وأصبحت هوايته قص صور المقاتلين من الجرائد والمجلات يعلقها الي جانب صور أبطاله، لكن والده عصر خياله كحبة ليمون ذابلة، مزق الصور وعندما رآه يبكي حضنه وقال: بكره الفسادين يفسدوا علينا يابا.. الوشاة كثار.. بخاف يعملوا من الصور قصة.. خليك في الكابوي أحسن الك..!!.
خارج الحلم يشعر بزوبعة في جسده.. يرتدي اللباس الكاكي المرقط، يقطع الأنهار والجبال بالحبال وبدون الحبال ــ اختفت الخيول والمسدسات والقبعات ـ يحمل رشاشاً كبيراً، يقظاً.. أخيه يشبه البطل الأسطوري.. ها هو يلحقه بأحلامه.. بهذيان خطواته.. يحدق بشبابه المنبعث من خيبة الأمل لتنمو فوق جناحيه وميض حرية مفتوحة علي المدي.
في تلك الليلة حين كانت أحلامه تمر أمامه كان يسكن فوق نكهة أحلامه فتات الواقع.. والده يستعير انتباهه ويؤكد ذلك.
ـ عيب انك تعيش بالأحلام... الأحلام أكاذيب.. والعاقل اللي بوقف أحلامه حتى لا تجره للجنون...!!
- هذا الولد اعقل مني ومنك، طول عمره بحلم حتى يهرب من المدرسة .. أنا بعرف دواه في الشغل، لازم ندبر له شغلة خفيفة، بدهاش شهادات ولا خبرة وأنا بساعدو فيها .. بصراحه انا لقيت ببيع فلافل أحسن شيء.. شغله مربحه وهاديه.
لم يحتج ولم يعلن انكسار مجده الوهمي، بل اعتبر كلام امه لوناً إضافيا لألوان أحلامه.
على الرصيف أمام بيتهم قام والده بصنع كشك من الصفيح، مربع صغير ـ بدلا من الحصان والدبابة ـ وعدة العمل بابور وصاج وطاوله ورفوف وطشت وتنكة زيت، عدة تمد لسانها ساخرة من أحلامه.. لم يتمرد.. لكن صار صوت القلي يستخف من احلامه و يستهزء من اصوات خطواته الضاربة فوق الصخور والوديان.. انه يجلس يوميا أمام البابور المشتعل، حيث دائرة لهيبه وحرارته تحول الزيت البارد الخامل إلى أصوات لاذعة تفض قرص الفلافل وتلقحه حتى ينتفخ ويحمر فرحا.. يلتقي مع أشباح أبطاله كلما زعقت أمه العجوز محتجة علي الصور المتآكلة على الجدران.
ــ يقطع الصور والساعة اللي علقت فيها الصور حتي انجن هالمجنون.
ينتبه إلي شيء ضاع منه.. يشعر الآن انه مجرد قرص فلافل منتفخ بالعجز والترهل.
شوقية عروق منصور - فلسطين
الصور تمثل أبطاله وهم يمتطون الخيول، قبعات ومسدسات وسنابك ملتصقة بمؤخرة جزماتهم المتسخة التي لم تلمع منذ أن وطئت الأرض، صحاري شاسعة ووديان عميقة وجبال شاهقة حيث يرحل فيها صدى وقع خطوات الخيول كأنها دقات شياطين على صدر طبله كبيرة تعلن أسرار الموت، داعبت الأفلام مخيلته فعاش مراهقته مرتكباً أثم التغلغل في أشباح هؤلاء الأبطال الذين يتحركون برجولة وفروسية فوق الشاشة البيضاء الكبيرة، أصبح يحلم بأن يصبح بطلاً كهؤلاء ـ عرف بعد ذلك أنهم يطلقون علي هؤلاء الأبطال رعاة البقر ـ، كان يحلم بأن يضع علي خاصرته مسدساً يستله بسرعة رمش العين ليردي العدو قتيلا من رصاصة واحده تستقر مباشرة في القلب، ثم يمتطي حصانه الذي هو في ذات الوقت صديقه الأمين الذي يهرع إليه في وقت الشدة ويكون مستعدا رهن إشارته، تاركاً خلفه جثة عدوه غارقة في دمها، وأشعة الشمس تزحف ببطء نحوها حتي تبني فوقها بركاً من الحروق الجافة تنتظر النسور كي تأتي لتلتهم جثة فوزه.
أمام شاشة السينما يحمل عشقه ليصبه حرصا وشغفا، تشده الأحداث ويغوص في إضاءة ملامح الأبطال حتى تخيم علي جسده الصغير خيمة النشوة والتعجب، حفظ أسماء الأبطال، جون وين، كلينت استوود، يول برنر، غاري كوبر، جليانو جيما، غريغوري بك .. وجوه وأسماء حلقت فوق حلمه الكاوبويي ، كان يتودد الي العاملين في سينما ديانا في مدينته الناصرة كي يعطوه صوراً ـ أفيشات ــ لهؤلاء الأبطال حتي يعلقها في غرفته، وحين كان يعلق صورة جديدة لأحدهم يشعر أن العالم قد فتح أمامه وأصبح في حضرة الرجولة والفروسية فارسا ينضم إليهم ويدخل حلمه إلي ثقوب الغياب الذي يشده إلي الفضول ويلسعه بانبهاره حتي يصحو ويكتشف أنه أمام صورة تشهد علي ازدهار أحلامه.
غرق في أفلام الكاوبوي حتى إنه طلب من والده مرة أن يشتري له حصاناً، وأراد والده أن يمسك طرفي السخرية منه فقال له : رح اشتريلك حصان بلاستيك ومسدس بلاستيك!!
ونظر إليه مزمجراً بعيونه التي ضاق صبرها من هذا الابن الحالم.. وبقيت شاشة السينما مرتعاً لأحلامه، لم تشهد الذبول حتي عندما بين له عمه المثقف أن رعاة البقر ما هم إلا جزء من المذابح التاريخية التي ارتكبت بحق الهنود الحمر وأنهم رمز السيطرة والهيمنة الامريكية.. لم يسمع كلامه بل امتص عباراته وأفرغها في ملامح الوجوه الممتدة على جدران غرفته.. وإمعانا في تجديد ذيول الاهتمام منع والده من دهن الغرفة ووطن والدته علي أن الغرفة ستبقي هكذا ما دام هو حياً.. وانصاعوا لرغباته.
اسراب السنوات تمر، أغلقت السينما أبوابها وتغيرت ملامح البناية وتكسرت لوحة الإعلان الخشبية التي كان يلصق عليها صوراً من الافلام مع أسماء الأبطال.. وذابت الشاشة الكبيرة لتصبح جداراً يحتضن رفوفاً خشبية لبيع مستحضرات التجميل والتنظيف، وغادرت السينما مكانها ولم تعد توحي للمارة أنه كانت هنا يوماً سينما، وبقي الكاوبوي مسيطراً عليه، يحمله بالحلم إلي السفر وحصانه يطارد الخيال متوغلاً بالوحدة وقسوة التذكر.
اقتني جهاز (فيديو) كي يشاهد أفلام (رعاة البقر) لكن متعة الشاشة السينمائية فُقدت أمام شاشة التلفزيون وصغر حجم الخيول والمسدسات والقبعات ولم تعد ملامح الأبطال تظهر عمقها وتفاصيلها التي كانت تصلبه علي اذرع الانبهار.. هروب شقيقه البكر كسر الحلم، هروب لا يعرف طريقه.. وصادر والده الضحكات والأحلام.. أصبح يخفي خيالته حتى لا ينهره والده ويشتمه وينعته بالمجنون.. واتسعت العيون التي تجلس على حافة الانتظار.. ونسي ملامح أبطاله لكن يعود بسرعة إلى حزن أمه التي فرت منها أمومتها نحوه ونحو إخوته لتشكل امومة خاصة للابن الغائب، امومة مبتلة بالابتهالات والدموع.. وأخيراً عرفوا بعد سنوات.. علموا أن الابن التحق بإحدى المنظمات الفلسطينية وأصبح مناضلاً، وقد وصلت سراً إليهم صوراً له مرتديا اللباس العسكري المرقط وفي يده رشاشاً ، وبدأ جسد أخيه يدخل في حلمه.. وبدأت خطوات أخيه وذراعيه وملامحه الصلبة تصوب فوهة عنادها نحو خياله.. وأصبح ينتظر العروض العسكرية بفارغ الصبر علي شاشة التلفزيون، تشده حركات العسكريين وانضباطهم.. وأصبحت هوايته قص صور المقاتلين من الجرائد والمجلات يعلقها الي جانب صور أبطاله، لكن والده عصر خياله كحبة ليمون ذابلة، مزق الصور وعندما رآه يبكي حضنه وقال: بكره الفسادين يفسدوا علينا يابا.. الوشاة كثار.. بخاف يعملوا من الصور قصة.. خليك في الكابوي أحسن الك..!!.
خارج الحلم يشعر بزوبعة في جسده.. يرتدي اللباس الكاكي المرقط، يقطع الأنهار والجبال بالحبال وبدون الحبال ــ اختفت الخيول والمسدسات والقبعات ـ يحمل رشاشاً كبيراً، يقظاً.. أخيه يشبه البطل الأسطوري.. ها هو يلحقه بأحلامه.. بهذيان خطواته.. يحدق بشبابه المنبعث من خيبة الأمل لتنمو فوق جناحيه وميض حرية مفتوحة علي المدي.
في تلك الليلة حين كانت أحلامه تمر أمامه كان يسكن فوق نكهة أحلامه فتات الواقع.. والده يستعير انتباهه ويؤكد ذلك.
ـ عيب انك تعيش بالأحلام... الأحلام أكاذيب.. والعاقل اللي بوقف أحلامه حتى لا تجره للجنون...!!
- هذا الولد اعقل مني ومنك، طول عمره بحلم حتى يهرب من المدرسة .. أنا بعرف دواه في الشغل، لازم ندبر له شغلة خفيفة، بدهاش شهادات ولا خبرة وأنا بساعدو فيها .. بصراحه انا لقيت ببيع فلافل أحسن شيء.. شغله مربحه وهاديه.
لم يحتج ولم يعلن انكسار مجده الوهمي، بل اعتبر كلام امه لوناً إضافيا لألوان أحلامه.
على الرصيف أمام بيتهم قام والده بصنع كشك من الصفيح، مربع صغير ـ بدلا من الحصان والدبابة ـ وعدة العمل بابور وصاج وطاوله ورفوف وطشت وتنكة زيت، عدة تمد لسانها ساخرة من أحلامه.. لم يتمرد.. لكن صار صوت القلي يستخف من احلامه و يستهزء من اصوات خطواته الضاربة فوق الصخور والوديان.. انه يجلس يوميا أمام البابور المشتعل، حيث دائرة لهيبه وحرارته تحول الزيت البارد الخامل إلى أصوات لاذعة تفض قرص الفلافل وتلقحه حتى ينتفخ ويحمر فرحا.. يلتقي مع أشباح أبطاله كلما زعقت أمه العجوز محتجة علي الصور المتآكلة على الجدران.
ــ يقطع الصور والساعة اللي علقت فيها الصور حتي انجن هالمجنون.
ينتبه إلي شيء ضاع منه.. يشعر الآن انه مجرد قرص فلافل منتفخ بالعجز والترهل.
شوقية عروق منصور - فلسطين