بلغ من العمر عتيَّا، لقِيَ معظم جيله حتفه وقليل منهم بعدد أصابع اليد الواحدة ما زالون على قيد الحياة، عاصر عدة أجيالٍ بمفاهيم مختلفة، لكنه ثابت كالصخرة الصماء لا يتغيَّر فيه سوى ميقات التواريخ والأعوام.
العم (حمدان) أمِّيّ لا يجيد القراءة والكتابة، لكن له ذكاء فطري، حافظ لسور القرآن الكريم والأدعية على ظهر قلب، لا يترك شيئًا من العبادات إلا مارسها بخشوعٍ وإيمان، لم يدرس النظريات الرياضية ولكن يمتلك سرعة البديهة في كل ما يتعلق بالحساب من الضرب والقسمة والطرح... الخ، يحب ترابط صلة الأرحام، يخندق داخل قبيلته متحفِّظًا وحذِرًا مع الغرباء، حنون للحدِّ البعيد، دموع عينيه قريبة إذا ما فقد عزيزًا، يمتاز بالعِناد والتسلُّط، يؤمِن برأيه ويفرضه على الجميع، حتى أنَّه زوَّج بناته الثلاث في سنٍّ مبكرة وهن قاصرات من غير مشورة، هو من اختار لهنّ العرسان.
نشب صراعٌ بينه وبين ابنه البكر (أحمد) حيث يريد أن يكون مثل ما يتمنى والابن يحب أن يصبح كما يشتهي. أحمد متعدِّد المواهب، يحبّ الفن والغناء، ذات مرةٍ تغنَّى في منزل عُرسٍ بالحارة، سمع صوته يصدح بالأهازيج والرقص، أتاه غاضبًا وهو يزبد، أشهر عصاته في وجه وطرده من المسرح أمام الحضور بصورة محرجة، وأقسم بالله إذا عاد إلى البيت فسوف يقطع رقبته، نام (أحمد) تلك الليلة مفزوعًا في منزل أحد الجيران، الأستاذ (مبارك) شخصيةٌ لديها احترامٌ كبير عند العم (حمدان)، لعب دور الوسيط وأرجع المياه إلى مجاريها وأُصغِيَ لحديثه فرجع أحمد إلى بيت أبيه، بسبب حياته الخشنة والجافة يعتقد أنَّ الفن ميعةٌ ولهوٌ ولا يمتّ للرجولة بصلة.
درس (أحمد) في معهد الموسيقى والمسرح حين كان يتمناه والده طبيبًا متميِّزًا، نظرته إلى ابنه أنَّه الابن الضالّ الذي لا يُرجو منه شيئًا، رغم أنَّه لم يكن كذلك، يشهد له الجميع أنَّه رحيمٌ وبارٌّ بوالديه، تعلَّق أحمد بحبيبته مثل أي فنَّانٍ جميل وفيّ للمحبوبة، هو على علم بأنَّ أباه أكبر عائقٍ أمام إكمال مسيرته الزوجية، لكنه قَبِل التحدي ولم يتردَّد لحظةً من أجل عشقه الأمين. عندما أخبر والده عن محبوبته وجِهَة انتمائها من الرقعة الجغرافية من الوطن الشاسع، هاج وماج وكشَّر عن أنيابه، لم يجد سببًا مُقنعًا سوى أن نعتها بـ (الخادمة)، الزواج عنده لا يخرج من نطاق الدائرة الضيقة داخل القبيلة أو العائلة. ليالٍ وأيام من المفاوضات الطويلة بين الشد والجذب وتحت ضغط الرأي العام قَبِل على مضضٍ واختار هو موعد عقد القِران على عجل.
(حامد) الشقيق الأصغر خارج البلاد، أرسل بعض المال لأخيه ليتمّ مراسيم زواجه وأخبره متفائلًا أنه في انتظار الإشارة من المُهرِّب، بعد أيام سيغامر بعبور البحر إلى دنيا الأحلام السعيدة وبعد وصوله هناك سيقدم الكثير من المساعدات لعائلته الكريمة، بعد ترتيب وتوفيق أوضاعه.
في يوم الجمعة من الموعد المحدد بعد الصلاة تم عقد القِران وودَّع (أحمد) حياة العزوبية، العم حمدان حابسٌ الدموع في المقل كشعور فارسٍ مهزوم، بعدها انهالت التبريكات والتهاني من المُصلِّين، أثناء الخروج من المسجد اتصل به هاتفيًّا صديق شقيقه (حامد) منذ الطفولة، يُدعى (بكري)، أحسَّ أحمد بإحساسه المرهف بأنَّ هنالك شيءٌ مريب وغريب، انتابه شعورٌ بالخوف دقَّ قلبه مرتجفًا، أخبره بكري بصوتً نحيبٍ ممتلئٍ بالأحزان قائلًا: «كنّا مجموعةً من المهاجرين غير الشرعيين، ركبنا القارب هربًا من الفقر المدقع نحو حياةٍ جديدة مُترفة، برغم طول الطريق والمخاطر لم يدب اليأس في أنفسنا، لكن فور اقترابنا من السواحل الإيطالية حدث ثقبٌ في القارب المُتهالك، اجتهادنا ونحن نغرِف المياه ولكن يد القدر كانت أسرع من تماسكنا، انقلب بنا القارب، بعد وصولي إلى البر سابحًا، قدَّم لنا خفر السواحل الإسعافات الأولية، بحثت عن حامد بين الوجوه ولكن لم أعثر عليه بين الناجيين، صار من تِعداد المفقودين، لم يسلم من غدر أمواج البحر، لقد دخل صديقي العزيز بوابة الموت وربما صار قبره بطن الحوت»، هبَّت الأحزان على أحمد في تلك اللحظة العصيبة كالإعصار، نزلت منه الدموعُ سخية، لم يتمالك نفسه، انفجر باكيًا وهو مُمسِكٌ بالهاتف يصرخ بهسترية: «حامد مات.. حامد مات..» أخذ خاله الهاتف استمع إلى بكري فأكَّد للجميع خبر وفاته.
ما هي إلا ساعات، تدفَّقت الحشود من كلِّ فجٍّ إلى منزل العم حمدان، صيوان الأفراح تبدَّل لصيوان عزاء وتغيَّرت العواطف من أقصاها إلى أقصاها، الخالات والعمَّات يصرخن بأعلى صوتهن، ارتبطن يوم العُرسِ بالحدث الفاجع، يلطمن الخدود وينثرن التراب فوق رؤوسهنّ، يصرخن (الخادمة) نذر الشؤم جلبت لنا النحس واللعنة، لو لا تدخُّل بعض العقلاء ذوي الحِنكة والحكمة لحصل مكروهٌ وفتنةٌ كبيرة بين النسائب. الأيام كفيلةٌ بغسل الأحزان وتخفيف حدة الألم مهما واجهنا من صعوبات وصدمات، تمَّ زواج (أحمد) دون مراسيم، عدَّت الأيام سريعًا بين الحب والحزن، ومرَّت المياه تحت الجسر بخيرها وشرها، في عيد ميلاد زواجه المشؤوم أنجبت زوجته (مناهل) طفلًا جميلًا أُطلق عليه اسم (حامد) تيمُّنًا بأخيه المرحوم. توالت السنوات واجتمع الكِبر والمرض على العم (حمدان)، بحكم سكن بناته الثلاث في أقصى الأقاليم البعيدة في ظل الظروف القاسية، وزحمة عمل ابنه (أحمد)، كانت (مناهل) هي من تقوم بممارضته وتقدِّم المساعدة الممكنة، صبورةٌ تجاهه، لا تكلُّ ولا تملّ، بروحها المرحة تناديه بـ (أبوي). ولأنَّ لكلِّ أجلٍ كتاب، أيقن العم حمدان أنَّه راحلٌ قريبًا من هذه الدنيا، نادى إخوانه أمام ابنه ليقول وصيته الأخيرة، التفَّ الجميع حوله، أخرج كلماته بصعوبةٍ بالغة، طريح الفراش وهو يشعر بالذنب التاريخي، فقال: «يا ولدي، مناهل بنتي دي لو طلقتها ما عافي منك دنيا وآخرة».
لفظ أنفاسه الأخيرة ثم شُيِّع إلى مرقده الأخير، بكت مناهل يوم رحيله كما لم تبكِ من قبل، كان العمّ حمدان يمثِّل لها الوالد العزيز.
إدريس على بابكر
العم (حمدان) أمِّيّ لا يجيد القراءة والكتابة، لكن له ذكاء فطري، حافظ لسور القرآن الكريم والأدعية على ظهر قلب، لا يترك شيئًا من العبادات إلا مارسها بخشوعٍ وإيمان، لم يدرس النظريات الرياضية ولكن يمتلك سرعة البديهة في كل ما يتعلق بالحساب من الضرب والقسمة والطرح... الخ، يحب ترابط صلة الأرحام، يخندق داخل قبيلته متحفِّظًا وحذِرًا مع الغرباء، حنون للحدِّ البعيد، دموع عينيه قريبة إذا ما فقد عزيزًا، يمتاز بالعِناد والتسلُّط، يؤمِن برأيه ويفرضه على الجميع، حتى أنَّه زوَّج بناته الثلاث في سنٍّ مبكرة وهن قاصرات من غير مشورة، هو من اختار لهنّ العرسان.
نشب صراعٌ بينه وبين ابنه البكر (أحمد) حيث يريد أن يكون مثل ما يتمنى والابن يحب أن يصبح كما يشتهي. أحمد متعدِّد المواهب، يحبّ الفن والغناء، ذات مرةٍ تغنَّى في منزل عُرسٍ بالحارة، سمع صوته يصدح بالأهازيج والرقص، أتاه غاضبًا وهو يزبد، أشهر عصاته في وجه وطرده من المسرح أمام الحضور بصورة محرجة، وأقسم بالله إذا عاد إلى البيت فسوف يقطع رقبته، نام (أحمد) تلك الليلة مفزوعًا في منزل أحد الجيران، الأستاذ (مبارك) شخصيةٌ لديها احترامٌ كبير عند العم (حمدان)، لعب دور الوسيط وأرجع المياه إلى مجاريها وأُصغِيَ لحديثه فرجع أحمد إلى بيت أبيه، بسبب حياته الخشنة والجافة يعتقد أنَّ الفن ميعةٌ ولهوٌ ولا يمتّ للرجولة بصلة.
درس (أحمد) في معهد الموسيقى والمسرح حين كان يتمناه والده طبيبًا متميِّزًا، نظرته إلى ابنه أنَّه الابن الضالّ الذي لا يُرجو منه شيئًا، رغم أنَّه لم يكن كذلك، يشهد له الجميع أنَّه رحيمٌ وبارٌّ بوالديه، تعلَّق أحمد بحبيبته مثل أي فنَّانٍ جميل وفيّ للمحبوبة، هو على علم بأنَّ أباه أكبر عائقٍ أمام إكمال مسيرته الزوجية، لكنه قَبِل التحدي ولم يتردَّد لحظةً من أجل عشقه الأمين. عندما أخبر والده عن محبوبته وجِهَة انتمائها من الرقعة الجغرافية من الوطن الشاسع، هاج وماج وكشَّر عن أنيابه، لم يجد سببًا مُقنعًا سوى أن نعتها بـ (الخادمة)، الزواج عنده لا يخرج من نطاق الدائرة الضيقة داخل القبيلة أو العائلة. ليالٍ وأيام من المفاوضات الطويلة بين الشد والجذب وتحت ضغط الرأي العام قَبِل على مضضٍ واختار هو موعد عقد القِران على عجل.
(حامد) الشقيق الأصغر خارج البلاد، أرسل بعض المال لأخيه ليتمّ مراسيم زواجه وأخبره متفائلًا أنه في انتظار الإشارة من المُهرِّب، بعد أيام سيغامر بعبور البحر إلى دنيا الأحلام السعيدة وبعد وصوله هناك سيقدم الكثير من المساعدات لعائلته الكريمة، بعد ترتيب وتوفيق أوضاعه.
في يوم الجمعة من الموعد المحدد بعد الصلاة تم عقد القِران وودَّع (أحمد) حياة العزوبية، العم حمدان حابسٌ الدموع في المقل كشعور فارسٍ مهزوم، بعدها انهالت التبريكات والتهاني من المُصلِّين، أثناء الخروج من المسجد اتصل به هاتفيًّا صديق شقيقه (حامد) منذ الطفولة، يُدعى (بكري)، أحسَّ أحمد بإحساسه المرهف بأنَّ هنالك شيءٌ مريب وغريب، انتابه شعورٌ بالخوف دقَّ قلبه مرتجفًا، أخبره بكري بصوتً نحيبٍ ممتلئٍ بالأحزان قائلًا: «كنّا مجموعةً من المهاجرين غير الشرعيين، ركبنا القارب هربًا من الفقر المدقع نحو حياةٍ جديدة مُترفة، برغم طول الطريق والمخاطر لم يدب اليأس في أنفسنا، لكن فور اقترابنا من السواحل الإيطالية حدث ثقبٌ في القارب المُتهالك، اجتهادنا ونحن نغرِف المياه ولكن يد القدر كانت أسرع من تماسكنا، انقلب بنا القارب، بعد وصولي إلى البر سابحًا، قدَّم لنا خفر السواحل الإسعافات الأولية، بحثت عن حامد بين الوجوه ولكن لم أعثر عليه بين الناجيين، صار من تِعداد المفقودين، لم يسلم من غدر أمواج البحر، لقد دخل صديقي العزيز بوابة الموت وربما صار قبره بطن الحوت»، هبَّت الأحزان على أحمد في تلك اللحظة العصيبة كالإعصار، نزلت منه الدموعُ سخية، لم يتمالك نفسه، انفجر باكيًا وهو مُمسِكٌ بالهاتف يصرخ بهسترية: «حامد مات.. حامد مات..» أخذ خاله الهاتف استمع إلى بكري فأكَّد للجميع خبر وفاته.
ما هي إلا ساعات، تدفَّقت الحشود من كلِّ فجٍّ إلى منزل العم حمدان، صيوان الأفراح تبدَّل لصيوان عزاء وتغيَّرت العواطف من أقصاها إلى أقصاها، الخالات والعمَّات يصرخن بأعلى صوتهن، ارتبطن يوم العُرسِ بالحدث الفاجع، يلطمن الخدود وينثرن التراب فوق رؤوسهنّ، يصرخن (الخادمة) نذر الشؤم جلبت لنا النحس واللعنة، لو لا تدخُّل بعض العقلاء ذوي الحِنكة والحكمة لحصل مكروهٌ وفتنةٌ كبيرة بين النسائب. الأيام كفيلةٌ بغسل الأحزان وتخفيف حدة الألم مهما واجهنا من صعوبات وصدمات، تمَّ زواج (أحمد) دون مراسيم، عدَّت الأيام سريعًا بين الحب والحزن، ومرَّت المياه تحت الجسر بخيرها وشرها، في عيد ميلاد زواجه المشؤوم أنجبت زوجته (مناهل) طفلًا جميلًا أُطلق عليه اسم (حامد) تيمُّنًا بأخيه المرحوم. توالت السنوات واجتمع الكِبر والمرض على العم (حمدان)، بحكم سكن بناته الثلاث في أقصى الأقاليم البعيدة في ظل الظروف القاسية، وزحمة عمل ابنه (أحمد)، كانت (مناهل) هي من تقوم بممارضته وتقدِّم المساعدة الممكنة، صبورةٌ تجاهه، لا تكلُّ ولا تملّ، بروحها المرحة تناديه بـ (أبوي). ولأنَّ لكلِّ أجلٍ كتاب، أيقن العم حمدان أنَّه راحلٌ قريبًا من هذه الدنيا، نادى إخوانه أمام ابنه ليقول وصيته الأخيرة، التفَّ الجميع حوله، أخرج كلماته بصعوبةٍ بالغة، طريح الفراش وهو يشعر بالذنب التاريخي، فقال: «يا ولدي، مناهل بنتي دي لو طلقتها ما عافي منك دنيا وآخرة».
لفظ أنفاسه الأخيرة ثم شُيِّع إلى مرقده الأخير، بكت مناهل يوم رحيله كما لم تبكِ من قبل، كان العمّ حمدان يمثِّل لها الوالد العزيز.
إدريس على بابكر