بدأ الهواء يصبح شحيحا داخل المدرعة، مع كل الروائح التي تنبعث الآن من هؤلاء الجنود، ومنه أيضا.. آهارون.. الفتى الذي جيء به من إحدى الجامعات ببئر السبع، بدأ يشعر الآن أن الجيش قد رمى به داخل هذه المعركة مثل كلب؛ منذ البداية، كان قد عرف أن أيا من الأمور لن تكون على ما يرام في هذا المكان، على الأقل بالنسبة إليه، هو الذي لم يشارك في أية مواجهة من قبل.. وأكثر ما كان يثقل كاهله، هو ورفاقه الخمسة، أن طائرات القصف، كلما كانت قاب قوسين أو أدنى من إبادة العدو، كلما فوجئوا بهم ينهضون من تحت الركام ليتحدثوا، شعث الرؤوس، إلى وسائل الإعلام بفصاحة عارمة…
كان هذا الشيء يملأ صدره بالرهبة والتشاؤم. ومن حين لآخر، كانت معدته ترسل إلى حلقه ارتجاعات حارقة تجعله يغوص داخل بذلته الساخنة كشيء ذائب، قبل أن يعود فيمد أنفه إلى الأعلى كي يتنشق بعض الهواء.. الهواء الذي اختلطت فيه روائح الأنفاس والجوارب والحفاظات.. الحفاظات التي يجلسون عليها جميعا الآن، والتي قدمتها لهم إدارة الموارد في كيس ليف حربي كما لو كانت هي الأخرى من الذخائر، ثم بدأ الكيس يتضاءل ويتضاءل حتى كشف لهم عن آخر القطع، فتسلم كل جندي حفاظته الأخيرة واستلاق بها في حرج كبير.. كانوا يعلمون أن لامهرب لهم الآن من التبعات، وأن من يخطو لقضاء حاجته خارج المدرعة، إنما سيفعل ذلك كي يعود برأس مفجرة، وهذا ما حدث لبعض النزلاء في مقصورة الجرحى.
منذ أول الظهيرة، كانت المدرعة قد أصبحت مجرد مخبإ محشور بين الأزقة، ذلك لأن المسلحين أرسلوا على مقدمتها قذيفة أفسدت نظام التشغيل بمنصة القيادة، فتوقف تقريبا كل شيء. أما يعلون، وهو المكلف بجهاز القيادة، فكان يحاول تهدئة نفسه بعد أن تقيأ على ملابسه إثر الضربة؛ إذ كان مزيج الكرنب الأبيض وعصارة الشعير قد تحولا داخل معدته تحولا منكرا، كما لو أنه تقيأ غائطه، حتى إن آهارون تمنى، وهو يراه ينشف بركته، لو أنه كان قد أفرغها هي الأخرى في حفاظته. لهذا السبب، كانت المدرعة قد غدت من الداخل أشبه بمزبلة قديمة متخمرة…
ومع كل الذي جرى، استطاع يعلون أن يتماسك محاولا إعادة تشغيل جهاز التحكم؛ ضغط على بعض الأزرار على التوالي، ثم صر على أسنانه قائلا :
ــ اللعنة.. صرنا الآن كالعميان في هذه المعركة…
.. كاميرا قبة المراقبة، والتي لطالما عكست لهم ما يدور في الاتجاهات الأربع، كانت قد انتهت هي الأخرى مع تلك الضربة. أما المدفع الرشاش الذي يتقدم المدرعة، فلم يعد يتلقى إشارة كهربية واحدة. كانت أجهزة التشغيل قد دُمرت بالكامل كلعبة أطفال.. وحده رفيقهما موشي، كان ما يزال العمل متاحا له عند الباب الخلفي، حيث كان يصوب رشاشه الخفيف من الفتحة الوحيدة التي هناك، باحثا عن صيد أعزل يقتنصه، إلا أنه هو الآخر كان قد أصبح مثلهما، بلا عمل؛ فأطرافه لم تعد تكف عن الارتجاف، والمسلحون يخفون أنفسهم كالهوام تحت الأنقاض والأتربة… أما المقصورة التي تليه، فقد امتلأت بأصدقائه الجرحى، وكانو كلهم حديثي عهد بهذا الأمر.. كان قد عرف أن أجهزة العناية المركزة بها قد توقفت هي الأخرى عن مدهم بالتنفس، فمات منهم اثنان، وبقي الثالث يكح، من حين لآخر، طلبا لبعض المساعدة. كان هذا الشيء يفت في عضده، مع شعور عميق بالخوف من أن يكون قد غدا هو الآخر لقمة سائغة بين هذه الأزقة من دون أن يدري…
ومع ذلك، وجد نفسه ينادي من الداخل طلبا لإسعاف هذا الزميل.
.. عندها، أشار يعلون إلى رفيقه القريب بيد واحدة وهو يصرخ في عصبية:
ـــــــــ آهارون..أعطه جهاز التنفس اليدوي. اجعله يستخدمه بنفسه وأنت عد إلى مربعك.. موشي عد إلى مربعك…
بحث آهارون تحت الضوء المتسلل من الكوة الوحيدة التي كانت هناك، فوجد الجهاز في أحد الأدراج. جربه على أنفه وضغط، فشعر بدفقات باردة أنعشت صدره لأول مرة منذ ساعات، ثم ركّبه على وجه الجريح وبدأ يضخ له الهواء مفكرا فيما ستؤول إليه الأمور إن بدأت جثث القتلى بالتفسخ، هي الأخرى، بعد ليلة واحدة قد يمضونها معا في هذا المكان… وقد سرت في جسده قشعريرة مؤلمة عندما وقعت عيناه على المخزن المكشوف قرب النقالات، حيث تكدست الذخيرة التي سيتمنطقون بها إن أتتهم أوامر الجيش يالترجل قصد المواجهة. وعلى الرغم من معرفته بأن أجهزة الإرسال هي الأخرى قد تعطلت، إلا أنه كان يعرف، في قرارة نفسه، أنه لم يتدرب جيدا كي يقوى على أي قتال، وعندما بدأ يركز كامل قواه في إنعاش الجريح، سمع يعلون يناديه من الداخل في توتر :
ـــــــــــ قلت سلمه الجهاز كي يساعد نفسه بنفسه. اشبك أصابعه عليه بقوة وعد إلي..
.. عاد آهارون بسرعة إلى قمرة القيادة، على الرغم من أن الجريح كان قد رمقه بنظرة أخيرة متوسلة، لكن الآخر أشاح عنه بوجهه ونهض. بعدها بثوان قليلة، رأى يعلون وهو يحاول إصلاح المنصة من جديد، حيث تفقد الفتائل السلكية الخاصة بفتحات المراقبة، ثم استخرج بعض البراغي متفاوتة الحجم وأخذ يسحب المثبتات.. بدأ باللوح الكهربائي الموصَل بالمدفع الرشاش، فكك جزءا يسيرا منه بحذر، ثم أعاد بناءه بحركات مترددة. بعدها، ضغط على زر التشغيل، فلم تصدر طلقة واحدة، ثم لم يجد بدا من التحول إلى جهاز الإرسال، عسى أن يصدر لهم على الأقل طلبا للنجدة.. خربش فيه قليلا دون جدوى، بينما كان آهارون قد بدأ يراقب شاشة الحاسوب وهو يغطي أنفه بيد واحدة… لفتت هذه الحركة الأخيرة يعلون، فجعل يهز رأسه قائلا بسخرية حزينة
ــــــــ أمامك الكثير كي تعتاد على هذه الأمور، هذا إن خرجت حيا من هنا بالطبع. هذه الحفاظات التي تثير اشمئزازك الآن هي صاحبة فضل كبير في معارك جيشك… صلّ فقط كي لا نقع جميعنا في الأسر
.. ما أن بدأ الليل بالهبوط، حتى انهال رصاص المسلحين على جوانب المدرعة…
لطالما سمعوا يعلون يسخر من أدواتهم الرثة في بداية هذا الأمر كله، وهو الأكثر دُرْبة في مثل هذه الاشتباكات، فقد كانت المدرعة من الصلابة بحيث أنها…
لكنهم أعطبوها حقا هذه المرة
.. بيد أنه شعر بأشد الهلع لما سمع أزيز الطائرات وهي تحلق فوقهم في ما يشبه العتاب. عندها، ضم يديه إلى فمه رافعا الصوت كي يصل حتى مقصورة القنص، حيث يقف موشي، منذ الصباح، مشدوها بلا سبب.
ـــــــ صلوا كي لا نُقصف مع عدونا في ضربة واحدة
قبل أن يتم كلامه، سمعوا صوتا مدويا يضرب مقدمة المدرعة، فتدحرجوا على الأرضية جميعا في وقت واحد، بينما جثا يعلون على ركبتيه كي يتقيأ كالعادة، ولكنه ما لبث أن استجمع أنفاسه ونهض.. صاح وهو يمسح فمه بكم البزة
ـــــــ صلوا .. صلوا كي لا تسحقنا الطائرات إن نحن وقعنا في الأسر
عندها، دهش آهارون وسأله:
ــ طائراتنا؟ طائراتنا تقصفنا الآن كي لا نقع في الأسر؟
…موشي كان آخر من نهض. تقدم إليهما ويده على رشاشه. العينان جاحظتان وزائغتان، كما لو كان منشغلا بتدبير ما.. عرف فيه آهارون ذلك عندما زاره في مربعه قبل سويعات قليلة؛ كان اختفاء المسلحين يثير جنونه. وعندما سأله منذ متى لم يطلق خراطيشه، هز الآخر رأسه مغمغما في شرود
ــ هل يعقل أن يُجهّز رشاش القنص، في مدرعة كبيرة كهذه، فقط بخراطيش صاعقة؟ إنهم يتهاوون كالجثث في بداية الأمر، ولكنك تجدهم، في الغد، يتصارخون في وجهك. إنهم لا ينتهون أبدا، كما لو كانوا يتناسخون، بينما أمضي وقتي واقفا، كالمخصي، خلف هذا الباب…
كان يتحدث وهو يضغط بيديه معا على رشاشه ويرتجف، حتى إنه لم يتمكن من إدخال سبابته في حلقة الزناد إلا بعد أن شدها له آهارون مصوبا… كل هذه الأشياء جعلت آهارون يدرك كم أصبح الجو متوترا داخل المدرعة، وانضاف إلى ذلك أزيز الطائرات وهي تحلق قرب رؤوسهم في حركات محيرة… أما يعلون الذي كان يضم صورة شخص ما إلى صدره، فقد أمره بالإكثار من الصلاة. وهكذا، بينما كان موشي قد بدأ يغادر موقعه بين الفينة والأخرى إلى مقصورة الموتى كي يتحسس وجوههم، كان يعلون وحده قد صلى كثيرا داخل المدرعة، بينما عاد آهارون ليدس أنفه في ياقة بذلته العفنة، محاولا استنشاق رائحة جلده وحدها على الأقل…
طوال أيام هذا الاجتياح، لم يفقد يعلون رباطة جأشه كما فعل هذه المرة.. كان يحرص على أن يظل هادئا حتى وهو يصرخ فيمن حوله. ورغم ازدرائه الواضح لمرؤوسه موشي، بما أنه كان قناصا غير ذي فعالية، فقد صُعق عندما سمعه يقول، من داخل المقصورة، فيما يشبه الدندنة
ــ لو أن أعداءنا كانوا ما يزالون عزلا هذه المرة أيضا
عندها، صرخ فيه يعلون بحدة عارمة
ــــــ موشي أيها الوغد الثرثار.. دع مكانك وأظهر لي قامتك القميئة.. على الفور
بسرعة، هرول الآخر كي يطيع الأوامر كجرو صغير، قرّب وجهه من يعلون مستفسرا، فزعق فيه هذا الأخير وهو يرتجف
ــــــ هات الرشاش
ولكن أزيزا قويا جاء فقطع أصواتهم متبوعا بدوي شديد اهتزت له أركان المدرعة. سد الجميع آذانهم وأخفوا عيونهم المغمضة بالمرافق. وعندما فتحوها، رأوا كبة من اللهب تأكل مقصورة الجرحى، ومعها مربع القنص بآخر المدرعة. وهكذا، عرف آهارون أن معظم مشاكلهم قد بدأت في طريقها إلى الحل؛ فنصف الجنود قد أصبحوا الآن صرعى، ويعلون تلا صلواته الطويلة كشخص ميت لا محالة، أما موشي، فقد انتهى أمره كشخص عاقل، والآن جاءت هذه الفوضى…
وقد كانت هناك أصوات أخرى بالخارج تكبر وتهلل كما لو كانت قد حصلت على صيد ثمين، ومن الكوات الصغيرة المتبقية، بدأ الجميع يطلون بعيونهم كي يفهموا بعض الذي حدث، إلا آهارون.. كانت رائحة احتراق الجثث جنبهم قد أفقدته خوفه وتركيزه فحاول تسلق السلم المؤدي إلى ظهر المدرعة، هنالك، حيث دفع غطاء القبة العلوي وأخرج رأسه، فاندفع الهواء كسائل بارد إلى صدره.. وعندما تهيأ كي يشهق مرة أخرى، شعر بصدمة قوية تصعقه، أعقبتها رعشة كتلك التي يخلفها رذاذ الماء على وجه ساخن، ثم أظلمت غزة . عندها، مد آهارون يدا ثقيلة كي يتلقف اللزوجة الحمراء التي تدلت على وجهه وعنقه.. أبعد بعضها عن عينيه وهو يحاول التحديق في شيء واحد يميزه، ثم تهاوى بكل ثقله عائدا إلى الرفاق.. هناك، حيث ما عاد يُسمع غير طقطقة النيران وهي تتناسل وتدور كي تملأ الفراغ الصامت وتلتهم كل ما تبقى من المدرعة..
كان هذا الشيء يملأ صدره بالرهبة والتشاؤم. ومن حين لآخر، كانت معدته ترسل إلى حلقه ارتجاعات حارقة تجعله يغوص داخل بذلته الساخنة كشيء ذائب، قبل أن يعود فيمد أنفه إلى الأعلى كي يتنشق بعض الهواء.. الهواء الذي اختلطت فيه روائح الأنفاس والجوارب والحفاظات.. الحفاظات التي يجلسون عليها جميعا الآن، والتي قدمتها لهم إدارة الموارد في كيس ليف حربي كما لو كانت هي الأخرى من الذخائر، ثم بدأ الكيس يتضاءل ويتضاءل حتى كشف لهم عن آخر القطع، فتسلم كل جندي حفاظته الأخيرة واستلاق بها في حرج كبير.. كانوا يعلمون أن لامهرب لهم الآن من التبعات، وأن من يخطو لقضاء حاجته خارج المدرعة، إنما سيفعل ذلك كي يعود برأس مفجرة، وهذا ما حدث لبعض النزلاء في مقصورة الجرحى.
منذ أول الظهيرة، كانت المدرعة قد أصبحت مجرد مخبإ محشور بين الأزقة، ذلك لأن المسلحين أرسلوا على مقدمتها قذيفة أفسدت نظام التشغيل بمنصة القيادة، فتوقف تقريبا كل شيء. أما يعلون، وهو المكلف بجهاز القيادة، فكان يحاول تهدئة نفسه بعد أن تقيأ على ملابسه إثر الضربة؛ إذ كان مزيج الكرنب الأبيض وعصارة الشعير قد تحولا داخل معدته تحولا منكرا، كما لو أنه تقيأ غائطه، حتى إن آهارون تمنى، وهو يراه ينشف بركته، لو أنه كان قد أفرغها هي الأخرى في حفاظته. لهذا السبب، كانت المدرعة قد غدت من الداخل أشبه بمزبلة قديمة متخمرة…
ومع كل الذي جرى، استطاع يعلون أن يتماسك محاولا إعادة تشغيل جهاز التحكم؛ ضغط على بعض الأزرار على التوالي، ثم صر على أسنانه قائلا :
ــ اللعنة.. صرنا الآن كالعميان في هذه المعركة…
.. كاميرا قبة المراقبة، والتي لطالما عكست لهم ما يدور في الاتجاهات الأربع، كانت قد انتهت هي الأخرى مع تلك الضربة. أما المدفع الرشاش الذي يتقدم المدرعة، فلم يعد يتلقى إشارة كهربية واحدة. كانت أجهزة التشغيل قد دُمرت بالكامل كلعبة أطفال.. وحده رفيقهما موشي، كان ما يزال العمل متاحا له عند الباب الخلفي، حيث كان يصوب رشاشه الخفيف من الفتحة الوحيدة التي هناك، باحثا عن صيد أعزل يقتنصه، إلا أنه هو الآخر كان قد أصبح مثلهما، بلا عمل؛ فأطرافه لم تعد تكف عن الارتجاف، والمسلحون يخفون أنفسهم كالهوام تحت الأنقاض والأتربة… أما المقصورة التي تليه، فقد امتلأت بأصدقائه الجرحى، وكانو كلهم حديثي عهد بهذا الأمر.. كان قد عرف أن أجهزة العناية المركزة بها قد توقفت هي الأخرى عن مدهم بالتنفس، فمات منهم اثنان، وبقي الثالث يكح، من حين لآخر، طلبا لبعض المساعدة. كان هذا الشيء يفت في عضده، مع شعور عميق بالخوف من أن يكون قد غدا هو الآخر لقمة سائغة بين هذه الأزقة من دون أن يدري…
ومع ذلك، وجد نفسه ينادي من الداخل طلبا لإسعاف هذا الزميل.
.. عندها، أشار يعلون إلى رفيقه القريب بيد واحدة وهو يصرخ في عصبية:
ـــــــــ آهارون..أعطه جهاز التنفس اليدوي. اجعله يستخدمه بنفسه وأنت عد إلى مربعك.. موشي عد إلى مربعك…
بحث آهارون تحت الضوء المتسلل من الكوة الوحيدة التي كانت هناك، فوجد الجهاز في أحد الأدراج. جربه على أنفه وضغط، فشعر بدفقات باردة أنعشت صدره لأول مرة منذ ساعات، ثم ركّبه على وجه الجريح وبدأ يضخ له الهواء مفكرا فيما ستؤول إليه الأمور إن بدأت جثث القتلى بالتفسخ، هي الأخرى، بعد ليلة واحدة قد يمضونها معا في هذا المكان… وقد سرت في جسده قشعريرة مؤلمة عندما وقعت عيناه على المخزن المكشوف قرب النقالات، حيث تكدست الذخيرة التي سيتمنطقون بها إن أتتهم أوامر الجيش يالترجل قصد المواجهة. وعلى الرغم من معرفته بأن أجهزة الإرسال هي الأخرى قد تعطلت، إلا أنه كان يعرف، في قرارة نفسه، أنه لم يتدرب جيدا كي يقوى على أي قتال، وعندما بدأ يركز كامل قواه في إنعاش الجريح، سمع يعلون يناديه من الداخل في توتر :
ـــــــــــ قلت سلمه الجهاز كي يساعد نفسه بنفسه. اشبك أصابعه عليه بقوة وعد إلي..
.. عاد آهارون بسرعة إلى قمرة القيادة، على الرغم من أن الجريح كان قد رمقه بنظرة أخيرة متوسلة، لكن الآخر أشاح عنه بوجهه ونهض. بعدها بثوان قليلة، رأى يعلون وهو يحاول إصلاح المنصة من جديد، حيث تفقد الفتائل السلكية الخاصة بفتحات المراقبة، ثم استخرج بعض البراغي متفاوتة الحجم وأخذ يسحب المثبتات.. بدأ باللوح الكهربائي الموصَل بالمدفع الرشاش، فكك جزءا يسيرا منه بحذر، ثم أعاد بناءه بحركات مترددة. بعدها، ضغط على زر التشغيل، فلم تصدر طلقة واحدة، ثم لم يجد بدا من التحول إلى جهاز الإرسال، عسى أن يصدر لهم على الأقل طلبا للنجدة.. خربش فيه قليلا دون جدوى، بينما كان آهارون قد بدأ يراقب شاشة الحاسوب وهو يغطي أنفه بيد واحدة… لفتت هذه الحركة الأخيرة يعلون، فجعل يهز رأسه قائلا بسخرية حزينة
ــــــــ أمامك الكثير كي تعتاد على هذه الأمور، هذا إن خرجت حيا من هنا بالطبع. هذه الحفاظات التي تثير اشمئزازك الآن هي صاحبة فضل كبير في معارك جيشك… صلّ فقط كي لا نقع جميعنا في الأسر
.. ما أن بدأ الليل بالهبوط، حتى انهال رصاص المسلحين على جوانب المدرعة…
لطالما سمعوا يعلون يسخر من أدواتهم الرثة في بداية هذا الأمر كله، وهو الأكثر دُرْبة في مثل هذه الاشتباكات، فقد كانت المدرعة من الصلابة بحيث أنها…
لكنهم أعطبوها حقا هذه المرة
.. بيد أنه شعر بأشد الهلع لما سمع أزيز الطائرات وهي تحلق فوقهم في ما يشبه العتاب. عندها، ضم يديه إلى فمه رافعا الصوت كي يصل حتى مقصورة القنص، حيث يقف موشي، منذ الصباح، مشدوها بلا سبب.
ـــــــ صلوا كي لا نُقصف مع عدونا في ضربة واحدة
قبل أن يتم كلامه، سمعوا صوتا مدويا يضرب مقدمة المدرعة، فتدحرجوا على الأرضية جميعا في وقت واحد، بينما جثا يعلون على ركبتيه كي يتقيأ كالعادة، ولكنه ما لبث أن استجمع أنفاسه ونهض.. صاح وهو يمسح فمه بكم البزة
ـــــــ صلوا .. صلوا كي لا تسحقنا الطائرات إن نحن وقعنا في الأسر
عندها، دهش آهارون وسأله:
ــ طائراتنا؟ طائراتنا تقصفنا الآن كي لا نقع في الأسر؟
…موشي كان آخر من نهض. تقدم إليهما ويده على رشاشه. العينان جاحظتان وزائغتان، كما لو كان منشغلا بتدبير ما.. عرف فيه آهارون ذلك عندما زاره في مربعه قبل سويعات قليلة؛ كان اختفاء المسلحين يثير جنونه. وعندما سأله منذ متى لم يطلق خراطيشه، هز الآخر رأسه مغمغما في شرود
ــ هل يعقل أن يُجهّز رشاش القنص، في مدرعة كبيرة كهذه، فقط بخراطيش صاعقة؟ إنهم يتهاوون كالجثث في بداية الأمر، ولكنك تجدهم، في الغد، يتصارخون في وجهك. إنهم لا ينتهون أبدا، كما لو كانوا يتناسخون، بينما أمضي وقتي واقفا، كالمخصي، خلف هذا الباب…
كان يتحدث وهو يضغط بيديه معا على رشاشه ويرتجف، حتى إنه لم يتمكن من إدخال سبابته في حلقة الزناد إلا بعد أن شدها له آهارون مصوبا… كل هذه الأشياء جعلت آهارون يدرك كم أصبح الجو متوترا داخل المدرعة، وانضاف إلى ذلك أزيز الطائرات وهي تحلق قرب رؤوسهم في حركات محيرة… أما يعلون الذي كان يضم صورة شخص ما إلى صدره، فقد أمره بالإكثار من الصلاة. وهكذا، بينما كان موشي قد بدأ يغادر موقعه بين الفينة والأخرى إلى مقصورة الموتى كي يتحسس وجوههم، كان يعلون وحده قد صلى كثيرا داخل المدرعة، بينما عاد آهارون ليدس أنفه في ياقة بذلته العفنة، محاولا استنشاق رائحة جلده وحدها على الأقل…
طوال أيام هذا الاجتياح، لم يفقد يعلون رباطة جأشه كما فعل هذه المرة.. كان يحرص على أن يظل هادئا حتى وهو يصرخ فيمن حوله. ورغم ازدرائه الواضح لمرؤوسه موشي، بما أنه كان قناصا غير ذي فعالية، فقد صُعق عندما سمعه يقول، من داخل المقصورة، فيما يشبه الدندنة
ــ لو أن أعداءنا كانوا ما يزالون عزلا هذه المرة أيضا
عندها، صرخ فيه يعلون بحدة عارمة
ــــــ موشي أيها الوغد الثرثار.. دع مكانك وأظهر لي قامتك القميئة.. على الفور
بسرعة، هرول الآخر كي يطيع الأوامر كجرو صغير، قرّب وجهه من يعلون مستفسرا، فزعق فيه هذا الأخير وهو يرتجف
ــــــ هات الرشاش
ولكن أزيزا قويا جاء فقطع أصواتهم متبوعا بدوي شديد اهتزت له أركان المدرعة. سد الجميع آذانهم وأخفوا عيونهم المغمضة بالمرافق. وعندما فتحوها، رأوا كبة من اللهب تأكل مقصورة الجرحى، ومعها مربع القنص بآخر المدرعة. وهكذا، عرف آهارون أن معظم مشاكلهم قد بدأت في طريقها إلى الحل؛ فنصف الجنود قد أصبحوا الآن صرعى، ويعلون تلا صلواته الطويلة كشخص ميت لا محالة، أما موشي، فقد انتهى أمره كشخص عاقل، والآن جاءت هذه الفوضى…
وقد كانت هناك أصوات أخرى بالخارج تكبر وتهلل كما لو كانت قد حصلت على صيد ثمين، ومن الكوات الصغيرة المتبقية، بدأ الجميع يطلون بعيونهم كي يفهموا بعض الذي حدث، إلا آهارون.. كانت رائحة احتراق الجثث جنبهم قد أفقدته خوفه وتركيزه فحاول تسلق السلم المؤدي إلى ظهر المدرعة، هنالك، حيث دفع غطاء القبة العلوي وأخرج رأسه، فاندفع الهواء كسائل بارد إلى صدره.. وعندما تهيأ كي يشهق مرة أخرى، شعر بصدمة قوية تصعقه، أعقبتها رعشة كتلك التي يخلفها رذاذ الماء على وجه ساخن، ثم أظلمت غزة . عندها، مد آهارون يدا ثقيلة كي يتلقف اللزوجة الحمراء التي تدلت على وجهه وعنقه.. أبعد بعضها عن عينيه وهو يحاول التحديق في شيء واحد يميزه، ثم تهاوى بكل ثقله عائدا إلى الرفاق.. هناك، حيث ما عاد يُسمع غير طقطقة النيران وهي تتناسل وتدور كي تملأ الفراغ الصامت وتلتهم كل ما تبقى من المدرعة..