حاميد اليوسفي - فرح عاشوراء.. قصة قصيرة

لبست عائشة الكمامة ، ووضعت عُثمان في الرَكّاب . لحسن الحظ أنها تستعمل رَكّابا عصريّا يمكنها من النظر لابنها أمام صدرها . ستُقامر وتركب في الحافلة ، وتطلب الله أن يحفظها من كورونا . منذ مُدة لم تخرج من البيت . توحشت أمها وجيران الحي القديم . شدّها الحنين إلى الحومة حيث نشأت وكبرت وتركت جزءا جميلا من حياتها وذكرياتها . تمنّت لو عادت الأيام للوراء ، ولم تكبر .
لاحظت أن السائق ـ على غير العادة ـ يمنع أي راكب لا يضع الكمامة ، ويطلب منه النزول . البعض ينزل ، والبعض يُخرجها من جيبه ، ويضعها على أسفل وجهه . جلست في كرسي خلف امرأة في الخمسينات . تبادلا الحديث حول كورونا وارتفاع الأسعار .
عندما وصلت إلى الحي ، دخلت الدرب ، وهي تنظر يمينا وشمالا . تعرفت على القليل من الوجوه القديمة ، وتبادلت معها التحية .
في المساء غسلت يديها بالصّابون ، وجاءت بآنية من المطبخ . فتحت الكيس الذي تضع فيه القليل من الفواكه الجافّة وخلطتها مع (القريشلات)* والتمر والتين والحمص ، ثم قسّمت القسط الأكبر منها على أفراد الأسرة ، واحتفظت بالباقي للغائبين . مع كورونا قلّت فُرص الشغل ، وكسدت التجارة ، واشتعلت الأسعار . وفعل الوباء بالفقراء ، ما فعلته نيران الصيف بالغابات والحشائش .
قدمت لها الأم كأس الشاي ، وأنزلت الكمامة تحت ذقنها . الليلة بدون خروج إلى الدرب ، والضرب على الطعريجة ، والغناء والرقص رفقة الفتيات إلى ما بعد منتصف الليل ، مثل الطعام بدون ملح .
سرح بها الخيال بعيدا . عندما تقترب ليلة عاشوراء ، يقتني الناس لأبنائهم وبناتهم اللُّعب والدفوف والطعارج والفواكه الجافة .
رأت نفسها تتزين في المساء . تضع الكحل ، والقليل من أحمر الشفاه ، وتلبس أحسن ما لديها من ثياب ، ثم تضع العطر حول عنقها ، وتحمل البندير ، وتخرج إلى الدرب . تلتحم ببنات الجيران من مختلف الأعمار ، ويبدأ الاحتفال ، ولا ينتهي حتى يؤذن الفجر . يطفن أمام المنازل ، وقد يدخلن بعضها ، يرقصن ويغنين ، ثم يخرجن إلى الدرب ، يرددن بإيقاع جميل ، يشع بالفرح والأمل في أن يظهر فارس الأحلام ، ويتقدم رفقة والديه لطلب يد هذه الفتاة أو تلك . تتعالى الأصوات في تناغم سحري .
"قديدة قديدة منشورة على العواد
هدا بابا عيشور جا يصلي وداه الواد" .
رائحة البخور تتصاعد من النوافذ ، لتطرد السحر والحسد ، وما يصاحبهما من حقد وانتقام .
"هذا عيشور ما علينا لحكام أ لالة
عيد المولد يحكم الرجال أ لالة" .
طبق الكُسكُس بلحم القدّيد ، يتناوله البعض في العشاء ، أو في غذاء اليوم الموالي . تناول الطعام بفرح و(تقشاب)* . النساء في المغرب الليلة ، وحدهن يحكمن عالم الرجال . أكل ذيل خروف عيد الأضحى ، سيُخضع الزوج لتنفيذ كل طلبات الزوجة ، ويُشعره بالخوف من أن يجعله السحر خاتما في أصبعها . تتعالى الضحكات . الرجال أيضا يدغدغ عواطفهم مثل هذا الكلام الجميل الذي يُعبّر عن حب النساء ، وتعلقهن بأزواجهن .
أصوات النساء تملأ سماء الدرب غناء . ترسمن دائرة حول فتاتين ترقصان بجنون ، وتفكان المنديل ، وتعقدانه أسفل خصرهما ، وتطلقان العنان لشعرهما الأسود يتهاوى ، تنحنيان ثم تقفان ، والشعر يميل مع حركة من رأسهما يمينا أو شمالا :
"عيشوري عيشوري
عليك دليت شعوري" .
الشبان أو الفتيان يُشعلون النّار ، ويتجمعون حولها ، ويضربون على الطعارج ، ويرددون أهازيج شعبية عاشت في وجدان المدينة لمئات السنين .
في الصباح تتجمع بعض الفتيات خلف الأبواب أو النوافذ ، وآثار النعاس لم تهجر الجفون بعد . ينتظرن مرور أحد فتيان أو شبان الدرب لرشه بقليل من الماء . وقد يتركن الفرصة للفتاة المعجبة به أن تفعل ذلك . يتظاهر بأنه تفاجأ ، يلتفت ويبتسم ، وتتعالى ضحكات النسوة . (العيط)* عليك أ حمادي .
التجار أيضا يوزعون (العشور)* على الفقراء والمعوزين .
عادت من حلمها الساحر . كورونا أفسد على الناس كل شيء . عندما دخلت إلى البيت كادت تبكي ، لأنها لم ترتم في أحضان الأم كالعادة ، خشيت أن تصيبها بمكروه ، فتقدمها في السن لا يسمح لها بمقاومة الوباء . نصحتها أن تجلس بعيدا وتفتح النوافذ ، وتضع الكمامة . فهي قد نزلت للتو من الحافلة ، والله وحده يعلم هل أصابها الفيروس أم لا .
رفعت أكفها للسماء ، ودعت على كورونا ، وتمنت أن يقذف الله به إلى الثلث الخالي من الدنيا حتى لا يستطيع العودة منها .




المعجم :
ـ القريشلات : قطع صغيرة من الحلوى ، تعجن في مراكش خصيصا لمناسبة عاشوراء ، وبعد طهيها ، تخلط مع الفواكه الجافة .
ـ التقشاب : البسط والهزل .
ـ العيط : المناداة .
ـ العشور : يشبه الزكاة ، وبعد إحصاء مصاريف السنة ومداخيلها ، يتم إخراج نسبة 10 % من الأرباح ، وتخصيصها للفقراء .
مراكش 17 غشت 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...