اكتمل الحب مثل البدر في تمامه ، أصبح نورا شعاعا ، خاليا من كل لهفة من كل شوق أو احتياج أو متعة أو عذاب ، فانبعث رسائل لم تكتب لأي حبيب، لا للغائب الذي لم يعد بعد ولا للمرتقب عند الغد.
أضحى انفتاحا محضا دون قيد ولا شرط ،لكل ما هو موجود ، أصبح وجدا متقبلا لكل وجه ،اكتمل في تلك الليلة في تلك الشرفة، فأحاطت به النجوم، تبارك بروزه من جديد وتهمس في سرها: أنه البهي البديع الجميل، الذي لم يوصف بعد.
حطت الطيور بجهته ليس من أجل الماء ولا لالتقاط رزقها،بل افتتانا بشمسه المشرقة وتحولت الأهازيج التي لم تؤلف بعد إلى موسيقى ، و الأرض التي جمعت أولائك الغرباء إلى وطن ، وباتت الأحزان مناديل تشير إلى العائدين من الأحبة بالمواني القديمة، بعد طول غياب، وتلح باكتماله دون أدنى ريب ولا شك.
فحين اكتمل الحب، أوحي إليّ بزوال ما يتلوه الكون من عبث، أن الوجود في الأصل سواء كان لغة أو معنى هو التحقق الكامل الشامل للوجدان واستواء القلب على عرش الدنيا باعتباره ملكا ، سلطانا يأمر وينهى، أن لا مكانة للظلم ولا للقسوة وأن وجهي اللذة والألم، في كل كيان قد اجتمعا ثم اتحدا، وأن الجنة المفقودة باتت مملكة يسكنها المتعبدون في حضرة الحب الشامل، الذي لا يعترف سوى بالود انصياعا للتآلف، بوصفه ملاذنا من كل غربة أو أسر.
فاكتمال الحب معناه بيان حروفه المتعددة ،اللغوية منها والرقمية والموسيقية والهندسية منها والرمزية بل وحتى الشكلية ،وتقاطعها الحرف بالحرف، ثم التقائها عند ذلك المحور المنظم والمرشد للعالم بأسره، المرئي منه وغير المرئي .
حدث ذلك، عند اكتمال الحب بإئتلاف كل أجزائه بكافة فروعها ، المعلومة منها والمجهولة ، الدائمة منها والزائلة، الظاهرة منها والباطنة، تلك التي شيدت بلدان بعضها عرفناه وبعضها لم نبلغه قط .
أما عن نشأة الأسئلة وغيابها ثم سقوطها في عهد الحيرة، فلقد كان أيضا بفعل الحب ،وكذلك كان انبعاثها من فرط الدهشة والانبهار بالعالم . استقرار بعضنا بمكان كان بتأثير من الحب، وكذلك هجرانه ثم الحنين إليه إثر عودة الذكرى، حدث ذلك تحت مفعول الحب . الرقص الدائري توحدا بالذات العليا للتخلص من الذات السفلى، كان تعبيرا من قبل المتصوفة عن الحب، بل وحتى الغناء الغجري كان استأنسا بالحب، باعتباره الموطن الوحيد للرحل منهم . ما ألفه ذلك الغريب، الذي لم يحفظ اسمه، من مواويل كان بتأثير من الحب ، وكذلك كل القصائد التي نظمت القديمة منها والحديثة، بكل اللغات واللهجات التي وصلت إلينا والتي لم تصل، كانت نابعة من الحب. السنفونيات بأنواعها والأنغام باختلافها وكل الألحان، كانت تطمح إلى بلوغ ما سمي حب ، أو لم ننطق بالحروف الأولى لمناداة الأم بفعل الحب؟ ألم تنمو أصواتنا بين رقة وحدة بدافع الحب؟
لقد بدأ التاريخ الإنساني بمولد المسيح الذي صلب حتى تكون لسردية الحب الغلبة،تلته حكايات أخرى حول الحلاج ومجنون ليلى وروميو وجوليات وآخرون حاولوا أن يصفوا لنا ما نصبو إليه حتى يكتمل داخل ذواتنا الحب .
وأما تسلط الذكوري على الانثوي في مفهومنا الإنساني والإعلاء من قيم الحرب والشدة والعنف ،فهما وليدان للجهل بقيمة الحب بصفته القوة الوحيدة والممكنة لمجابهة الموت والفناء.فالحب شبيه بتدفق الماء المنجرف القادر على تفتيت الصخر والجحر وكل جماد لم تزره الحياة قط ،إنه القاهر الوحيد للموت ، المؤسس للذاكرة والمتحدث باسم الذكرى حزنا أو فرحا ، بل إن الأنانية هي أيضا سمة من سمات الحب سواء كانت انكماشا على الذات أو محاولة لسبر أغوارها .
لذلك فالحب مراتب ، مرتبة التعطش ومرتبة الترقب ومرتبة اللهفة والوجد ومرتبة الرغبة والشوق ، مرتبة الوله والهيام والانصهار مرتبة التحرر مرتبة التطلع مرتبة التبصر والاكتشاف والانفتاح التام على كل موجود .ولأن الحب ليس حالة عابرة بل هو الجوهر بفضله أتينا من أجله سنرحل كي يبقى المتجدد الفتي ، فهو الخضوع الظاهر والقوة التي لا تقهر ، هو الامتلاء ، الاكتفاء ،الاستغناء عن كل انتظار أو رغبة.
الحب ليس شغفا بالحبيب إلا في مراحله الأولى ، بل هو السر العميق لتلك الحركة التي لا تهدأ ،ما انفكت تجمع المتناقضات والأضداد من أجل أن تكون وأن تحيا.
هو الكينونة خارج منطق الكلام والنظام وتسلسل الأعداد وجميع الفرضيات والمعادلات ،لذلك قد تستهوي المحبين مشاهد القمر عند اكتماله والشمس ساعة غروبها والبحر في صمته والنجم البعيد المسافر في غياهب الليل ، والدموع حين تذرف والأشجار الشاهدة على مرور الفصول ، والدروب باعتبارها سطورا كتبتها أقدامنا على صفحات الدنيا حتى تصبح أقل غربة .
ادخلوا أي مكان بفيض من الحب ستدركون حينا، قبل الطواف به جميع زواياه ، وانظروا إلى العيون بحب ستكتشفون أسرار النفس دون تعب ولا حيرة ، تكلموا بلغة الحب وسيفهمكم الغريب والتائه والمقهور والمسكين والمظلوم والمحتضر .ألم أقل أن الحب سر، وأن الأولين انكبوا على وصف حالاته دون أن يدركوا جوهره ؟
لقد جبت البراري والبحار ، وأنا أتابع السراب طمعا في الحب عسى أن أجد له أثر في الأنفس ،فلم أظفر منها بما يطفئ ضمئي ،إلى أن بلغت القفار حافية الرجلين، أحاط بي الفراغ من كل جهة وجانب حتى أدركت الحب إلى حد الاستغناء والامتلاء وتجلى لي ما يفوق الوصف وانجلت عني أحاسيس الآخرين وما تركته خلفها من سراب بعد أن رأيتهم عطشى لنفس النبع .فمن أعلى مراتب الحب الاستغناء ، للاستماع لما تتلوه حركة الموجودات في قلب الوجود وما كشفت عنه الكلمة ، خارج منطقة الحروف و ما يتجاوز التسمية .
فالحب هو ما يفوق الشهوة والحاجة والشوق والحنين ، إنه المناهض الوحيد والممكن للعدم والجواب عن كل الأسئلة التي لا تزال المعلقة .
كاهنة عباس .
أضحى انفتاحا محضا دون قيد ولا شرط ،لكل ما هو موجود ، أصبح وجدا متقبلا لكل وجه ،اكتمل في تلك الليلة في تلك الشرفة، فأحاطت به النجوم، تبارك بروزه من جديد وتهمس في سرها: أنه البهي البديع الجميل، الذي لم يوصف بعد.
حطت الطيور بجهته ليس من أجل الماء ولا لالتقاط رزقها،بل افتتانا بشمسه المشرقة وتحولت الأهازيج التي لم تؤلف بعد إلى موسيقى ، و الأرض التي جمعت أولائك الغرباء إلى وطن ، وباتت الأحزان مناديل تشير إلى العائدين من الأحبة بالمواني القديمة، بعد طول غياب، وتلح باكتماله دون أدنى ريب ولا شك.
فحين اكتمل الحب، أوحي إليّ بزوال ما يتلوه الكون من عبث، أن الوجود في الأصل سواء كان لغة أو معنى هو التحقق الكامل الشامل للوجدان واستواء القلب على عرش الدنيا باعتباره ملكا ، سلطانا يأمر وينهى، أن لا مكانة للظلم ولا للقسوة وأن وجهي اللذة والألم، في كل كيان قد اجتمعا ثم اتحدا، وأن الجنة المفقودة باتت مملكة يسكنها المتعبدون في حضرة الحب الشامل، الذي لا يعترف سوى بالود انصياعا للتآلف، بوصفه ملاذنا من كل غربة أو أسر.
فاكتمال الحب معناه بيان حروفه المتعددة ،اللغوية منها والرقمية والموسيقية والهندسية منها والرمزية بل وحتى الشكلية ،وتقاطعها الحرف بالحرف، ثم التقائها عند ذلك المحور المنظم والمرشد للعالم بأسره، المرئي منه وغير المرئي .
حدث ذلك، عند اكتمال الحب بإئتلاف كل أجزائه بكافة فروعها ، المعلومة منها والمجهولة ، الدائمة منها والزائلة، الظاهرة منها والباطنة، تلك التي شيدت بلدان بعضها عرفناه وبعضها لم نبلغه قط .
أما عن نشأة الأسئلة وغيابها ثم سقوطها في عهد الحيرة، فلقد كان أيضا بفعل الحب ،وكذلك كان انبعاثها من فرط الدهشة والانبهار بالعالم . استقرار بعضنا بمكان كان بتأثير من الحب، وكذلك هجرانه ثم الحنين إليه إثر عودة الذكرى، حدث ذلك تحت مفعول الحب . الرقص الدائري توحدا بالذات العليا للتخلص من الذات السفلى، كان تعبيرا من قبل المتصوفة عن الحب، بل وحتى الغناء الغجري كان استأنسا بالحب، باعتباره الموطن الوحيد للرحل منهم . ما ألفه ذلك الغريب، الذي لم يحفظ اسمه، من مواويل كان بتأثير من الحب ، وكذلك كل القصائد التي نظمت القديمة منها والحديثة، بكل اللغات واللهجات التي وصلت إلينا والتي لم تصل، كانت نابعة من الحب. السنفونيات بأنواعها والأنغام باختلافها وكل الألحان، كانت تطمح إلى بلوغ ما سمي حب ، أو لم ننطق بالحروف الأولى لمناداة الأم بفعل الحب؟ ألم تنمو أصواتنا بين رقة وحدة بدافع الحب؟
لقد بدأ التاريخ الإنساني بمولد المسيح الذي صلب حتى تكون لسردية الحب الغلبة،تلته حكايات أخرى حول الحلاج ومجنون ليلى وروميو وجوليات وآخرون حاولوا أن يصفوا لنا ما نصبو إليه حتى يكتمل داخل ذواتنا الحب .
وأما تسلط الذكوري على الانثوي في مفهومنا الإنساني والإعلاء من قيم الحرب والشدة والعنف ،فهما وليدان للجهل بقيمة الحب بصفته القوة الوحيدة والممكنة لمجابهة الموت والفناء.فالحب شبيه بتدفق الماء المنجرف القادر على تفتيت الصخر والجحر وكل جماد لم تزره الحياة قط ،إنه القاهر الوحيد للموت ، المؤسس للذاكرة والمتحدث باسم الذكرى حزنا أو فرحا ، بل إن الأنانية هي أيضا سمة من سمات الحب سواء كانت انكماشا على الذات أو محاولة لسبر أغوارها .
لذلك فالحب مراتب ، مرتبة التعطش ومرتبة الترقب ومرتبة اللهفة والوجد ومرتبة الرغبة والشوق ، مرتبة الوله والهيام والانصهار مرتبة التحرر مرتبة التطلع مرتبة التبصر والاكتشاف والانفتاح التام على كل موجود .ولأن الحب ليس حالة عابرة بل هو الجوهر بفضله أتينا من أجله سنرحل كي يبقى المتجدد الفتي ، فهو الخضوع الظاهر والقوة التي لا تقهر ، هو الامتلاء ، الاكتفاء ،الاستغناء عن كل انتظار أو رغبة.
الحب ليس شغفا بالحبيب إلا في مراحله الأولى ، بل هو السر العميق لتلك الحركة التي لا تهدأ ،ما انفكت تجمع المتناقضات والأضداد من أجل أن تكون وأن تحيا.
هو الكينونة خارج منطق الكلام والنظام وتسلسل الأعداد وجميع الفرضيات والمعادلات ،لذلك قد تستهوي المحبين مشاهد القمر عند اكتماله والشمس ساعة غروبها والبحر في صمته والنجم البعيد المسافر في غياهب الليل ، والدموع حين تذرف والأشجار الشاهدة على مرور الفصول ، والدروب باعتبارها سطورا كتبتها أقدامنا على صفحات الدنيا حتى تصبح أقل غربة .
ادخلوا أي مكان بفيض من الحب ستدركون حينا، قبل الطواف به جميع زواياه ، وانظروا إلى العيون بحب ستكتشفون أسرار النفس دون تعب ولا حيرة ، تكلموا بلغة الحب وسيفهمكم الغريب والتائه والمقهور والمسكين والمظلوم والمحتضر .ألم أقل أن الحب سر، وأن الأولين انكبوا على وصف حالاته دون أن يدركوا جوهره ؟
لقد جبت البراري والبحار ، وأنا أتابع السراب طمعا في الحب عسى أن أجد له أثر في الأنفس ،فلم أظفر منها بما يطفئ ضمئي ،إلى أن بلغت القفار حافية الرجلين، أحاط بي الفراغ من كل جهة وجانب حتى أدركت الحب إلى حد الاستغناء والامتلاء وتجلى لي ما يفوق الوصف وانجلت عني أحاسيس الآخرين وما تركته خلفها من سراب بعد أن رأيتهم عطشى لنفس النبع .فمن أعلى مراتب الحب الاستغناء ، للاستماع لما تتلوه حركة الموجودات في قلب الوجود وما كشفت عنه الكلمة ، خارج منطقة الحروف و ما يتجاوز التسمية .
فالحب هو ما يفوق الشهوة والحاجة والشوق والحنين ، إنه المناهض الوحيد والممكن للعدم والجواب عن كل الأسئلة التي لا تزال المعلقة .
كاهنة عباس .