وقفت "أنجيلا" مذهولة حائرة، وقد اتسعت أحداقها، وانعقد لسانها.. التفتت إلى زميلها "بيتر" في المكتب المجاور، والذي يبعد أقل من مترين وسألته مرتبكة: هل ترى ما رأيته على الشاشة للتو؟ وأشارت بإصبعها نحو الشاشة غير مصدقة، اقترب "بيتر" منها وأخذ يحدق في الصورة الظاهرة، صمت برهة ثم قال: نعم هذا جسم غريب، أظنه قمر اصطناعي يأخذ مساره الجديد..
- لكنا لم نُبلّغ عن أي قمر اصطناعي جديد. فهل هذا شيء اعتيادي؟!
- ربما، فنحن في مركز كينيدي للفضاء لا نعرف كل شيء عن جداول إطلاق الأقمار الاصطناعية.
- ربما يكون قمرا معاديا؟ خاصة وأن مستوى دورانه عند الارتفاع ألف ومئتي كلم، وهذا الفلك مزدحم بالأقمار الصناعية، مثل جسر كاليفورنيا.
- هذه ليست مسؤوليتنا، فهذا القسم يتبع محطة الفضاء الدولية، وغير ذلك من مسؤولية الناسا، أو الأمن القومي الأمريكي.. فلا تشغلي بالك..
مسحت "أنجيلا" قطرات العرق المتصبب على جبينها، وقالت بانزعاج: فعلاً، يكفينا رطوبة الجو الخانقة، في هذه الجزيرة اللعينة، فأجابها: ليست جزيرة ميريت وحدها، جو فلوريدا كله كذلك.
في إحدى ضواحي العاصمة واشنطن دي سي، حيث يقع مقر الناسا، كان "روبرت" يحمل بيده ورقة أخرجها للتو من طابعته، ويركض بها في الممر الطويل نحو مكتب مدير دائرة رصد الأقمار الإصطناعية دكتور "وليام"، ليريه صورة قمر اصطناعي يخرج عن مساره.
- مساء الخير دكتور.
كان ويليام يتحدث بالهاتف، ويبدو أنه يتلقى مكالمة دولية مهمة، هذا ما لاحظه روبرت، فوقف ينتظر انهائه المكالمة، وهو مشدود الأعصاب.
- ما بك مستر روبرت؟ هل من أمر جلل؟
- في الحقيقة، أخشى أننا أمام كارثة كبيرة.
- هل هناك كارثة أخطر من التي أخبرني عنها للتو مدير معهد إكيران الروسي؟
- هل أخبرك عن قمر اصطناعي فالت؟
- بالضبط.
- وهذا ما أود إخبارك به.. وهذه صورته.. تفضل سيدي.
بعد ساعتين كان المجلس التنفيذي المصغر لوكالة الناسا يعقد اجتماعا طارئا، وعلى جدول أعماله نقطة واحدة: قمر صناعي يفلت من مساره، وحول هذه النقطة تتفجر مجموعة من الأسئلة الملحة: لمن يتبع؟ وما هي تداعيات ذلك؟ هل من عمل إرهابي وراء الأمر؟ كيف سنعالج المشكلة؟
استمر الاجتماع الطارئ ثلاثة أيام متتالية، وبنفس المستوى، وللغرض ذاته كانت كل مراكز ومعاهد الفضاء في روسيا والصين وأوروبا والهند واليابان وغيرها تنعقد على قدم وساق، وتتواصل فيها بينها وتتبادل المعلومات والتحليلات.. وكانت وكالات الأنباء العالمية والمحلية تتناقل الأخبار العاجلة وتبرزها في مقدمة نشراتها، وتفرد لها حلقات حوار مع علماء ومختصين ومنجمين ومحللين سياسيين ومشاهير من مختلف المجالات.. صار هذا موضوع الساعة، الذي شغل العالم بأسره، وجعله يقف على رؤوس أصابعه..
تابعت مليارات البشر أخبار القمر الصناعي باهتمام بالغ، وكانت مشاعر الخوف والقلق تبدو حتى على المحللين والإعلاميين والعلماء، ومع كل نشرة أخبار، وبعد كل لقاء تلفزيوني كانت جرعات الذعر والخوف الهستيري تتصاعد وبشكل خطير في صفوف الناس، خاصة مع ما لا حصر له من الإشاعات والأخبار المتباينة والمتناقضة والسيناريوهات المخيفة والمتشائمة..
على شبكات التواصل الاجتماعي كان الاهتمام بالخبر مضاعفا؛ فالناس متلهفين لسماع أي نبأ عن ذلك القمر المنفلت، والذي سيدمر الأرض ربما، وصار كل من هب ودب خبيرا في علوم الفضاء وعليما في شؤون الفلك، يتناقلون الأخبار والصور والمقاطع المصورة.. وأخذت مواقع فيسبوك ويوتيوب وغيرها، تسعى إلى زيادة عدد الساعات التي يقضيها فيه متصفحوها، بهدف تضخيم أرباح جوجل، من طريق زيادة عدد المقاطع المتداولة، خاصة المحتوية على تصورات مخيفة عن نهاية العالم.
كما وجد الكثير من الإعلاميين والهواة فرصة للشهرة والتكسب، فأخذوا من جانبهم يرسمون سيناريوهات أكثر رعبا.
كان هناك من يقول أنَّ كوريا الشمالية فشلت في السيطرة على قمر صناعي كانت قد أطلقته قبل أيام، ومن يقول إنها لم تفشل، بل فعلت هذا بشكل متعمد..
ومن يقول أن القمر عبارة عن مركبة فضائية قدِمت من أحد الكواكب المأهولة، القابعة في أعماق الكون.. وطاقم المركبة يريد احتلال كوكب الأرض..
ومن يقول إنه يتبع وكالة ناسا الأمريكية، وكل ما تقوله على الإعلام، كذب وخداع.. وأنها تغطي على فشلها..
ومن يقول أن جماعة إرهابية تمكنت من شراء تكنولوجيا متطورة من إحدى المافيات الدولية، وأطلقت جسما فضائيا لتنفيذ عمليات إرهابية في أماكن محددة من المستحيل الوصول إليها بالطرق التقليدية.
ومن يقول إنه تهديد من الصين، أو مجرد إنذار روسي لأمريكا.. أو قمر تجسسي أطلقه "بل غيتس" لتتبع حركات البشر وسكناتهم..
كانت كل الأحاديث والتحليلات في البداية تتركز حول من أطلق القمر الصناعي؟ وكيف؟ ولماذا انحرف عن مساره؟ ثم صارت تركز على ما يمكن أن يُحدثه هذا الجسم الفضائي الخارج عن كل سيطرة، ومدى أثره على الأرض، وهل سيتسبب بكوارث مدمرة، أم سيغرق في المحيط الهادئ كالعادة؟ حيث دخل العلماء والمحللون والهواة كلٌ من طرفه يتوقعون سيناريوهات متعددة عمّا يمكن أن يحدث.. وهنا بدأت الكارثة قبل أن تحصل فعلا..
السيناريوهات المتفائلة كانت ترجّح أنه سيقع في إحدى المحيطات، ولن يسبب أي كارثة.. كما سقطت محطة مير السوفيتية في المحيط الهادي، وصاروخ لونغ مارش الصيني في الأطلسي.. أو يسقط في منطقة مهجورة من اليابسة كما سقطت محطة "سكاي لاب" فوق أستراليا، وقمر "كوزموس" السوفيتي فوق كندا.
السيناريوهات المتشائمة قليلا أو الحذرة كانت تخشى أن يقع فوق مدينة مأهولة، فيقتل العشرات أو المئات.. أما السيناريوهات الأكثر تشاؤما، والتي تجاوزت شبكات التواصل الاجتماعي وبدأت تظهر في الإعلام الرسمي، دون أي حذر من تداعيات ما يمكن أن تطلقه من ردود أفعال الناس الهستيرية، وحتى لو تسبب ذلك في إحداث هلع مجتمعي، وبالتالي فوضى شاملة، وتدافع وهروب جماعي.. تلك السيناريوهات تنبأت باصطدام القمر المنفلت مع قمر صناعي آخر على نفس المدار، لتنشأ سلسلة اصطدامات متتالية ستضرب كافة الأقمار الموجود في الفضاء، وستؤدي إلى مجزرة فضائية ستكون نتائجها الوخيمة على الأرض..
لكن بعض العلماء قللوا من خطورة هذا الاحتمال، باعتبار أنها ليست سابقة، فقد وقع صِدام بين قمرين أحدهما روسي والآخر أمريكي في شباط 2009، على ارتفاع 780 كلم فوق سيبيريا، وكل ما نتج عنه هو تدمير القمرين بالكامل..
وقبلها، توقعت وكالة الفضاء الأوروبية "إيسا" اصطدام قمر أطلقته لبحوث استكشاف الفضاء مع قمر مخصص لاتصالات الإنترنت، فعملت على الفور على تغيير مسار الأول.. ما يعني أن الموضوع قابل للمعالجة.
لكن مثل هذه التطمينات لم تعد كافية لكبت أو إيقاف موجات الهلع الجماعي التي بدأت تنتشر بسرعة متزايدة في مختلف أنحاء العالم. خاصة بعد سماعهم تحذير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي، مفاده بأنه وبسبب ازدحام الفضاء بالمركبات والأقمار الصناعية العاملة، والتي انتهت مهامها، وبآلاف النفايات الفضائية فإننا نحذر من احتمالية تصادمها مع بعضها البعض، وندعو لتوظيف الذكاء الإصطناعي لترتيب هذه المهمة التي باتت صعبة على البشر.. فهناك نحو 5000 قمر صناعي تدور يوميا حول الأرض، على ارتفاعات متباينة، وهذا الرقم يزداد سنويا بنحو 10%.
على أية حال، لم تتأخر التداعيات كثيرا، بل جاءت أسرع من المتوقع، وحتى أسرع من أشد السيناريوهات تشاؤما وخوفا..
كانت التحقيقات الأولية التي أنجزتها لجنة دولية ضمت علماء من كافة الدول التي لديها برامج فضائية، قد انتهت إلى تحديد هوية القمر، لكن الناطق الإعلامي لللجنة رفض الإفصاح عن اسم الدولة التي أطلقته، بيد أن اللجنة (وهذا الأهم) قد توصلت إلى تحديد سبب المشكلة.
فبالرجوع إلى ملفات وأرشيف الوكالة الفضائية للدولة (س) وتتبع مسار عمليات الصيانة الأخيرة التي أجريت للقمر قبل إطلاقه بأيام، للتأكد من جهوزيته، تبين أن المهندس (ص) كان آخر شخص مخول بالتوقيع، وللتأكيد على أن أعمال الصيانة قد أنجزت تماما، وأن القمر جاهز للانطلاق..
- هل أنت من وقّع على استمارة التفقد والصيانة هذه؟
- نعم صحيح سيدي.
- هل تأكدت من اللواقط، والمرسلات، والكاميرات، والرادارات، والعدادات، والخلايا الشمسية، والقراءات، والصواميل، والبراغي، والبطارية، وإحكام الإغلاق؟؟
- نعم صحيح، ولكن..
- ولكن ماذا؟
- كما تعلمون يوجد ما يزيد عن الخمسمائة برغي على القمر، وربما أكون، ولست متأكدا تماما أنني لم أعاير البرغي الأخير، فقد أصابني التعب، وكنت أريد إنهاء العمل بسرعة.
- ولماذ كنت مستعجلا؟
- كانت حفلة عيد ميلاد ابني، وقد وعدته بالحضور، ولم أشأ خذلانه. وقلت في نفسي، إنه "مجرد برغي"..
تناهت أخبار التحقيق إلى مسامع وكالات الأنباء، والتي سارعت إلى نشرها، على شكل "فضيحة"..
على شبكة فوكس نيوز استضافت المذيعة الشهيرة "شانون كارلسون" عالما مغمورا يدعى "دونالد" ليعلق على نتائج التحقيق، وعن توقعاته لما سيحدث، فكان جوابه كوقع الصاعقة على الجمهور القلق:
- على ارتفاع 1200 كلم من سطح الأرض، سيبدأ ذلك البرعي اللعين، باللف حول محوره، إلى أن يتحرر، بعدها بثوان، ستفلت القطعة التي كان يثبتها، ومن ثم ستفلت القطعة المجاورة، فكل قطعة تشد الأخرى، وإذا ضعفت واحدة، ستضعف البقية.. مع انفلات أجزاء مهمة من الغطاء الخارجي، ستتعرض الأجزاء الداخلية لدرجات حرارة متدنية جدا، وبالتالي ستخسر بعض قدرتها على التوصيل الكهربائي، ثم ستتآكل وستبدأ الموصلات بضرب بعضها، حتى يحدث "تماس" كهربائي، ومن ثم توقف الرادارات والحساسات، مما سيؤدي إلى تعذر اتصال المحطة الأرضية بالقمر، ومن ثم فقدان قدرتها على توجيهه، وبذلك سيخرج عن مساره، ويبدأ بالسير في فلك لولبي يفقد طاقته المحركة تدريجيا..
ويضيف "دونالد": في اليوم الرابع من انفلات البرغي، وأثناء مسير القمر بسرعة 11 ألف كلم/س، وبكتلته التي تبلغ ثلاثة أطنان، سيصطدم بقمر صناعي آخر أكبر منه، ربما تبلغ كتلته عشرة أضعاف، خلال أقل من الثانية سيتحول القمرين إلى كتل معدنية منفلتة، كل قطعة منها تسير بنفس السرعة الهائلة، ولا يمكن لكائن حي أن يسيطر عليها.. وستبدأ تلك الكتل تتخذ مسارات لولبية بين صعود وهبوط، وفي مسارات متعددة، ويبدأ كل منها يرتطم بقمر صناعي آخر.. وهكذا خلال أيام قليلة ستكون مئات الأقمار العاملة قد تحطمت، وصارت أشلاء، وكل قمر متحطم سيحدث سلسلة اصطدامات أخرى. وهكذا.
يلتفت "دونالد" نحو المذيعة، ويواصل حديثه بزهو وفخار، فيسألها: هل رأيتِ انهيارا ثلجيا؟ تجيب نعم، شاهدته مرارا في الأفلام السينمائية.. يقاطعها قائلا، لكنك ربما تجهلين كيف يحدث الانهيار.. تسكت المذيعة، وقبل أن تجيب، يضيف قائلا: يبدأ الانهيار بكرة ثلج صغيرة، أو بكتلة جليدية لا يتجاوز وزنها وزن رجل متوسط السمنة، تنتهي خلال دقائق بانهيار الجبل كله.. تماما كما تفعل قطعة دومينو صغيرة، تظل تتدحرج في مسارها حتى لو بلغ مئات الأمتار..
في نهاية اللقاء يأتي "دونالد" على أهم وأخطر جزء من الحوار:
- مع توالي سلسلة اصدامات الأقمار الصناعية، ستنعكس أصداؤها على الأرض، وبسرعة البرق.. وأهم وأخطر نتائجها توقف الاتصالات اللاسلكية، وانقطاع الإنترنت عن معظم خوادمها في العديد من البلدان..
ثم يضيف بلهجة استعراضية: ومع انقطاع الخدمة عن عشرات الخوادم، سينتقل تركيز مليارات البشر على الخوادم الأكبر، والتي ظلت عاملة.. لكن تدفق مليارات الرسائل والصور عليها، سيؤدي إلى توقف بعضها فورا، رغم أنها ظلت متصلة مع قمرها الصناعي، لكن شدة الضغط عليها سجعلها تسقط مغشية عليها، منهكة..
يضيف "دونالد": هل تتوقعين أن المشكلة تنحصر في انقطاع النت عن هاتفكِ الذكي، أو عن كمبيوتركِ الشخصي؟ لا أظنك غافلة إلى هذه الدرجة.. فالتأثير الأول والأخطر سيكون على شبكات الكهرباء، التي ستنقطع هي الأخرى وبشكل متتابع، حتى يعود العالم مرة ثانية إلى ما قبل عصر أديسون.. وسيعم الظلام..
على الفور، بدأ مئات المتابعين يتناقلون نص اللقاء، وأكثرهم كان يركز على الأجزاء الأخيرة منه، والتي تتوقع توقف الإنترنت وانقطاع الكهرباء.. وسرعان ما صار المئات ألوفا، ثم ملايين.. حتى تجاوز عدد مرات تداول الخبر 500 مليون مرة على مستوى العالم، وفي كل مرة كان من ينقل الخبر أو يعيد بث المقابلة كان يضيف شيئا من عنده..
خلال أيام، كانت موجات الرعب الجماعي تسري في عروق الكوكب، تنتقل من مدينة إلى أخرى.. وفي كل مرة تتصاعد كمتوالية هندسية.. في تلك الأثناء تدفق ملايين الناس على البنوك، كلٌ يريد سحب مدخراته، وما تبقى من رصيده، ومع هذا التدفق الهائل امتنعت البنوك عن صرف أي مبلغ يتجاوز ال500 دولار، ثم نزلت الرقم إلى مائتين، ثم مائة، ثم امتنعت عن الصرف كليا، وأغلقت البنوك أبوابها.. وهنا وقف ملايين المحتجين أمام أبواب المصارف، مطالبين بأموالهم، ومع عدم تلقيهم أي استجابة، اقتحمت افواج المحتجين معظم البنوك، ونهبوها، وأحرقوها.. ثم تتالت سلسلة الانهيارات، انهارت أسواق المال، والبورصات، وتكبدت المصانع والفنادق، وشركات الطيران خسائر جسيمة، وخسرت كبريات الشركات قيمة أسهمها، وبدأت تعلن إفلاسها تباعا، وتسرح موظفيها.
وبدأت مواقع الإنترنت الرئيسية تستخدم خوارزميات معينة في تنظيم وتسيير المنشورات والصور، وإعادة بثها وتوزيعها مركزة بوجه خاص على ملامح استياء الناس، ممن تملؤهم مشاعر الظلم واللامساواة وانعدام الحيلة، ونحو الأقليات، والفئات المهمشة.
في القاعة المستديرة في مقر مجلس الأمن القومي، ضم اجتماع عاجل كل من رئيس الولايات المتحدة، وقيادات الجيش والبحرية والقوة الجوية، ورؤساء الأجهزة الأمنية، وعدد من أعضاء الحكومة والكونغرس، وممثلين عن وكالة ناسا..
كان الجميع جالسون بترقب، ويتداولون أطراف الحديث فيما بينهم، حتى دخل الرئيس، فوقف الجميع، ثم أمرهم بالجلوس، وعلى الفور توجه بسؤال إلى العالم "فرانك جيمس" مدير وكالة ناسا:
- هل أنت واثق من دقة الصورة التي يتحدث عنها العالم بأسره؟
ارتبك فرانك، فلم يتوقع أن يكون أول المتحدثين، ثم استجمع قواه، وأجاب بارتباك وتعلثم: نعم سيدي.
- إلى أي درجة أنت متأكد؟
- في الحقيقة ما جعلني متأكدا، مكالمة مدير المعهد الروسي للفضاء، الذي أخبرني عن رؤيتهم لجسم غريب، فأدركت أنه من غير المعقول أن تكون هذه مجرد مصادفة.
- هل يمكن أن يكون الأمر قد اشتبه عليه، تماما كما اشتبه عليكم؟
- في الواقع، كل شيء ممكن سيدي.. ولكني..
وقف مدير وكالة الاستخبارات، وقال بصوت واثق، وفيه نبرة تحدي: أظن أن الأمر برمته يتعلق بالأمن السيبراني سيدي الرئيس.
ثم أردف قائلا: لدينا معلومات بأن الصين تخطط لضرب خوادم الإنترنت الأمريكية، حتى تستطيع الهيمنة على الفضاء السيبراني من خلال خوادم الجيل الخامس الصينية..
بعد ذلك، تصدر الحديث كلٌ من مدير السي أي إيه ومدير الإف بي أي، ورئيس هيئة الأركان، وبعض كبار الضباط من خبراء الأمن السيبراني، والذين أجمعوا على ضرورة توجيه ضربة استباقية للصين، للإبقاء على السيطرة الأمريكية على عالم الإنترنت. وختم مستر دوغلاس عضو الكونغروس عن الحزب الجمهوري بالقول: لم تعد الإمبراطوريات تعتمد على امتداد أراضيها، ولم تعد تقوم على القوة العسكرية، بل بقدرتها على السيطرة على عالم الإنترنت واحتكارها التحكم بالمعلومات والبيانات الضخمة.
بدأ خبراء الحاسوب باختراق الخوادم الصينية، ثم عرجوا على الخوادم الروسية والهندية والألمانية، وكل ما استطاعوا اختراقه، في المقابل تنبهت تلك الدول لما أصابها، وبدأت بالرد، لتنطلق الحرب السيبرانية الأولى..
مع حالة القلق العالمي، وانتشار موجات الهلع، تزايد الضغط على شبكات الإنترنت، بحثا عن أخبار، وفي محاولة لفهم ما يجري، ومع زيادة الضغط على الخوادم المحلية أصابها العطل، ولم تعد قادرة على الاستجابة، وهكذا انتقلت مليارات الاتصالات على الخوادم الأخرى، وكلما زاد الضغط توقف المزيد منها، تحت هذا المطر المنهمر من الاتصالات وبقوة غير مسبوقة، إلى أن تخر صريعة..
ثم امتدت الحرب الإلكترونية إلى قطع الكابلات الموجودة في أعماق البحار والتي تصل القارات ببعضها، ما أدى إلى فصل كل جزء من العالم عن الجزء الآخر.
وهكذا رجع العالم كله إلى عصر ما قبل الإنترنت..
في هذه الأثناء ومع تعطل شبكات الإنترنت، كانت عشرات حوادث التصادم بين الطائرات قد وقعت في عشرات المطارات، وفي الأجواء، كما انحرفت عشرات القطارات عن سككها، منها من انقلب على جانبه، ومنها من تصادم، وفي النتيجة قتل عشرات الآلاف في تلك الحوادث المروعة.. كما تعطلت إشارات المرور في كبريات المدن العالمية متسببة بذلك بآلاف حوادث السيارات، والدهس..
في أعالي البحار، وفي أهم الموانئ تعثرت حركة البواخر، وتعطلت إمدادات الغذاء والمواد التموينية، بل وجميع أنواع البضائع، ما أدى إلى ندرتها في الأسواق، وبالتالي ارتفاع أسعارها إلى حد الجنون.. وشيئا فشيئا بدأت المواد المخزنة باالنضوب، وبدأ الناس يشعرون بالقلق وبالجوع..
وبدأت مظاهرات الاحتجاج والغضب تجتاح شوارع المدن، وتزيد من تفاقم الأزمات، وقد استغل الفقراء والمحرومون والعصابات والمجرمون هذه الأجواء، وبدأت سلسلة غير متناهية من السرقات وأعمال النهب والسطو والتخريب وحرق المحلات ومخازن الطعام، والمطاعم، رافقها بالطبع ما لا حصر له من حوادث الاغتصاب والقتل والعراكات الفردية والجماعية.. الشرطة فقدت كل سيطرة، بل إنها فقدت الاتصال بين عناصرها، وصارت جزءأ من الأزمة..
كان دكتور ويليام يقول بزهو وافتخار أمام زملائه: ألم أقل لكم.. كل هذا سيحدث..
الدفاع المدني، وخدمات الطوارئ، والمستشفيات وسيارات الإسعاف.. أصابتها نفس العدوى، فقد تعطلت الاتصالات فيما بينها، ولم تعد تقدم أي خدمة..
قوات الجيش التي تعد صمام الأمان الأخير، انهارت هي الأخرى، في جميع دول العالم، ليس فقط بسبب فقدان التواصل فيما قطاعاتها وجنودها، بل لأن جنودها وضباطها انضموا إلى أعمال السلب والنهب والقتل..
وزعماء العالم، رؤساء الحكومات والقادة والسياسيين والمؤثرين أيضا فقدوا التواصل فيما بينهم، وانقطعت أخبار العالم، عن كل منطقة.. وانهار النظام العالمي بأسره..
كان العالم المغمور "دونالد" يقول لأقرانه بافتخار: ألم أقل لكم، كل هذا وأكثر سيحدث..
وكان ملايين الناس ممن آمنوا بنبوءة العالم المغمور يقولون لبعضهم البعض: ألم أقل لكم، كل هذا وأكثر سيحدث..
كانت "إنحيلا" و"بيتر" وحدهما من أدركا أنّ تلك الصورة الشهيرة كانت مشوشة، والجسم الغريب الذي التقطا صورة له كان لطائر يعبر مجال الصورة في تلك اللحظة الفارقة من تاريخ البشر.. لم تكن ثمة فائدة من تعميم الخبر.. فقد فات الأوان..
خلال أسابيع فقط، كانت ملايين الناس قد فقدت أرواحها في حروب ومعارك وهجمات، كانت تحدث في كل مكان، ولأي سبب، كما فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم، وباتت كل عصابة تسيطر على منطقتها، وترتكب أفظع الجرائم بحق الناس، مقابل الحصول على الغنائم.. والناس العاديين صاروا يهاجمون بعضهم البعض لمجرد الحصول على وجبة طعام، أو غطاء للنوم، أو مقابل أشياء تافهة..
في أقل من شهرين كانت مجزرة جماعية تغطي عموم الكوكب، مسببة انقراض بشري جماعي، ومع أعمال التفجير والتخريب والحرائق عاد كوكب الأرض إلى سيرته الأولى، كوكب خرب، يسكنه بضعة مئات من أشباه آدميين، كل مجموعة متحصنة في منطقتها، وتتربص بجيرانها..
في هذه الأثناء كان خمسة آلاف قمر إصطناعي تدور كل يوم بانتظام حول الأرض، تسير بحركة دؤوبة مطمئنة، دون أن يمسسها سوء، ترسل أمواجها ولا تجد من يتلقاها.. كانت وحيدة متروكة تدور بحزن وصمت، كأنها يتيمة..
في مكان ما في إحدى زوايا الأرض، على هضبة خضراء مستوية، تطل على منظر طبيعي خلاب، كانت بعض العائلات قد وجدت ملاذا آمنا في كهف مخفي، وهؤلاء احتفظوا بإنسانيتهم، ولم ينخرطوا في أعمال التخريب والقتل، كانوا قد جمعوا كل ما تيسر لهم من أسلاك، وقطع معدنية، وموصلات، ومكثفات، وبراغي، وصواميل، ومسننات، وعبوات بلاستيكية.. أي شيء من متبقيات عصر الحضارة، وبدؤوا يعيدون تجميعها في صندوق، على أمل تصنيع جهاز اتصال، أو مولد طاقة.. وكان كبيرهم يوصي الصناع بلهجة مشددة: أرجوكم شدوا البراغي عالاخر..
عبد الغني سلامه
www.facebook.com
- لكنا لم نُبلّغ عن أي قمر اصطناعي جديد. فهل هذا شيء اعتيادي؟!
- ربما، فنحن في مركز كينيدي للفضاء لا نعرف كل شيء عن جداول إطلاق الأقمار الاصطناعية.
- ربما يكون قمرا معاديا؟ خاصة وأن مستوى دورانه عند الارتفاع ألف ومئتي كلم، وهذا الفلك مزدحم بالأقمار الصناعية، مثل جسر كاليفورنيا.
- هذه ليست مسؤوليتنا، فهذا القسم يتبع محطة الفضاء الدولية، وغير ذلك من مسؤولية الناسا، أو الأمن القومي الأمريكي.. فلا تشغلي بالك..
مسحت "أنجيلا" قطرات العرق المتصبب على جبينها، وقالت بانزعاج: فعلاً، يكفينا رطوبة الجو الخانقة، في هذه الجزيرة اللعينة، فأجابها: ليست جزيرة ميريت وحدها، جو فلوريدا كله كذلك.
في إحدى ضواحي العاصمة واشنطن دي سي، حيث يقع مقر الناسا، كان "روبرت" يحمل بيده ورقة أخرجها للتو من طابعته، ويركض بها في الممر الطويل نحو مكتب مدير دائرة رصد الأقمار الإصطناعية دكتور "وليام"، ليريه صورة قمر اصطناعي يخرج عن مساره.
- مساء الخير دكتور.
كان ويليام يتحدث بالهاتف، ويبدو أنه يتلقى مكالمة دولية مهمة، هذا ما لاحظه روبرت، فوقف ينتظر انهائه المكالمة، وهو مشدود الأعصاب.
- ما بك مستر روبرت؟ هل من أمر جلل؟
- في الحقيقة، أخشى أننا أمام كارثة كبيرة.
- هل هناك كارثة أخطر من التي أخبرني عنها للتو مدير معهد إكيران الروسي؟
- هل أخبرك عن قمر اصطناعي فالت؟
- بالضبط.
- وهذا ما أود إخبارك به.. وهذه صورته.. تفضل سيدي.
بعد ساعتين كان المجلس التنفيذي المصغر لوكالة الناسا يعقد اجتماعا طارئا، وعلى جدول أعماله نقطة واحدة: قمر صناعي يفلت من مساره، وحول هذه النقطة تتفجر مجموعة من الأسئلة الملحة: لمن يتبع؟ وما هي تداعيات ذلك؟ هل من عمل إرهابي وراء الأمر؟ كيف سنعالج المشكلة؟
استمر الاجتماع الطارئ ثلاثة أيام متتالية، وبنفس المستوى، وللغرض ذاته كانت كل مراكز ومعاهد الفضاء في روسيا والصين وأوروبا والهند واليابان وغيرها تنعقد على قدم وساق، وتتواصل فيها بينها وتتبادل المعلومات والتحليلات.. وكانت وكالات الأنباء العالمية والمحلية تتناقل الأخبار العاجلة وتبرزها في مقدمة نشراتها، وتفرد لها حلقات حوار مع علماء ومختصين ومنجمين ومحللين سياسيين ومشاهير من مختلف المجالات.. صار هذا موضوع الساعة، الذي شغل العالم بأسره، وجعله يقف على رؤوس أصابعه..
تابعت مليارات البشر أخبار القمر الصناعي باهتمام بالغ، وكانت مشاعر الخوف والقلق تبدو حتى على المحللين والإعلاميين والعلماء، ومع كل نشرة أخبار، وبعد كل لقاء تلفزيوني كانت جرعات الذعر والخوف الهستيري تتصاعد وبشكل خطير في صفوف الناس، خاصة مع ما لا حصر له من الإشاعات والأخبار المتباينة والمتناقضة والسيناريوهات المخيفة والمتشائمة..
على شبكات التواصل الاجتماعي كان الاهتمام بالخبر مضاعفا؛ فالناس متلهفين لسماع أي نبأ عن ذلك القمر المنفلت، والذي سيدمر الأرض ربما، وصار كل من هب ودب خبيرا في علوم الفضاء وعليما في شؤون الفلك، يتناقلون الأخبار والصور والمقاطع المصورة.. وأخذت مواقع فيسبوك ويوتيوب وغيرها، تسعى إلى زيادة عدد الساعات التي يقضيها فيه متصفحوها، بهدف تضخيم أرباح جوجل، من طريق زيادة عدد المقاطع المتداولة، خاصة المحتوية على تصورات مخيفة عن نهاية العالم.
كما وجد الكثير من الإعلاميين والهواة فرصة للشهرة والتكسب، فأخذوا من جانبهم يرسمون سيناريوهات أكثر رعبا.
كان هناك من يقول أنَّ كوريا الشمالية فشلت في السيطرة على قمر صناعي كانت قد أطلقته قبل أيام، ومن يقول إنها لم تفشل، بل فعلت هذا بشكل متعمد..
ومن يقول أن القمر عبارة عن مركبة فضائية قدِمت من أحد الكواكب المأهولة، القابعة في أعماق الكون.. وطاقم المركبة يريد احتلال كوكب الأرض..
ومن يقول إنه يتبع وكالة ناسا الأمريكية، وكل ما تقوله على الإعلام، كذب وخداع.. وأنها تغطي على فشلها..
ومن يقول أن جماعة إرهابية تمكنت من شراء تكنولوجيا متطورة من إحدى المافيات الدولية، وأطلقت جسما فضائيا لتنفيذ عمليات إرهابية في أماكن محددة من المستحيل الوصول إليها بالطرق التقليدية.
ومن يقول إنه تهديد من الصين، أو مجرد إنذار روسي لأمريكا.. أو قمر تجسسي أطلقه "بل غيتس" لتتبع حركات البشر وسكناتهم..
كانت كل الأحاديث والتحليلات في البداية تتركز حول من أطلق القمر الصناعي؟ وكيف؟ ولماذا انحرف عن مساره؟ ثم صارت تركز على ما يمكن أن يُحدثه هذا الجسم الفضائي الخارج عن كل سيطرة، ومدى أثره على الأرض، وهل سيتسبب بكوارث مدمرة، أم سيغرق في المحيط الهادئ كالعادة؟ حيث دخل العلماء والمحللون والهواة كلٌ من طرفه يتوقعون سيناريوهات متعددة عمّا يمكن أن يحدث.. وهنا بدأت الكارثة قبل أن تحصل فعلا..
السيناريوهات المتفائلة كانت ترجّح أنه سيقع في إحدى المحيطات، ولن يسبب أي كارثة.. كما سقطت محطة مير السوفيتية في المحيط الهادي، وصاروخ لونغ مارش الصيني في الأطلسي.. أو يسقط في منطقة مهجورة من اليابسة كما سقطت محطة "سكاي لاب" فوق أستراليا، وقمر "كوزموس" السوفيتي فوق كندا.
السيناريوهات المتشائمة قليلا أو الحذرة كانت تخشى أن يقع فوق مدينة مأهولة، فيقتل العشرات أو المئات.. أما السيناريوهات الأكثر تشاؤما، والتي تجاوزت شبكات التواصل الاجتماعي وبدأت تظهر في الإعلام الرسمي، دون أي حذر من تداعيات ما يمكن أن تطلقه من ردود أفعال الناس الهستيرية، وحتى لو تسبب ذلك في إحداث هلع مجتمعي، وبالتالي فوضى شاملة، وتدافع وهروب جماعي.. تلك السيناريوهات تنبأت باصطدام القمر المنفلت مع قمر صناعي آخر على نفس المدار، لتنشأ سلسلة اصطدامات متتالية ستضرب كافة الأقمار الموجود في الفضاء، وستؤدي إلى مجزرة فضائية ستكون نتائجها الوخيمة على الأرض..
لكن بعض العلماء قللوا من خطورة هذا الاحتمال، باعتبار أنها ليست سابقة، فقد وقع صِدام بين قمرين أحدهما روسي والآخر أمريكي في شباط 2009، على ارتفاع 780 كلم فوق سيبيريا، وكل ما نتج عنه هو تدمير القمرين بالكامل..
وقبلها، توقعت وكالة الفضاء الأوروبية "إيسا" اصطدام قمر أطلقته لبحوث استكشاف الفضاء مع قمر مخصص لاتصالات الإنترنت، فعملت على الفور على تغيير مسار الأول.. ما يعني أن الموضوع قابل للمعالجة.
لكن مثل هذه التطمينات لم تعد كافية لكبت أو إيقاف موجات الهلع الجماعي التي بدأت تنتشر بسرعة متزايدة في مختلف أنحاء العالم. خاصة بعد سماعهم تحذير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي، مفاده بأنه وبسبب ازدحام الفضاء بالمركبات والأقمار الصناعية العاملة، والتي انتهت مهامها، وبآلاف النفايات الفضائية فإننا نحذر من احتمالية تصادمها مع بعضها البعض، وندعو لتوظيف الذكاء الإصطناعي لترتيب هذه المهمة التي باتت صعبة على البشر.. فهناك نحو 5000 قمر صناعي تدور يوميا حول الأرض، على ارتفاعات متباينة، وهذا الرقم يزداد سنويا بنحو 10%.
على أية حال، لم تتأخر التداعيات كثيرا، بل جاءت أسرع من المتوقع، وحتى أسرع من أشد السيناريوهات تشاؤما وخوفا..
كانت التحقيقات الأولية التي أنجزتها لجنة دولية ضمت علماء من كافة الدول التي لديها برامج فضائية، قد انتهت إلى تحديد هوية القمر، لكن الناطق الإعلامي لللجنة رفض الإفصاح عن اسم الدولة التي أطلقته، بيد أن اللجنة (وهذا الأهم) قد توصلت إلى تحديد سبب المشكلة.
فبالرجوع إلى ملفات وأرشيف الوكالة الفضائية للدولة (س) وتتبع مسار عمليات الصيانة الأخيرة التي أجريت للقمر قبل إطلاقه بأيام، للتأكد من جهوزيته، تبين أن المهندس (ص) كان آخر شخص مخول بالتوقيع، وللتأكيد على أن أعمال الصيانة قد أنجزت تماما، وأن القمر جاهز للانطلاق..
- هل أنت من وقّع على استمارة التفقد والصيانة هذه؟
- نعم صحيح سيدي.
- هل تأكدت من اللواقط، والمرسلات، والكاميرات، والرادارات، والعدادات، والخلايا الشمسية، والقراءات، والصواميل، والبراغي، والبطارية، وإحكام الإغلاق؟؟
- نعم صحيح، ولكن..
- ولكن ماذا؟
- كما تعلمون يوجد ما يزيد عن الخمسمائة برغي على القمر، وربما أكون، ولست متأكدا تماما أنني لم أعاير البرغي الأخير، فقد أصابني التعب، وكنت أريد إنهاء العمل بسرعة.
- ولماذ كنت مستعجلا؟
- كانت حفلة عيد ميلاد ابني، وقد وعدته بالحضور، ولم أشأ خذلانه. وقلت في نفسي، إنه "مجرد برغي"..
تناهت أخبار التحقيق إلى مسامع وكالات الأنباء، والتي سارعت إلى نشرها، على شكل "فضيحة"..
على شبكة فوكس نيوز استضافت المذيعة الشهيرة "شانون كارلسون" عالما مغمورا يدعى "دونالد" ليعلق على نتائج التحقيق، وعن توقعاته لما سيحدث، فكان جوابه كوقع الصاعقة على الجمهور القلق:
- على ارتفاع 1200 كلم من سطح الأرض، سيبدأ ذلك البرعي اللعين، باللف حول محوره، إلى أن يتحرر، بعدها بثوان، ستفلت القطعة التي كان يثبتها، ومن ثم ستفلت القطعة المجاورة، فكل قطعة تشد الأخرى، وإذا ضعفت واحدة، ستضعف البقية.. مع انفلات أجزاء مهمة من الغطاء الخارجي، ستتعرض الأجزاء الداخلية لدرجات حرارة متدنية جدا، وبالتالي ستخسر بعض قدرتها على التوصيل الكهربائي، ثم ستتآكل وستبدأ الموصلات بضرب بعضها، حتى يحدث "تماس" كهربائي، ومن ثم توقف الرادارات والحساسات، مما سيؤدي إلى تعذر اتصال المحطة الأرضية بالقمر، ومن ثم فقدان قدرتها على توجيهه، وبذلك سيخرج عن مساره، ويبدأ بالسير في فلك لولبي يفقد طاقته المحركة تدريجيا..
ويضيف "دونالد": في اليوم الرابع من انفلات البرغي، وأثناء مسير القمر بسرعة 11 ألف كلم/س، وبكتلته التي تبلغ ثلاثة أطنان، سيصطدم بقمر صناعي آخر أكبر منه، ربما تبلغ كتلته عشرة أضعاف، خلال أقل من الثانية سيتحول القمرين إلى كتل معدنية منفلتة، كل قطعة منها تسير بنفس السرعة الهائلة، ولا يمكن لكائن حي أن يسيطر عليها.. وستبدأ تلك الكتل تتخذ مسارات لولبية بين صعود وهبوط، وفي مسارات متعددة، ويبدأ كل منها يرتطم بقمر صناعي آخر.. وهكذا خلال أيام قليلة ستكون مئات الأقمار العاملة قد تحطمت، وصارت أشلاء، وكل قمر متحطم سيحدث سلسلة اصطدامات أخرى. وهكذا.
يلتفت "دونالد" نحو المذيعة، ويواصل حديثه بزهو وفخار، فيسألها: هل رأيتِ انهيارا ثلجيا؟ تجيب نعم، شاهدته مرارا في الأفلام السينمائية.. يقاطعها قائلا، لكنك ربما تجهلين كيف يحدث الانهيار.. تسكت المذيعة، وقبل أن تجيب، يضيف قائلا: يبدأ الانهيار بكرة ثلج صغيرة، أو بكتلة جليدية لا يتجاوز وزنها وزن رجل متوسط السمنة، تنتهي خلال دقائق بانهيار الجبل كله.. تماما كما تفعل قطعة دومينو صغيرة، تظل تتدحرج في مسارها حتى لو بلغ مئات الأمتار..
في نهاية اللقاء يأتي "دونالد" على أهم وأخطر جزء من الحوار:
- مع توالي سلسلة اصدامات الأقمار الصناعية، ستنعكس أصداؤها على الأرض، وبسرعة البرق.. وأهم وأخطر نتائجها توقف الاتصالات اللاسلكية، وانقطاع الإنترنت عن معظم خوادمها في العديد من البلدان..
ثم يضيف بلهجة استعراضية: ومع انقطاع الخدمة عن عشرات الخوادم، سينتقل تركيز مليارات البشر على الخوادم الأكبر، والتي ظلت عاملة.. لكن تدفق مليارات الرسائل والصور عليها، سيؤدي إلى توقف بعضها فورا، رغم أنها ظلت متصلة مع قمرها الصناعي، لكن شدة الضغط عليها سجعلها تسقط مغشية عليها، منهكة..
يضيف "دونالد": هل تتوقعين أن المشكلة تنحصر في انقطاع النت عن هاتفكِ الذكي، أو عن كمبيوتركِ الشخصي؟ لا أظنك غافلة إلى هذه الدرجة.. فالتأثير الأول والأخطر سيكون على شبكات الكهرباء، التي ستنقطع هي الأخرى وبشكل متتابع، حتى يعود العالم مرة ثانية إلى ما قبل عصر أديسون.. وسيعم الظلام..
على الفور، بدأ مئات المتابعين يتناقلون نص اللقاء، وأكثرهم كان يركز على الأجزاء الأخيرة منه، والتي تتوقع توقف الإنترنت وانقطاع الكهرباء.. وسرعان ما صار المئات ألوفا، ثم ملايين.. حتى تجاوز عدد مرات تداول الخبر 500 مليون مرة على مستوى العالم، وفي كل مرة كان من ينقل الخبر أو يعيد بث المقابلة كان يضيف شيئا من عنده..
خلال أيام، كانت موجات الرعب الجماعي تسري في عروق الكوكب، تنتقل من مدينة إلى أخرى.. وفي كل مرة تتصاعد كمتوالية هندسية.. في تلك الأثناء تدفق ملايين الناس على البنوك، كلٌ يريد سحب مدخراته، وما تبقى من رصيده، ومع هذا التدفق الهائل امتنعت البنوك عن صرف أي مبلغ يتجاوز ال500 دولار، ثم نزلت الرقم إلى مائتين، ثم مائة، ثم امتنعت عن الصرف كليا، وأغلقت البنوك أبوابها.. وهنا وقف ملايين المحتجين أمام أبواب المصارف، مطالبين بأموالهم، ومع عدم تلقيهم أي استجابة، اقتحمت افواج المحتجين معظم البنوك، ونهبوها، وأحرقوها.. ثم تتالت سلسلة الانهيارات، انهارت أسواق المال، والبورصات، وتكبدت المصانع والفنادق، وشركات الطيران خسائر جسيمة، وخسرت كبريات الشركات قيمة أسهمها، وبدأت تعلن إفلاسها تباعا، وتسرح موظفيها.
وبدأت مواقع الإنترنت الرئيسية تستخدم خوارزميات معينة في تنظيم وتسيير المنشورات والصور، وإعادة بثها وتوزيعها مركزة بوجه خاص على ملامح استياء الناس، ممن تملؤهم مشاعر الظلم واللامساواة وانعدام الحيلة، ونحو الأقليات، والفئات المهمشة.
في القاعة المستديرة في مقر مجلس الأمن القومي، ضم اجتماع عاجل كل من رئيس الولايات المتحدة، وقيادات الجيش والبحرية والقوة الجوية، ورؤساء الأجهزة الأمنية، وعدد من أعضاء الحكومة والكونغرس، وممثلين عن وكالة ناسا..
كان الجميع جالسون بترقب، ويتداولون أطراف الحديث فيما بينهم، حتى دخل الرئيس، فوقف الجميع، ثم أمرهم بالجلوس، وعلى الفور توجه بسؤال إلى العالم "فرانك جيمس" مدير وكالة ناسا:
- هل أنت واثق من دقة الصورة التي يتحدث عنها العالم بأسره؟
ارتبك فرانك، فلم يتوقع أن يكون أول المتحدثين، ثم استجمع قواه، وأجاب بارتباك وتعلثم: نعم سيدي.
- إلى أي درجة أنت متأكد؟
- في الحقيقة ما جعلني متأكدا، مكالمة مدير المعهد الروسي للفضاء، الذي أخبرني عن رؤيتهم لجسم غريب، فأدركت أنه من غير المعقول أن تكون هذه مجرد مصادفة.
- هل يمكن أن يكون الأمر قد اشتبه عليه، تماما كما اشتبه عليكم؟
- في الواقع، كل شيء ممكن سيدي.. ولكني..
وقف مدير وكالة الاستخبارات، وقال بصوت واثق، وفيه نبرة تحدي: أظن أن الأمر برمته يتعلق بالأمن السيبراني سيدي الرئيس.
ثم أردف قائلا: لدينا معلومات بأن الصين تخطط لضرب خوادم الإنترنت الأمريكية، حتى تستطيع الهيمنة على الفضاء السيبراني من خلال خوادم الجيل الخامس الصينية..
بعد ذلك، تصدر الحديث كلٌ من مدير السي أي إيه ومدير الإف بي أي، ورئيس هيئة الأركان، وبعض كبار الضباط من خبراء الأمن السيبراني، والذين أجمعوا على ضرورة توجيه ضربة استباقية للصين، للإبقاء على السيطرة الأمريكية على عالم الإنترنت. وختم مستر دوغلاس عضو الكونغروس عن الحزب الجمهوري بالقول: لم تعد الإمبراطوريات تعتمد على امتداد أراضيها، ولم تعد تقوم على القوة العسكرية، بل بقدرتها على السيطرة على عالم الإنترنت واحتكارها التحكم بالمعلومات والبيانات الضخمة.
بدأ خبراء الحاسوب باختراق الخوادم الصينية، ثم عرجوا على الخوادم الروسية والهندية والألمانية، وكل ما استطاعوا اختراقه، في المقابل تنبهت تلك الدول لما أصابها، وبدأت بالرد، لتنطلق الحرب السيبرانية الأولى..
مع حالة القلق العالمي، وانتشار موجات الهلع، تزايد الضغط على شبكات الإنترنت، بحثا عن أخبار، وفي محاولة لفهم ما يجري، ومع زيادة الضغط على الخوادم المحلية أصابها العطل، ولم تعد قادرة على الاستجابة، وهكذا انتقلت مليارات الاتصالات على الخوادم الأخرى، وكلما زاد الضغط توقف المزيد منها، تحت هذا المطر المنهمر من الاتصالات وبقوة غير مسبوقة، إلى أن تخر صريعة..
ثم امتدت الحرب الإلكترونية إلى قطع الكابلات الموجودة في أعماق البحار والتي تصل القارات ببعضها، ما أدى إلى فصل كل جزء من العالم عن الجزء الآخر.
وهكذا رجع العالم كله إلى عصر ما قبل الإنترنت..
في هذه الأثناء ومع تعطل شبكات الإنترنت، كانت عشرات حوادث التصادم بين الطائرات قد وقعت في عشرات المطارات، وفي الأجواء، كما انحرفت عشرات القطارات عن سككها، منها من انقلب على جانبه، ومنها من تصادم، وفي النتيجة قتل عشرات الآلاف في تلك الحوادث المروعة.. كما تعطلت إشارات المرور في كبريات المدن العالمية متسببة بذلك بآلاف حوادث السيارات، والدهس..
في أعالي البحار، وفي أهم الموانئ تعثرت حركة البواخر، وتعطلت إمدادات الغذاء والمواد التموينية، بل وجميع أنواع البضائع، ما أدى إلى ندرتها في الأسواق، وبالتالي ارتفاع أسعارها إلى حد الجنون.. وشيئا فشيئا بدأت المواد المخزنة باالنضوب، وبدأ الناس يشعرون بالقلق وبالجوع..
وبدأت مظاهرات الاحتجاج والغضب تجتاح شوارع المدن، وتزيد من تفاقم الأزمات، وقد استغل الفقراء والمحرومون والعصابات والمجرمون هذه الأجواء، وبدأت سلسلة غير متناهية من السرقات وأعمال النهب والسطو والتخريب وحرق المحلات ومخازن الطعام، والمطاعم، رافقها بالطبع ما لا حصر له من حوادث الاغتصاب والقتل والعراكات الفردية والجماعية.. الشرطة فقدت كل سيطرة، بل إنها فقدت الاتصال بين عناصرها، وصارت جزءأ من الأزمة..
كان دكتور ويليام يقول بزهو وافتخار أمام زملائه: ألم أقل لكم.. كل هذا سيحدث..
الدفاع المدني، وخدمات الطوارئ، والمستشفيات وسيارات الإسعاف.. أصابتها نفس العدوى، فقد تعطلت الاتصالات فيما بينها، ولم تعد تقدم أي خدمة..
قوات الجيش التي تعد صمام الأمان الأخير، انهارت هي الأخرى، في جميع دول العالم، ليس فقط بسبب فقدان التواصل فيما قطاعاتها وجنودها، بل لأن جنودها وضباطها انضموا إلى أعمال السلب والنهب والقتل..
وزعماء العالم، رؤساء الحكومات والقادة والسياسيين والمؤثرين أيضا فقدوا التواصل فيما بينهم، وانقطعت أخبار العالم، عن كل منطقة.. وانهار النظام العالمي بأسره..
كان العالم المغمور "دونالد" يقول لأقرانه بافتخار: ألم أقل لكم، كل هذا وأكثر سيحدث..
وكان ملايين الناس ممن آمنوا بنبوءة العالم المغمور يقولون لبعضهم البعض: ألم أقل لكم، كل هذا وأكثر سيحدث..
كانت "إنحيلا" و"بيتر" وحدهما من أدركا أنّ تلك الصورة الشهيرة كانت مشوشة، والجسم الغريب الذي التقطا صورة له كان لطائر يعبر مجال الصورة في تلك اللحظة الفارقة من تاريخ البشر.. لم تكن ثمة فائدة من تعميم الخبر.. فقد فات الأوان..
خلال أسابيع فقط، كانت ملايين الناس قد فقدت أرواحها في حروب ومعارك وهجمات، كانت تحدث في كل مكان، ولأي سبب، كما فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم، وباتت كل عصابة تسيطر على منطقتها، وترتكب أفظع الجرائم بحق الناس، مقابل الحصول على الغنائم.. والناس العاديين صاروا يهاجمون بعضهم البعض لمجرد الحصول على وجبة طعام، أو غطاء للنوم، أو مقابل أشياء تافهة..
في أقل من شهرين كانت مجزرة جماعية تغطي عموم الكوكب، مسببة انقراض بشري جماعي، ومع أعمال التفجير والتخريب والحرائق عاد كوكب الأرض إلى سيرته الأولى، كوكب خرب، يسكنه بضعة مئات من أشباه آدميين، كل مجموعة متحصنة في منطقتها، وتتربص بجيرانها..
في هذه الأثناء كان خمسة آلاف قمر إصطناعي تدور كل يوم بانتظام حول الأرض، تسير بحركة دؤوبة مطمئنة، دون أن يمسسها سوء، ترسل أمواجها ولا تجد من يتلقاها.. كانت وحيدة متروكة تدور بحزن وصمت، كأنها يتيمة..
في مكان ما في إحدى زوايا الأرض، على هضبة خضراء مستوية، تطل على منظر طبيعي خلاب، كانت بعض العائلات قد وجدت ملاذا آمنا في كهف مخفي، وهؤلاء احتفظوا بإنسانيتهم، ولم ينخرطوا في أعمال التخريب والقتل، كانوا قد جمعوا كل ما تيسر لهم من أسلاك، وقطع معدنية، وموصلات، ومكثفات، وبراغي، وصواميل، ومسننات، وعبوات بلاستيكية.. أي شيء من متبقيات عصر الحضارة، وبدؤوا يعيدون تجميعها في صندوق، على أمل تصنيع جهاز اتصال، أو مولد طاقة.. وكان كبيرهم يوصي الصناع بلهجة مشددة: أرجوكم شدوا البراغي عالاخر..
عبد الغني سلامه
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.