مقتطف منعم الفقير* - شكراً إلى المغرب.. اضمومة زهرية.. من رواية "مقهى مراكش"

شكراً إلى المغرب
تلقيت دعوات إلى المشاركة في فعاليات ثقافية في مدن مغربية مختلفة: “المحمدية، فاس، الدار البيضاء، مراكش، القنيطرة، فاس، جرسيف وتازة. وعروض أخرى من أصدقاء لمشاركتهم في مناسبات عائلية وشخصية. وبناء على ذلك سأكون في المغرب من 29 مارس إلى 22 ابريل 2013. ومن الهام المغرب اقطف من حديقة: “رواية مقهى مراكش” هذه الاضمومة الزهرية، عرفانا بجميل جمال المغرب:
قبل أن أنتهي من محو اليابسة غمرتني المياه
الفرح الحزين:
يتجه نحوي حصان جامح،يتوقف أمامي، يصهل بحزن، يرفع بحافريه الأماميتين إلى الأعلى ثم يضرب بهما الأرض• يقصدني بصهيله، يستدير عني، يتقدمني بخطوة، ألزم مكاني مذهولاً، يتراجع، تستدير نحوي، يعيد صهيله وحركة حافريه• يجثو على الأرض، أفهم من ذلك، أنه يدعوني إلى امتطائه، أمتطيه• يجري بي، يقطع طرقاً ملتوية بين أشجار الغابة،(الشجرة تسقط ولا تفسح طريقاً) أشعة شمس المساء البرتقالية تتبدد، صفير المساء وحفيف الأوراق ينبش خوفاً مطموراً. فيما يحمل الهواء هديراً غامضاً. تحاول أشعة الشمس تفكيك العتمة وطرد الوحشة.

ينتهي إلى شاطئ بحر هادر. يتوقف ويشرع بالصهيل. فجأة تظهر امرأة تتشح بالسواد، تحمل فانوساً يضيء وجهها ودربها، تتوكأ على عصا (ترّجل أيها الفارس، تأمرني) أترّجل، ثم اتبعها مذهولاً وخائفاً، تخوّض في الماء، أخوّض أنا فيه أيضاً. استجابة إلى إشارة تصدر عنها• أتوقف على توقفها، بناء على إيماءة وهمهمات. تطلق الأمواج الصاخبة فتاة جميلة عارية من اسر الماء، فتنقذف بمساعدة الريح العاصفة عند قدميّ المرأة المتشحة بالسواد، تنحني تلامس رأس الفتاة المبلول، فتنهض على الفور، تنفض البلل عن شعرها• تهدأ الأمواج، وتتحول العاصفة إلى نسيم، (إنها فتاتك، يحتفظ بها البحر من أجلك، هي رهينة الحب الذي لا تعرفه أنت بعد، اعرف الحب منها، بالحب فقط سوف تعرف منْ تكون أنتَ• أحببها، فسيرعاك البحر برضاه وينشر من حولك الإخلاص، ابحث فيها عن وطنكَ، ولا تبحث من أجلها عن وطن، فهي وطنكَ المنشود، أنىّ يكون الحب، يكون الوطن).
جسد الفتاة يأسرني، ولا قدرة طليقة لفهم عبارات المرأة المتشحة بالسواد. تطفح شهوتي لاحتواء جسد الفتاة البضّ اللين والمشرع على نظري• أتقدم منها، تحول المرأة المتشحة بالسواد دون تماسنا• تلمس رأسها ثانية، فتعود الفتاة ثانية إلى غيبوبتها التي تضاعف تأثير جمالها على نظري وجسدها الملقى يزيد حدّة شهوتي إليه. تومئ المرأة المتشحة بالسواد إلى الأمواج، فتعود إلى صخبها وتعيد الفتاة إلى قلب البحر المنزوعة عنه•
- أبحث عنها في قلبكَ فستجدها في أحضانكَ•
(أصغ إلي، أنا حكمة البحر المتشحة بالسواد حداداً على مساوئ اليابسة)• تقول ذلك المرأة المتشحة بالسواد وتهب نفسها هي أيضاً إلى البحر، فيستقبلها بقلبه الهادئ ووجهه الغاضب علينا نحن محتلو اليابسة العاقين.
أسقط مني، أجثو على ركبتي قبالة البحر الصاخب، الريح العاتية تذر الرمال على رأسي. تجتاحني الرغبة في احتواء جسد فتاتي المسلوبة ويستحوذ الإحساس بالمرارة والخيبة. أتداعى عليّ. نادباً حظي العاثر ونائحاً على مصير فتاتي وحبي المجهولين. أجري، أجري، فاسقط في بئر عميقة، يغمرني ماؤها وظلامها.” انهض، انهض، تتناهي إلى سمعي نداءات متتابعة.

- انهضْ، انهضّ!

تتلاحق النداءات، ينتشلني صوتها من باطن عتمة إلى ظاهر ضوء شمس واهن، يقرّب من الغروب. النداءات هذه مصدرها أبي. يحثني على الإسراع بالنهوض والالتحاق به. انهضُ مذعوراً من هذا الكابوس الحالم، أجمعني بعد تشتت، استرد طمأنينة كاد الخوف يقضي عليها. ” كن رحيماً بنا أيها البحر، أردد ذلك. “ستكون نهايتك على يد البحر، يقول أبي”. ويطلب مني أن انضم إليه في الصالة للتحدث معي بشأن موضوع ” هام ومصيري”، لا يقبل التأجيل، كما يعتقد. أنهض على مضض. أذهب إلى الحمام، أغسل وجهي، وابلل شعري، أضع المنشفة على كتفي واتجه إليه.

- أنا هنا في المطبخ

أذهب إلى المطبخ، أجده مشغولاً بإعداد مقبلات، يقطّع الخيار قطعاً صغيرة، ويضعه في صحن مقعر، ثم يسكب عليه اللبن وقليلاً من الثوم المعصور والملح• يدس ملعقتين صغيرتين في الصحن• يطلب مني أن أحمل الصحن وكأسين صغيرين إلى الصالة، فيما يحمل هو قنينة كحول “العرق” وقنينة ماء شبه متجمدة يخرجها من مجمدة الثلاجة. نضع ما نحمل على الطاولة، يطلب إليّ الجلوس ويتجه إلى آلة التسجيل ليشغلها على أغنية للمطرب المصري صالح عبد الحي: “ليه يا بنفسج تبهج وأنت زهر حزين”.

- أنتَ نديمي هذا المساء
- ما النديم، يا أبي
- النديم هو جليس العرق



أتردد في الجلوس مع أبي على طاولة الخمر واحدة، وأفكر ملياً في عرضه في تناول الكحول معه. وجرياً على تربيتنا، فيجب إبداء الاحترام والطاعة، وأبعد من ذلك، لا يجوز أن أجلس واضعاً ساقاً على أخرى في حضرته. كما ينبغي أن أنهض عند قدومه وأجلس بناء على أمر منه. نادراً ما اجلس مع أبي أو أتحدث معه إلا نادراً. وإن حدث ذلك في حالات مستعجلة أو اضطرارية، فمن المفروض أن أخطابه بتصريح منه و بصوت منخفض وأنا حاني الرأس. وعليّ أن أوجز في طلباتي وأقدمها بصيغتي الرجاء والتمنيات. في أغلب الأحيان تكون أمي الوسيط بيننا. اضطر إلى مقابلته بعد فشل وساطة أمي أو اعتذارها عن القيام بها، أو بطلب منه. أبي ليس قاسياً، أسوة ببقية الآباء، لكنه حازم وصارم في مواقفه• في الخامسة عشرة من عمري أعفاني من فرض تقبيل يده اليمنى والتبرك بها• وخلع عليّ عبارة: “أنت رجل الآن”، هذه العبارة تعطيني ثقة بنفسي وتخفف عني حرج الموقف، ولها فوائد جانبية، منها زيادة مصروف الجيب، والسماح بالتأخير ليلاً ورفع المراقبة وتعليق التحقيق الذي يسبق كل خروج ويعقب كل تأخير، كما سمح لي أيضاً بدعوة أصدقائي إلى البيت بعد تقديم نبذة عن حسن سلوكهم ولمحة عن سيرة ذويهم. لكن عبارة أنت رجل الآن، تتحول إلى مسؤولية إلى درجة أصبحت أنا فيها رقيباً على نفسي وتوقفت عن القيام ببعض التصرفات المتعلقة بالطفولة أو المراهقة. فأنا رجل بنظر أبي وأمي أيضاً، عليّ أن أبدو بمظهر الرجل الناضج والرزين. لكني اضطررت في بعض الأحيان للكذب على نفسي والتهرب منها، لأعيش لحظة أكون طفلاً فيها أو مراهقاً.

يصب أبي العرق في كاسين، حيث يملأ العرق نصف الكأس ثم يضيف عليه الماء، فيتخلى العرق عن شفافيته إلى اللون الأبيض الصاعد به.

- في صحتكَ
- في صحتكَ، أبي

نرفع النخب على هدى تعاليم تناول العرق: “خذ رشفة منه ثم أرفدها بملعقة من سلطة اللبن – الجاجيك، هكذا يوصيني أبي. أقومُ بتأدية فعل التناول تحت إشرافه• بعد أن يتأكد من إتقاني لعملية تناول العرق، يشرب هو بدوره.

هذه المرة الأولى التي تشرب فيها كحولاً، أليس كذلك
نعم، يا أبي

ينتظر أبي مني جواباً كهذا، ويفضل أن أكذب عليه بدلاً من أكون صريحاً، أن صدقي غير المرغوب فيه، قد يضعه في موقف، يواجه فيه حقيقة محرجة، تعني أنه في غفلة عما يدور في بيته• ان الكذب المطلوب الآن يريحه ويجعله أكثر استرخاء وتركيزاً، مثلما يسقط عنه تهمة التقصير في التربية، وفي رعاية ومتابعة أبنه الوحيد• في الواقع أنني أشرب البيرة بعيداً عن البيت، هناك في الحانات• حيث يدفع ثمنها أولئك الراغبون بالاستماع إلى مغامرتي النسائية، ويزداد عدد القناني المدفوعة الثمن بازدياد عدد المغامرات ونوعية وجمال المُغامر معها• أتقن مع الوقت سرد المغامرة بطريقة تداعب الرغبة الجنسية والحاجة الجمالية لدى الراغب بالاستماع إليها• هناك نساء مرغوبات من عدد غير قليل ممن أعرف، وممن يسعون إلى التعرف عليّ لهذا الغرض، فالمغامرة معهن لا تقتصر على دفع عدد من قناني البيرة، وإنما تشمل وجبة من نصف دجاجة مشوية مع رغيف من الخبز العربي فضلاً عن السلطة والمخللات• من بينهم شخص يدعى >طه<، وأنا أدعوه “طه أسفل السرّة”• ينفق >طه< الكثير من المال والوقت لمجرد الاستماع إلى مغامرة جنسية• لكنه يغضب ويتضايق عندما أستغرق بالوصف في ما يطلق هو عليه “أعلى السرّة”• وبأنفاس متصاعدة، يحتج عليّ، انحدر، انحدر بنا الآن إلى أسفل السرة، لاشيء يعلو على أسفل السرّة• يعرض عليّ >طه< مبلغاً سخياً مقابل أن اسرق له اللباس الداخلي لامرأة معروفة بجمالها تدعى “معزّر”، تلك المرأة التي سيمضي حياته حالماً بها ومستمنياً عليها، ويدفع حياته ثمناً ليس لقاء مضاجعتها، بل ليراها عارية فقط، يقول >طه<• أشتري لباساً داخلياً نسائياً، أحمر شفافاً، أرديته أنا لبعض الوقت، ليصبح وكأنه مستعمل، وبعد أن يبدو كذلك، أعطره بعطر نسائي• طالما استعمله في لقاءاتي السردية، للإيحاء بانه أثر أنثوي عاطر لمغامرة• أقدم اللباس الداخلي ملفوفاً بورق هدايا إلى >طه< في مناسبة عيد ميلاده، ينتبه، يعانقني ويشكرني على حسن فعلي معه، لن ينسي جميلي عليه، هكذا يعد ويقول• يعرض عليّ المبلغ الذي اقترحه، اعتذر عن قبوله، رغم حاجتي الماسة للمال في ذلك الوقت، واطلب منه ثمن أجرة التاكسي فقط كدين على أن أرده في وقت آخر.

أذهب من وقت إلى أخر إلى ساحة >النهضة<، التي تعد من ساحات العاصمة بغداد الأكثر ازدحاما• أقف في موقف الباص رقم (55) • يأتي الباص من الحي الشعبي المعروف بـ”حي الثورة” الأكثر تعداداً من ناحية السكان• يقطنه فلاحون مهاجرون من أرياف جنوب العراق هرباً من الفقر، القحط، الاضطهاد والحرمان والخشية من الانقراض• أرقب عبر زجاج الباص المكتظ، وجوهاً لنساء ريفيات، لا يذهب إيقاع المدينة وهموم الحياة اليومية بصفاء وعفوية جمالها الريفي، وجوه خالية من المساحيق، خطوط ملامح تنساب بليونة• حتى وقع الحيرة والخوف من المجهول لا تحولان دون تشريد الجمال منهن• جمال يعزف منفرداً لحن الحاجة إليه• أقوم بمحاولة للاشتباك البصري، قد تنجح المحاولة فأظفر بالتفاتة باسمة، أو تفشل فأتعرض إلى تجاهل مفتعل ومتدلل، يكون اليأس والخيبة متورطان به• تؤمن لي هذه الوجوه البهجة، الطمأنينة والرغبة• أطلق على جولتي هذه عنواناً هو “التبضع الجمالي”• أحمل هذه الوجوه إلى سريري، اركبها على أجساد ممثلات أو عارضات أزياء، كما تشاء رغبتي فيهن، ثم أحملني على النوم.

يُرّبت على كتفي، أستدير إلى الخلف، أرى طه نتعانق نقبل بعضنا، انه في بزّة عسكرية• يخبرني أنه جندي مكلف الآن، وهو في طريقه إلى جبهة الحرب مع إيران، يدعوني إلى تناول قدح من الشاي في أحدى المقاهي القريبة، بعد بحث مجهد نهتدي إلى مقهى، وبصعوبة بالغة نعثر على كرسيين شاغرين• صوت الراديو العالي يختلط بأصوات رواد المقهى، فيُحدث ضجيجاً، يضاعف من الإحساس بالتذمر من الضجيج والضيق من حرارة الجو• حيال ذلك يضطر الزبائن إلى التحدث بصوت عالٍ، يخترق مستوى هذا الأصوات العالية، صوت النادل الأجش والهادر بالطلبات، والإعلان عن تلبيتها

قدحان من الشاي، بسرعة من فضلك

- لم العجلة، العجلة من الشيطان، كما يقول الواعظ• خذوا راحتكم، العالم لا يطير منكم، أقسم لو أن العالم طيراً لفرّ محلقاً من عجلة البشر وسرعتهم، ستطير الدنيا، يا ناس، السرعة أقصر طريق إلى القبر• على أية حال، ماذا بشأن السكر
السكر وسط

يتوجه طه نحوي بالكلام، خير الأمور أوسطها، كما يقال ويضيف هامساً في أذني، لكن الحرب أمر مختلف، فأنت تقاتل شخصاً لا تعرفه، تطلق عليه “عدواً” لتبرر لنفسك قبل سواك شرعية قتله• العدو والصديق بدعتان سياسيتان• أهمس في أذنه، ويهمس إن الإيراني الذي كان صديقاً وحليفاً بالأمس، يكون اليوم بموجب مرسوم جمهوري عدواً• وأقذر الحروب تلك التي لا تقوم على قناعة• نحن نهاجم إيران ونحتل أراضيها، ونقدم تضحيات بالبشر والمعدات، من أجل ماذا، ولماذا نحتفظ بأراضي الغير، لماذا نحتفظ بها، هل لنزرع فيها خياراً لنعمل منه سلطة اللبن “الجاجيك”• منْ يعيش الحرب يدرك ما معنى السلم، الحياة أغلى من الموت وأقدس منه• أنا أثق بكَ ولهذا افتح لكَ صدري، اعرف أن ما أقوله قد يفقدني حياتي بوشاية منكَ، ثقتي فيكَ عتيقة وراسخة، ثم أنا مدين لك بالفضل لأنك أهديتني “لباس مُعزز الداخلي”.

وأنا مدين لكَ بدينارين أجرة التاكسي في الليلة إياها

اخرج من جيبي نقوداً، يرفض قبولها، نحن أكثر من أخوين، يقول أعرف أني سأذهب، لكني لا أعرف البتة هل سأعود أم لا• أنا في الخطوط الأمامية، انظر يشير إلى صدره أنه “وسام الشجاعة”، أن موقفاً طارئاً جعلني شجاعاً أنا لست كذلك، يضحك• ثم يشير إلى الحقيبة التي يحمل، إنها تحتوي على أمتعة لا قيمة لها، وقابلة للتعويض وغير مأسوف على فقدانها• لكن بينها قطعة لا تعوّض، تعرفها أنتَ، هذه القطعة هي ” لباس مُعزز الداخلي” أنه أجمل ما أملك، أعتقد أنني الآن أقتني شيئاً جميلاً، يكتسب قيمته الجمالية من عائديته• فيما تكتسب متملكاتي الأخرى قيمتها من غلاء أثمانها أو من منشأ صنعها• حدثني عن مغامرتكَ مع مُعزز، يطلب إلى ذلك، ليس الوقت مناسباً الآن، أرد عليه، لا، الوقت مناسب جداً، يصر على ذلك

تأتي مُعزز لزيارتنا، في وقت تكون فيه أمي غائبة، هناك في السوق• يضيف طه أنيقة وجميلة أليس كذلك، نعم، وأضيف أعرض عليها قدحاً من البارد، تبلّ به ريقها وترش الباقي على صدرها الناضح عرقاً• تعتذر عنه بلباقة، يؤكد طه رادفاً إنها خجولة ورقيقة• شفتاكِ جميلتان يا مُعزز، أقول ذلك وأنا أدنو بشفتيّ من شفتيها• طبعاً شفتاها جميلتان، يقول >طه< وهو يضرب على صدره ضربات خفيفة، يصحبها بعبارة ويلي• فيما ساقيه المهتزتان تعالجان توتراً ينشب بينهما• أنحّف كلامي، هل تعجبكَ شفتاي، وجسدكِ أضيف، اطلب منها رؤيته، تتعري : نهدان صغيران منتصبان، خال يغفو تحت حلمة نهدها الأيسر• يصحح متأوهاً، نهداها كبيران منتصبان• أتواصل سارداً، خال تحت نهدها الأيسر، نعم، أنحدر بناء على رغبته المعهودة إلى خصر دقيق، سرّة جميلة، أسفلها شعر بني كثيف.

فجأة يتصدى >طه< بغضب• أتوقف عن الحديث مذهولاً• يقف يطغى على وجهه احمرار يلمح إلى تهور• يمسك بياقتي• “كف عن الهراء، أيها المغرور، انك كذاب وخليع، إذا كان الشرف امرأة فهو مُعزز، ستكون نهايتكَ على يدي.

يثير غضبه المفاجئ وصراخه دهشة وفضول زبائن المقهى، يبدون لا حراك فيهم، تنطبع على وجوههم المتجمدة ملامح الترقب، يصوبون أنظارهم نحونا• يسرع النادل نحونا ليبحث عن دور له في فك نزاعنا• يهدأ النادل من غضب>طه

أنتما أخوان، وليس للأخ غير أخيه
أنتما أخوان، وليس للأخ غير أخيه

يتوقف طه عن الكلام، ثم يرمق الزبائن بنظرة• يلتقط أنفاسه، ويتلاشى تدريجياً الاحمرار من وجهه• لاشيء، انه سوء تفاهم بسيط وانتهى، يطمئن بذلك الزبائن المتسائلين•

يردد زبائن المقهى الذين تدب فيهم الحركة من جديد: “أنتما أخوان، وليس للأخ غير أخيه”، بصوت عالٍ، يشبه أداء كورالياً، تتفاوت فيه طبقات الصوت بين عالٍ، ناشز، رخيم وأجش، يثنون بنظراتهم على فعل النادل ويقدرون فيه حسن تصرفه، فيعود إلى مكانه مزهواً فخوراً بما يفعل.

يعانقني طه مقبلاً إياي ومعتذراً عن غضبه المفاجئ، أقبل اعتذاره• نجلس لحظة صامتين، يكسر النادل صمتنا بصوته الأجش العالي هذه المرة أكثر مما ينبغي
قدحان آخران من الشاي بسكر وسط على حسابي

يثير صوته العالي انتباه زبائن المقهى، فتدوي عاصفة من التصفيق، ننضم بدورنا إليهم مصفقين• يرد النادل على جمهوره من المصفقين، بانحناءة مسرحية• نتناول الشاي، ويبادر طه إلى الحديث بصوت هادئ، وأعصاب في طريقها إلى التماسك• عدني إلا تسيء إلى سمعة مُعزز ، بالحديث عنها، كف من أجلي عن إغوائها، إنها حقي المطلق، بالخيال طبعاً، يبكي طه أعدكَ وأبكي أنا أيضاً من أجله

يتهامس
زبائن المقهى ” إنهما أخوان، وليس للأخ غير أخيه”، ننتهي من تناول الشاي، ونقرر الذهاب، يرفض النادل أن يدفع أينا ثمن الطلبات، ويتمنى علينا أن نأتي ثانية، المقهى مقهاكم وعلى الرحب والسعة في أي وقت، يودعنا النادل بهذه الكلمات.

أودع طه واعداً إياه بالكف عن التحرش بـ ” مُعزز” والمس بسمعتها• بعد شهر واحد يعود >طه< من جبهة الحرب، ليس في شاحنة أو باص، إنما في صندوق، يُمنع ذووه من إقامة مجلس العزاء على روحه، لأنه شهيد وبطل قومي• يؤمرون رسمياً بوجوب التعبير عن فرحتهم باستشهاده• بما يسمى “عرس الشهيد” ، وعليهم أن يزينوا صالة الاستقبال، ويطلقوا الأغاني عبر مكبرات الصوت التي يسمونها “الأغاني الوطنية”، ابتهاجاً باستشهاده• يُرغم أهل >طه< على استقبال المهنئين باستشهاده من ضباط ومسؤولين حزبيين وحكوميين، بفرح• فيما تنوء غرف المنزل بنحيب وحزن غير مصرح رسمياً بالتعبير عنه.•

أمتنع عن الذهاب لحضور حفل “عرس الشهيد” ، هذه التسمية الرسمية لمراسيم تشييع جنازة ضحايا الحرب•، اذ يصعب عليّ الإحجام عن الحزن، يصعب عليّ الإقرار باستشهاده، لا أراه كذلك، انه اغتيال منظم• إن الاستشهاد في سبيل الوطن، ينبغي أن يقوم على الإيمان والقناعة وليس على الإكراه• طه ضحية حرب لا يصوت من أجلها، ولا خيار له فيها• إن إحجامي عن الفرح بمصرعه، يعني مخالفة صريحة لأوامر حكومية بوجوب الفرح• مما سيعرضني ذلك إلى العقوبة بتهمة التآمر على الوطن، أو التخاذل في أداء واجب، التُهم من هذا النوع متوفرة أكثر من البضائع التي تشحّ في السوق، تُهم جاهزة يجري البحث من أجلها عن متهمين• ان عصيان الفرح الرسمي خيانة.

ادخل غرفتي مساءً، أغلق الباب دوني، أشعل شمعة، واشغل آلة التسجيل على موسيقى جنائزية• على صراخ الرغبة ينبعث طه ليشغل حيزه في غرفتي المفجوعة بالغياب• وتقوم من أجله مُعزز، جميلة، خفيفة وعارية من الخزن، تستلقي على سريري، تدعوه إليها بشهوة على قدر لهفته وحبها لها، ، اتركهما إليهما، ليعيشا معاً لحظتهما الجسدية الحلم، بعد أن بخل عليهما الواقع بها• أنصرف عني وعنهما إلى الرقص، وعلى تداعياتهما، أتداعى:

الجندي
لم يكن هشّاً حد الكسر
ولا ليناً حد الطّي
يسبح في وحدة موحشة موحشة
في الإجازة الأولى:
عاد في شاحنة
في الإجازة الثانية:
عاد في باص
في الإجازة الثالثة:
عاد في صندوق

_________________

لا ليس هناك موت البتة هناك اغتيال دوماً.

لا حق في موت
ليس هناك موت
بل غيلة













——————————————————————————

* منعم الفقير (كاتب عراقي مقيم بالدانمارك)




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...