لو غير شكسبير ألف هذه القصة التمثيلية لما عدت أن تجئ سلسلة من المباغتات ووقائع المصادفة وكشكولاً من أشخاص ينقلب نحسهم سعداً على يد القدر المتاح وخوارق التقلبات غير المنتظرة، ولكن شكسبير منحها من عبقريته نفحة جعلت الحياة تهب من أعطافها. وفي الحق أن هذه القصة يشير بها فن شكسبير إلى سخرية الحياة وعبثها ببنيها، ورمز بها إلى تلك القوة الخفية التي تصرف الأمور وتوجه الناس وجهات ترضاها هي - لا هم - لغاية يجهلونها. ففي "غابة أردن" حيث الدوق الذي أقصاه الأصغر عن ملكه يستطيب الحياة ويعيش هو ورفاقه النبلاء الأولي لحقوا به والأولي كانوا يتزايد عددهم على مر الأيام. في هذه الغابة يفد عليه رسول ينبئه أن أخاه قد برئ من ملكه وتنازل له عنه وكان قد جاء ليقضي عليه وعلى صحبه فإذا به يلقى - صدفة - ناسكاً يعظه عن فتنته بالدنيا مفارقا فيها ألوان الإثم والعدوان. وفي هذه الغابة تجمع الصدفة الأخوين "أورلندو" و"أوليفر" وكان الأخير وهو الأكبر قد أهمل تربية الأول وهو أصغر أبناء السير "رولاند دي بويز" صديق الدوق المخلوع وأساء معاملته مخالفاً وصية أبيه. فثارت فيه خلال نبل وإباء ورثها عن أبيه النبيل ويستعر العراك بين الشقيقين ويصرع الأصغر الأكبر فيحرض عليه مصارعاً اشتهر بدق الأعناق وتهشيم الضلوع ولعل "أورلندو" رغب في منازلته ليفر من الحياة بشرف. ولكن القوة الخفية تغري بالفتى "أورلندو" عيون "روزالند" ابنة الدوق المخلوع وتمده رقتها الساحرة بقوة تغلبه على خصمة...فيدبر أخوه "أوليفر" إشعال النار في غرفته فتسوق المصادفة خادم أبيه "آدم" فيقف على المكيدة وينقذه ناصحاً له بالهرب ويقدم له ما ادخره لشيخوخته من مال قليل ويصر على مرافقته لخدمته.
يلتقي الشقيقان في هذه الغابة مصادفة أيضاً. ولكن الأغرب من اللقيا أن يفاجأ "أورلندو" بأخيه النائم قد التفت حوله أفعى فما أن يبدو لعينيها حتى تهرب من وجهه. وما ينجيه ذلك من الموت إذا استيقظ، فأن لبوة تراقبه. وأمام هذا الخطر المحدق بأخيه يستفزه الحنان وتستثيره الشهامة لإنقاذه، فينقذه بثمن من الدم المسفوح وبجرح في ذراعه. وتقارب الكارثة بين الأخوين ويعودان إلى ما يوجبه كرم (النحيزة) إن لم توجبه عاطفة الأخوة وصلاتها الوثيقة. وفي هذه الغابة يلتقي "أورلندو" بـ "روزالند" التي أحبها من كل قلبه وأحبته ملء نفسها، والتي استثار غضب عمها عليها أن "أورلندو" هذا الذي أطرى شجاعته وجرأته وبراعته حين فاز على المصارع العتيد هو ابن السير "رولاند دي بويز" صديق أخيه الدوق المخلوع الذي يلوذ به آونة بعد أخرى النبلاء وذوي الخطر مما أقض مضجعه، إلى جانب ما تفعله أخلاق "روزالند" ابنة أخيه التي استبقاها لتسلي ابنته "سيليا" كوصيفة على الأرجح فتبرزها في عين الشعب ويتعلق بها الجميع من أجل هذا ومن أجل أنها "ضحية" بريئة لأطماع عمها...
تثور في صدر الدوق فردريك عمها الغاصب (أحن) ويطغى عليه عنصر الشر والخبث فيطردها لا من بلاطه بل من مملكته - أو دوقيته على الأصح - فتصحبها ابنة عمها إلى غابة "أردن". فأما "روزالند" فتتنكر في زي فتى ريفي اسمه "جانيميد" وترتدي "سيليا" لبوس "فتاة ريفية" اسمها "ألبينا" تزعم أنها أخت "جانيميد" هناك في هذه الغابة تجمع الصدفة بين "جانيميد - روزالند" المتنكرة وبين "أورلندو" الذي يكون قد جن جنونه بحبها والذي ينقش على جذوع الأشجار قصائد سخيفة يردد فيها اسمها. هي قد أصابت فيه الحبيب الذي ينشده قلبها وهو يشم فيها صورة من هوى قلبه وحاجة نفسه حتى ليحسيها أول الأمر وهي متنكرة في زي القروي "جانيميد" أنها شقيق "روزالند". وفي هذه الغابة يحل السحر أو تلك القوة المستورة وراء القضاء - معضلة غرامية ذلك أن "جانيميد" تعابث "أورلندو" جاعلة من نفسها فتاته "روزالند" ويطفقان يمثلان دور الواله المدله والمعشوقة الغيورة قد تأججت شعلة الحب المقدس في تضاعيف كيانها الملائكي. ويمضي "أورلندو" يخادع نفسه أو هو يطامن من جموح جواه. ولكن أخاه "أوليفر" يعشق الفتاة القروية "ألبينا" على البديهة وتحبه ارتجالاً ويتقدم خاطباً إياها من أخيها "جانيميد" فيوافق ويغتبط "أورلندو" ويحدد موعد الزواج أن يكون من غد في حضرة الدوق المخلوع ورفاقه...وهنا...نعم هنا...يتبخر الوهم وتتآلب عليه لواعج الحب وينهي إلى "جانيميد" أنه متألم من رؤية السعادة بعيني سواه وأنه عاد لا يطيق هذا الغرام التمثيلي، فتقول له أنها تعلمت في صباها السحر على ساحر بارع وأنها تستطيع أن تزوجه في الغد من "روزالند" وتطلب إليه أن يحضر في ثياب العرس فإذا كان الغد خلع "جانيميد" ثيابه وأقبلت على الحفل "رزوالند" فيعرفها أبوها الدوق وتطيب برهته بها وبأنها ستتزوج من ابن صديقه القديم.
ولقد ترى في هذه الرواية صورة مصغرة من "روميو وجولييت" فيما هو بسبيل الغرام القوي المنتصر والعواطف المشبوبة. وأنك لتلحظ فيها توازناً بين حب الرجل وحب المرأة ورفقاً في التعبير عن غاية الغايات في الحياة الحيوانية وشيئاً غير قليل من قدرة الطبيعة على الاختيار اختيار الأصلح للأصلح. ويبدو لعينيك ما وراء الحياة من قوة خفية تتصرف في الحياة وتهزأ بكل حساب وتقدير وتفسد كل احتياط وتدبير. أليست الرواية بدأت في جو مظلم قائم حاشد بالطمع المتهم وبالجريمة في أبشع مراثيها ثم انتهت في جو من الرضى والسرور والفوز بالمستحيل في تقدير الأناسي، ومن غير شكسبير كان يؤلف من هذه المباغتات والمواقف المصطنعة قصة كأن الحياة ترويها.! هذا هو الفرق بين شكسبير وبين المؤلفين المسرحيين من الطبقات التي تليه والتي يسمو عليها ويشرف من ذروة الكمال الفني.
* * *
ولهذه الرواية قيمة خاصة وميزة نبه إليها كبار النقاد الفنين ممن تخصصوا في دراسة أعمال شكسبير الفنية فقد بدأ فيها مرحلة جديدة من مراحل تطوره. بدأ يصور لنا شخصياته الخالدة جاعلاً أولى تجاربه الموفقة في إبراز شخصية "جاك" أحد أولاد السير "رولاند دي بوبز" الذي رافق الدوق المخلوع وأبى عليه طبعه الكئيب وأبت عليه نظرته السوداء أن يشاطر الدوق ورفاق عيشهم اللاهي ومرحهم وأطرابهم في تلك الغابة العبوس. و"جاك" هذا إن حذف من الرواية لم يؤثر حذفها على إبداعها. ولكن شكسبير دسه فيها غير متطفل ولا نابي المكان وجعله بقوته الفنية الخارقة جزءاً في الرواية لا يتجزأ. ولا نطيل لضيق المقام. وفي قولنا أن "شكسبير" وضعه في شتى المواضع لكي يكشف عن جوانب شخصيته غناء فيه الكفاية. ولم يشأ شكسبير أن تنقلب القصة من مأساة إلى كوميديا سعيدة دون ما تمهيد وبلا تدرج. فرفض "جاك" ينغص على الدوق المخلوع ورفاقه عيشهم الهنئ، وجعل الفتى "جانيميد" يتدرج بيأس "أورلندو" من السلوى المخفقة إلى الوعد الذي تحقق بفعل السحر. وما ثم سحر ولكن ثم إرادة الحياة وتدبيها.
وأني لأدهش لفطنة المستر "روبرت أتكنس" إذ يعهد في الأدوار الرئيسة إلى من يحذقها وينجح فيها نجاحاً يعترف به الجميع. ولا شأن لي هنا سوى بالشخصيات الرئيسة والشخصيات الثانوية، ولا أريد أن أتكلم عن الممثلين جميعاً وأصرح أن المستر "ارث بورت" الذي مثل دور "جاك" قد شارك الآنسة "ستيلا أربنينا" فخر نجاح هذه الرواية على مسرح الأوبرا. فإنهما كلاهما قد بلغا النهاية أو قاربا مقام الخالدين من الفنانين. وقد ساعد الآنسة "أربنينا" على إخراج الدور أنها غلامية القد بحيث تصلح لأن تتزيى في زي الفتى "جانيميد" وساعدها صوتها الذهبي الرنين وغضاضة إحساساتها وعمق شعورها وفهمها لدورها ودراستها له دراسة يظهر أنها منتزعة من الحياة، حياة الشباب الفياض بالحب والأمل.
وقد كنت يخيل لي كلما ظهر المستر "برون" في دور "جاك" أنه تحدث أو أومأ أو اتخذ هيئة اليأس من الدنيا ومن خيرها. والممثلات بوجه عام لفتن نظري إلى ممثلاتنا وحالهن السيء من حيث كل شيء له علاقة بالتمثيل وبالاطلاع والتهذيب المنظم وغير المنظم. كل الممثلات نجحن نجاحاً نسبياً حتى اللواتي مثلن أدواراً ثانوية وبالأخص الآنسة التي مثلت دور "فيب". ولولا أننا نعلم حقيقة المضحك "تاتشستون" وأنه ليس فكهاً بطبعه ولكن بصناعته لكنا غمضنا المستر "دانكان يارو" حقه من البراعة غير المتكلفة. وتهانينا في الختام للمستر "برونو بارناب" على أنه حمى "اورلندو" من فضيحة الجمود أمام عبقرية الآنسة "ستيلا أربنينا" التي ملأت المسرح سواء أكانت موجودة أم غير موجودة، فلقد كنا ننتظر عودتها لا لأنها محور الرواية وبطلتها فحسب ولكن لأنها جودت بما لا مزيد عليه.
وأخيراً أقول أن بلاغة شكسبير قد عوضتنا عن تأخر هذه القصة من الناحية الدراماتيكية.
(الجديد، العدد 30، 5 نوفمبر 1928)
(1) راجع داغر، يوسف أسعد: مصادر الدراسة الأدبية، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الألفية، بيروت، ص 716 - 717.
يلتقي الشقيقان في هذه الغابة مصادفة أيضاً. ولكن الأغرب من اللقيا أن يفاجأ "أورلندو" بأخيه النائم قد التفت حوله أفعى فما أن يبدو لعينيها حتى تهرب من وجهه. وما ينجيه ذلك من الموت إذا استيقظ، فأن لبوة تراقبه. وأمام هذا الخطر المحدق بأخيه يستفزه الحنان وتستثيره الشهامة لإنقاذه، فينقذه بثمن من الدم المسفوح وبجرح في ذراعه. وتقارب الكارثة بين الأخوين ويعودان إلى ما يوجبه كرم (النحيزة) إن لم توجبه عاطفة الأخوة وصلاتها الوثيقة. وفي هذه الغابة يلتقي "أورلندو" بـ "روزالند" التي أحبها من كل قلبه وأحبته ملء نفسها، والتي استثار غضب عمها عليها أن "أورلندو" هذا الذي أطرى شجاعته وجرأته وبراعته حين فاز على المصارع العتيد هو ابن السير "رولاند دي بويز" صديق أخيه الدوق المخلوع الذي يلوذ به آونة بعد أخرى النبلاء وذوي الخطر مما أقض مضجعه، إلى جانب ما تفعله أخلاق "روزالند" ابنة أخيه التي استبقاها لتسلي ابنته "سيليا" كوصيفة على الأرجح فتبرزها في عين الشعب ويتعلق بها الجميع من أجل هذا ومن أجل أنها "ضحية" بريئة لأطماع عمها...
تثور في صدر الدوق فردريك عمها الغاصب (أحن) ويطغى عليه عنصر الشر والخبث فيطردها لا من بلاطه بل من مملكته - أو دوقيته على الأصح - فتصحبها ابنة عمها إلى غابة "أردن". فأما "روزالند" فتتنكر في زي فتى ريفي اسمه "جانيميد" وترتدي "سيليا" لبوس "فتاة ريفية" اسمها "ألبينا" تزعم أنها أخت "جانيميد" هناك في هذه الغابة تجمع الصدفة بين "جانيميد - روزالند" المتنكرة وبين "أورلندو" الذي يكون قد جن جنونه بحبها والذي ينقش على جذوع الأشجار قصائد سخيفة يردد فيها اسمها. هي قد أصابت فيه الحبيب الذي ينشده قلبها وهو يشم فيها صورة من هوى قلبه وحاجة نفسه حتى ليحسيها أول الأمر وهي متنكرة في زي القروي "جانيميد" أنها شقيق "روزالند". وفي هذه الغابة يحل السحر أو تلك القوة المستورة وراء القضاء - معضلة غرامية ذلك أن "جانيميد" تعابث "أورلندو" جاعلة من نفسها فتاته "روزالند" ويطفقان يمثلان دور الواله المدله والمعشوقة الغيورة قد تأججت شعلة الحب المقدس في تضاعيف كيانها الملائكي. ويمضي "أورلندو" يخادع نفسه أو هو يطامن من جموح جواه. ولكن أخاه "أوليفر" يعشق الفتاة القروية "ألبينا" على البديهة وتحبه ارتجالاً ويتقدم خاطباً إياها من أخيها "جانيميد" فيوافق ويغتبط "أورلندو" ويحدد موعد الزواج أن يكون من غد في حضرة الدوق المخلوع ورفاقه...وهنا...نعم هنا...يتبخر الوهم وتتآلب عليه لواعج الحب وينهي إلى "جانيميد" أنه متألم من رؤية السعادة بعيني سواه وأنه عاد لا يطيق هذا الغرام التمثيلي، فتقول له أنها تعلمت في صباها السحر على ساحر بارع وأنها تستطيع أن تزوجه في الغد من "روزالند" وتطلب إليه أن يحضر في ثياب العرس فإذا كان الغد خلع "جانيميد" ثيابه وأقبلت على الحفل "رزوالند" فيعرفها أبوها الدوق وتطيب برهته بها وبأنها ستتزوج من ابن صديقه القديم.
ولقد ترى في هذه الرواية صورة مصغرة من "روميو وجولييت" فيما هو بسبيل الغرام القوي المنتصر والعواطف المشبوبة. وأنك لتلحظ فيها توازناً بين حب الرجل وحب المرأة ورفقاً في التعبير عن غاية الغايات في الحياة الحيوانية وشيئاً غير قليل من قدرة الطبيعة على الاختيار اختيار الأصلح للأصلح. ويبدو لعينيك ما وراء الحياة من قوة خفية تتصرف في الحياة وتهزأ بكل حساب وتقدير وتفسد كل احتياط وتدبير. أليست الرواية بدأت في جو مظلم قائم حاشد بالطمع المتهم وبالجريمة في أبشع مراثيها ثم انتهت في جو من الرضى والسرور والفوز بالمستحيل في تقدير الأناسي، ومن غير شكسبير كان يؤلف من هذه المباغتات والمواقف المصطنعة قصة كأن الحياة ترويها.! هذا هو الفرق بين شكسبير وبين المؤلفين المسرحيين من الطبقات التي تليه والتي يسمو عليها ويشرف من ذروة الكمال الفني.
* * *
ولهذه الرواية قيمة خاصة وميزة نبه إليها كبار النقاد الفنين ممن تخصصوا في دراسة أعمال شكسبير الفنية فقد بدأ فيها مرحلة جديدة من مراحل تطوره. بدأ يصور لنا شخصياته الخالدة جاعلاً أولى تجاربه الموفقة في إبراز شخصية "جاك" أحد أولاد السير "رولاند دي بوبز" الذي رافق الدوق المخلوع وأبى عليه طبعه الكئيب وأبت عليه نظرته السوداء أن يشاطر الدوق ورفاق عيشهم اللاهي ومرحهم وأطرابهم في تلك الغابة العبوس. و"جاك" هذا إن حذف من الرواية لم يؤثر حذفها على إبداعها. ولكن شكسبير دسه فيها غير متطفل ولا نابي المكان وجعله بقوته الفنية الخارقة جزءاً في الرواية لا يتجزأ. ولا نطيل لضيق المقام. وفي قولنا أن "شكسبير" وضعه في شتى المواضع لكي يكشف عن جوانب شخصيته غناء فيه الكفاية. ولم يشأ شكسبير أن تنقلب القصة من مأساة إلى كوميديا سعيدة دون ما تمهيد وبلا تدرج. فرفض "جاك" ينغص على الدوق المخلوع ورفاقه عيشهم الهنئ، وجعل الفتى "جانيميد" يتدرج بيأس "أورلندو" من السلوى المخفقة إلى الوعد الذي تحقق بفعل السحر. وما ثم سحر ولكن ثم إرادة الحياة وتدبيها.
وأني لأدهش لفطنة المستر "روبرت أتكنس" إذ يعهد في الأدوار الرئيسة إلى من يحذقها وينجح فيها نجاحاً يعترف به الجميع. ولا شأن لي هنا سوى بالشخصيات الرئيسة والشخصيات الثانوية، ولا أريد أن أتكلم عن الممثلين جميعاً وأصرح أن المستر "ارث بورت" الذي مثل دور "جاك" قد شارك الآنسة "ستيلا أربنينا" فخر نجاح هذه الرواية على مسرح الأوبرا. فإنهما كلاهما قد بلغا النهاية أو قاربا مقام الخالدين من الفنانين. وقد ساعد الآنسة "أربنينا" على إخراج الدور أنها غلامية القد بحيث تصلح لأن تتزيى في زي الفتى "جانيميد" وساعدها صوتها الذهبي الرنين وغضاضة إحساساتها وعمق شعورها وفهمها لدورها ودراستها له دراسة يظهر أنها منتزعة من الحياة، حياة الشباب الفياض بالحب والأمل.
وقد كنت يخيل لي كلما ظهر المستر "برون" في دور "جاك" أنه تحدث أو أومأ أو اتخذ هيئة اليأس من الدنيا ومن خيرها. والممثلات بوجه عام لفتن نظري إلى ممثلاتنا وحالهن السيء من حيث كل شيء له علاقة بالتمثيل وبالاطلاع والتهذيب المنظم وغير المنظم. كل الممثلات نجحن نجاحاً نسبياً حتى اللواتي مثلن أدواراً ثانوية وبالأخص الآنسة التي مثلت دور "فيب". ولولا أننا نعلم حقيقة المضحك "تاتشستون" وأنه ليس فكهاً بطبعه ولكن بصناعته لكنا غمضنا المستر "دانكان يارو" حقه من البراعة غير المتكلفة. وتهانينا في الختام للمستر "برونو بارناب" على أنه حمى "اورلندو" من فضيحة الجمود أمام عبقرية الآنسة "ستيلا أربنينا" التي ملأت المسرح سواء أكانت موجودة أم غير موجودة، فلقد كنا ننتظر عودتها لا لأنها محور الرواية وبطلتها فحسب ولكن لأنها جودت بما لا مزيد عليه.
وأخيراً أقول أن بلاغة شكسبير قد عوضتنا عن تأخر هذه القصة من الناحية الدراماتيكية.
(الجديد، العدد 30، 5 نوفمبر 1928)
(1) راجع داغر، يوسف أسعد: مصادر الدراسة الأدبية، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الألفية، بيروت، ص 716 - 717.