عبدالله البردُّوني - وصول

بودِّي أن أفرَّ الآن منِّي
وأدخلَ نزوةً في رأس جنّي

وأسبح فوق ومضٍ لا يُسمّى
ولا يلقى الملقِّب والمكنّي

يحنُّ إلى مطافٍ غير طافٍ
ويُومي: يا نجوم إليه حِنّي
فأُوغل في صميم الومض أخفى
كنسغ الأرض عن زمني وعنّي

* * *

وكالبذر الدفين أنثُّ وجدي
لوجدي لا أنوح ولا أُغنّي

بكل قرارةٍ أنسَلُّ دفقاً
ربيعياً يوشيّ أو يُحنّي

وأفنى كي يغرِّدَ كل زاكٍ
وينقرض الذي يبقى لِيُفني

أحولُ قصيدةً لَمّا أقلها
وخفق الصمت قافيتي ووزني

هنا، في لا هنا أمتدُّ جسراً
إلى الوطن الذي فوق التمنّي

ومِن ما هيَّةٍ أخرى أُوافي
فأختار الذي أمحو وأبني

وأطوي لحد ذاكرتي ورائي
فلا أهذي ب: كنتُ ولا كأنّي..

لأني صرت غير أنا، وعصري
سوى عصري، وفنّي غير فنّي

أليس حِمى حنيني لا يُضاهى
بمقياس التيقُّنِ والتَّظنّي

* * *

له لغةٌ سوى قاموس (روما)
سوى (المُغْني) الذي ما كان يُغني

فليس عليه مرميٌّ ورامٍ
ولا كذِب التّرقي والتّدني

ولا فيه تسنّي أيِّ ظرفٍ
لراكبه ولا حِيَل التَّسَني

ولا لغو المُداجى والمُداجَى
ولا صفة الطفور ولا التأني

وليس عليه أبواقٌ تدوّي
ولا ورقٌ بأم الحبر يزني

* * *

إليك وصلت يا أنقى وأهنا
بلا زغرودةٍ وبلا مُهنِّ

حملتُ براءة العشب المُندَّى
وجئت مخلِّفاً للفار سِجني

* * *

لماذا لا تصدِّق مَن تراهُ؟
أتأسف أم تخاف عليك أجني؟

أتخشى وحْلَ أحذية السُّكارى
وتنسبه إلى عَرَقي وعجني

لقد كانوا هناك قذى طريقي
أنابيب الفحيح إلى مَكَنّي

أُلاقي جبنهم مِن غير بحثٍ
ولايلقون بعد البحث جُبني

أتحسبُ أن هاتيك الأفاعي
ستتبعني، تخون هنا وتُخني؟

بعيدٌ أنت عن فمها، وأمّا
أنا ما جئت أنشد صفو أمني

فما وصَّت (لميسٌ) بي مُجيراً
ولا قالت: أخاف عليك يا بْني

ولا باهت كتلك: نجا عيالي
لأني صنت (تبري تحت تِبني)

(لميس) اقني بنيكِ، صهٍ (ثريّا)
فَأمَّ البَيْضِ تعرف كيف تَقني

لهذا قلت: يا مجهول خذني
وسنّي السيف يا أخطار سِنّي

أأستجديك تحصيناً وحصناً
وقد كان السُّعار هناك حصني

لنا فوق التحدّي والتوقّي
همومٌ لا تراها الريح تحني

* * *

لماذا تستزيد مِن اختباري؟
أما أهرقتُ بين يديك دنّي؟

أحتى أنت تهجس أنّ خلفي
يداً، أو أن أمراً تحت ضِبني

* * *

أفصِّل مذ نويت، عزمت أَخفى
وأشجَى مِن زوايا كهف حُزني

فما أخبرت صبحاً عن مرامي
ولاتمتمتُ للمصباح: إنّي..

ولا ناديت: يا قلقي أقلني
ويا عكّاز تسويفي أعِنّي

* * *

فلم أعهد إلى عمّي بأمّي
ولابأبي إلى صهري وخِدني

ولا استودعت مكتبتي صديقاً
ولا ودَّعت نافذتي وركني

ولا تلك التي قالت: أطعني
وخذ كوزين مِن عسلي وسمني

أراك مسافراً؟ فأجبت: كلاّ
وما كانت وأختيها مجنّي

* * *

سريتُ إليكَ تحت قميص غيمٍ
وحيداً لا أعِنُّ ولا أُعَنِّي

تصوَّر، ما اصحطبت ولا كتاباً
سوى تعليقةٍ علقت بذهني

ولا أزجَى فمي مِن موج صدري
سوى وطَرٍ إلى إِنصات أذني

فلم أفعل سوى تقليب أمري
وزجري أذنَ أذني: لا تطنّي

وإلجامي خيالاً، قال لوني
نبيذيٌّ، وطيفاً قال: بُنّي

وهمسي للعواصف: لا تنامي
وياتلك الرُّبى لا تطمئني

وياجَرَس الخطورة لا تجمجم
فإن أغفى، فيا أجداث رِنّي

* * *

فقالت لي العشيَّةُ: لا تخفهم
على مسراك قد أسبلت جفني

وألبستُ القناديل السواهي
قميصاً مستطيلاً مِن دُجُنّي

إذا استسماك حرّاس المواني
فأسكت (عامراً) وارطن ك(سدني)
* * *

وكالبرق ارتحلت بلا جوازٍ
بلا مِن أين أنت، بلا تجنِّ

ولم أركض ك(عنترة بن عبسٍ)
ولا كالغصن مجنون التثنّي

لأني جئت مِن عشرين قرناً
وما أشفت على السِّتِّين سِنّي

* * *

أتحتُك يا بسيطةُ قرن ثورٍ؟
قرون الدهر فوقي أين قرني؟

فقالت: يا سحاب أُريد غيري
أجابتها: وماءً غير مُزني

لِما تبغين أرضاً منكِ أفضَى
ألا تدري لما يا بعض قُطني

لمن ظهري، وحصَّة مَن جبيني
لمن صدري، لمن قدمي وبطني؟؟

ومَن أزواج أزواجي أتدري؟
ومَنْهُم سادتي، مَن أهلِ عهني!!

أما قالت لجدِّك أمُّ أمي:
هنا جسدي وذا سهلي وحَزْني!

أسائلها وتسألني وأجري
أُداني كل بُعدٍ منكَ يُدني

فأحياناً أسابق نبض قلبي
وأحياناً أنوء بحَمل متني

فأرجو رحلتي: لا تستطيلي
وأدعو قامتي: لا تِرجحنّي

* * *

تأكدَّ، ما رأى شَبحي غرابٌ
ولا لَمسَ الذُباب غبار ذقني

ولا خالت ديوك الفجر وجهي
ولا استرق النسيم أريج لحني

ولانَبحتْ خطاي (بنو كليبٍ)
ولا اشتمَّت قميصي (آل حسني)

* * *

مرقتُ على تخلُّف أهل خلفي فبرِّئني
مُحقّاً أو أَدِنّي

بلغتُ حماك مِن شوقي إليهِ
كأني كنت أحملُه بُردني

فخذ بيدي: لعلّي الآن أدري
وتدري أنت كيف غبنتُ غَبني

وقل لي: عِم صباحاً أو مساءً
وأفعم بالبشاشة جوف صحني

* * *

أجبني كيف شئت: هل الْتَقينا
أكنتُ أنا المُمنَّى والمُمنِّي

أما لوَّحتَ لي وهديتَ سَيري
فأتعبتُ المدى ودفنتُ دفني!!

خلعت على الطريق إليك أصلي
وأغلق بائع الأنساب رهني

* * *

ترى أرتدُّ! كلاّ سوف أمضي
وأنت معي رضيع يدي وحضني

تبنّيتَ اغترابي، عدت طفلي
تجاوزنا الأبوّة والتَّبَني

قبيل الآن كنا اثنين شكلاً
فصرنا الآن كلاً، لا يُثنّي

عام 1988م

ديوان رواغ المصابيح


ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...