وإجلال أبي فهر للغة والحذر في استعمالها واضح لائح في كل ما كتب وفي كل ما حقق.
ويقول- [أبوفهر] - تعليقاً على كلام لأبي جعفر الطبري، في تفسير قوله تعالى قوله تعالى ﴿نِسَاۤؤُكُمۡ حَرۡثࣱ لَّكُمۡ فَأۡتُوا۟ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ﴾ [البقرة ٢٢٣]، حجة أبي جعفر في هذا الفصل، من أحسن البيان(1) عن معاني القرآن، وعن معاني ألفاظه وحروفه، وهي دليل على أن معرفة العربية وحذقها والتوغل في شعرها وبيانها وأساليبها، أصل من الأصول، لا يحل لمن يتكلم في القرآن أن يتكلم فيه حتى يُحسُنه ويحذقه".(2) [تفسير الطبري 4/ 416] .
ومعلوم أن من عدة المحقق معرفة غريب اللغة حتى يتمكن من تصحيح ما يصادفه من ذلك التصحيف والتحريف الذي مُنيت به بعض مخطوطاتنا، نتيجة لجهل النساخ، أو عوامل الزمن. ولأبي فهر في ذلك وقفات كثيرة وتصحيحات، منها: جاء في تفسير الطبري 8/ 528، من قول أبي جعفر الطبري، في الآية 65 من سورة النساء: "وإذا قرئ كذلك فلا مَرْزِئَة على قارئه في إعرابه"، ويعلق أبو فهر: "المرزئة - بفتح الميم وسكون الراء وكسر الزاي - مثل الرزء والرزيئة، وهو المصيبة والعناء والضرر والنقص ... وكان في المطبوعة والمخطوطة: "فلا مرد به على قارئه"، وهو شيء لا يفهم ولا يقال".
وجاء في طبقات فحول الشعراء لابن سلام ص 106، قول كعب بن زهير:
ألا أبلغا هذا المعرَّض آيةً ...
أيقظان قال القول إذ قال أو حَلَمْ
ويشير أبو فهر في الحاشية إلى أن الرواية في ديوان كعب، والاستيعاب لابن عبد البر "أنه" مكان "آية" ثم يقول: وهي ضعيفة جداً، والصواب ما في مخطوطة ابن سلاَّم، وقد جاء أبو جعفر الطبري بهذا البيت شاهداً على أن الآية: القصة، وأن كعباً عنى بقوله: "آية" رسالة مني وخبراً عني. قال أبو فهر: والآية بمعنى الرسالة لم تذكره كتب اللغة، ولكن شواهده لا تعد كثرة، ومن ذلك قول حجل بن نضلة:
أبلغ معاوية الممزَّق آية ...
عني فلست كبعض ما يُتقوَّل
وقول أبي العيال الهذلي:
أبلغ معاوية بن صخر آية ...
يَهْوِي إليك بها البريدُ الأعجلُ
وهذا تفسير واضح في الشعر، وأوضح منه قول القائل:
أتتني آية من أم عمرو ...
فكدت أغصُّ بالماء القَراح
فما أنسى رسالتها ولكن ...
ذليل من ينوء بلا جناح
ومن هذا الباب - باب التقاط اللغة من كتب العربية، مما لم تفيده المعاجم المتداولة - ما جاء في تفسير الطبري 16/ 248، يقول أبو جعفر: "وقوله تعالى: {يأت بصيرا} يقول: يعُد بصيراً"،
ويعلق أبو فهر: هذا معنى يُقَيد في معاجم اللغة، في باب "أتى" بمعنى "عاد"، وهو معنى عزيز، لم يشر إليه أحد من أصحاب المعاجم التي بين أيدينا".
ومن تصحيحاته اللغوية العجيبة ما جاء في تفسير الطبري 9/ 182: "فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يُهْنِفُ"، ويعلق أبو فهر فيقول: "في المطبوعة والمخطوطة - من تفسير الطبري - "يَهْتِف" بالتاء كأنه أراد يصيح ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناشده، ولكنىِ رجحت قراءتها بالنون، من قولهم: أهنف الصبي إهنافاً: إذا تهيأ للبكاء وأجهش. ويقال للرجل: أهنف الرجل: إذا بكى بكاء الأطفال من شدة التذلل. وهذا هو الموافق لسياق القصة فيما أرجح".
ومن ذلك أيضاً ما علق به على قول ابن سلاَّم في الطبقات ص 5: "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم"، يقول أبو فهر: "كتب في المخطوطة "صِناعة" بكسر الصاد، ثم ضُرب على الكسرة (أي شطب) ووُضع على الصاد فتحة، وكذلك فعل بعد في لفظ "الصناعات"، وقد خلت كتب اللغة من النص على "صَناعة" بفتح الصاد، إلا أني وجدت في كتاب "الكليات" لأبي البقاء ما نصه: "والصَّناعة بالفتح تستعمل في المحسوسات، وبالكسر في المعاني"، ولكن إجماع كتب اللغة على ذكر "الصِّناعة" بالكسر، وأنها حرفة الصانع وعمله بيديه، دال على أن "الصَّناعة" بالفتح في المعاني دون المحسوسات، وأنها الحذق والدُّربة على الشيء".
وتأمل صنيع أبي فهر، لقد أفاد من صاحب "الكليات" ضبط "الصناعة" بفتح الصاد، لكنه خالفه في توجيه معناه! .
#من_روائع_المقالات
__________________________
(*) مقالات الطناحي صفحات في التراث والتراجم واللغه والادب (صفحة 500 - 503)
(1) بعد أن ذكر الطبري أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى ﴿نِسَاۤؤُكُمۡ حَرۡثࣱ لَّكُمۡ فَأۡتُوا۟ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ﴾ [البقرة ٢٢٣]
قال أبو جعفر الطبري : والصواب من القول في ذلك عندنا قولُ من قال: معنى قوله" أنى شئتم"، من أيّ وجه شئتم. وذلك أن"أنَّى" في كلام العرب كلمة تدلّ إذا ابتدئ بها في الكلام - على المسألة عن الوجوه والمذاهب. فكأن القائل إذا قال لرجل:"أنى لك هذا المال"؟ يريد: من أيّ الوجوه لك. ولذلك يجيب المجيبُ فيه بأن يقول:"من كذا وكذا"، كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن زكريا في مسألته مريم: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [سورة آل عمران: ٣٧] . وهي مقاربة"أين" و"كيف" في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها، فأشكلت"أنَّى" على سامعيها ومتأوِّليها،(٣٧) حتى تأوَّلها بعضهم بمعنى:"أين"، وبعضهم بمعنى"كيف"، وآخرون بمعنى:"متى" - وهي مخالفة جميع ذلك في معناها، وهن لها مخالفات.
وذلك أن"أين" إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال - وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلا لو سأل آخر فقال:"أين مالك"؟ لقال:"بمكان كذا"، ولو قال له:"أين أخوك"؟ لكان الجواب أن يقول:"ببلدة كذا أو بموضع كذا"، فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله. فيعلم أن"أين" مسألة عن المحل.
ولو قال قائل لآخر:"كيف أنت"؟ لقال:"صالح، أو بخير، أو في عافية"، وأخبره عن حاله التي هو فيها، فيعلم حينئذ أن"كيف" مسألةٌ عن حال المسؤول عن حاله.
ولو قال له:"أنَّى يحيي الله هذا الميت؟ "، لكان الجواب أن يقال:"من وجه كذا ووجه كذا"، فيصف قولا نظيرَ ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [سورة البقرة: ٢٥٩] فعلا(٣٨) حين بعثه من بعد مماته.
وقد فرَّقت الشعراء بين ذلك في أشعارها، فقال الكميت بن زيد:
تَذَكَّر مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبَهُ ...
يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الهَجْمَةِ الأبِلْ
وقال أيضًا:
أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ - آبَكَ - الطَّرَبُ ...
مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ
فيجاء بـ "أنى" للمسألة عن الوجه، وبـ "أين" للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أيّ وجه، ومن أي موضع راجعك الطرب؟
والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، كيف شئتم - أو تأوله بمعنى: حيث شئتم = أو بمعنى: متى شئتم = أو بمعنى: أين شئتم = أن قائلا لو قال لآخر:"أنى تأتي أهلك؟ "، لكان الجواب أن يقول:"من قُبُلها، أو: من دُبُرها"، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم = إذْ سئلت: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ = أنها قالت: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ .
وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلومٌ أن معنى قول الله تعالى ذكره:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إنما هو: فأتوا حرثكم من حيثُ شئتم من وجوه المأتى - وأنّ ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل.
وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبيِّنٌ خطأ قول من زعم أن قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، دليلٌ على إباحة إتيان النساء في الأدبار، لأن الدُّبر لا مُحْتَرَثَ فيه، وإنما قال تعالى ذكره:﴿نِسَاۤؤُكُمۡ حَرۡثࣱ لَّكُمۡ﴾، فأتوا الحرث من أيّ وجوهه شئتم.
وأيُّ مُحْتَرَث في الدُبر فيقال: ائته من وجهه؟ وبيِّنٌ بما بينا، صحةُ معنى ما روي عن جابر وابن عباس: من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين:"إذا أتَى الرجلُ المرأةَ من دُبرها في قُبُلها، جاء الولد أحول".
(2) نقل الطناحي رحمه الله تعليق الشيخ محمود شاكر مختصرا ، وأذكر هنا تعليقه كاملاً لأهميتة
قال أبو فهر مُعلِقا على كلام ابن جرير الطبري رحمه الله :
حجة أبي جعفر في هذا الفصل من أحسن البيان عن معاني القرآن وعن معاني ألفاظه وحروفه وهي دليل على أن معرفة العربية، وحذقها والتوغل في شعرها وبيانها وأساليبها أصل من الأصول، لا يحل لمن يتكلم في القرآن أن يتكلم فيه حتى يحسنه ويحذقه. ورحم الله ابن إدريس الشافعي حيث قال- فيما رواه الخطيب البغدادي عنه في كتاب (الفقيه والمتفقه) :
"لا يحلُّ لأحدٍ أنْ يُفْتِي في دِينِ اللهِ إلّا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله ومكيِّه ومدنيِّه، وما أريدَ به.
ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله ﷺ وبالناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن.
ويكون بصيرًا باللغة بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف.
ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار= وتكون له قريحةٌ بعد هذا. فإذا كانَ هكذا فله أنْ يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكنْ هكذا، فليس له أن يفتي".
ثم يستطرد شيخ العربية الأستاذ محمود شاكر رحمه الله قائلًا :
" فليت من يتكلم في القرآن والدين من أهل زماننا يتورع من مخافة ربه، ومن هول عذابه يوم يقوم الناس لرب العالمين."
[تفسير الطبري 4/ 416 - تحقيق محمود شاكر ] .