"قال لنا المالك وهو يهرول مبتعداً بعد أن سلمنا مفاتيح المنزل: إياكم أن تقطعوا هذه الشجرة".
****
اضطرت أسرتي للانتقال إلى منزل صغير في الحي القديم ، استأجره والدي من مالكه صاحب الطاحونة. وقد كانت قيمة أجرته المنخفضة مثيرة للدهشة في هذا الزمن، لكنها تعتبر منطقية بحسب حالة المنزل التي شهدناها.
بدا لنا للوهلة الأولى مثل بيت أثري، تتدلى من سقفه خيوط العنكبوت، وعلى جدرانه الداخلية طبقة سميكة من الغبار تقول للناظر إليها إياك ان تحلم برؤية لون الطلاء.
كانت أطنان الأتربة المتراكمة في كل ارجائه تدل دون أدنى شك على أنه منزل مهجور، لم تسكنه روح إنسان ، أو تطأ أرضه أقدام البشر منذ سنوات طويلة، أو ربما منذ تشييده.
تصلبت أبواب الغرف والشبابيك لطول أمد إغلاقها ، فتحها مالك المنزل بصعوبة، وبقي بالخارج وتركنا لنتفقدها وحدنا.
يتكون المنزل من غرفة وصالون ومطبخ وحمام، و(عريشة) شيدت في الفناء أو (الحوش)، نسجت أخشابها بعناية تحت شجرة (الدوم) ، وقد رصفت ارضيتها - دون قصد- بثمار الدوم الصغيرة، التي تساقطت عبر فتحات السقف قبل اكتمال نموها، وتلونت بلونها البني الشاحب، فصارت أشبه بآثار بقع جلدية داكنة، انطفات على خدٍ فقير لم تتمكن صاحبته من معالجتها.
ثلاثة أسرة خشبية قديمة، منضدة مستديرة حولها عدد من(البنابر)، و(زير) كبير وضع على قاعدة حديدية متينة، وجهاز (راديو)، ملأت بها والدتي أجزاء من مساحة العريشة.
نجحت محاولاتنا في إحياء المنزل بعد مرور أيام مضنية من العمل على ترميمه ونظافته وفرشه ، وقد كان لنا في العريشة بعد ترتيبها خير مستقر ومتكأ.
مضى أسبوع كامل على انتقالنا للمنزل دون أن يطرق بابنا أحد من الجيران على غير العادة في الأحياء الشعبية، فقررت والدتي ان تلقي عليهم التحية عندما تخرج صباحاً لشراء احتياجات المنزل.
حملت والدتي (قفتها) وخرجت للسوق القديم، واختارت في طريقها أقرب الأبواب إلينا، طرقت الباب وانتظرت قليلاً، أتاها صوت أمراة من الداخل يستعلم عن الطارق، فاجابت (انا انوار جارتكم الجديدة)، فانتظرت وانتظرت ولم يفتح لها احد.
أحست والدتي بانقباض وإحراج وحزن، ماذا هناك؟ ولماذا كل هذا الجفاء أو لنقل العداء.
لكنها لم تخبرنا بما حدث معها إلا بعد ان تكرر الأمر مع جارة اخرى، وثالثة ركضت خوفاً ورفضت مصافحتها.
كان التقصي عن المنزل، وجمع المعلومات عنه، اصعب واشق من تلك المواقف المحرجة التي قابلت والدتي، وقد كان شقيقي الاكبر اوفر حظاً مني، لما سمعه من (المكوجي) الذي يقع دكانه على ناصية الشارع المؤدي للسوق.
قال له : يقال ان بوابة لمملكة الجن تقع تحت شجرة (الدوم) وتحرسها قطة سوداء ، وهي تفتح على فترات متباعدة، فتصيب أهل المنزل ومن يصادقهم بالجنون وبعض الأحوال الغريبة والمخيفة إن قاموا بقطع الشجرة او إحراقها او إهمالها.
أما المعلومة التي عثرتُ عليها، فقد كانت مختلفة تماماً، لكنها تتعلق أيضاً بشجرة (الدوم).
قال لي (غفير) المدرسة " ان سيدة كانت تسكن ذلك المنزل قبل مائة عام، قامت بذبح قطة سوداء، ودفنها في (حوش) المنزل، فنبتت مكانها شجرة (الدوم)، وهي تعود مع اكتمال القمر لتنتقم من سكان المنزل ومن يصادقهم من الجيران.
اما بائعة (الدكوة) التي تجلس أمام المخبز، فقد قالت لوالدتي إن اصحاب المنزل(بعاعيت) من (ترب البنية) الذين اشتهروا بالعودة للحياة بعد الموت، ويقال ان لهم كنز مدفون تحت شجرة (الدوم) .
قصص مختلفة ومرعبة حول المنزل، ضحك عند سماعها والدي وسخر شقيقي، والتصقت شقيقتي بوالدتي وهي فزعة، وعندما التقت انظارنا أنا ووالدتي، شعرت بالخطر، واجتاحت حلقي مرارة (الملاريا)، وايقنت أن الأمر جد خطير.
غاب الشعور بالاستقرار الذي نعمنا به في الأسبوع الاول من انتقالنا لهذا المنزل، وفارق النوم عيني وعين والدتي، وصار المقيل في تلك العريشة صعب جداً على والدتي، التي كنا نتركها وحيدة بالمنزل بينما نذهب جميعاً للعمل.
تحدثت والدتي عن خوفها من تلك القصص، وقد بدأت شكوكها تتحول إلى يقين منذ ذلك اليوم الذي استيقظنا فيه على صراخها.
بعد ان سمعت صوت سيدة في منتصف الليل تناديها (يا أنوار أحرسي الشجرة) وعندما نظرت باتجاه الصوت، رأت قطة سوداء تقف تحت شجرة (الدوم).
كانت أمي تصرخ وتطلب منا مغادرة المنزل فوراً كلما اكتمل القمر، لكنها تعود لطبيعتها في بقية الأيام.
تغيب صاحب المنزل ثلاثة أشهر عن الحضور لأخذ قيمة الإيجار، فقرر والدي أن نذهب انا وشقيقي-صباحاً- للطاحونة لنعطيه ماله، ونسأله عن حقيقة الأمر.
ذهبت برفقة شقيقي ، وعند وصولنا لطاحونته، وجدنا بابها وقد أغلق بواسطة أقفال ثقال.
سألنا عنه صاحب الدكان المقابل للطاحونة، فقال لنا: رحم الله الرجل الطيب، فقد توفي منذ سنوات طويلة،
تفضلوا هل أنتم أبناء حفيدته المرحومة (أنوار)؟.
www.facebook.com
****
اضطرت أسرتي للانتقال إلى منزل صغير في الحي القديم ، استأجره والدي من مالكه صاحب الطاحونة. وقد كانت قيمة أجرته المنخفضة مثيرة للدهشة في هذا الزمن، لكنها تعتبر منطقية بحسب حالة المنزل التي شهدناها.
بدا لنا للوهلة الأولى مثل بيت أثري، تتدلى من سقفه خيوط العنكبوت، وعلى جدرانه الداخلية طبقة سميكة من الغبار تقول للناظر إليها إياك ان تحلم برؤية لون الطلاء.
كانت أطنان الأتربة المتراكمة في كل ارجائه تدل دون أدنى شك على أنه منزل مهجور، لم تسكنه روح إنسان ، أو تطأ أرضه أقدام البشر منذ سنوات طويلة، أو ربما منذ تشييده.
تصلبت أبواب الغرف والشبابيك لطول أمد إغلاقها ، فتحها مالك المنزل بصعوبة، وبقي بالخارج وتركنا لنتفقدها وحدنا.
يتكون المنزل من غرفة وصالون ومطبخ وحمام، و(عريشة) شيدت في الفناء أو (الحوش)، نسجت أخشابها بعناية تحت شجرة (الدوم) ، وقد رصفت ارضيتها - دون قصد- بثمار الدوم الصغيرة، التي تساقطت عبر فتحات السقف قبل اكتمال نموها، وتلونت بلونها البني الشاحب، فصارت أشبه بآثار بقع جلدية داكنة، انطفات على خدٍ فقير لم تتمكن صاحبته من معالجتها.
ثلاثة أسرة خشبية قديمة، منضدة مستديرة حولها عدد من(البنابر)، و(زير) كبير وضع على قاعدة حديدية متينة، وجهاز (راديو)، ملأت بها والدتي أجزاء من مساحة العريشة.
نجحت محاولاتنا في إحياء المنزل بعد مرور أيام مضنية من العمل على ترميمه ونظافته وفرشه ، وقد كان لنا في العريشة بعد ترتيبها خير مستقر ومتكأ.
مضى أسبوع كامل على انتقالنا للمنزل دون أن يطرق بابنا أحد من الجيران على غير العادة في الأحياء الشعبية، فقررت والدتي ان تلقي عليهم التحية عندما تخرج صباحاً لشراء احتياجات المنزل.
حملت والدتي (قفتها) وخرجت للسوق القديم، واختارت في طريقها أقرب الأبواب إلينا، طرقت الباب وانتظرت قليلاً، أتاها صوت أمراة من الداخل يستعلم عن الطارق، فاجابت (انا انوار جارتكم الجديدة)، فانتظرت وانتظرت ولم يفتح لها احد.
أحست والدتي بانقباض وإحراج وحزن، ماذا هناك؟ ولماذا كل هذا الجفاء أو لنقل العداء.
لكنها لم تخبرنا بما حدث معها إلا بعد ان تكرر الأمر مع جارة اخرى، وثالثة ركضت خوفاً ورفضت مصافحتها.
كان التقصي عن المنزل، وجمع المعلومات عنه، اصعب واشق من تلك المواقف المحرجة التي قابلت والدتي، وقد كان شقيقي الاكبر اوفر حظاً مني، لما سمعه من (المكوجي) الذي يقع دكانه على ناصية الشارع المؤدي للسوق.
قال له : يقال ان بوابة لمملكة الجن تقع تحت شجرة (الدوم) وتحرسها قطة سوداء ، وهي تفتح على فترات متباعدة، فتصيب أهل المنزل ومن يصادقهم بالجنون وبعض الأحوال الغريبة والمخيفة إن قاموا بقطع الشجرة او إحراقها او إهمالها.
أما المعلومة التي عثرتُ عليها، فقد كانت مختلفة تماماً، لكنها تتعلق أيضاً بشجرة (الدوم).
قال لي (غفير) المدرسة " ان سيدة كانت تسكن ذلك المنزل قبل مائة عام، قامت بذبح قطة سوداء، ودفنها في (حوش) المنزل، فنبتت مكانها شجرة (الدوم)، وهي تعود مع اكتمال القمر لتنتقم من سكان المنزل ومن يصادقهم من الجيران.
اما بائعة (الدكوة) التي تجلس أمام المخبز، فقد قالت لوالدتي إن اصحاب المنزل(بعاعيت) من (ترب البنية) الذين اشتهروا بالعودة للحياة بعد الموت، ويقال ان لهم كنز مدفون تحت شجرة (الدوم) .
قصص مختلفة ومرعبة حول المنزل، ضحك عند سماعها والدي وسخر شقيقي، والتصقت شقيقتي بوالدتي وهي فزعة، وعندما التقت انظارنا أنا ووالدتي، شعرت بالخطر، واجتاحت حلقي مرارة (الملاريا)، وايقنت أن الأمر جد خطير.
غاب الشعور بالاستقرار الذي نعمنا به في الأسبوع الاول من انتقالنا لهذا المنزل، وفارق النوم عيني وعين والدتي، وصار المقيل في تلك العريشة صعب جداً على والدتي، التي كنا نتركها وحيدة بالمنزل بينما نذهب جميعاً للعمل.
تحدثت والدتي عن خوفها من تلك القصص، وقد بدأت شكوكها تتحول إلى يقين منذ ذلك اليوم الذي استيقظنا فيه على صراخها.
بعد ان سمعت صوت سيدة في منتصف الليل تناديها (يا أنوار أحرسي الشجرة) وعندما نظرت باتجاه الصوت، رأت قطة سوداء تقف تحت شجرة (الدوم).
كانت أمي تصرخ وتطلب منا مغادرة المنزل فوراً كلما اكتمل القمر، لكنها تعود لطبيعتها في بقية الأيام.
تغيب صاحب المنزل ثلاثة أشهر عن الحضور لأخذ قيمة الإيجار، فقرر والدي أن نذهب انا وشقيقي-صباحاً- للطاحونة لنعطيه ماله، ونسأله عن حقيقة الأمر.
ذهبت برفقة شقيقي ، وعند وصولنا لطاحونته، وجدنا بابها وقد أغلق بواسطة أقفال ثقال.
سألنا عنه صاحب الدكان المقابل للطاحونة، فقال لنا: رحم الله الرجل الطيب، فقد توفي منذ سنوات طويلة،
تفضلوا هل أنتم أبناء حفيدته المرحومة (أنوار)؟.
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.