• أُلْقِيَتْ العرائسُ في نارِ الفرنِ بعد أن شُقَّت لهنَّ بالسكين عيونٌ واسعة متسائلة وأذرعٌ مفرودةٌ في حيرة. تساءلتُ في دهشة:
أو لا بد أن تدخل العروس النار حتى تنضج؟!
أومأنَ بالإيجاب دون صوتٍ ، قلتُ : و تُؤكلُ بعد أنْ تنضجَ ..؟!
نظرنَ إليَّ في حيرةٍ، أطرقن في أسى، واصلنَ ضرب العجين في (الماجور) الفخاري بقوةٍ، حتى تصاعدتْ منه رائحةُ الخمير، رائحةُ الحياةِ..
التففنَ حول نار الفرن ، وكلُّ منهنّ تُشارك في ولادة الرغيف : إحداهنّ ( تُقرّص) العجين في هيئةِ كراتٍ صغيرةٍ كأثداءُ الكواعب ، تضعها على إحدى ( الطبالي ) المرشوشة بالنخالة السمراء ، الأخرى تتلقفُ كراتِ العجين .. تربَّتُ على كل واحدةٍ منها ، قبلَ أن تَفردَها في شكلٍ دائريٍ ، كأنَّها تعتذر لها عن النار الحامية التي سَتُلقى فيها ، تلتقطُ الثالثة كراتِ العجين المفرودة على ( الطرَّاحة ) ، تُلقيها في الفرن ، فتتعالى أصواتُ النسوة اللائي ينتظرن المخاض بالاستعاذة من الجنّ الذي يخشينَ أنْ يكون قد كمنَ لهنَّ في نار الفرن ليتلقفَ الأرغفة ويقذف وجوههنّ بها ، انتقامًا منهنّ بعد أن دأبنَ على إحراقه في زار الخالة " شقوق " - قبل غروب كلِّ شمسٍ – بالبخور والدفوف والأكفِّ المفرودة بالحنّاء ...
• تتقدَّمُ النِّساء اللّواتي يحملن الدفوف و المباخر ، كأنّها تتصدى للجنّ بمفردها . اسمُها الحقيقيّ " مباهج " ، أمَّا " شقوق " فقد أطلقه عليها نسوةُ الحي بعد أنْ عجزن عن إحصاء ما شقَّتْ من الثيابِ بعد فقدِ الأحبّة .
أودَعتْ في " الزَّار " بكاءَها وبخورها ، تدور بالمبخرة .. ترتدي في أذنيها " القرط البلتاوي " ، و" قرط الفدو" ، و الحِجْل أسفل ساقيها ، تتهادى بثوب " الجرجار " الشيفون اللامع . كان بخورها يبكي بحُرقة كأنّه يتذكّر غامضًا أليما يُلقي بي على أعتاب شيوخ العطارة ، أتشمم أحقاق الصّاج ، يسألني العطّار : هل وجدتِه ؟ أقولُ : إذا رأيتني أبكي فاعلمْ أنني وجدتُه .
كانت التواءاتُ دخان البخور تشبه أجساد النساء اللَّواتي يتلوّين من الشقاء خلف خالتي " شقوق " ، عيونهن تحدّقُ في السقف تبتهلُ لأفقٍ لا أراه .. عيونهن عيونُ ماءٍ سخيةٌ بالحزن والكحلِ .. يتمايلن على إيقاع الدفوف.. يبكين يتطوحن متأوّهاتٍ من غناء " الكُدية " المهيب الذي لم يستوقفني منه إلّا نداؤها " يا غاالي يا ... آاه ياغاايب يا ..."
يندفعن إثر هذا النداء إلى خمش وجوههنّ وخبط صدورهنّ وتمزيق شعورهنّ . النساء يتساندن على الكُدية التي تتساندُ على دُفّها وبخورها ..
يتسارعَ إيقاعُ الدفوف ، تتساقطُ النساءُ على الأرض ، يتصاعدَ البخورُ ، يتمطّى ، يطقطقُ كأنّ جريحًا سيولدُ من دخانه ..
عويلُ النساء قبضَ قلبي ..ملأ عيني دموعًا ، تساءلتُ في نفسي – وأنا طفلةٌ آنئذٍ – كيف استطاعَ غائبٌ واحد أن يُبكي كل هاتيك النساء ؟! كيف استطاع غائبٌ واحدٌ أن يجعل عيونهنّ الواسعةَ المكحولة تفيضُ بكل هذا الحزن .. هذا الابتهال ؟! لمَ لا يأتي هذا الغائب مادام غاليا ؟ لِمَ يظل غاليا وهو غائبٌ تبتهلُ له عيونُ النساء الواسعة السخيّة بالدموع .. الدموع التي روَّت أشجار َالأرض .. الأرض التي خانتْ ذاكرتُها عيونَ النساء ...!
* من المجموعة القصصية "جبال الكحل"، اتحاد كُتاب مصر 2020م
www.facebook.com
أو لا بد أن تدخل العروس النار حتى تنضج؟!
أومأنَ بالإيجاب دون صوتٍ ، قلتُ : و تُؤكلُ بعد أنْ تنضجَ ..؟!
نظرنَ إليَّ في حيرةٍ، أطرقن في أسى، واصلنَ ضرب العجين في (الماجور) الفخاري بقوةٍ، حتى تصاعدتْ منه رائحةُ الخمير، رائحةُ الحياةِ..
التففنَ حول نار الفرن ، وكلُّ منهنّ تُشارك في ولادة الرغيف : إحداهنّ ( تُقرّص) العجين في هيئةِ كراتٍ صغيرةٍ كأثداءُ الكواعب ، تضعها على إحدى ( الطبالي ) المرشوشة بالنخالة السمراء ، الأخرى تتلقفُ كراتِ العجين .. تربَّتُ على كل واحدةٍ منها ، قبلَ أن تَفردَها في شكلٍ دائريٍ ، كأنَّها تعتذر لها عن النار الحامية التي سَتُلقى فيها ، تلتقطُ الثالثة كراتِ العجين المفرودة على ( الطرَّاحة ) ، تُلقيها في الفرن ، فتتعالى أصواتُ النسوة اللائي ينتظرن المخاض بالاستعاذة من الجنّ الذي يخشينَ أنْ يكون قد كمنَ لهنَّ في نار الفرن ليتلقفَ الأرغفة ويقذف وجوههنّ بها ، انتقامًا منهنّ بعد أن دأبنَ على إحراقه في زار الخالة " شقوق " - قبل غروب كلِّ شمسٍ – بالبخور والدفوف والأكفِّ المفرودة بالحنّاء ...
• تتقدَّمُ النِّساء اللّواتي يحملن الدفوف و المباخر ، كأنّها تتصدى للجنّ بمفردها . اسمُها الحقيقيّ " مباهج " ، أمَّا " شقوق " فقد أطلقه عليها نسوةُ الحي بعد أنْ عجزن عن إحصاء ما شقَّتْ من الثيابِ بعد فقدِ الأحبّة .
أودَعتْ في " الزَّار " بكاءَها وبخورها ، تدور بالمبخرة .. ترتدي في أذنيها " القرط البلتاوي " ، و" قرط الفدو" ، و الحِجْل أسفل ساقيها ، تتهادى بثوب " الجرجار " الشيفون اللامع . كان بخورها يبكي بحُرقة كأنّه يتذكّر غامضًا أليما يُلقي بي على أعتاب شيوخ العطارة ، أتشمم أحقاق الصّاج ، يسألني العطّار : هل وجدتِه ؟ أقولُ : إذا رأيتني أبكي فاعلمْ أنني وجدتُه .
كانت التواءاتُ دخان البخور تشبه أجساد النساء اللَّواتي يتلوّين من الشقاء خلف خالتي " شقوق " ، عيونهن تحدّقُ في السقف تبتهلُ لأفقٍ لا أراه .. عيونهن عيونُ ماءٍ سخيةٌ بالحزن والكحلِ .. يتمايلن على إيقاع الدفوف.. يبكين يتطوحن متأوّهاتٍ من غناء " الكُدية " المهيب الذي لم يستوقفني منه إلّا نداؤها " يا غاالي يا ... آاه ياغاايب يا ..."
يندفعن إثر هذا النداء إلى خمش وجوههنّ وخبط صدورهنّ وتمزيق شعورهنّ . النساء يتساندن على الكُدية التي تتساندُ على دُفّها وبخورها ..
يتسارعَ إيقاعُ الدفوف ، تتساقطُ النساءُ على الأرض ، يتصاعدَ البخورُ ، يتمطّى ، يطقطقُ كأنّ جريحًا سيولدُ من دخانه ..
عويلُ النساء قبضَ قلبي ..ملأ عيني دموعًا ، تساءلتُ في نفسي – وأنا طفلةٌ آنئذٍ – كيف استطاعَ غائبٌ واحد أن يُبكي كل هاتيك النساء ؟! كيف استطاع غائبٌ واحدٌ أن يجعل عيونهنّ الواسعةَ المكحولة تفيضُ بكل هذا الحزن .. هذا الابتهال ؟! لمَ لا يأتي هذا الغائب مادام غاليا ؟ لِمَ يظل غاليا وهو غائبٌ تبتهلُ له عيونُ النساء الواسعة السخيّة بالدموع .. الدموع التي روَّت أشجار َالأرض .. الأرض التي خانتْ ذاكرتُها عيونَ النساء ...!
* من المجموعة القصصية "جبال الكحل"، اتحاد كُتاب مصر 2020م
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.