تنتشر محلاته بقريته الصغيرة، تلك القرية التي أطلت منذ ولادتها على ترعة، ترهلت شواطئها جراء النزوح المتكرر لفتياتها وسيداتها في الصباح الباكر لغسل الأواني والملابس المتسخة، ومن ثقل حوافر بهائمها أثناء الارتواء، والسباحة الممتعة تحت قيظ شمس الصيف. على جانبي الترعة تناثرت أشجار الجميز والتوت والكافور والصفصاف. ترعة تفرعت من قديم الزمان من فرع دمياط، الفرع التوأم لفرع رشيد قبل أن يفرق بينهما الزمن.
تاجر مشهور ومعروف بعلاقاته الوطيدة بأغنياء وفقراء قريته، والقرى والمدن التي تجاورها. تعددت رحلاته بالقطار، تلك الوسيلة الآمنة والرخيصة وقتها، فهي مطية الأغنياء والفقراء على حد سواء. من مدينة تجارية إلى مدينة تجارية أخرى، ينتقل ويتعاقد ويشتري بضائع ومواد تموينية يأخذها إلى قريته، فيبيعها لأهلها من محلاته القريبة من محطة القطار وشريطه الذي يشطر القرية نصفين، كما تشطر قضبان السكك الحديدية، كثيرا من قرى ومدن محافظات مصر.
ينادونه بالقرية عم أحمد، ويقولون إن اللقب الجديد مُنح له من صياح طفل صغير كان يتردد عليه لشراء ما تحتاجه والدته الأرملة وأسرته، فمن كثرة ترديد الطفل جملتي "هات يا عم أحمد"، "إذا سمحت يا عم أحمد"، نسي الجميع لقب الحاج أحمد الذي صاحبه زمنا ليس بالقصير، والتصق لقبه الجديد به، أو التصق هو باللقب الجديد. لم يغضب عم أحمد من التغيير الذي أحدثه ذلك الطفل، وإنما ردد بينه وبين نفسه "عم أحمد مثل الحاج أحمد، المهم أن يتقبل الله الحج بدون رياء أو نفاق".
فقراء من القرى والمدن المطلة بيوتهم على شريط القطار، ما بين قريته والمدن التجارية التي يشتري منها بضاعته، يعرفونه أيضا بلقبه الجديد "عم أحمد". يعرفون بدقة مواعيد زياراته للمدن ومواعيد رجوعه لقريته، يتلقون منه أكياسا صغيرة، مما يحتاجون إليه من مواد وحبوب وأرز ، ومما تجود به نفسه.
رغم سفرياته المتعددة، قنعت زوجته بالمكوث في البيت، عزاؤها كان العز والثراء وغرف البيت المشيد بإطلالة معمارية فخمة، مغايرة لبيوت جميع أهل القرية. على فترات تحدثها نفسها: سفريات زوجك وجلستك في البيت زاد عن الحد اللازم.. بات ذلك مثار ضيق لها، شيئا فشيئا تمنت أن تبتعد بنفسها ولو لبعض الوقت عن روتينها اليومي، وتصاحب زوجها في رحلة من رحلاته التجارية.
أثناء جلسة طويلة مع زوجها في صالون بيتهما، والذي يشبه قصر الباشا القائم على شاطئ الترعة في الجهة الأخرى.. جاءتها الفرصة بعد تفكير طال بعض الوقت، تكلمت بصوت ينم عن عجز وضجر وضيق: أود أن أذهب معك في رحلتك القادمة، لأقضي بعض الأيام في إحدى المدن التي تشتري منها البضاعة، وأرتاح فترة من شغل البيت ومتاعب الأولاد.
غالية والطلب رخيص، وهي فرصة للفسحة والراحة من عمل البيت، وتشتري ما تريدينه لك ولأولادنا، وتساعديني في اختيار بضاعتنا. رد الزوج
مكثا أسبوعا كاملا في المدينة، وأثناء عودتهما بالقطار فوجئت أن زوجها وضع كميات مختلفة من المواد والحبوب والأرز في أكياس صغيرة محكمة الرباط، وعلى كل كيس دون اسما معينا، ثم بدأ في إلقاء الأكياس من نافذة القطار عندما يهدئ من سرعته، وقبل وقوفه في محطته المقبلة، فيتلقفها بعض أهالي القرى الواقفين في انتظاره، تغمرهم السعادة وتنفرج شفاهم عن ابتسامة راضية.
مفاجأة غير متوقعة تلك التي قام بها زوجها.. حدثتها نفسها، وزادت بأنها وأولادها أولى بقيمة هذه المواد المعبأة في الأكياس، ولكنها سكتت على حزن وغضب مكتومين.. وصلا إلى قريتهما ووضعا البضاعة في المخزن الكبير المجاور للمحلات. ذهبا للراحة في بيتهما الذي يتوسط مساحة واسعة من الأرض المزروعة بأنواع مختلفة من أشجار الزينة والفاكهة.. انتهوا من الغداء بغرفة الطعام الملاصقة للصالون، وذهب أولادهما كل إلى حجرته.
نظرت إليه ووجهت إليه ثلاث كلمات: لماذا تفعل ذلك؟
بهدوء: وما الذي أفعله؟
قالت: أظن أن كل رحلة من رحلاتك تقوم بإلقاء جزء من بضاعتنا لهؤلاء، ونحن نحتاج إليها وإلى كل قرش.
هؤلاء الذين ألقي إليهم بالأكياس هم أناس فقراء، وكل شخص منهم عنده عائلة وأولاد، وفيهم أرامل وأيتام ومساكين، وهذه البركة في الرزق التي نراها ونشعر بها، والنعمة التي نحن فيها، إنما هي من دعاء هؤلاء الغلابة والمساكين.
صمتت.. ثم هبت واقفة متوجهة إلى غرفة نومهما.. في الغرفة لم يزرها النوم.. بدأت تتقلب في فراشها الوثير، وحدثتها نفسها بأن ما يفعله زوجها ليس من حقه، وإنما يجب أن يقول لها أنه يفعل ذلك الخير منذ زمن طويل، ولا يخفي عنها شيئا.
خلال تقلبها في فراشها الوثير، أوحي إليها بكلمات غاضبة: أنتِ وأولادك أولى بهذه الأموال، وعندما تباع البضاعة لأهل القرية، ستضيف كثيرا إلى أموالكم وتزيدها، حتى تكونوا أكثر أهل قريتكم غنى وثراء!!. زاد عدد مرات تقلبها في الفراش بشكل أقلقها. وأقلق زوجها الذي جاء يريح جسده المتعب، فشعر أنها غير راغبة في النوم، ومظهرها ينم عن الضيق والتفكير العميق.
قال لها: يجب ألا تحزني.. لأن الله أمرنا بالصدقة على المسكين والفقير واليتيم، وجعل ثوابها عظيما في الدنيا والآخرة، إلا أنها لم ترد عليه.. تمدد على السرير بجوارها وهو في هم من حزن زوجته ومن عدم اقتناعها بما يقول..
آن أوان السفر التالي إلى المدينة لشراء بضائع المحلات. هذه المرة كانت قناعة الزوجة قد نفدت. لاحقته بكلمات ثقيلة عابسة بأنها عقدت النية لمصاحبته. ذكرها بأن وقت امتحانات أولادهما قد اقترب، وهم بحاجة إليها وإلى رعايتها لهم في هذه الأيام. تمسكت برأيها متعللة بأن لها حقا في السفر، وفي الترويح عن نفسها، بعيدا عن الطبخ والغسيل والتنظيف!!.
طافا بالمدينة وتجارها ومحلاتهم، لانتقاء ما يريدون من بضاعة مختلفة. بعد انتهاء أيام إقامتهم، استأجروا عددا من الحمالين بعرباتهم، لنقل المشتريات من الفندق إلى محطة القطار الذاهب إلى قريتهم. بدأ القطار في التحرك، وما إن اقتربت إحدى قرى الفقراء التي يتصدق الزوج على أهلها، ممسكا ببعض الأكياس الصغيرة المملوءة ليلقيها لمن ينتظرونه. إلا أن مفاجأة غير متوقعة كانت بانتظاره. يدها تمنعه من إلقاء الأكياس. ردد كلاما بأن ما تفعله خطأ كبيرا. لم تبال بكلماته ولا بمتابعة ركاب القطار. أمسكت بأكياس خالية طوحتها خارج القطار. رأى الفقراء الأكياس تطير فارغة من يد الزوجة في الهواء. اعترتهم صدمة شديدة بدلا من تلقي المساعدة، واعترته صدمة أشد لرؤية مشهد جديد عليه. هؤلاء الذين كان يفرح لفرحهم ويسعد ببسماتهم المرسومة على وجوههم.
جلس واضعا وجهه بين كفيه، إلى أن وصل القطار إلى محطة قريته. لم يستطع أن يحمل ولو جزءا صغيرا من بضاعته، ليضعها مع العمال في مخزنه، أو يقف معهم ويتابعهم. تركهم يعملون بمفردهم، وذهب إلى بيته مسرعا، مستلقيا بجسده الثقيل على سريره.
"الصورة الجديدة" لم تبرح خياله فترة طويلة من الزمن، فصعبت من حالته الصحية. قضى معها أياما في سرير المرض.
عدم اهتمام العمال بعملهم وهو بعيد عن أعينهم، عرض بضاعته لخسارة كبيرة. رجته كثيرا كي يقوم ليباشر أمور محلاته وتجارته، ويكون عينا على عماله وعونا لموظفيه، حتى لا تزداد خسارتهم أكثر. تحامل على نفسه وقام ليباشر عمله في المحلات..
نقصت المواد بالمخازن والمحلات، اضطرت عم أحمد لزيارة المدينة ليشتري منها بضاعة محلاته. صاحبته زوجته لتكون مساعدا وعونا له أثناء مرضه. في أيام قلائل انتهوا من شراء احتياجاتهما، نقلها الحمالون من الفندق إلى القطار.
أمسكت الزوجة بحزمة من الأكياس، عبئتها بالأرز والحبوب وزادت عليها بعض الأطعمة. نظرت من نافذة القطار لتلقي بالأكياس لفقراء القرى، إلا أنها لم تجد أحدا منهم بانتظارها.. أحست بوخز شديد في صدرها وانقباض في القلب، وشعرت أن ما حدث أكبر من أن يعالجه فعل خير أو كلمات آسفة.. التفتت إلى زوجها، فوجدت أن شحوب وجهه زاد، وازداد معه حزنها وألمها.. تمنت ساعتها أن تعود تلك الأيام، التي قنعت فيها بالجلوس في صالون بيتهما الشبيه بقصر الباشا المواجه لهما، والقائم على شاطئ الترعة في الجهة الأخرى..
تاجر مشهور ومعروف بعلاقاته الوطيدة بأغنياء وفقراء قريته، والقرى والمدن التي تجاورها. تعددت رحلاته بالقطار، تلك الوسيلة الآمنة والرخيصة وقتها، فهي مطية الأغنياء والفقراء على حد سواء. من مدينة تجارية إلى مدينة تجارية أخرى، ينتقل ويتعاقد ويشتري بضائع ومواد تموينية يأخذها إلى قريته، فيبيعها لأهلها من محلاته القريبة من محطة القطار وشريطه الذي يشطر القرية نصفين، كما تشطر قضبان السكك الحديدية، كثيرا من قرى ومدن محافظات مصر.
ينادونه بالقرية عم أحمد، ويقولون إن اللقب الجديد مُنح له من صياح طفل صغير كان يتردد عليه لشراء ما تحتاجه والدته الأرملة وأسرته، فمن كثرة ترديد الطفل جملتي "هات يا عم أحمد"، "إذا سمحت يا عم أحمد"، نسي الجميع لقب الحاج أحمد الذي صاحبه زمنا ليس بالقصير، والتصق لقبه الجديد به، أو التصق هو باللقب الجديد. لم يغضب عم أحمد من التغيير الذي أحدثه ذلك الطفل، وإنما ردد بينه وبين نفسه "عم أحمد مثل الحاج أحمد، المهم أن يتقبل الله الحج بدون رياء أو نفاق".
فقراء من القرى والمدن المطلة بيوتهم على شريط القطار، ما بين قريته والمدن التجارية التي يشتري منها بضاعته، يعرفونه أيضا بلقبه الجديد "عم أحمد". يعرفون بدقة مواعيد زياراته للمدن ومواعيد رجوعه لقريته، يتلقون منه أكياسا صغيرة، مما يحتاجون إليه من مواد وحبوب وأرز ، ومما تجود به نفسه.
رغم سفرياته المتعددة، قنعت زوجته بالمكوث في البيت، عزاؤها كان العز والثراء وغرف البيت المشيد بإطلالة معمارية فخمة، مغايرة لبيوت جميع أهل القرية. على فترات تحدثها نفسها: سفريات زوجك وجلستك في البيت زاد عن الحد اللازم.. بات ذلك مثار ضيق لها، شيئا فشيئا تمنت أن تبتعد بنفسها ولو لبعض الوقت عن روتينها اليومي، وتصاحب زوجها في رحلة من رحلاته التجارية.
أثناء جلسة طويلة مع زوجها في صالون بيتهما، والذي يشبه قصر الباشا القائم على شاطئ الترعة في الجهة الأخرى.. جاءتها الفرصة بعد تفكير طال بعض الوقت، تكلمت بصوت ينم عن عجز وضجر وضيق: أود أن أذهب معك في رحلتك القادمة، لأقضي بعض الأيام في إحدى المدن التي تشتري منها البضاعة، وأرتاح فترة من شغل البيت ومتاعب الأولاد.
غالية والطلب رخيص، وهي فرصة للفسحة والراحة من عمل البيت، وتشتري ما تريدينه لك ولأولادنا، وتساعديني في اختيار بضاعتنا. رد الزوج
مكثا أسبوعا كاملا في المدينة، وأثناء عودتهما بالقطار فوجئت أن زوجها وضع كميات مختلفة من المواد والحبوب والأرز في أكياس صغيرة محكمة الرباط، وعلى كل كيس دون اسما معينا، ثم بدأ في إلقاء الأكياس من نافذة القطار عندما يهدئ من سرعته، وقبل وقوفه في محطته المقبلة، فيتلقفها بعض أهالي القرى الواقفين في انتظاره، تغمرهم السعادة وتنفرج شفاهم عن ابتسامة راضية.
مفاجأة غير متوقعة تلك التي قام بها زوجها.. حدثتها نفسها، وزادت بأنها وأولادها أولى بقيمة هذه المواد المعبأة في الأكياس، ولكنها سكتت على حزن وغضب مكتومين.. وصلا إلى قريتهما ووضعا البضاعة في المخزن الكبير المجاور للمحلات. ذهبا للراحة في بيتهما الذي يتوسط مساحة واسعة من الأرض المزروعة بأنواع مختلفة من أشجار الزينة والفاكهة.. انتهوا من الغداء بغرفة الطعام الملاصقة للصالون، وذهب أولادهما كل إلى حجرته.
نظرت إليه ووجهت إليه ثلاث كلمات: لماذا تفعل ذلك؟
بهدوء: وما الذي أفعله؟
قالت: أظن أن كل رحلة من رحلاتك تقوم بإلقاء جزء من بضاعتنا لهؤلاء، ونحن نحتاج إليها وإلى كل قرش.
هؤلاء الذين ألقي إليهم بالأكياس هم أناس فقراء، وكل شخص منهم عنده عائلة وأولاد، وفيهم أرامل وأيتام ومساكين، وهذه البركة في الرزق التي نراها ونشعر بها، والنعمة التي نحن فيها، إنما هي من دعاء هؤلاء الغلابة والمساكين.
صمتت.. ثم هبت واقفة متوجهة إلى غرفة نومهما.. في الغرفة لم يزرها النوم.. بدأت تتقلب في فراشها الوثير، وحدثتها نفسها بأن ما يفعله زوجها ليس من حقه، وإنما يجب أن يقول لها أنه يفعل ذلك الخير منذ زمن طويل، ولا يخفي عنها شيئا.
خلال تقلبها في فراشها الوثير، أوحي إليها بكلمات غاضبة: أنتِ وأولادك أولى بهذه الأموال، وعندما تباع البضاعة لأهل القرية، ستضيف كثيرا إلى أموالكم وتزيدها، حتى تكونوا أكثر أهل قريتكم غنى وثراء!!. زاد عدد مرات تقلبها في الفراش بشكل أقلقها. وأقلق زوجها الذي جاء يريح جسده المتعب، فشعر أنها غير راغبة في النوم، ومظهرها ينم عن الضيق والتفكير العميق.
قال لها: يجب ألا تحزني.. لأن الله أمرنا بالصدقة على المسكين والفقير واليتيم، وجعل ثوابها عظيما في الدنيا والآخرة، إلا أنها لم ترد عليه.. تمدد على السرير بجوارها وهو في هم من حزن زوجته ومن عدم اقتناعها بما يقول..
آن أوان السفر التالي إلى المدينة لشراء بضائع المحلات. هذه المرة كانت قناعة الزوجة قد نفدت. لاحقته بكلمات ثقيلة عابسة بأنها عقدت النية لمصاحبته. ذكرها بأن وقت امتحانات أولادهما قد اقترب، وهم بحاجة إليها وإلى رعايتها لهم في هذه الأيام. تمسكت برأيها متعللة بأن لها حقا في السفر، وفي الترويح عن نفسها، بعيدا عن الطبخ والغسيل والتنظيف!!.
طافا بالمدينة وتجارها ومحلاتهم، لانتقاء ما يريدون من بضاعة مختلفة. بعد انتهاء أيام إقامتهم، استأجروا عددا من الحمالين بعرباتهم، لنقل المشتريات من الفندق إلى محطة القطار الذاهب إلى قريتهم. بدأ القطار في التحرك، وما إن اقتربت إحدى قرى الفقراء التي يتصدق الزوج على أهلها، ممسكا ببعض الأكياس الصغيرة المملوءة ليلقيها لمن ينتظرونه. إلا أن مفاجأة غير متوقعة كانت بانتظاره. يدها تمنعه من إلقاء الأكياس. ردد كلاما بأن ما تفعله خطأ كبيرا. لم تبال بكلماته ولا بمتابعة ركاب القطار. أمسكت بأكياس خالية طوحتها خارج القطار. رأى الفقراء الأكياس تطير فارغة من يد الزوجة في الهواء. اعترتهم صدمة شديدة بدلا من تلقي المساعدة، واعترته صدمة أشد لرؤية مشهد جديد عليه. هؤلاء الذين كان يفرح لفرحهم ويسعد ببسماتهم المرسومة على وجوههم.
جلس واضعا وجهه بين كفيه، إلى أن وصل القطار إلى محطة قريته. لم يستطع أن يحمل ولو جزءا صغيرا من بضاعته، ليضعها مع العمال في مخزنه، أو يقف معهم ويتابعهم. تركهم يعملون بمفردهم، وذهب إلى بيته مسرعا، مستلقيا بجسده الثقيل على سريره.
"الصورة الجديدة" لم تبرح خياله فترة طويلة من الزمن، فصعبت من حالته الصحية. قضى معها أياما في سرير المرض.
عدم اهتمام العمال بعملهم وهو بعيد عن أعينهم، عرض بضاعته لخسارة كبيرة. رجته كثيرا كي يقوم ليباشر أمور محلاته وتجارته، ويكون عينا على عماله وعونا لموظفيه، حتى لا تزداد خسارتهم أكثر. تحامل على نفسه وقام ليباشر عمله في المحلات..
نقصت المواد بالمخازن والمحلات، اضطرت عم أحمد لزيارة المدينة ليشتري منها بضاعة محلاته. صاحبته زوجته لتكون مساعدا وعونا له أثناء مرضه. في أيام قلائل انتهوا من شراء احتياجاتهما، نقلها الحمالون من الفندق إلى القطار.
أمسكت الزوجة بحزمة من الأكياس، عبئتها بالأرز والحبوب وزادت عليها بعض الأطعمة. نظرت من نافذة القطار لتلقي بالأكياس لفقراء القرى، إلا أنها لم تجد أحدا منهم بانتظارها.. أحست بوخز شديد في صدرها وانقباض في القلب، وشعرت أن ما حدث أكبر من أن يعالجه فعل خير أو كلمات آسفة.. التفتت إلى زوجها، فوجدت أن شحوب وجهه زاد، وازداد معه حزنها وألمها.. تمنت ساعتها أن تعود تلك الأيام، التي قنعت فيها بالجلوس في صالون بيتهما الشبيه بقصر الباشا المواجه لهما، والقائم على شاطئ الترعة في الجهة الأخرى..