في بيتنا في بيروت كنّا نلتقي، بيروت التي كانت تحفل بأكثر من نشاط، يصيبها الدمار وتنهض، يغادرها الناس ويعودون، يرحلون عنها ومن ثم يرحلون إليها، كأنهم مصابون بداء حبّها، حبّها العامر بمشاعر الحريّة والانطلاق.
مدينة عجيبة هذه الـ بيروت، أفكر اليوم، تنزف ولا تموت، تنزف دماً وحنيناً لزوارها، لذاتها، للقتلى، للمهاجرين، للبيوت التي كانت تتحوّل إلى ركام. تنزف وتنهض… تنهض بنضالها، بمقاومتها، تنهض فوق الطوائف، الطوائف التي أقامت الحواجز وحوّلت المدينة المتهادية بين البحر والجبل خرائبَ متقاتلة.
بيروت الـ2 كلم مربع، بيروت الغربيّة كما كنا نسميها، هذه الـ بيروت التي كنّا نشعر، حين يزورها أدباء وفنانون عرب وأجانب مناصرون لنضالها، بأنّها تتسع، تكبر، وتصير هي كلّ لبنان الذي نحلم به.
تأبى بيروت أن تموت، تبني عمارتها الثقافيّة محتفلة بنضالها، بمقاومتها، بثقافةٍ يبنيها روائيون وشعراء وفنانون تشكيليّون وموسيقيّون وممثلون … كأنَّ الحرب أوقدتْ فيهم شعلة الإبداع. تبني، وتفتح ذراعيها لمحبّيها القادمين إليها من معظم بلدان العالم.
من مصر جاءنا (عام 1984) الشيخ إمام، وقد صعب علينا الذهاب إليه. جاءنا مسانداً مقاومتنا، وارتأى بعضُ الأصدقاء إقامة سهرة معه في بيتنا في الحمرا.
“البيت عندكم أمان”. قال أحد الأصدقاء، وأدرك زوجي القصد، فقال: أهلا وسهلا.
ها هو الشيخ إمام يدخل بيتنا. أتأملّه، يعتمر الطربوش ويرتدي البدلة الافرنجيّة: بنطلون وقميص مع كرافات وفوقه جاكيت. طربوشه لا يشبه طربوش بعض البكوات عندنا، فهو أقلّ ارتفاعاً، ولونه الخمري أغمق، كأنّما بسبب قدمه، أو لوضعه دوماً على رأسه!
بدا لي الشيخ إمام بلباسه هذا صورة للتجاور، التجاور بين القديم والحديث، بين الشرق والغرب. التجاور الماثل في مدننا العربية، في عماراتها، في بيوتها وأثاثها، في لباسنا، في المحلات وما تبيع، وحتّى في موائد طعامنا ولغاتنا.
تغيب عيناه تحت نظارة سودا كبيرة، لا يريدنا أن نرى عينيه المطفأتين، يودُّ أن يوقعنا في الالتباس، أفكّر. جميلاً بدا لي بهذا الالتباس، كأنّه يرانا كما نراه، أو كأنّه يرانا ولا نراه. هو لا يشبه ذلك الأعمى الذي ما زالت صورته تراود مخيّلتي منذ الطفولة وترعبني، والذي كان يجوب شوارع مدينة صيدا القديمة مهتدياً بعصا يخبط بها كلَّ ما هو حوله. جفناه مقلوبان إلى أعلى، كأنّه يخاطب السماء أو الله، كي يأخذ الأطفال الذين لا يطيعون أمهاتهم إلى جهنم، إلى نارها.
دخل الشيخ إمام بيتنا باسماً جميلاً، جلس على كنبة كبيرة في الصالون، وإلى جانبه جلس صابر الشاب الذي يرافقه دوماً، يحمل له عوده ويرشده الطريق. تحلّقنا حوله، وحين ضاقت بنا مقاعد الصالون، جلس بعضنا على الأرض.
بداية سألَنا عن المقاومة وعبَّر عن سعادته بزيارته لنا ولبيروت، ثم أمسك عوده وراح يعزف ويغنّى. غنّى الشيخ إمام طويلاً في تلك السهرة، لم يظهر عليه التعب حتى ليصحُّ فيه قول ابن الرومي في المغنيّة وحيد:
تغنّي كأنّها لا تغني/ من سكون الأوصال وهي تجيد
نصغي، ونغني أحياناً معه، فيستدير حزنُنا، يستدير حزنُ عشر سنوات من الدمار والموت، حزنُ آلاف الأيام من الدموع على القتلى والمفقودين، حزنٌ يفترش قلوبَنا وحياتنا. يستدير هذا الحزن، يترك مكانه لفرحٍ طفولي تسعدُ به قلوبُنا.
غنّى الشيخ إمام بلهجة مصر الشعبيّة، متلاعباً بأنغام أغنيته، يُطوِّعها كأنّما لمشاعر تبثُّ فينا جذوة الحب والحياة: “زيّ الشمس الدفْيه، الصفّْيه/ زيّ حلاوة النيل في الميّة”.
غنّى لمصر وللسلام: “الله يصون بلدنا ويحفظ السلام”.
غنّى للزهور، للياسمين: “شوف الياسمين جميل نعسان حليلُه النوم على الأغصان”.
غنّى للفلّ متلاعبا بالنغم، يتأوه منادياً الفل: “يا فل يا روح الروح/ آه”.
غنّى للورد: “الورد جميل/ إذا أهداه حبيب لحبيب يكون معناه وصاله قريب”.
ينهي وصلته متوجهاً بصوته إلينا وصادحاً: “شوف الزهور وتعلِّم/ بين الحبايب تعرف تتكلم”.
غنّى للحب والحياة. كان يحرضنا، نحن الذين واللواتي كنا نعاني خطر الموت، ونزيف الدماء في تلك الحرب الأهلية. يحرضنا… ولكن كي نفرح، كي نحب الحياة، كي نحبّ الحبَّ ونغني له، و”نملا الدنيا جناين”.
يصمت، كأنما ليستعيد روحه، ثم يقول كمن يهمس لنفسه: “يا للجمال…”. ولكن أيّ جمال يعني هو الضرير! أتساءل في سرّي، وأتذكّر قول الشاعر بشار بن برد: “والأذن تعشق قبل العين أحيانا”. صحيح… والأنف ألا يعشق رائحة الزهور قبل رؤية العين، أحيانا، لها!
تتوالى تعابير الاعجاب والثناء عليه: “يا شيخ، أجدت، سلطنت، يا جميل”، يقول مهدي. “مش معقول”، تقول وفاء، فيعلّق الشيخ إمام قائلاً: “شربت من نبع كبير”. يقصد الشيخ زكريّا أحمد الذي لحَّن أغنية “الورد جميل” لأمّ كلثوم.
يغني الشيخ إمام، لكن يتصرف باللحن الخاصّ بأم كلثوم، يتعاطف مع أحاسيسه الخاصّة حتى لكأنّه يبدع لحناً على اللحن، لحناً يتألق به كملك للعزف والغناء.
يسأله سهيل عن حكاية الخلاف بينه وبين صديقه الشاعر أحمد فؤاد نجم. يتنهد ثم يقول بمرارة: “الحقيقة هو صاحب الذنب بتصريحه في الصحف. خمسة وعشرون سنة نعرف بعض، ما يمر أسبوع إلاّ ويحاول إيجاد خلاف. ما عمري قلت كلمة أنا، أنا لا أحب انطقها، كان دائماً يقول أنا أحسن شاعر في الوطن العربي، وهذه كلمة لا ينبغي أن تكون لنا، بل ينبغي أن تكون من الناس. الناس أصحاب الرأي الأول والأخير. وكنت أتحمل هذا على حساب صحتي، إلى أن جينا إلى الجزائر وأخذه صحافي جزائري وأبعده عنّا، بعد أن ربطنا بحفلات نقوم بها سويّة للشعب الجزائري. خمسة وعشرون حلقة حضر منها ست حفلات. اتهمني، قال: إمام رجل مادي وعميل للمباحث الفرنسية. قال الكثير ثم تناقلتها الصحف، وصاروا يقولوا نجم وإمام نسوا قضايا الفقراء، وقريباً سيقدمون للمحكمة، وهو قاعد في الجزائر ولا يبالي، وهو الذي قال هذا الكلام تبريراً لموقفه في الجزائر”.
صمت قليلا ثم راح يغني:
“الليل عليَّ طال
والدمع سال، سال
والقلب لك ميّال
شوفوا العجب يا ناس والحب هاجرني
خلّى عزولي دايما يعيّرني
وأنا أعمل إيه والدمع عايم عايم
اسمح يا صالحني”.
وبهدف السماح والمصالحة طلبنا منه أن يغنّي “هما مين واحنا مين”. فصدح صوته: “همّا مين واحنا مين/ همّا المال والحب معاهم/ واحنا الفقرا المحرومين/ همّا الفيلا والعربية/ والنساوين المتنقية/حيوانات استهلاكية/ نحن قرنفل على ياسمين/ نحن الأرض، حطبها ونارها/ نحن الشهدا/ بس البركة في النياشين”.
يرتفع صوته بالنشيد، يرقص نغمه ضاغطاً على القلب، يموج، نسمع في صوته صوت الجموع، نسمع صمتهم يضج. يموج، يموج البحر الهادئ، ننشد معه: “تدجيل تدجيل… وكلام تفاصيل”.
في آخر السهرة قال لي، وكنت أجلس إلى جانبه: اطلبي يا ست البيت أغنية لأغنيها لك. قلت: “مصر يمّه يا بهية”.
غنّى وغنينْا معه وما زلت أردّد في بعض سويعات وقتي “يمّه يا بهيّة/ ياامّ طرحة وجلابية/ الزمن شاب وانتي شابّة/ هو رايح وانتي جاية”، عن حافة موت تبدأ عندها الحياة.
* الشيخ إمام (2/7/1918 ــ 7/6/1995) اسمه الحقيقي إمام محمد أحمد عيسى، ولد في قرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة لأسرة فقيرة. أصيب في عامه الأول بالرّمد، وبسبب الجهل، فقدَ الطفل الصغير بصره. تعلَّم القرآن لدى الجمعية الشرعية في القرية ليصبح شيخا. وكان له ذاكرة قويّة وأذن موسيقية. لكن الجمعيّة أخذت قراراً بفصله بعد أن علمت بأنّه يستمع للإذاعة، رغم أنه كان يستمع عبرها إلى تلاوة القرآن. في القاهرة تعرّف الشيخ إمام إلى الشيخ درويش الحريري الذي كان من أهمِّ الموسيقيين، فأعجب بموهبته وصوته وتولّى تعليمه الموسيقى، وعرَّفه على كبار الموسيقيين ومنهم زكريا أحمد الذي اهتم به، لكنه استغنى عنه عندما صار يحفظ ألحان أم كلثوم وصارت تتسرب إلى الناس قبل أن تغنيها.
إثر هزيمة حزيران (يونيو) 1967 راح يغني من شعر أحمد فؤاد نجم الساخر من السلطات التي تسببت بالهزيمة. كان نجم يقول: “الشيخ إمام مثل عبد الوهاب مغني عظيم ومتفرِّد”. هكذا شكّلا ثنائيّاً عاشا معاً، واشتهرا خلال عقديْ السبعينات والثمانينات، نجم بصفته أهمّ شعراء العاميّة المصريّة، والشيخ إمام بصفته ملحِّناً ومغنِّياً. ودخلا السجن بحكمٍ مؤبّد، لكنهما لم يتوقفا عن التأليف والغناء، وبقيا في الاعتقال حتى اغتيال السادات عام 1981.
وكلّ كلام الشيخ إمام الموضوع بين مزدوجين منقول عن تسجيل صوتي له، وهو بالعامية، ولا يزال في حوزتي، وقد حرصت على نشره كما هو.
مدينة عجيبة هذه الـ بيروت، أفكر اليوم، تنزف ولا تموت، تنزف دماً وحنيناً لزوارها، لذاتها، للقتلى، للمهاجرين، للبيوت التي كانت تتحوّل إلى ركام. تنزف وتنهض… تنهض بنضالها، بمقاومتها، تنهض فوق الطوائف، الطوائف التي أقامت الحواجز وحوّلت المدينة المتهادية بين البحر والجبل خرائبَ متقاتلة.
بيروت الـ2 كلم مربع، بيروت الغربيّة كما كنا نسميها، هذه الـ بيروت التي كنّا نشعر، حين يزورها أدباء وفنانون عرب وأجانب مناصرون لنضالها، بأنّها تتسع، تكبر، وتصير هي كلّ لبنان الذي نحلم به.
تأبى بيروت أن تموت، تبني عمارتها الثقافيّة محتفلة بنضالها، بمقاومتها، بثقافةٍ يبنيها روائيون وشعراء وفنانون تشكيليّون وموسيقيّون وممثلون … كأنَّ الحرب أوقدتْ فيهم شعلة الإبداع. تبني، وتفتح ذراعيها لمحبّيها القادمين إليها من معظم بلدان العالم.
من مصر جاءنا (عام 1984) الشيخ إمام، وقد صعب علينا الذهاب إليه. جاءنا مسانداً مقاومتنا، وارتأى بعضُ الأصدقاء إقامة سهرة معه في بيتنا في الحمرا.
“البيت عندكم أمان”. قال أحد الأصدقاء، وأدرك زوجي القصد، فقال: أهلا وسهلا.
ها هو الشيخ إمام يدخل بيتنا. أتأملّه، يعتمر الطربوش ويرتدي البدلة الافرنجيّة: بنطلون وقميص مع كرافات وفوقه جاكيت. طربوشه لا يشبه طربوش بعض البكوات عندنا، فهو أقلّ ارتفاعاً، ولونه الخمري أغمق، كأنّما بسبب قدمه، أو لوضعه دوماً على رأسه!
بدا لي الشيخ إمام بلباسه هذا صورة للتجاور، التجاور بين القديم والحديث، بين الشرق والغرب. التجاور الماثل في مدننا العربية، في عماراتها، في بيوتها وأثاثها، في لباسنا، في المحلات وما تبيع، وحتّى في موائد طعامنا ولغاتنا.
تغيب عيناه تحت نظارة سودا كبيرة، لا يريدنا أن نرى عينيه المطفأتين، يودُّ أن يوقعنا في الالتباس، أفكّر. جميلاً بدا لي بهذا الالتباس، كأنّه يرانا كما نراه، أو كأنّه يرانا ولا نراه. هو لا يشبه ذلك الأعمى الذي ما زالت صورته تراود مخيّلتي منذ الطفولة وترعبني، والذي كان يجوب شوارع مدينة صيدا القديمة مهتدياً بعصا يخبط بها كلَّ ما هو حوله. جفناه مقلوبان إلى أعلى، كأنّه يخاطب السماء أو الله، كي يأخذ الأطفال الذين لا يطيعون أمهاتهم إلى جهنم، إلى نارها.
دخل الشيخ إمام بيتنا باسماً جميلاً، جلس على كنبة كبيرة في الصالون، وإلى جانبه جلس صابر الشاب الذي يرافقه دوماً، يحمل له عوده ويرشده الطريق. تحلّقنا حوله، وحين ضاقت بنا مقاعد الصالون، جلس بعضنا على الأرض.
بداية سألَنا عن المقاومة وعبَّر عن سعادته بزيارته لنا ولبيروت، ثم أمسك عوده وراح يعزف ويغنّى. غنّى الشيخ إمام طويلاً في تلك السهرة، لم يظهر عليه التعب حتى ليصحُّ فيه قول ابن الرومي في المغنيّة وحيد:
تغنّي كأنّها لا تغني/ من سكون الأوصال وهي تجيد
نصغي، ونغني أحياناً معه، فيستدير حزنُنا، يستدير حزنُ عشر سنوات من الدمار والموت، حزنُ آلاف الأيام من الدموع على القتلى والمفقودين، حزنٌ يفترش قلوبَنا وحياتنا. يستدير هذا الحزن، يترك مكانه لفرحٍ طفولي تسعدُ به قلوبُنا.
غنّى الشيخ إمام بلهجة مصر الشعبيّة، متلاعباً بأنغام أغنيته، يُطوِّعها كأنّما لمشاعر تبثُّ فينا جذوة الحب والحياة: “زيّ الشمس الدفْيه، الصفّْيه/ زيّ حلاوة النيل في الميّة”.
غنّى لمصر وللسلام: “الله يصون بلدنا ويحفظ السلام”.
غنّى للزهور، للياسمين: “شوف الياسمين جميل نعسان حليلُه النوم على الأغصان”.
غنّى للفلّ متلاعبا بالنغم، يتأوه منادياً الفل: “يا فل يا روح الروح/ آه”.
غنّى للورد: “الورد جميل/ إذا أهداه حبيب لحبيب يكون معناه وصاله قريب”.
ينهي وصلته متوجهاً بصوته إلينا وصادحاً: “شوف الزهور وتعلِّم/ بين الحبايب تعرف تتكلم”.
غنّى للحب والحياة. كان يحرضنا، نحن الذين واللواتي كنا نعاني خطر الموت، ونزيف الدماء في تلك الحرب الأهلية. يحرضنا… ولكن كي نفرح، كي نحب الحياة، كي نحبّ الحبَّ ونغني له، و”نملا الدنيا جناين”.
يصمت، كأنما ليستعيد روحه، ثم يقول كمن يهمس لنفسه: “يا للجمال…”. ولكن أيّ جمال يعني هو الضرير! أتساءل في سرّي، وأتذكّر قول الشاعر بشار بن برد: “والأذن تعشق قبل العين أحيانا”. صحيح… والأنف ألا يعشق رائحة الزهور قبل رؤية العين، أحيانا، لها!
تتوالى تعابير الاعجاب والثناء عليه: “يا شيخ، أجدت، سلطنت، يا جميل”، يقول مهدي. “مش معقول”، تقول وفاء، فيعلّق الشيخ إمام قائلاً: “شربت من نبع كبير”. يقصد الشيخ زكريّا أحمد الذي لحَّن أغنية “الورد جميل” لأمّ كلثوم.
يغني الشيخ إمام، لكن يتصرف باللحن الخاصّ بأم كلثوم، يتعاطف مع أحاسيسه الخاصّة حتى لكأنّه يبدع لحناً على اللحن، لحناً يتألق به كملك للعزف والغناء.
يسأله سهيل عن حكاية الخلاف بينه وبين صديقه الشاعر أحمد فؤاد نجم. يتنهد ثم يقول بمرارة: “الحقيقة هو صاحب الذنب بتصريحه في الصحف. خمسة وعشرون سنة نعرف بعض، ما يمر أسبوع إلاّ ويحاول إيجاد خلاف. ما عمري قلت كلمة أنا، أنا لا أحب انطقها، كان دائماً يقول أنا أحسن شاعر في الوطن العربي، وهذه كلمة لا ينبغي أن تكون لنا، بل ينبغي أن تكون من الناس. الناس أصحاب الرأي الأول والأخير. وكنت أتحمل هذا على حساب صحتي، إلى أن جينا إلى الجزائر وأخذه صحافي جزائري وأبعده عنّا، بعد أن ربطنا بحفلات نقوم بها سويّة للشعب الجزائري. خمسة وعشرون حلقة حضر منها ست حفلات. اتهمني، قال: إمام رجل مادي وعميل للمباحث الفرنسية. قال الكثير ثم تناقلتها الصحف، وصاروا يقولوا نجم وإمام نسوا قضايا الفقراء، وقريباً سيقدمون للمحكمة، وهو قاعد في الجزائر ولا يبالي، وهو الذي قال هذا الكلام تبريراً لموقفه في الجزائر”.
صمت قليلا ثم راح يغني:
“الليل عليَّ طال
والدمع سال، سال
والقلب لك ميّال
شوفوا العجب يا ناس والحب هاجرني
خلّى عزولي دايما يعيّرني
وأنا أعمل إيه والدمع عايم عايم
اسمح يا صالحني”.
وبهدف السماح والمصالحة طلبنا منه أن يغنّي “هما مين واحنا مين”. فصدح صوته: “همّا مين واحنا مين/ همّا المال والحب معاهم/ واحنا الفقرا المحرومين/ همّا الفيلا والعربية/ والنساوين المتنقية/حيوانات استهلاكية/ نحن قرنفل على ياسمين/ نحن الأرض، حطبها ونارها/ نحن الشهدا/ بس البركة في النياشين”.
يرتفع صوته بالنشيد، يرقص نغمه ضاغطاً على القلب، يموج، نسمع في صوته صوت الجموع، نسمع صمتهم يضج. يموج، يموج البحر الهادئ، ننشد معه: “تدجيل تدجيل… وكلام تفاصيل”.
في آخر السهرة قال لي، وكنت أجلس إلى جانبه: اطلبي يا ست البيت أغنية لأغنيها لك. قلت: “مصر يمّه يا بهية”.
غنّى وغنينْا معه وما زلت أردّد في بعض سويعات وقتي “يمّه يا بهيّة/ ياامّ طرحة وجلابية/ الزمن شاب وانتي شابّة/ هو رايح وانتي جاية”، عن حافة موت تبدأ عندها الحياة.
* الشيخ إمام (2/7/1918 ــ 7/6/1995) اسمه الحقيقي إمام محمد أحمد عيسى، ولد في قرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة لأسرة فقيرة. أصيب في عامه الأول بالرّمد، وبسبب الجهل، فقدَ الطفل الصغير بصره. تعلَّم القرآن لدى الجمعية الشرعية في القرية ليصبح شيخا. وكان له ذاكرة قويّة وأذن موسيقية. لكن الجمعيّة أخذت قراراً بفصله بعد أن علمت بأنّه يستمع للإذاعة، رغم أنه كان يستمع عبرها إلى تلاوة القرآن. في القاهرة تعرّف الشيخ إمام إلى الشيخ درويش الحريري الذي كان من أهمِّ الموسيقيين، فأعجب بموهبته وصوته وتولّى تعليمه الموسيقى، وعرَّفه على كبار الموسيقيين ومنهم زكريا أحمد الذي اهتم به، لكنه استغنى عنه عندما صار يحفظ ألحان أم كلثوم وصارت تتسرب إلى الناس قبل أن تغنيها.
إثر هزيمة حزيران (يونيو) 1967 راح يغني من شعر أحمد فؤاد نجم الساخر من السلطات التي تسببت بالهزيمة. كان نجم يقول: “الشيخ إمام مثل عبد الوهاب مغني عظيم ومتفرِّد”. هكذا شكّلا ثنائيّاً عاشا معاً، واشتهرا خلال عقديْ السبعينات والثمانينات، نجم بصفته أهمّ شعراء العاميّة المصريّة، والشيخ إمام بصفته ملحِّناً ومغنِّياً. ودخلا السجن بحكمٍ مؤبّد، لكنهما لم يتوقفا عن التأليف والغناء، وبقيا في الاعتقال حتى اغتيال السادات عام 1981.
وكلّ كلام الشيخ إمام الموضوع بين مزدوجين منقول عن تسجيل صوتي له، وهو بالعامية، ولا يزال في حوزتي، وقد حرصت على نشره كما هو.
ذاكرة ترحال أدبية: الشيخ إمام عيسى وحافة موت تبدأ عندها الحياة | القدس العربي
في بيتنا في بيروت كنّا نلتقي، بيروت التي كانت تحفل بأكثر من نشاط، يصيبها الدمار وتنهض، يغادرها الناس ويعودون، يرحلون عنها ومن ثم يرحلون إليها، كأنهم مصابون بداء حبّها، حبّها العامر بمشاعر الحريّة والانطلاق. مدينة عجيبة هذه الـ بيروت، أفكر اليوم، تنزف ولا تموت، تنزف دماً وحنيناً لزوارها، لذاتها،...
www.alquds.co.uk