كان “بورخيس” كثير التشكيك بوجود “هوميروس” فحيثما يرد يذكره يدسّ إشارة إلى احتمال اختلاقه، وعدم وجوده، منها حجّته القويّة بالاختصام على نسبته إليها سبع مدن يونانية قديمة، فلو كان علما معروفا بنسبه، وهويته، لما ادّعته سبع مدن في وقت واحد، ومع ذلك كان الشاعر الإغريقي موضوعا جاذبا لـ”بورخيس”، فالجامع بينهما، فضلا عن أشياء كثيرة، هو العمى، وكأنه تنازع الأشباه، وشقاق المتماثلين، وقد شكّك الخلف في عمى السلف، وارتاب في وجوده، اعتمادا على فرضية قال بها الإيرلندي “أوسكار وايلد”، ومفادها أن قدامى الإغريق تعمّدوا القول بعمى “هوميروس” لإثبات فرضية تدّعي أن الشعر فنّ سمعي لا بصري، وبذلك خلعوا عليه الكفاف، على الرغم من عدم وجود دليل مادي على ذلك، فحسب بورخيس “يبدو شعر هوميروس بصريًا، بصريًا مدهشًا في أحيان كثيرة”، ثم نثر تكهّانته غير عابئ بالميراث الضخم الذي أحاط بعمى هوميروس “ربما اعتقدنا بعدم وجود هوميروس حقيقي، ومع هذا فقد تخيّله الإغريق أعمى لتكريس حقيقة أنّ الشعر هو موسيقى قبل كلّ شيء، إن الشعر هو قيثارة قبل كلّ شيء، وأنّ البعد البصري هو أمر قد يتوافر أو لا يتوافر في الشاعر”.
وفي سياق الحديث عن طبيعة الصورة الشعرية ومقوّماتها عرضت قضية اللون الغائب، في أشعاره، اللون الأزرق، فقدم بورخيس تفسيره عن التحوّل الدلالي للألفاظ، وعدم مكوثها حبيسة نطاق مغلق، فما اشتهر عن هوميروس نعته البحر بعبارة “البحر النبيذي” لكن ترجمات أشعاره تحلّلت من الوصف المباشر، فوضعت له مقابلا إيضاحيّا، هو “البحر النبيذي القاتم”؛ فهذا من التوضيح اللاحق، لكن بورخيس ما ارتاب في أن ما كان يفكر به هوميروس هو البحر دون سواه، وليس الانشغال في التفاصيل اللونية لأمواجه، فجاء نعته له عاديا ما خطر له أن يكون موضوعا للتمحّلات، والتماس الحيل لبلوغ غاية ما، واعتادت آداب العصور الكلاسيكية الغربية على القول بأن البحر بلون النبيذ، كلّما تصادف ذكر البحر، وحيثما ورد ذلك، فإنما يحيل على هوميروس دون سواه، لكن الشاعر في الآداب القديمة، كما رأى بورخيس، لم يكن منشدا، حسب، إنما راويا للحكايات؛ فالقدامى حينما يتحدّثون عن الشاعر بوصفه مبدعا، لا يعتبرونه، فقط، مصدرا للقصائد الغنائية السامية، إنما يرون فيه جامع مرويّات، وسارد حكايات، وهي مسترسلة لا يقتصر الأمر فيها على الإنشاد، والتأمل، والقنوط، إنما إشاعة البأس والأمل، ولعل هذا الوصف الذي يراد به دمج الصيغة الانشادية عند الشاعر بالصيغة السردية هو ما ما برع فيه هوميروس، وإليه كان بورخيس يقصد دون سواه. الأذن عماد الشفوية، والدليل إلى عصورها، فهي تطرب للإيقاعات والأناشيد، فما من حاجة للعين التي تداخلت فيها الألوان، وما عادت قادرة على تمييز هذا اللون عن ذاك، وما شِغلت بكل ذلك لتأكيد حسّها الشعري، فالعين وسيلة التعبير في العصور الكتابية حيث الصورة الشعرية، والشكل المدوّن للألفاظ، يستأثران بالاهتمام الرئيس، فيما كانت الأذن وسيلة التعبير في العصور الشفوية حيث الإيقاع، والتنغيم، والانشاد، فلا يجوز المفاضلة بين الأذن والعين إلا إذا جاز المفاضلة بين الشفوية والكتابية.
لم يجر التحقّق، على وجه الدقّة، مما يراه العميان في عوالمهم الداخلية، فبعضهم لا يرى شيئا في عالمه المتخيّل، وبخاصة ذوي العمى الأصلي، وقد يرى بعضهم بقايا لون شاحب تبقّى من أيام البصر، لذوي العمى الدخيل، وربما تحوم كتلة مبهمة من الألوان في مخيال آخرين، ومع الأخذ في الحسبان، ما تعرضت له أشعار هوميروس من وضع، وانتحال، وتحويل دلالي بسبب الرواية الشفوية الطويلة عبر الدهور، فمن التمحّل اعتبارها مستندا قاطعا لجهل القدامى باللون الأزرق قاطبة، فحيثما تكون مستندات الماضي مرتهنة للمعايير الشفوية، فيصبح بناء الحقيقة عليها قابلا للتعريض، والراجح أن النزوع العلمي الذي الذي شاب تاريخ الظواهر العلمية والطبية القديمة في القرن التاسع عشر ليستخرج منها شواهد على صواب فرضياته، قد أسرف في بحث موضوع الألوان في العالم المتخيل الذي اصطعنه هوميروس، لكي يبرهن على صواب فرضياته، ولكن من سوء الطالع أن شاهدا معاصرا تبوّأ مقاما مناظرا لهوميروس في عماه وحسّه الأدبي، وهو بورخيس، قد نقض ما قاله المنقّبون في حضور الألوان عند سلفه ما عدا الأزرق، فما رآه بورخيس الأعمى هو الزرقة دون سواها، فحينما انحسر بصره توارت الألوان إلا الأزرق. على أنه لم يكن ذا زرقة صافية إنما خالطته خضرة شاحبة توحي بها ولا تؤكّدها، فتجرّد لاثبات ذلك في سياق نقض الرأي السائد بظلمة عالم العميان “يتخيّل الناس عموما أن الأعمى حبيس عالم أسود”.
لكن بورخيس من واقع تجربته ضريرا لم ير ذلك اللون المزعوم، اللون الأسود، مع أنه اعتاد النوم في الظلمة لزمن طويل، فما كان يراه عالما ضبابيا تشوبه الزرقة، فذلك هو “عالم الأعمى”، ولعلّ الربط بين تجربتين ثقافيتين يفصل بينهما نحو من ثلاثة آلاف سنة فيه مجانبة لمنطق البحث، وليس يمكن اثبات أمر ونقض آخر إلا على سبيل الترجيح، وطرافة البحث، ولكن من المفيد القول أنّ ما غاب عن من وصف للزرقة في بحار هوميروس وسماواته حضر في عالم بورخيس. يروق لنا القول بأن هوميروس الذي طاف راجلا في ربوع اليونان وشواطئها حيث تشتد زرقة البحار لم يحتفظ لنا في ملاحمه بشيء من ذلك، فيما خيّمت الزرقة على عالم بورخيس الذي سلخ عمره بين رفوف المكتبات.
وصار من المفيد اقتراح تفسير آخر، فقد حلّت أذن هوميروس محلّ عينه، فأصغت بعمق إلى ما تعذر رؤيته بالعين المبصرة، فذلك هو شرط الثقافة الشفوية في ربوع اليونان القديمة، وفي سائر رِباع العالم آنذاك. وسواء أكانت العين لم تدرك اللون الأزرق في قديم الزمان أم أن ما أنشده الشاعر الضرير خلا من ذكره، أم أن الرواة الأوائل عزفوا عن تثبيت ذلك لسبب أو لآخر، فلم يفقد هوميروس قدرته البارعة على بناء العوالم الخيالية بمزيج من البصر والبصيرة على غرار العالم الأرضي الذي رآه صغيرا، أو جمع أوصافه مما سمع حينما كفّ بصره، فلم يتعذّر عليه تخيّل سوح الوغى، وأمواج البحار، وهجوم الفرسان، وشكل الأسلحة، وخليط الألوان والأصوات؛ فقد تشبع بثقافة عصره، وكما قال “أمبرتو إيكو” فإنه كان “يفقه العالم الذي يتحدّث عنه، ويعرف قوانينه، ومسبّباته وعواقبه، لهذا فقد كان مقتدرا على إعطائه شكلا”.
حلّت الأذن المرهفة محلّ العين الغاربة، وما غاب عن الثانية تولّت الأولى التعبير عنه، وتمثيلة بخير ما ينبغي التمثيل للأحداث والأشخاص، وبمرور الأيام، وتوالي التجارب، استبدّت الأذن بالعين، كما هو الشرط الإنساني في غالب الأحيان، فتوارت الأخيرة، وأصبحت الأولى الوسيلة التي بها نُسجت ملاحم اليونان القديمة، فما نقص شيء من العالم الذي شيّده هوميروس لأنه أغفل اللون الأزرق، ولو وصف به أمواج البحار، والسماوات الصافية، لكان أفضل وأكمل، وبأية عين سوف يصف ذلك اللون الهادئ الباعث على الارتياح والتفاؤل؟ بعينه الغاربة المعتمة، أم بعيون الرواة المتّقدة بالصخب والغضب، فلا ترى إلا عالما أدهم غامقا مملوءا بالحروب والمحن على الرغم من إشراق الشمس فيه، فأمواجه مصطخبة، وسماؤه مكفهرة. ليس من المفيد تبرئة هوميروس من النقص، ولا إسباغ الكمال عليه، فلا حضور لون أو غيابه في “الإلياذة” أو “الأوديسة” يمكن أن يُثبت وجود هوميروس أو ينفيه، أو يخفض من قيمة ملحمتيه، أو يُعلي من شأنهما، فقد انصبّ الجدل حول المُكنة البارعة، والاستطاعة الفذّة، عند ضرير فاق المبصرين في رسم عالمهم والتعبير عنه، فيما كان يعتمد على عصاه ينشد أمجاد السالفين.
وفي سياق الحديث عن طبيعة الصورة الشعرية ومقوّماتها عرضت قضية اللون الغائب، في أشعاره، اللون الأزرق، فقدم بورخيس تفسيره عن التحوّل الدلالي للألفاظ، وعدم مكوثها حبيسة نطاق مغلق، فما اشتهر عن هوميروس نعته البحر بعبارة “البحر النبيذي” لكن ترجمات أشعاره تحلّلت من الوصف المباشر، فوضعت له مقابلا إيضاحيّا، هو “البحر النبيذي القاتم”؛ فهذا من التوضيح اللاحق، لكن بورخيس ما ارتاب في أن ما كان يفكر به هوميروس هو البحر دون سواه، وليس الانشغال في التفاصيل اللونية لأمواجه، فجاء نعته له عاديا ما خطر له أن يكون موضوعا للتمحّلات، والتماس الحيل لبلوغ غاية ما، واعتادت آداب العصور الكلاسيكية الغربية على القول بأن البحر بلون النبيذ، كلّما تصادف ذكر البحر، وحيثما ورد ذلك، فإنما يحيل على هوميروس دون سواه، لكن الشاعر في الآداب القديمة، كما رأى بورخيس، لم يكن منشدا، حسب، إنما راويا للحكايات؛ فالقدامى حينما يتحدّثون عن الشاعر بوصفه مبدعا، لا يعتبرونه، فقط، مصدرا للقصائد الغنائية السامية، إنما يرون فيه جامع مرويّات، وسارد حكايات، وهي مسترسلة لا يقتصر الأمر فيها على الإنشاد، والتأمل، والقنوط، إنما إشاعة البأس والأمل، ولعل هذا الوصف الذي يراد به دمج الصيغة الانشادية عند الشاعر بالصيغة السردية هو ما ما برع فيه هوميروس، وإليه كان بورخيس يقصد دون سواه. الأذن عماد الشفوية، والدليل إلى عصورها، فهي تطرب للإيقاعات والأناشيد، فما من حاجة للعين التي تداخلت فيها الألوان، وما عادت قادرة على تمييز هذا اللون عن ذاك، وما شِغلت بكل ذلك لتأكيد حسّها الشعري، فالعين وسيلة التعبير في العصور الكتابية حيث الصورة الشعرية، والشكل المدوّن للألفاظ، يستأثران بالاهتمام الرئيس، فيما كانت الأذن وسيلة التعبير في العصور الشفوية حيث الإيقاع، والتنغيم، والانشاد، فلا يجوز المفاضلة بين الأذن والعين إلا إذا جاز المفاضلة بين الشفوية والكتابية.
لم يجر التحقّق، على وجه الدقّة، مما يراه العميان في عوالمهم الداخلية، فبعضهم لا يرى شيئا في عالمه المتخيّل، وبخاصة ذوي العمى الأصلي، وقد يرى بعضهم بقايا لون شاحب تبقّى من أيام البصر، لذوي العمى الدخيل، وربما تحوم كتلة مبهمة من الألوان في مخيال آخرين، ومع الأخذ في الحسبان، ما تعرضت له أشعار هوميروس من وضع، وانتحال، وتحويل دلالي بسبب الرواية الشفوية الطويلة عبر الدهور، فمن التمحّل اعتبارها مستندا قاطعا لجهل القدامى باللون الأزرق قاطبة، فحيثما تكون مستندات الماضي مرتهنة للمعايير الشفوية، فيصبح بناء الحقيقة عليها قابلا للتعريض، والراجح أن النزوع العلمي الذي الذي شاب تاريخ الظواهر العلمية والطبية القديمة في القرن التاسع عشر ليستخرج منها شواهد على صواب فرضياته، قد أسرف في بحث موضوع الألوان في العالم المتخيل الذي اصطعنه هوميروس، لكي يبرهن على صواب فرضياته، ولكن من سوء الطالع أن شاهدا معاصرا تبوّأ مقاما مناظرا لهوميروس في عماه وحسّه الأدبي، وهو بورخيس، قد نقض ما قاله المنقّبون في حضور الألوان عند سلفه ما عدا الأزرق، فما رآه بورخيس الأعمى هو الزرقة دون سواها، فحينما انحسر بصره توارت الألوان إلا الأزرق. على أنه لم يكن ذا زرقة صافية إنما خالطته خضرة شاحبة توحي بها ولا تؤكّدها، فتجرّد لاثبات ذلك في سياق نقض الرأي السائد بظلمة عالم العميان “يتخيّل الناس عموما أن الأعمى حبيس عالم أسود”.
لكن بورخيس من واقع تجربته ضريرا لم ير ذلك اللون المزعوم، اللون الأسود، مع أنه اعتاد النوم في الظلمة لزمن طويل، فما كان يراه عالما ضبابيا تشوبه الزرقة، فذلك هو “عالم الأعمى”، ولعلّ الربط بين تجربتين ثقافيتين يفصل بينهما نحو من ثلاثة آلاف سنة فيه مجانبة لمنطق البحث، وليس يمكن اثبات أمر ونقض آخر إلا على سبيل الترجيح، وطرافة البحث، ولكن من المفيد القول أنّ ما غاب عن من وصف للزرقة في بحار هوميروس وسماواته حضر في عالم بورخيس. يروق لنا القول بأن هوميروس الذي طاف راجلا في ربوع اليونان وشواطئها حيث تشتد زرقة البحار لم يحتفظ لنا في ملاحمه بشيء من ذلك، فيما خيّمت الزرقة على عالم بورخيس الذي سلخ عمره بين رفوف المكتبات.
وصار من المفيد اقتراح تفسير آخر، فقد حلّت أذن هوميروس محلّ عينه، فأصغت بعمق إلى ما تعذر رؤيته بالعين المبصرة، فذلك هو شرط الثقافة الشفوية في ربوع اليونان القديمة، وفي سائر رِباع العالم آنذاك. وسواء أكانت العين لم تدرك اللون الأزرق في قديم الزمان أم أن ما أنشده الشاعر الضرير خلا من ذكره، أم أن الرواة الأوائل عزفوا عن تثبيت ذلك لسبب أو لآخر، فلم يفقد هوميروس قدرته البارعة على بناء العوالم الخيالية بمزيج من البصر والبصيرة على غرار العالم الأرضي الذي رآه صغيرا، أو جمع أوصافه مما سمع حينما كفّ بصره، فلم يتعذّر عليه تخيّل سوح الوغى، وأمواج البحار، وهجوم الفرسان، وشكل الأسلحة، وخليط الألوان والأصوات؛ فقد تشبع بثقافة عصره، وكما قال “أمبرتو إيكو” فإنه كان “يفقه العالم الذي يتحدّث عنه، ويعرف قوانينه، ومسبّباته وعواقبه، لهذا فقد كان مقتدرا على إعطائه شكلا”.
حلّت الأذن المرهفة محلّ العين الغاربة، وما غاب عن الثانية تولّت الأولى التعبير عنه، وتمثيلة بخير ما ينبغي التمثيل للأحداث والأشخاص، وبمرور الأيام، وتوالي التجارب، استبدّت الأذن بالعين، كما هو الشرط الإنساني في غالب الأحيان، فتوارت الأخيرة، وأصبحت الأولى الوسيلة التي بها نُسجت ملاحم اليونان القديمة، فما نقص شيء من العالم الذي شيّده هوميروس لأنه أغفل اللون الأزرق، ولو وصف به أمواج البحار، والسماوات الصافية، لكان أفضل وأكمل، وبأية عين سوف يصف ذلك اللون الهادئ الباعث على الارتياح والتفاؤل؟ بعينه الغاربة المعتمة، أم بعيون الرواة المتّقدة بالصخب والغضب، فلا ترى إلا عالما أدهم غامقا مملوءا بالحروب والمحن على الرغم من إشراق الشمس فيه، فأمواجه مصطخبة، وسماؤه مكفهرة. ليس من المفيد تبرئة هوميروس من النقص، ولا إسباغ الكمال عليه، فلا حضور لون أو غيابه في “الإلياذة” أو “الأوديسة” يمكن أن يُثبت وجود هوميروس أو ينفيه، أو يخفض من قيمة ملحمتيه، أو يُعلي من شأنهما، فقد انصبّ الجدل حول المُكنة البارعة، والاستطاعة الفذّة، عند ضرير فاق المبصرين في رسم عالمهم والتعبير عنه، فيما كان يعتمد على عصاه ينشد أمجاد السالفين.