د. سيد شعبان - المواوي

على عينك يا تاجر ، ومن لا يشتري يتفرج، تلك جملته الأولى التى لازمته أربعين عاما يفتتح بها حكاياته، هل آن له أن يستبدل بها أخرى؟
ركب المواوي حماره صباح يوم لا حاجة به إلى أن يتذكره، كانت عادته أن يخرج بعد صلاة الظهر ليتلقط الحكايات من أفواه العجائز، ويلف بها في الكفر؛ ينال بعض خبز كفاء طعامه.
عوضا عن ذلك غادر إلى المدينة؛ سوقها رائجة به الحكايات المعلبة والمعدة سلفا؛ ثمة تفسير لهذا: إنها عالم كبير لا أحد يكرر ما فعله الآخرون لكل وجهته التي جبله الله عليها، يبيعون أي شيء حتى الهواء يعبؤنه في زجاجات، يسكن فيها الخواجة مع الغجري لا أحد يسأل عن الأصل ولا يبحث عن الفصل، دنيا والخلاق يرزق الجميع.
بنات حلوة تشع وجوههن نورا يكاد يضيء، أرغفة الخبز ورائحة اللحم المشوي؛ عطور تتطاير مع نسمات الهواء.
نهيق الحمار صوت نشاز وسط المدينة، يسرع من رآه بالتقاط صورة؛ يلتفون به، يسائل نفسه: هل أنا أحد أهل الكهف؟
لا يجد تفسيرا، الناس تتجمع حوله، لكنهم لا يهبونه أرغفة محشوة باللحم كما يشتهي، لا يقدمون له حبات البرتقال المغلفة بل لا يقسمون عليه أن يتناول كوبا من الشاي؛ فقط يتندرون عليه.
أي شيطان سول له أن يأتي إلى هنا؟
وبأي وجه يلقى العجائز في كفر مجر؛ ذلك البلد القابع وراء تلال الماضي يلوك الحكايات ويتسامر بالمرارة تتغشاه صباح مساء، ضاق بحكاياته، تعاد كل ليلة حتى طلوع الفجر، الغجر يسرقون القمح من الجرن، يشعلون النار في السواقي، بنت فلان ملقاة عند ضفة النيل، الحرائق تشعلها الجن الأحمر في الظهيرة، من يتكلم يجرس، وحده له الحق أن يركب حماره ومن ثم يواوي بما تم في الليلة الماضية، حديث بائت مثل عيش الشحاذة بلا طعم ولا رائحة؛ وفي أيام الجمع والمواسم يملأ خرجه من حسنات الموتى؛ فيأتي بألوان وأشكال من أقراص الحلوى حكاياته لها سحر عجيب، ما يدور في الليالي المظلمة يدب به في الصباح.
تفر من أمامه النسوان ذوات الدلال؛ حظها العاثر من تلقاه في طريقها؛ حين يضربها زوجها كان هو السبب، من سقط جنينها تشاءم به الكفر، إلى هذه المدينة التي لا يعرفه فيها أحد؛ يشتري ويبيع حديثا بالمجان؛ فالمقاهي تعج بأخبار مثيرة: صفقة غلال معطوبة؛ أجساد مغلفة في حقائب سوداء، راقصة مخمورة، ليال حمراء؛ حبوب للهذيان، جرائد تنشر فيها الفضائح، حكايات لا تجد من يواوي بها.
أدارها في رأسه مرة وراء أخرى، يأتي بها إلى الكفر الساكن، يثير به الحياة الأخرى؛ يحدثهم عن علب الحلوى عوضا عن قطع الحجارة المغموسة في مش يعج بالدود، يحكي عن شعر النسوان المرسل مثل ذيول الخيل، عن حمرة شفاههن التي لا مثيل لها، بالتأكيد ستضربه القابعات في عباءات سود، والتاركات الذباب يغازلهن.
اهتدى إلى سبيل قد ينجو به، أن يغير جلده، أن يرتدي ثيابا أخر، حين ترك حماره عند باب مقهى السيدة استمع لرجل يتكلم بإصبعيه، يلوك الكلمات في خفة؛ لكنه قميئ؛ وما المعجز أن يكون مثله، من فوره باع الحمار ﻷقرب غجري قابله- وكثير ما هم- ارتدى حلة -المسخرة الجديدة- أخبرهم أنه ينتمي للطائفة المحظوظة والتي تجري في شرايينها الدماء الزرقاء، يقدس الوطن ويعظم العلم، لديه حكايات يشبع بها الجوعى ويتدثر منها أردية الشتاء آلاف العراة، حين ذاك تلقفته العيون السوداء التي تنقل كل نأمة إلى دائرة الاستقبال في البناية العتيقة؛ لتظهر براعة في العمل ومهارة في تقديم وجوه جديدة ترضى السادة الذين يمسكون بحبال عرائس" الماريونيت".
يضرب في الحكايات ومن ثم يأتي بما هو غير متوقع؛ التماسيح تتهادى في النهر وتتراقص فرحة بيوم مولد الزعيم، الأشجار هي الأخرى تتواعد أن تأتي بثمار المانجو ممزوجة بالمشمش ابتهاجا بهذا الحدث السعيد الذي يترقبه العالم، الناس في تلك البلاد تنازلت طواعية عن وجبة الطعام لأجل أن يسعد ويهنأ!
يتجمع هؤلاء القابعون في مغارة الكفر سنين عددا؛ أليس هذا هو المواوي الذى غادرنا ذات ليلة ؟
كنا نتحاشاه لنحسه؛ مسكين حماره ليته شاهده وهو يرتدي ذلك الثوب الجديد، ويراه في مقعده وقد تعالى بجده الذى انتسب إليه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...