هنالك ناحية أساسيّة حول العلاقة بين العمل الثوريّ والمثقّفين كثيرًا ما ينساها المثقّفون، لأنّهم مثقّفون، تتلخّص فيما قاله كاسترو في خطابه في «المؤتمر الثقافيّ» مطلع عام 1968، عن علاقة المثقّف بالعمل والممارسة؛ فقد سمّى كاسترو المثقّفين «عمّالًا فكريّين»، أي أنّهم يُصدِرون إنتاجًا فكريًّا.
ثمّة نتائج مهمّة تنبع من هذا القول، وأوّلها علاقة الفكر بالعمل. يقول دوبريه:" إذا لم تتمّ السيطرة الفكريّة على الآن، تبقى المسألة الأساسيّة: «ما العمل؟» بلا أساس ولا جواب. ومعنى ذلك أنّ للفكر الأولويّة في العلاقة الجدليّة بين الفكر والعمل، بين النظريّة والممارسة؛ فالرؤيا هي نقطة الانطلاق الّتي تبدأ منها الممارسة وإليها تعود. ولولا هذه الحركة، أي الانطلاق من الفكر والعودة إليه من خلال الممارسة، لما تمكّن العمل الثوريّ من تأمين تصاعده، من الانتقال إلى مستوى أعلى من النضوج. ثانيًا، يقول جرزي ويتر، أستاذ السوسيولوجيا في «معهد الفلسفة والسوسيولوجيا» البولونيّ، إنّ "كلّ تحوّل في محتوى الوعي الجماهيريّ، يشكّل تحوّلًا في الواقع الاجتماعيّ. لذا يُشكّل العمل الفكريّ ممارسة عمليّة". إذا كان هذا القول صحيحًا، فالكلمة الّتي ينطق بها المثقّف الثوريّ هي بمثابة فعل محسوس. غير أنّ صحّة هذا القول تعتمد على شرط أساسيّ؛ مقدرة المثقّف الثوريّ على تحويل «محتوى الوعي»، أي تحويل القوّة العقليّة إلى قوّة مادّيّة. من هذه الناحية تظهر الحقيقة الآتية: لا يكون الفكر عملًا إلّا حين يرتبط الفكر بواقعه الحياتيّ، وهو يبقى مجرّدًا، يبقى إنشاءً ووعظًا وخطابة، عندما يفقد علاقته بالواقع الحياتيّ. بهذا المعنى تظهر «أزمة المثقّفين» العرب على أنّها في صميمها أزمة مفكّرين قبل أن تكون أزمة فكر بالذات.
ثالثًا، لا تكون الراديكاليّة الفكريّة بإعطاء النصائح. إنّها ليست في وَضْعِ خطّة العمل الثوريّ أو الدخول في التفاصيل الّتي لا يمكن أن تقرّرها إلّا القيادة الثوريّة. المهمّ، كما قال سارتر، أن يتكلّم المثقّف الراديكاليّ "باسم جماعة من الناس منغمسة في الممارسة الفعليّة". المهمّ أن يخرج من حدود «الأنا»، وأن يتجاوز عالم الفكر الذاتيّ. بهذا المعنى يصبح "الكشف عن الوقائع" كما قال سارتر، و"الممارسة العمليّة شيئًا واحدًا". وكيف يحدث هذا الكشف Demystification؟ بواسطة إظهار الحقيقة أوّلًا وآخِرًا؛ فالحقيقة هي وحدها قادرة على تبديد الإبهام الّذي يرافق التبريرات الفكريّة كلّها. مهمّة المثقّف هي السعي وراء الحقيقة والإعلان عنها. بالحقيقة وحدها تُعْرَفُ إمكانات الواقع وتُكتَشَفُ منابع العمل العقلانيّ.
رابعًا، الذهنيّة الدوجماتيّة هي شرك للمثقّفين. كلّ مجتمع يعاني آلام مخاض التحوّل الجذريّ يحتاج إلى ثقافة جذريّة مستقلّة تستمدّ روحها من حاجاته وواقعه هو.
اللينينيّة، والكاسترويّة، والماويّة يجب أن تكون نماذج وحسب، ولا يجوز اعتمادها كمراجع أخيرة للعمل والممارسة والفكر. نحن نرى اليوم أنّ السبب الرئيسيّ للتجاذب والتضارب ضمن الراديكاليّة العربيّة إنّما هو الارتباط العنيف بمواقع تحدّدها هذه النماذج. نحن بحاجة إلى الكشف عن معالم جديدة تتّسم بطابع التجربة الفلسطينيّة – العربيّة وتلخّص أهدافها بشكل يجعلها قادرة على أن تستفيد من التجارب الأخرى وأن تقدّم لها وأن تخلق عالمها المستقلّ.
خامسًا، النظرة الطويلة المدى، أو «التفاؤل التاريخيّ» الّذي يتحدّث عنه محمود درويش، مصدره القدرة على رؤية الأحداث والأشخاص والقضايا في إطار النظرة الطويلة المدى. ضمن هذا الإطار وحده تجد الأشخاص والأحداث والقضايا أمكنتها ومعانيها الصحيحة. عندئذ لا يعود التشاؤم أو التفاؤل أمرًا محكومًا بما يحدث اليوم أو غدًا، أو بما تقوله نشرة أخبار المساء. المثقّف الراديكاليّ، لا المنغمس في الممارسة اليوميّة، هو المؤهّل لرؤية الأمور في أبعادها الصحيحة. واجبه ومهنته تسليط الضوء على التناقضات وتقديم التحليلات النقديّة الّتي تؤدّي إلى رؤية الأمور رؤية صحيحة.
يعمل المثقّف الراديكاليّ من خلال الانهماك الفكريّ التحليليّ المستمرّ، بالنقد، وبمهاجمة القضايا من نواحيها المختلفة، وبإظهار سلبيّات العلاقات وإيجابيّاتها. بالكشف عن الوجوه المتعدّدة للشيء الواحد، وبهذا كلّه يشارك المثقّف في تحديد المعنى ورسم الطريق ووضع الهدف.
أن يكون الشخص طالبًا جامعيًّا، أو أستاذًا، أو كاتبًا، لا يكفي لأن يكون مثقّفًا بالمعنى الراديكاليّ. كلّنا يعرف أنّ حصول الشخص على شهادة علميّة لا يجعله بذاته مثقّفًا، والأمّيون المتعلّمون هم أخطر الأمّيّين.
المثقّف الحقيقيّ لا يؤمن بالثورة؛ مهمّته أن يترجم الإيمان الثوريّ إلى محتواه العقليّ، أن يُعطي الإيمان معناه لكي يثبّت قاعدته. ليس من مهرب للمثقّف الراديكاليّ من هذا التناقض؛ تناقض الثورة بإيمانها وتناقض العقل بحقيقته. ولعلّ أكبر تناقضات المثقّف العربيّ ليس في أنّه لا يعيش الثورة كمقاتل، بل في أنّه لا يعيشها كمثقّف.
هشام شرابي
* «مجلّة مواقف».
ثمّة نتائج مهمّة تنبع من هذا القول، وأوّلها علاقة الفكر بالعمل. يقول دوبريه:" إذا لم تتمّ السيطرة الفكريّة على الآن، تبقى المسألة الأساسيّة: «ما العمل؟» بلا أساس ولا جواب. ومعنى ذلك أنّ للفكر الأولويّة في العلاقة الجدليّة بين الفكر والعمل، بين النظريّة والممارسة؛ فالرؤيا هي نقطة الانطلاق الّتي تبدأ منها الممارسة وإليها تعود. ولولا هذه الحركة، أي الانطلاق من الفكر والعودة إليه من خلال الممارسة، لما تمكّن العمل الثوريّ من تأمين تصاعده، من الانتقال إلى مستوى أعلى من النضوج. ثانيًا، يقول جرزي ويتر، أستاذ السوسيولوجيا في «معهد الفلسفة والسوسيولوجيا» البولونيّ، إنّ "كلّ تحوّل في محتوى الوعي الجماهيريّ، يشكّل تحوّلًا في الواقع الاجتماعيّ. لذا يُشكّل العمل الفكريّ ممارسة عمليّة". إذا كان هذا القول صحيحًا، فالكلمة الّتي ينطق بها المثقّف الثوريّ هي بمثابة فعل محسوس. غير أنّ صحّة هذا القول تعتمد على شرط أساسيّ؛ مقدرة المثقّف الثوريّ على تحويل «محتوى الوعي»، أي تحويل القوّة العقليّة إلى قوّة مادّيّة. من هذه الناحية تظهر الحقيقة الآتية: لا يكون الفكر عملًا إلّا حين يرتبط الفكر بواقعه الحياتيّ، وهو يبقى مجرّدًا، يبقى إنشاءً ووعظًا وخطابة، عندما يفقد علاقته بالواقع الحياتيّ. بهذا المعنى تظهر «أزمة المثقّفين» العرب على أنّها في صميمها أزمة مفكّرين قبل أن تكون أزمة فكر بالذات.
ثالثًا، لا تكون الراديكاليّة الفكريّة بإعطاء النصائح. إنّها ليست في وَضْعِ خطّة العمل الثوريّ أو الدخول في التفاصيل الّتي لا يمكن أن تقرّرها إلّا القيادة الثوريّة. المهمّ، كما قال سارتر، أن يتكلّم المثقّف الراديكاليّ "باسم جماعة من الناس منغمسة في الممارسة الفعليّة". المهمّ أن يخرج من حدود «الأنا»، وأن يتجاوز عالم الفكر الذاتيّ. بهذا المعنى يصبح "الكشف عن الوقائع" كما قال سارتر، و"الممارسة العمليّة شيئًا واحدًا". وكيف يحدث هذا الكشف Demystification؟ بواسطة إظهار الحقيقة أوّلًا وآخِرًا؛ فالحقيقة هي وحدها قادرة على تبديد الإبهام الّذي يرافق التبريرات الفكريّة كلّها. مهمّة المثقّف هي السعي وراء الحقيقة والإعلان عنها. بالحقيقة وحدها تُعْرَفُ إمكانات الواقع وتُكتَشَفُ منابع العمل العقلانيّ.
رابعًا، الذهنيّة الدوجماتيّة هي شرك للمثقّفين. كلّ مجتمع يعاني آلام مخاض التحوّل الجذريّ يحتاج إلى ثقافة جذريّة مستقلّة تستمدّ روحها من حاجاته وواقعه هو.
اللينينيّة، والكاسترويّة، والماويّة يجب أن تكون نماذج وحسب، ولا يجوز اعتمادها كمراجع أخيرة للعمل والممارسة والفكر. نحن نرى اليوم أنّ السبب الرئيسيّ للتجاذب والتضارب ضمن الراديكاليّة العربيّة إنّما هو الارتباط العنيف بمواقع تحدّدها هذه النماذج. نحن بحاجة إلى الكشف عن معالم جديدة تتّسم بطابع التجربة الفلسطينيّة – العربيّة وتلخّص أهدافها بشكل يجعلها قادرة على أن تستفيد من التجارب الأخرى وأن تقدّم لها وأن تخلق عالمها المستقلّ.
خامسًا، النظرة الطويلة المدى، أو «التفاؤل التاريخيّ» الّذي يتحدّث عنه محمود درويش، مصدره القدرة على رؤية الأحداث والأشخاص والقضايا في إطار النظرة الطويلة المدى. ضمن هذا الإطار وحده تجد الأشخاص والأحداث والقضايا أمكنتها ومعانيها الصحيحة. عندئذ لا يعود التشاؤم أو التفاؤل أمرًا محكومًا بما يحدث اليوم أو غدًا، أو بما تقوله نشرة أخبار المساء. المثقّف الراديكاليّ، لا المنغمس في الممارسة اليوميّة، هو المؤهّل لرؤية الأمور في أبعادها الصحيحة. واجبه ومهنته تسليط الضوء على التناقضات وتقديم التحليلات النقديّة الّتي تؤدّي إلى رؤية الأمور رؤية صحيحة.
يعمل المثقّف الراديكاليّ من خلال الانهماك الفكريّ التحليليّ المستمرّ، بالنقد، وبمهاجمة القضايا من نواحيها المختلفة، وبإظهار سلبيّات العلاقات وإيجابيّاتها. بالكشف عن الوجوه المتعدّدة للشيء الواحد، وبهذا كلّه يشارك المثقّف في تحديد المعنى ورسم الطريق ووضع الهدف.
أن يكون الشخص طالبًا جامعيًّا، أو أستاذًا، أو كاتبًا، لا يكفي لأن يكون مثقّفًا بالمعنى الراديكاليّ. كلّنا يعرف أنّ حصول الشخص على شهادة علميّة لا يجعله بذاته مثقّفًا، والأمّيون المتعلّمون هم أخطر الأمّيّين.
المثقّف الحقيقيّ لا يؤمن بالثورة؛ مهمّته أن يترجم الإيمان الثوريّ إلى محتواه العقليّ، أن يُعطي الإيمان معناه لكي يثبّت قاعدته. ليس من مهرب للمثقّف الراديكاليّ من هذا التناقض؛ تناقض الثورة بإيمانها وتناقض العقل بحقيقته. ولعلّ أكبر تناقضات المثقّف العربيّ ليس في أنّه لا يعيش الثورة كمقاتل، بل في أنّه لا يعيشها كمثقّف.
هشام شرابي
* «مجلّة مواقف».