يسافر مسعد كل يوم إلى محافظة من المحافظات القريبة من محافظته ، إقترب من الستين ومازالت المسئوليات كما هى بل ربما زادت، تزوجت ابنته الكبرى ، وانتهى ابنه من الجامعة، لم يجد عملا بشهادته الجامعية، بعد طول بحث وجد عملا فى محل لبيع الهواتف المحمولة ، مازال لديه ثلاث أبناء مابين الثانوى و الجامعة ، كل ما يحصل عليه شهريا لا يكفى متطلباتهم، في كل صباح يحمل عينات من إنتاج مصنع الأدوات المنزلية الذى يعمل به كمندوب مبيعات و محصل أيضا . يحمل نوتته التى يقيد فيها حسابات التجار ، شديد الحرص عليها ؛ وبرغم هذا الحرص إلا أنه فقدها أكثر من مرة ، أعادها له سائق من الذين عرفوه من ركوبه معهم لسنوات، و فى الثانية أعادها له تاجر من التجار الذين يتردد عليهم اسبوعيا، أما المرة الثالثة فلم تعد له، ارتكن إلى ذمة التجار فى السداد فضاع على المصنع مبالغ ليست بالقليلة، و لولا تعاطف صاحب المصنع معه و سيرته الحسنة لتم طرده من العمل ، او تحميله هذه المبالغ بخصمها من راتبه على أقساط
له الآن أكثر من عشر سنوات في هذه المهنة ، يقضى النهار يبرم المدينة على قدميه، حتى ينهكه التعب فيأوى إلى المسجد يقضى الصلاة جمعا و قصرا ثم يسند ظهره للحائط يمد قدميه المتعبتين يفتح حقيبته يخرج الشطائر التى أعدتها له زوجته صباحا يتناولها ثم يحبس بكوب الشاى من ترمسه الصغير، بعدها يواصل سعيه فى دروبها ، كثيرا ما تأخر فى تلك المدن لما بعد الثانية عشر ليلا ، الليلة تأخر أكثر فقد اقتربت الساعة من الواحدة و النصف ؛ ماطله التجار فى الدفع كثيرا ، دارت حوارات طويلة بينهم عن الحالة الاقتصادية الراكدة وقلة السيولة فى أيديهم، واكتفاء الزبائن بشراء الطعام و الاحتياجات الأساسية عن أى سلعة أخرى ، من شهور لا يعود إلى مصنعه إلا بربع المبالغ التى يحصلها من التجار، بعدما كان يحصل منهم أكثر من نصف ثمن المبيعات ، حتى الأقساط طال أمدها ، أكثر ما يقهره هو أن المحاسبين فى المحلات لا يملكون حرية الدفع له ، فيظلوا يؤجلونه حتى يأتى صاحب المحل؛ و أصحاب المحلات " خواجات " لا يستيقظون إلا الظهر و لا يدخلون محلاتهم إلا فى المساء، و المساء ممتد ربما يتأخرون حتى العاشرة أو الحادية عشر، و عليه أن ينتظر حتى لا يعود بخفى حنين، تأخر علوان بك طويلا ، الساعة الآن تجاوزت الثانية عشر ، انتهى الماتش و الاستديو التحليلى و شاهد نشرة الأخبار عدة مرات و تحليلات الأخبار ، وتحدث مع المحاسب حتى شعر أنه أثقل عليه ، لا يستطيع أن يعود دون أن يلتقى علوان بك، فهو تاجر كبير و المبلغ الذى يحصله منه يجبر كثيرا المبالغ التى يحصلها من بقية تجار المدينة ، اتصل المحاسب به كثيرا لم يرد ، أخبره أنه سيتأخر بعض الوقت ، سيأتى حتما هكذا طمأنه المحاسب، انقلب الجو فجأة و زمجرت الرياح وتبعتها سريعا الأمطار، فى هذه اللحظة دخل علوان بك ملابسه مبتلة يغطى رأسه ببرنس سترته يفرك يديه ليحرك فيهما الدماء ، وفى لحظات أنهى معه الحساب و أمر المحاسب أن ينقده المبلغ ، غادر مسعد المحل غير مصدق أن يومه انتهى أشار لتاكسى يقله لموقف السيارات، لم تكف السماء عن دموعها و لم تكف مساحة زجاج السيارة عن تجفيف الدموع ، وصل الموقف بحث عن سيارة لمدينته لم يجد ، جلس تحت مظلة ، أسند ظهره لعمود بجانبها ، ممددا ساقيه المتعبتين ، غفا و صحا و لم تأت السيارة بعد ، ليس معه شال أو كوفية يلفهما حول رأسه ، رفع ياقته وأحكمها حول رقبته ، تجمع بعض السائقين عند بائع الشاى يتدفأون بشربه، ذهب و شرب معهم ، عاد إلى مكانه من المظلة ، خطرت في باله حكاية جدته عن يوم مولده، كثيرا ما كانت تحكيها له ، حتى حفظها بتفاصيلها الدقيقة، ففي ليلة باردة عاصفة مثل تلك الليلة ، و فى غرفة على سطح منزلهم كانت ولادته ، تلقته جدته و غسلته من الدماء و ألبسته جلابية بيضاء مطرزة الصدر بخيوط زرقاء شكلت عصفورين فى منقارهما قشة ، وضعته فى حجرها ، أخبرته بأسى كيف كان قدومه نجاة لأمه من الطلاق، فقد هددها أباه أنها لو أنجبت هذه المرة أنثى رابعة فستحملها و تلحق بأهلها، لذا كانت الفرحة بقدومه عارمة ، ظل فى حجر جدته حتى طلوع الفجر كما قالت له : خشيت عليك من قرصة نملة أو ناموسة إن أنا تركتك تنام على الفراش الذى وضعته لى على الارض، ظللت فى حجرى يا مسعد حتى أذن الفجر وضعتك بجوار أمك و انطلقت بالفرش وملابس امك التى وضعت فيها إلى " النيل " حتى أغسل آثار الدماء ، وطيلة الطريق أهتف لنفسى وانا غير مصدقة ( سنية جابت ولد .... سنية جابت ولد ) ظللت أرددها دون وعى منى حتى انتهيت و عدت بالفرش نظيفة، و أنا أعلق قطع الملابس على حبال الغسيل ، اتطلع للسماء ممتنة لها كرمها علينا أن وهبتك لنا و ألهج بالحمد و الشكر ، نتبادل أنا و أمك على حملك ؛ فلا يجب أن يبكى مسعد أبدا، خبئناك وعلقنا لك التمائم كى لا تصيبك عين إنس أو جان، أفاق على نداء السائق له : عم مسعد سيارة بلدكم وصلت قم لتركب
مضى متثاقلا يجر ساقيه و هو يهمس لنفسه رحمك الله أيتها الجدة الطيبة ، ماذا لو عدت الآن و رأيت مسعد حفيدك هذه الليلة .
وداد معروف
www.facebook.com
له الآن أكثر من عشر سنوات في هذه المهنة ، يقضى النهار يبرم المدينة على قدميه، حتى ينهكه التعب فيأوى إلى المسجد يقضى الصلاة جمعا و قصرا ثم يسند ظهره للحائط يمد قدميه المتعبتين يفتح حقيبته يخرج الشطائر التى أعدتها له زوجته صباحا يتناولها ثم يحبس بكوب الشاى من ترمسه الصغير، بعدها يواصل سعيه فى دروبها ، كثيرا ما تأخر فى تلك المدن لما بعد الثانية عشر ليلا ، الليلة تأخر أكثر فقد اقتربت الساعة من الواحدة و النصف ؛ ماطله التجار فى الدفع كثيرا ، دارت حوارات طويلة بينهم عن الحالة الاقتصادية الراكدة وقلة السيولة فى أيديهم، واكتفاء الزبائن بشراء الطعام و الاحتياجات الأساسية عن أى سلعة أخرى ، من شهور لا يعود إلى مصنعه إلا بربع المبالغ التى يحصلها من التجار، بعدما كان يحصل منهم أكثر من نصف ثمن المبيعات ، حتى الأقساط طال أمدها ، أكثر ما يقهره هو أن المحاسبين فى المحلات لا يملكون حرية الدفع له ، فيظلوا يؤجلونه حتى يأتى صاحب المحل؛ و أصحاب المحلات " خواجات " لا يستيقظون إلا الظهر و لا يدخلون محلاتهم إلا فى المساء، و المساء ممتد ربما يتأخرون حتى العاشرة أو الحادية عشر، و عليه أن ينتظر حتى لا يعود بخفى حنين، تأخر علوان بك طويلا ، الساعة الآن تجاوزت الثانية عشر ، انتهى الماتش و الاستديو التحليلى و شاهد نشرة الأخبار عدة مرات و تحليلات الأخبار ، وتحدث مع المحاسب حتى شعر أنه أثقل عليه ، لا يستطيع أن يعود دون أن يلتقى علوان بك، فهو تاجر كبير و المبلغ الذى يحصله منه يجبر كثيرا المبالغ التى يحصلها من بقية تجار المدينة ، اتصل المحاسب به كثيرا لم يرد ، أخبره أنه سيتأخر بعض الوقت ، سيأتى حتما هكذا طمأنه المحاسب، انقلب الجو فجأة و زمجرت الرياح وتبعتها سريعا الأمطار، فى هذه اللحظة دخل علوان بك ملابسه مبتلة يغطى رأسه ببرنس سترته يفرك يديه ليحرك فيهما الدماء ، وفى لحظات أنهى معه الحساب و أمر المحاسب أن ينقده المبلغ ، غادر مسعد المحل غير مصدق أن يومه انتهى أشار لتاكسى يقله لموقف السيارات، لم تكف السماء عن دموعها و لم تكف مساحة زجاج السيارة عن تجفيف الدموع ، وصل الموقف بحث عن سيارة لمدينته لم يجد ، جلس تحت مظلة ، أسند ظهره لعمود بجانبها ، ممددا ساقيه المتعبتين ، غفا و صحا و لم تأت السيارة بعد ، ليس معه شال أو كوفية يلفهما حول رأسه ، رفع ياقته وأحكمها حول رقبته ، تجمع بعض السائقين عند بائع الشاى يتدفأون بشربه، ذهب و شرب معهم ، عاد إلى مكانه من المظلة ، خطرت في باله حكاية جدته عن يوم مولده، كثيرا ما كانت تحكيها له ، حتى حفظها بتفاصيلها الدقيقة، ففي ليلة باردة عاصفة مثل تلك الليلة ، و فى غرفة على سطح منزلهم كانت ولادته ، تلقته جدته و غسلته من الدماء و ألبسته جلابية بيضاء مطرزة الصدر بخيوط زرقاء شكلت عصفورين فى منقارهما قشة ، وضعته فى حجرها ، أخبرته بأسى كيف كان قدومه نجاة لأمه من الطلاق، فقد هددها أباه أنها لو أنجبت هذه المرة أنثى رابعة فستحملها و تلحق بأهلها، لذا كانت الفرحة بقدومه عارمة ، ظل فى حجر جدته حتى طلوع الفجر كما قالت له : خشيت عليك من قرصة نملة أو ناموسة إن أنا تركتك تنام على الفراش الذى وضعته لى على الارض، ظللت فى حجرى يا مسعد حتى أذن الفجر وضعتك بجوار أمك و انطلقت بالفرش وملابس امك التى وضعت فيها إلى " النيل " حتى أغسل آثار الدماء ، وطيلة الطريق أهتف لنفسى وانا غير مصدقة ( سنية جابت ولد .... سنية جابت ولد ) ظللت أرددها دون وعى منى حتى انتهيت و عدت بالفرش نظيفة، و أنا أعلق قطع الملابس على حبال الغسيل ، اتطلع للسماء ممتنة لها كرمها علينا أن وهبتك لنا و ألهج بالحمد و الشكر ، نتبادل أنا و أمك على حملك ؛ فلا يجب أن يبكى مسعد أبدا، خبئناك وعلقنا لك التمائم كى لا تصيبك عين إنس أو جان، أفاق على نداء السائق له : عم مسعد سيارة بلدكم وصلت قم لتركب
مضى متثاقلا يجر ساقيه و هو يهمس لنفسه رحمك الله أيتها الجدة الطيبة ، ماذا لو عدت الآن و رأيت مسعد حفيدك هذه الليلة .
وداد معروف
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.