مع كلّ يوم، في هذا العصر المتسارع، تكبر الكراهية في العالم، وتزداد شرائح المتعصّبين والمتطرّفين وتصعد الشعبوية في اتجاه سلطة القرار في دولٍ كثيرة، حتى في التي مرّت بتجارب مريرة في تاريخها القريب، ودفعت فواتيرها حتى وصلت إلى مستوى الاستقرار، ورسّخت مبادئ الديمقراطية والحقوق الإنسانية وصون الكرامات والمساواة والعدالة، بينما تجاهر المنظمات الحقوقية والهيئات الدولية وخطابات القادة السياسيين في العالم بشعاراتها وتأكيدها على هذه القيم الإيجابية، في وقتٍ تحكم القوى الكبرى قبضتها على الكوكب مجتمعًا، وتدير صراعاتها من أجل الفوز دائمًا بالحصة الكبرى من الموارد ومن الأسواق ومن الهيمنة.
أزمة اللاجئين غير الموصوفة اليوم على الحدود البيلاروسية البولندية مثالٌ صارخٌ على فجور العالم. ما الذي يدفع البشر إلى الهجرة من بلادهم بهذه الطريقة الانتحارية، حيث يتعرّضون إلى كلّ أشكال الموت، ودائماً ما يموتون، إن كان غرقاً أو بتأثير البرد والجوع والمرض والمخاطر التي لا تُحصى؟ إنّه القمع والفقر والجوع وانعدام الفرص والتهديد الوجودي من أنظمة فاشية أو جماعاتٍ أصوليةٍ متطرّفة، وتكاد الأسباب تتلخص، في الدرجة الأولى، عند الغالبية بالفوز بفرصة عيشٍ آمنة ليس أكثر.
تدير الدول الكبرى صراعاتها في مناطق كثيرة، ومنها منطقتنا الغارقة في حمأة تحرق الحياة ولا تبقي للمستقبل أي بارقة أملٍ في عودة الحياة إلى مجراها الطبيعي، وعودة الأجيال إلى بنائها والتفكير في المستقبل. ما يحصل على الحدود البيلاروسية البولندية أمرٌ يفوق التصوّر، إذ تتحدّى القوى بعضها بعضاً بطريقةٍ تسقط معها كلّ القيم والشعارات والمواثيق. وفي الوقت نفسه، هناك شعوب تعاني من أزماتها أيضاً، شعوب الدول المصدّرة لهذه الموجات البشرية، وشعوب الدول المستهدفة من هذه الموجات، إذ بدأت تعاني، هي الأخرى، من أزماتٍ وجودية تلوح في الأفق، خصوصاً منذ بدء وباء كورونا وما نجم وينجم عنه من تعطيل للحياة وتردّي الاقتصادات واستعار الحراك السياسي بين صعودٍ ليمين شعبوي وحكوماتٍ راهنةٍ بدأت علامات الارتباك تظهر عليها أمام المستجدات العالمية، ومنها أوروبا.
لكنّ الشعوب الأوروبية لا تعرف غالبيتها شيئاً عن سياسات حكوماتها الخارجية .. ما يهمها، في الدرجة الأولى، هو أداء الحكومات، وما تقدم من حلول لمشكلاتها التي بدأت تتمكّن وتظهر معها مشكلاتٌ أخرى، لا تعرف هذه الشعوب في غالبيتها أكثر من أن هناك منظمات إرهابية تنشط في تلك البلدان البعيدة، وتهدّد أوطانها وشعوبها، وتمارس العنف بأعتى أشكاله، وأن القضية الرئيسية لأنظمة تلك البلدان هي محاربة الإرهاب ومكافحته، بينما الحقائق غائبة أو مغيّبة، الشريحة التي ترى أن هناك أنظمة تمارس القمع بحقّ مواطنيها، وتدير الفساد بكفاءة عالية، وتحرمهم من حقوقهم، وأن الدول الغربية وحلفاءها أو تابعيها ضالعون في تلك الحروب، وداعمون لأطرافها، ويبيعونها الأسلحة التي يُقتل المدنيون بها، قليلة، ولا تمتلك مقومات التأثير. يقول شاب سوري مقيم في النمسا منذ 2009، في مقابلة مع "دوتشه فيليه" وقد جاء إلى الحدود البولندية ليبحث عن والديه: "نهرب من المتطرّفين لأنهم يريدون قتلنا. وحين نصل إلى أوروبا نسمع أنّنا مسلمون. أنت تهرب من بلدك للبحث عن مكان آخر، حيث لا تلتقي المتطرفين، ثم يتم إبعادك لأنّك مسلم. هل تعلم كم هذا الأمر صعب؟"
في هذا القول تلخيص لجانب كبير من مشكلة خلافية، يشترك في تصعيدها طرفان أصوليان، يمين غربي شعبوي، وإسلام سياسي بطيفه الممتد بين معتدل ومتطرّف، ينشط في الدول العربية والإسلامية، وتتكئ عليه الأنظمة السياسية في إرساء سيطرتها واستئثارها بالحكم، حتى يمكن التساؤل سؤال اليائس: هل قدر هذه الشعوب محصورٌ بين خيارين: إمّا الإسلام السياسي أو العسكرة والأنظمة المستبدة؟ التطرّف اليميني في أوروبا هو الوجه الآخر للتطرّف الإسلامي، فكلاهما يؤمن بتفوقه على الآخر، وكلاهما يضع نصب عينيه محاربة الآخر. لذلك نرى، في ظل التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم اليوم، وسعي النظام العالمي لإعادة ترتيب أولوياته وأساليب سيطرته وإدارة العالم، ازدياد التطرّف وتمدّده في المجتمعات، في مقابل الشرائح التي تناضل من أجل حماية قيمها التي ترسّخت في مجتمعاتها. وما الأنشطة التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني في هذا المجال إلّا دليل على هذا السعي، تقول الناشطة ماجدولينا لوزاك من منظمة الإغاثة البولندية "غروبا غرانيكا" (مجموعة الحدود): "لا أحد هنا يسألنا عن المساعدة المالية. الجميع يطلب شيئاً واحداً فقط: فرصة للبقاء على قيد الحياة والعيش في بلد آمن... فهل هناك حقيقة جارحة ومهينة للضمير العالمي أكثر من هذا؟
واقع الشعوب في وادٍ، والمجتمع الدولي في واد آخر، طالما العالم محكومٌ بالقوانين التي يضعها ويديرها الأقوياء، فإن القضايا الكبرى لن تُحلّ، إنما المؤسف والمحزن أن تكون الشعوب في بعض المناطق هي التي تدفع الثمن، وهذه قضية اللجوء دليلٌ دامغٌ وفجّ على السياسة العالمية، ما زالوا ورقةً رخيصةً تباع وتشرى في البازارات العالمية، قبلها استخدمتها تركيا في وجه الاتحاد الأوروبي، واليوم بيلاروسيا ومن خلفها روسيا تضرمها حربًا، ليس من المستبعد أن تكون فعلية، إذ اتخذت روسيا خطوة نادرة بإرسال قاذفتين بقدرات نووية للقيام بدورية في المجال الجوي لحليفتها بيلاروسيا. ويتّهم الأوروبيّون الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، بتأجيج الأزمة عبر إعطاء تأشيرات لمهاجرين عالقين عند حدود ليتوانيا ولاتفيا وبولندا، ودفعهم إلى محاولة دخول الاتحاد الأوروبي، ردًا على العقوبات التي فرضتها بروكسل على بلاده في أعقاب حملة قمع وحشية استهدفت المعارضة في عام 2020. وقال مسؤول في حلف شمال الأطلسي، بعد اجتماع مغلق يوم الأربعاء الفائت: "الأطلسي على استعداد لتقديم مزيد من المساعدات لحلفائنا، والحفاظ على السلامة والأمن في المنطقة". بينما اللاجئون يسامون أقسى أشكال الإذلال والاعتداء على إنسانيتهم وكرامتهم وحياتهم.
أما المنظمات الدولية، خصوصاً التابعة للأمم المتحدة، فهي شبه عاطلة من التأثير، تحيي المناسبات وتوزّع أيام السنة على عناوين برّاقة وخلابة، من دون أن تستطيع تغيير أي أمر في الواقع، إذ ما معنى، مثلاً، أن يكون هناك يوم عالمي للتسامح في السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني؟ بل بالأصل ما معنى التسامح؟ أليس قيمةً يطلبها المرتكب من المعتدى عليه؟ القوي من الضعيف؟ تقول الأمم المتحدة إنها تلتزم بتدعيم التسامح من خلال تعزيز التفاهم المتبادل بين الثقافات والشعوب. وتكمن ضرورة هذا الالتزام في جوهر ميثاق الأمم المتحدة وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كذلك. وهي أكثر أهمية في هذه الحقبة التي تشهد زيادة التطرّف العنيف واتساع الصراعات التي تتجاهل الحياة البشرية. بينما العالم القوي، والمنظمات الخاضعة لإرادته، يتجاهلون الحقيقة التي يقبع في قلبها أساس المشكلة، إنّها الاستكبار العالمي من القوى الكبرى، والتمييز والتهميش والظلم والعنف والتمادي على مقدّرات الشعوب، وتكريس أسباب التوتر الدائم لديها، لتكون جاهزةً باستمرار لإشعال الحروب الأهلية أو الفوضى أو الصراعات المسلحة، تدعم أنظمةً تودي بدولها إلى الانحدار، ثم تتدخل في إذكاء الصراعات، بحجّة إرساء الديمقراطية والدفاع عن الحريات، والنتيجة أمام أعيننا في السنوات الخمسين الماضية، من أفغانستان إلى رواندا إلى العراق إلى اليمن وسورية، وغيرها، فلا يكون أمام هذه الشعوب من خيارٍ سوى البحث عن أوطانٍ يحظون فيها بفرصة عيش آمن، فيُحشرون في مربعات الموت وبين السياجات الحدودية.
على الدول أن تقوم بمسؤولياتها بالطريقة الأجدى للبشرية جمعاء، عليها الالتزام بدعم الاستقرار في العالم بتأمين الظروف الإنسانية لشعوب الدول الفقيرة، ورفع يدها الداعمة لأنظمة ضد شعوبها. ومن المجدي بالنسبة لنا العمل على تغيير الصورة النمطية التي يقدّمها الإسلام السياسي، بكل أطيافه، عن الغرب أمام جمهوره، بالموازاة مع العمل على تصحيح الصورة التي يبدو عليها المسلمون في نظر الغرب، والتي كرّسها المدّ الأصولي المتنامي الذي يحظى بدعمٍ من جهاتٍ عديدة، باتت شعوبنا بأمس الحاجة إلى مشروع عربي إسلامي يبدّد الغربة التي يعيشها العرب والمسلمون عن الحداثة السياسية والثقافية والعلمية، علّ هذا يساعد في تفهم الشعوب ما يجري في منطقتنا، وأنّ الأنظمة القامعة شعوبها تدفع جزءاً منها إلى الارتماء في أحضان تلك الجماعات، عندما ترى أنّ العالم يتخلّى عنها. بغير إيضاح الحقائق ورفع الغطاء عنها أمام الشعوب تحديداً، لا يمكن أن يكون هناك تسامح أو تعايش أو استقرار في العالم.
١٧ نوفمبر٢٠٢١
سوسن جميل حسن
أزمة اللاجئين غير الموصوفة اليوم على الحدود البيلاروسية البولندية مثالٌ صارخٌ على فجور العالم. ما الذي يدفع البشر إلى الهجرة من بلادهم بهذه الطريقة الانتحارية، حيث يتعرّضون إلى كلّ أشكال الموت، ودائماً ما يموتون، إن كان غرقاً أو بتأثير البرد والجوع والمرض والمخاطر التي لا تُحصى؟ إنّه القمع والفقر والجوع وانعدام الفرص والتهديد الوجودي من أنظمة فاشية أو جماعاتٍ أصوليةٍ متطرّفة، وتكاد الأسباب تتلخص، في الدرجة الأولى، عند الغالبية بالفوز بفرصة عيشٍ آمنة ليس أكثر.
تدير الدول الكبرى صراعاتها في مناطق كثيرة، ومنها منطقتنا الغارقة في حمأة تحرق الحياة ولا تبقي للمستقبل أي بارقة أملٍ في عودة الحياة إلى مجراها الطبيعي، وعودة الأجيال إلى بنائها والتفكير في المستقبل. ما يحصل على الحدود البيلاروسية البولندية أمرٌ يفوق التصوّر، إذ تتحدّى القوى بعضها بعضاً بطريقةٍ تسقط معها كلّ القيم والشعارات والمواثيق. وفي الوقت نفسه، هناك شعوب تعاني من أزماتها أيضاً، شعوب الدول المصدّرة لهذه الموجات البشرية، وشعوب الدول المستهدفة من هذه الموجات، إذ بدأت تعاني، هي الأخرى، من أزماتٍ وجودية تلوح في الأفق، خصوصاً منذ بدء وباء كورونا وما نجم وينجم عنه من تعطيل للحياة وتردّي الاقتصادات واستعار الحراك السياسي بين صعودٍ ليمين شعبوي وحكوماتٍ راهنةٍ بدأت علامات الارتباك تظهر عليها أمام المستجدات العالمية، ومنها أوروبا.
لكنّ الشعوب الأوروبية لا تعرف غالبيتها شيئاً عن سياسات حكوماتها الخارجية .. ما يهمها، في الدرجة الأولى، هو أداء الحكومات، وما تقدم من حلول لمشكلاتها التي بدأت تتمكّن وتظهر معها مشكلاتٌ أخرى، لا تعرف هذه الشعوب في غالبيتها أكثر من أن هناك منظمات إرهابية تنشط في تلك البلدان البعيدة، وتهدّد أوطانها وشعوبها، وتمارس العنف بأعتى أشكاله، وأن القضية الرئيسية لأنظمة تلك البلدان هي محاربة الإرهاب ومكافحته، بينما الحقائق غائبة أو مغيّبة، الشريحة التي ترى أن هناك أنظمة تمارس القمع بحقّ مواطنيها، وتدير الفساد بكفاءة عالية، وتحرمهم من حقوقهم، وأن الدول الغربية وحلفاءها أو تابعيها ضالعون في تلك الحروب، وداعمون لأطرافها، ويبيعونها الأسلحة التي يُقتل المدنيون بها، قليلة، ولا تمتلك مقومات التأثير. يقول شاب سوري مقيم في النمسا منذ 2009، في مقابلة مع "دوتشه فيليه" وقد جاء إلى الحدود البولندية ليبحث عن والديه: "نهرب من المتطرّفين لأنهم يريدون قتلنا. وحين نصل إلى أوروبا نسمع أنّنا مسلمون. أنت تهرب من بلدك للبحث عن مكان آخر، حيث لا تلتقي المتطرفين، ثم يتم إبعادك لأنّك مسلم. هل تعلم كم هذا الأمر صعب؟"
في هذا القول تلخيص لجانب كبير من مشكلة خلافية، يشترك في تصعيدها طرفان أصوليان، يمين غربي شعبوي، وإسلام سياسي بطيفه الممتد بين معتدل ومتطرّف، ينشط في الدول العربية والإسلامية، وتتكئ عليه الأنظمة السياسية في إرساء سيطرتها واستئثارها بالحكم، حتى يمكن التساؤل سؤال اليائس: هل قدر هذه الشعوب محصورٌ بين خيارين: إمّا الإسلام السياسي أو العسكرة والأنظمة المستبدة؟ التطرّف اليميني في أوروبا هو الوجه الآخر للتطرّف الإسلامي، فكلاهما يؤمن بتفوقه على الآخر، وكلاهما يضع نصب عينيه محاربة الآخر. لذلك نرى، في ظل التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم اليوم، وسعي النظام العالمي لإعادة ترتيب أولوياته وأساليب سيطرته وإدارة العالم، ازدياد التطرّف وتمدّده في المجتمعات، في مقابل الشرائح التي تناضل من أجل حماية قيمها التي ترسّخت في مجتمعاتها. وما الأنشطة التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني في هذا المجال إلّا دليل على هذا السعي، تقول الناشطة ماجدولينا لوزاك من منظمة الإغاثة البولندية "غروبا غرانيكا" (مجموعة الحدود): "لا أحد هنا يسألنا عن المساعدة المالية. الجميع يطلب شيئاً واحداً فقط: فرصة للبقاء على قيد الحياة والعيش في بلد آمن... فهل هناك حقيقة جارحة ومهينة للضمير العالمي أكثر من هذا؟
واقع الشعوب في وادٍ، والمجتمع الدولي في واد آخر، طالما العالم محكومٌ بالقوانين التي يضعها ويديرها الأقوياء، فإن القضايا الكبرى لن تُحلّ، إنما المؤسف والمحزن أن تكون الشعوب في بعض المناطق هي التي تدفع الثمن، وهذه قضية اللجوء دليلٌ دامغٌ وفجّ على السياسة العالمية، ما زالوا ورقةً رخيصةً تباع وتشرى في البازارات العالمية، قبلها استخدمتها تركيا في وجه الاتحاد الأوروبي، واليوم بيلاروسيا ومن خلفها روسيا تضرمها حربًا، ليس من المستبعد أن تكون فعلية، إذ اتخذت روسيا خطوة نادرة بإرسال قاذفتين بقدرات نووية للقيام بدورية في المجال الجوي لحليفتها بيلاروسيا. ويتّهم الأوروبيّون الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، بتأجيج الأزمة عبر إعطاء تأشيرات لمهاجرين عالقين عند حدود ليتوانيا ولاتفيا وبولندا، ودفعهم إلى محاولة دخول الاتحاد الأوروبي، ردًا على العقوبات التي فرضتها بروكسل على بلاده في أعقاب حملة قمع وحشية استهدفت المعارضة في عام 2020. وقال مسؤول في حلف شمال الأطلسي، بعد اجتماع مغلق يوم الأربعاء الفائت: "الأطلسي على استعداد لتقديم مزيد من المساعدات لحلفائنا، والحفاظ على السلامة والأمن في المنطقة". بينما اللاجئون يسامون أقسى أشكال الإذلال والاعتداء على إنسانيتهم وكرامتهم وحياتهم.
أما المنظمات الدولية، خصوصاً التابعة للأمم المتحدة، فهي شبه عاطلة من التأثير، تحيي المناسبات وتوزّع أيام السنة على عناوين برّاقة وخلابة، من دون أن تستطيع تغيير أي أمر في الواقع، إذ ما معنى، مثلاً، أن يكون هناك يوم عالمي للتسامح في السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني؟ بل بالأصل ما معنى التسامح؟ أليس قيمةً يطلبها المرتكب من المعتدى عليه؟ القوي من الضعيف؟ تقول الأمم المتحدة إنها تلتزم بتدعيم التسامح من خلال تعزيز التفاهم المتبادل بين الثقافات والشعوب. وتكمن ضرورة هذا الالتزام في جوهر ميثاق الأمم المتحدة وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كذلك. وهي أكثر أهمية في هذه الحقبة التي تشهد زيادة التطرّف العنيف واتساع الصراعات التي تتجاهل الحياة البشرية. بينما العالم القوي، والمنظمات الخاضعة لإرادته، يتجاهلون الحقيقة التي يقبع في قلبها أساس المشكلة، إنّها الاستكبار العالمي من القوى الكبرى، والتمييز والتهميش والظلم والعنف والتمادي على مقدّرات الشعوب، وتكريس أسباب التوتر الدائم لديها، لتكون جاهزةً باستمرار لإشعال الحروب الأهلية أو الفوضى أو الصراعات المسلحة، تدعم أنظمةً تودي بدولها إلى الانحدار، ثم تتدخل في إذكاء الصراعات، بحجّة إرساء الديمقراطية والدفاع عن الحريات، والنتيجة أمام أعيننا في السنوات الخمسين الماضية، من أفغانستان إلى رواندا إلى العراق إلى اليمن وسورية، وغيرها، فلا يكون أمام هذه الشعوب من خيارٍ سوى البحث عن أوطانٍ يحظون فيها بفرصة عيش آمن، فيُحشرون في مربعات الموت وبين السياجات الحدودية.
على الدول أن تقوم بمسؤولياتها بالطريقة الأجدى للبشرية جمعاء، عليها الالتزام بدعم الاستقرار في العالم بتأمين الظروف الإنسانية لشعوب الدول الفقيرة، ورفع يدها الداعمة لأنظمة ضد شعوبها. ومن المجدي بالنسبة لنا العمل على تغيير الصورة النمطية التي يقدّمها الإسلام السياسي، بكل أطيافه، عن الغرب أمام جمهوره، بالموازاة مع العمل على تصحيح الصورة التي يبدو عليها المسلمون في نظر الغرب، والتي كرّسها المدّ الأصولي المتنامي الذي يحظى بدعمٍ من جهاتٍ عديدة، باتت شعوبنا بأمس الحاجة إلى مشروع عربي إسلامي يبدّد الغربة التي يعيشها العرب والمسلمون عن الحداثة السياسية والثقافية والعلمية، علّ هذا يساعد في تفهم الشعوب ما يجري في منطقتنا، وأنّ الأنظمة القامعة شعوبها تدفع جزءاً منها إلى الارتماء في أحضان تلك الجماعات، عندما ترى أنّ العالم يتخلّى عنها. بغير إيضاح الحقائق ورفع الغطاء عنها أمام الشعوب تحديداً، لا يمكن أن يكون هناك تسامح أو تعايش أو استقرار في العالم.
١٧ نوفمبر٢٠٢١
سوسن جميل حسن
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com