أول ما وقع نظري على قدميها، قدمان صغيرتان منحوتتان بدقة متناهية يزينهما طلاء أظافر أحمر خبا بريقه، كانتا مشدودتين قليلاً ومبسوطتين باتجاه الأصابع مثلما لو أنها راقصة باليه وقفت عند تلك الحركة الرشيقة تلامس الأرض برؤوس أصابعها وكأنها على أهبّة الطيران، الوضعية التي تستبطن نية وعزماً، حركة توقف بها الزمن واعتقل لحظتها مكفِّناً إيّاها بجيش من الأسئلة الصعبة.
يا لذاك الجسد الممدّد في سلام أخرس، بطن غائرة ونهدان ينفران كعصفورين محنّطين، وعنق مشدود يدفع بالرأس إلى الأعلى كما في لحظة استغاثة ألم أو تصعّد لذّة في انتشاء أبدي. لا، لم يكن للأعلى، بل انبساط شديد في الرقبة تجعل الرأس ينعطف قليلاً إلى الخلف والذقن ناتئة كرغبة متوثّبة.
العينان في نصف إغماضة كأنّهما تنامان نوم الغزلان، والفم يفترّ عن شبه ابتسامة أو تكشيرة، لم أستطع ان أتكهّن، في لحظة النشوة تندغم المشاعر وتنعدم الحدود بين ألم اللذة ولذة الألم، هذا ما لاحظته كثيراً على مدى سنوات ممارسة مهنتي، حيث لامست الألم البشري لمس اليد والعين والقلب.
جمال مغلّف برائحة الفورمول، يا للغدر والانتهاك، رائحة تغتصب الجمال، أم يدٌ خفيّة تحنّط رائحة الجسد؟ ترى هل حنّطت رائحة الرغبة؟ أين ذهب ذلك العرق الذي نضح من مسام هذا الجلد قبل أن يقفلها الموت والتحنيط؟
كانت صبية في أوائل عشرينيّاتها، يسترخي شعرها الفاحم كمزقة من ليل أسود حول كتفيها، ممدّدة كملكة على المحفّة وسط قاعة كبيرة، يتوّجها الموت، وكنّا، مجموعتنا من الطلّاب لا يتجاوز عددها العشرة، نتحلّق حولها. كان الدرس الأوّل في التشريح على جسد حقيقي مطروح على طاولة، لكن هل أستطيع القول: جسد من لحم ودم؟ يا لخفّة القول. لم يكن هناك دم، ولا لحم طري، كان جسداً محنّطاً بالفورمول، وكان لقائي الأول مع الموت، مع جثّة.
وزّع علينا الأستاذ الوليمة، الكتلة الملقاة أمامنا على طاولة التشريح، بعد أن رسم بقلمه حدوداً على الجسد، وزّعه إلى مناطق كرسم أوّلي لجغرافيا تسمّى وطناً سيصير أوطاناً، كما سايكس وبيكو وهما يحتسيان الخمر أمام طاولة العمل. كان الأستاذ يشرب شاياً أسود ثقيلاً، كلّما فرغت كأسه يملأها من الإبريق الذي يتخمر فيه الشاي، ويضع في كأسه المزيد من السكّر. كيف كان يبتلع الشاي بتلك الحيادية أمام الموت ورائحة الفورمول؟ ما زال السؤال يحيّرني.
كانت حصّتي من جسد الفتاة الجزء العلويّ من البطن، البطن الغائرة كضرورة جماليّة، هل كانت تعي ذلك؟ كيف كانت تنظر إلى بطنها أمام المرآة، وإلى جسدها وهي تدور يميناً ويساراً وتعطي ظهرها للمرآة بينما تلتفت إلى الخلف بجذعها المشدود لترى إلى اكتمال فتنتها وتتهجّى الغواية فيه؟ في ردفيها المدوّرين ومقعدها المكوّر النافر المعقوص المتأهب كقفزة في الهواء؟
انكبّ رفاقي ورفيقاتي على الجثة المستسلمة لمشارطهم، وأنا الواقفة أمام وسطها أبتعد عنهم شيئاً فشيئاً، صرت في مكان آخر، في غابة الأسئلة والأسرار، كنتُ، على ما أخمّن، جامدة أمام جماد يتفجّر بالأسئلة، عندما أجفلني صوت الأستاذ وهو يصرخ بي بصوت مرتفع: وين صرتِ؟ لماذا لا تردّين؟ هيّا باشري.
لم أستطع المباشرة، شعرت بيديّ تتثاقلان حتى صار وزنهما أكبر من احتمالي، يداي ممدودتان إلى الأسفل، إلى الأرض، تبحثان عمّا تتعالقان به فيمنحهما الحجّة التي تعفيهما من الإيغال في الموت. ارتجفت شفتاي، واختلجت وجنتاي اختلاجات خفيفة، لكن الخرس استبدّ بصدري قبل لساني، فعاد الصوت يصرخ بي، لم أفعل.
هجم الأستاذ بمشرطه على البطن الغائرة وأحدث جرحاً طوليّاً من السرّة باتجاه الصدر وقاطع نهايتيه بجرحين آخرين في الأسفل والأعلى ينتهيان في حدود الخاصرتين، لم ينفر الدم، ولم تتبدّل انفراجة شفتيها أو إغماضة عينيها غير المكتملة، يا لهذه الجروح العقيمة، جروح بلا دماء أو ألم. كاد يُغشى عليّ.
عندما أزاح الجلد إلى الجانبين كما لو أنّه يفضّ مغلّفاً أحكم لصقه، صدمني المشهد، تلك الطبقة الشحمية الرقيقة تحت الجلد مباشرة، بانت بأصفرها الدامغ كما صفار البيض أو السمن مضمّخة برائحة الفورمول والموت، اقتحمت روحي قبل أن تعتدي على ذاكرتي الشمّية والذوقيّة.
انخرطتُ في العمل وكأن واحدة غيري تقوم به، واحدة بمنتهى القسوة والتسلّط، لم يعنِها ما يمور في داخلي وينهب سكينتي. بلى، كنتُ تلك الأخرى التي مضت في الحياة ترخي بخيمتها على تلك المقموعة في داخلها، تمارس بحقها استبدادها كلّما تمادت سطوة الآخرين عليها. وكانت تلك القابعة في الظل، تبحث في جحيم المعاني عن مفرداتها الخاصة.
أذكر، بعد المشوار الطويل الذي أمضيته في الحياة، وانغماسي في مهنة الطب جلّ سنوات عمري، أعيش على مشارف جرف هائل العمق، يقرّبني من الموت في كل لحظة، ألامسه وألمسه ثم يفرّ منّي أمام زخم الحياة وتيارها الجارف، ينفر أمامي كزوبعة في كل مواجهة له في وجه مريض غادرته الحياة للتوّ، أو غادرها.
أذكر أن قرارات سريعة انبثقت في داخلي، وأخرى نضجت على مهل، أو ربّما كانت تُجمّع في أرشيف خاص خامات كانت كـ "بيت المونة" في عماراتي الروائية لاحقاً.
قراران انبثقا كلهب خاطف حرق أعماقي وكان لا بدّ من الانصياع لمزاجهما حينها، لم أكن أفهم في الفلسفة ولا بالأسئلة الوجودية ولا معنى الموت، لكنني قاطعتُ البيض والسمن لمدة ما يزيد عن ثلاثة أعوام، وقرّرت أنني لن أتزوّج ولن أنجب. لماذا أنجب وأقدّم للحياة الماكرة المراوغة أطفالاً تغويهم وتفتنهم وهي تمشي بهم إلى الموت في رحلة محفوفة بالدهشة والألم والفرح والمخاطر، لتسلّمهم في النهاية إلى الموت وهي تمدّ لسانها هازئة بضعفهم وبلاهتهم؟
كانت الحياة أقوى، بل يمكنني القول إنها امتحان دائم للحرية، امتحان يفضي إلى مزيد من العبودية، عبودّية المألوف والمتفق عليه، عبودية المنجز، عبودية العادة، عبودية الحضن والحاضنة في رحلة الحياة المترعة بالقلق. رجعت إلى أكل البيض، بل صرت أطلبه مرة مقليّاً بالزيت ومرّات مقليّاً بالسمن، بلى، السمن الذي قرفت منه وقاطعته لأن الشحم البشري المخبوء تحت جلودنا كان يشبهه برائحة الفورمول، رائحة الموت.
وصرت أغرف بالملعقة من علبة السمن وأنا أتفنّن في مطبخي وأوزّع ما أنجزه في أطباق غاوية تسبقها روائحها، إلى أن صرتُ أراعي القواعد الصحية أكثر، مرّة بإرادتي ومرّات مكرهة لسبب صحّي أو طبي. ثم سبحت مع تيار الحياة الصاخب، لكن صخبه لم يمنع الأسئلة من التراكم مع الوقت في بالي، أسئلة تبدأ وتنتهي مع سؤال الموت وبه.
فهل يمكن اختصاره بتعريف جامد على أنه فقدان للوعي والحس والادراك المادي؟ أم هو انفلات الروح من أسر الجسد إلى حياة البرزخ حرة طليقة، هي التي كانت قبل الجسد وبعده، لكونها من روح الله "فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا"، كما يفسّرها المؤمنون بالديانات التوحيدية؟ وهل هو انكشاف وتجلٍّ للحقيقة كما الصحوة بعد السّكر، كما جاء أيضاً في الآية: "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ"؟
هل صحيح أننا مع الموت نقيم في مدينة بلا أسوار، كما قال أبيقور، الذي اعتبر أن السعادة والألم مقياسا الخير والشر، والموت هو نهاية الروح والجسد معاً، وأن الكون أبديّ؟ ما زال الموت حكاية غامضة في بالي بالرغم من اعتياديّته، وبالرغم من تغوّله وقربه منّا، وموتنا الجماعي في السنوات العشر الأخيرة، سؤال الموت، وسؤال الحياة في المقابل، وكثير من الأسئلة الوجودية، ما زالت موّارة في خلدي، أسعى إلى التحقّق منها وليس إلى حصد الإجابات.
لكن ما اكتشفته بالرجوع إلى حياتي واستدعاء ماضيها بأحداثه إلى وعيي، أنني من لحظة المواجهة الأولى مع جثة، قدحت في بالي رغبة كشفت عن نفسها أمامي وأنا أكتب رواياتي، أرسم شخوصها وأكبّرهم وأرسم لهم حيوات ومصائر، فضول فبركة حيوات لأشخاص لا أعرفهم، كما كان لتلك الجثة الغارقة برائحة الموت وأسئلته.
لقد شغلتني ليالي طويلة وأنا أتغلغل في ثنايا حياتها المحتملة، أو الغشاشة كما يبدو لي، إذ كان خيالي المقيّد بظرفه أو ظروفه هو الذي يبتدع ويبني ويعمّر كما يهوى. هل كان لها حياة سريّة؟ هل كان لها حبيب؟ هل كان لها أسرة؟ هل كان لها حلم وطموح؟ هل كانت تأكل حدّ الشبع أم لم تكن أسرتها قادرة على إشباعها؟ كيف أدركها الموت وهي ما زالت في عمر الأحلام؟ وكيف كانت طريقة موتها وجسدها يبدو مكتملاً لولا شيء وحيد "الحياة"؟ وكيف وصلت جثتها إلى المشرحة لنتعلّم بانتهاك جسدها؟ كيف نقاوم الموت في حال اقترب، ونحن كلّنا ثقة بأنه مقيم فينا؟
إنه شغفي في فبركة حيوات لشخوصي، هي لعبتي الحانية عليّ في زمن القلق والخوف والكون المتجهّم.
سوسن جميل حسن
السبت 19/يونيو 2021
يا لذاك الجسد الممدّد في سلام أخرس، بطن غائرة ونهدان ينفران كعصفورين محنّطين، وعنق مشدود يدفع بالرأس إلى الأعلى كما في لحظة استغاثة ألم أو تصعّد لذّة في انتشاء أبدي. لا، لم يكن للأعلى، بل انبساط شديد في الرقبة تجعل الرأس ينعطف قليلاً إلى الخلف والذقن ناتئة كرغبة متوثّبة.
العينان في نصف إغماضة كأنّهما تنامان نوم الغزلان، والفم يفترّ عن شبه ابتسامة أو تكشيرة، لم أستطع ان أتكهّن، في لحظة النشوة تندغم المشاعر وتنعدم الحدود بين ألم اللذة ولذة الألم، هذا ما لاحظته كثيراً على مدى سنوات ممارسة مهنتي، حيث لامست الألم البشري لمس اليد والعين والقلب.
جمال مغلّف برائحة الفورمول، يا للغدر والانتهاك، رائحة تغتصب الجمال، أم يدٌ خفيّة تحنّط رائحة الجسد؟ ترى هل حنّطت رائحة الرغبة؟ أين ذهب ذلك العرق الذي نضح من مسام هذا الجلد قبل أن يقفلها الموت والتحنيط؟
كانت صبية في أوائل عشرينيّاتها، يسترخي شعرها الفاحم كمزقة من ليل أسود حول كتفيها، ممدّدة كملكة على المحفّة وسط قاعة كبيرة، يتوّجها الموت، وكنّا، مجموعتنا من الطلّاب لا يتجاوز عددها العشرة، نتحلّق حولها. كان الدرس الأوّل في التشريح على جسد حقيقي مطروح على طاولة، لكن هل أستطيع القول: جسد من لحم ودم؟ يا لخفّة القول. لم يكن هناك دم، ولا لحم طري، كان جسداً محنّطاً بالفورمول، وكان لقائي الأول مع الموت، مع جثّة.
وزّع علينا الأستاذ الوليمة، الكتلة الملقاة أمامنا على طاولة التشريح، بعد أن رسم بقلمه حدوداً على الجسد، وزّعه إلى مناطق كرسم أوّلي لجغرافيا تسمّى وطناً سيصير أوطاناً، كما سايكس وبيكو وهما يحتسيان الخمر أمام طاولة العمل. كان الأستاذ يشرب شاياً أسود ثقيلاً، كلّما فرغت كأسه يملأها من الإبريق الذي يتخمر فيه الشاي، ويضع في كأسه المزيد من السكّر. كيف كان يبتلع الشاي بتلك الحيادية أمام الموت ورائحة الفورمول؟ ما زال السؤال يحيّرني.
كانت حصّتي من جسد الفتاة الجزء العلويّ من البطن، البطن الغائرة كضرورة جماليّة، هل كانت تعي ذلك؟ كيف كانت تنظر إلى بطنها أمام المرآة، وإلى جسدها وهي تدور يميناً ويساراً وتعطي ظهرها للمرآة بينما تلتفت إلى الخلف بجذعها المشدود لترى إلى اكتمال فتنتها وتتهجّى الغواية فيه؟ في ردفيها المدوّرين ومقعدها المكوّر النافر المعقوص المتأهب كقفزة في الهواء؟
انكبّ رفاقي ورفيقاتي على الجثة المستسلمة لمشارطهم، وأنا الواقفة أمام وسطها أبتعد عنهم شيئاً فشيئاً، صرت في مكان آخر، في غابة الأسئلة والأسرار، كنتُ، على ما أخمّن، جامدة أمام جماد يتفجّر بالأسئلة، عندما أجفلني صوت الأستاذ وهو يصرخ بي بصوت مرتفع: وين صرتِ؟ لماذا لا تردّين؟ هيّا باشري.
لم أستطع المباشرة، شعرت بيديّ تتثاقلان حتى صار وزنهما أكبر من احتمالي، يداي ممدودتان إلى الأسفل، إلى الأرض، تبحثان عمّا تتعالقان به فيمنحهما الحجّة التي تعفيهما من الإيغال في الموت. ارتجفت شفتاي، واختلجت وجنتاي اختلاجات خفيفة، لكن الخرس استبدّ بصدري قبل لساني، فعاد الصوت يصرخ بي، لم أفعل.
هجم الأستاذ بمشرطه على البطن الغائرة وأحدث جرحاً طوليّاً من السرّة باتجاه الصدر وقاطع نهايتيه بجرحين آخرين في الأسفل والأعلى ينتهيان في حدود الخاصرتين، لم ينفر الدم، ولم تتبدّل انفراجة شفتيها أو إغماضة عينيها غير المكتملة، يا لهذه الجروح العقيمة، جروح بلا دماء أو ألم. كاد يُغشى عليّ.
عندما أزاح الجلد إلى الجانبين كما لو أنّه يفضّ مغلّفاً أحكم لصقه، صدمني المشهد، تلك الطبقة الشحمية الرقيقة تحت الجلد مباشرة، بانت بأصفرها الدامغ كما صفار البيض أو السمن مضمّخة برائحة الفورمول والموت، اقتحمت روحي قبل أن تعتدي على ذاكرتي الشمّية والذوقيّة.
انخرطتُ في العمل وكأن واحدة غيري تقوم به، واحدة بمنتهى القسوة والتسلّط، لم يعنِها ما يمور في داخلي وينهب سكينتي. بلى، كنتُ تلك الأخرى التي مضت في الحياة ترخي بخيمتها على تلك المقموعة في داخلها، تمارس بحقها استبدادها كلّما تمادت سطوة الآخرين عليها. وكانت تلك القابعة في الظل، تبحث في جحيم المعاني عن مفرداتها الخاصة.
أذكر، بعد المشوار الطويل الذي أمضيته في الحياة، وانغماسي في مهنة الطب جلّ سنوات عمري، أعيش على مشارف جرف هائل العمق، يقرّبني من الموت في كل لحظة، ألامسه وألمسه ثم يفرّ منّي أمام زخم الحياة وتيارها الجارف، ينفر أمامي كزوبعة في كل مواجهة له في وجه مريض غادرته الحياة للتوّ، أو غادرها.
أذكر أن قرارات سريعة انبثقت في داخلي، وأخرى نضجت على مهل، أو ربّما كانت تُجمّع في أرشيف خاص خامات كانت كـ "بيت المونة" في عماراتي الروائية لاحقاً.
قراران انبثقا كلهب خاطف حرق أعماقي وكان لا بدّ من الانصياع لمزاجهما حينها، لم أكن أفهم في الفلسفة ولا بالأسئلة الوجودية ولا معنى الموت، لكنني قاطعتُ البيض والسمن لمدة ما يزيد عن ثلاثة أعوام، وقرّرت أنني لن أتزوّج ولن أنجب. لماذا أنجب وأقدّم للحياة الماكرة المراوغة أطفالاً تغويهم وتفتنهم وهي تمشي بهم إلى الموت في رحلة محفوفة بالدهشة والألم والفرح والمخاطر، لتسلّمهم في النهاية إلى الموت وهي تمدّ لسانها هازئة بضعفهم وبلاهتهم؟
كانت الحياة أقوى، بل يمكنني القول إنها امتحان دائم للحرية، امتحان يفضي إلى مزيد من العبودية، عبودّية المألوف والمتفق عليه، عبودية المنجز، عبودية العادة، عبودية الحضن والحاضنة في رحلة الحياة المترعة بالقلق. رجعت إلى أكل البيض، بل صرت أطلبه مرة مقليّاً بالزيت ومرّات مقليّاً بالسمن، بلى، السمن الذي قرفت منه وقاطعته لأن الشحم البشري المخبوء تحت جلودنا كان يشبهه برائحة الفورمول، رائحة الموت.
وصرت أغرف بالملعقة من علبة السمن وأنا أتفنّن في مطبخي وأوزّع ما أنجزه في أطباق غاوية تسبقها روائحها، إلى أن صرتُ أراعي القواعد الصحية أكثر، مرّة بإرادتي ومرّات مكرهة لسبب صحّي أو طبي. ثم سبحت مع تيار الحياة الصاخب، لكن صخبه لم يمنع الأسئلة من التراكم مع الوقت في بالي، أسئلة تبدأ وتنتهي مع سؤال الموت وبه.
فهل يمكن اختصاره بتعريف جامد على أنه فقدان للوعي والحس والادراك المادي؟ أم هو انفلات الروح من أسر الجسد إلى حياة البرزخ حرة طليقة، هي التي كانت قبل الجسد وبعده، لكونها من روح الله "فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا"، كما يفسّرها المؤمنون بالديانات التوحيدية؟ وهل هو انكشاف وتجلٍّ للحقيقة كما الصحوة بعد السّكر، كما جاء أيضاً في الآية: "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ"؟
هل صحيح أننا مع الموت نقيم في مدينة بلا أسوار، كما قال أبيقور، الذي اعتبر أن السعادة والألم مقياسا الخير والشر، والموت هو نهاية الروح والجسد معاً، وأن الكون أبديّ؟ ما زال الموت حكاية غامضة في بالي بالرغم من اعتياديّته، وبالرغم من تغوّله وقربه منّا، وموتنا الجماعي في السنوات العشر الأخيرة، سؤال الموت، وسؤال الحياة في المقابل، وكثير من الأسئلة الوجودية، ما زالت موّارة في خلدي، أسعى إلى التحقّق منها وليس إلى حصد الإجابات.
لكن ما اكتشفته بالرجوع إلى حياتي واستدعاء ماضيها بأحداثه إلى وعيي، أنني من لحظة المواجهة الأولى مع جثة، قدحت في بالي رغبة كشفت عن نفسها أمامي وأنا أكتب رواياتي، أرسم شخوصها وأكبّرهم وأرسم لهم حيوات ومصائر، فضول فبركة حيوات لأشخاص لا أعرفهم، كما كان لتلك الجثة الغارقة برائحة الموت وأسئلته.
لقد شغلتني ليالي طويلة وأنا أتغلغل في ثنايا حياتها المحتملة، أو الغشاشة كما يبدو لي، إذ كان خيالي المقيّد بظرفه أو ظروفه هو الذي يبتدع ويبني ويعمّر كما يهوى. هل كان لها حياة سريّة؟ هل كان لها حبيب؟ هل كان لها أسرة؟ هل كان لها حلم وطموح؟ هل كانت تأكل حدّ الشبع أم لم تكن أسرتها قادرة على إشباعها؟ كيف أدركها الموت وهي ما زالت في عمر الأحلام؟ وكيف كانت طريقة موتها وجسدها يبدو مكتملاً لولا شيء وحيد "الحياة"؟ وكيف وصلت جثتها إلى المشرحة لنتعلّم بانتهاك جسدها؟ كيف نقاوم الموت في حال اقترب، ونحن كلّنا ثقة بأنه مقيم فينا؟
إنه شغفي في فبركة حيوات لشخوصي، هي لعبتي الحانية عليّ في زمن القلق والخوف والكون المتجهّم.
سوسن جميل حسن
السبت 19/يونيو 2021
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com