كلّ كاتب يعرف عادة، وبكيفية حدسية، بأيّ لغة سيكتب، كما هو على علم بلغة جمهوره. بالنسبة إلى الكتّاب المغاربة، أو لنقلْ الكتّاب المغاربيين، ليس الأمر هيّناً بهذا القدر. كلّ الكتّاب المغاربيين لهم حكاية مع اللغة أو اللغات — العربية، الفرنسية، الأمازيغية — التي تشكّل صميم ما يكتبونه، بحيث لا شيء ممّا يقولونه يمكن فهمه من دونها.
في المدرسة، وجدت مشقّة في تعلّم اللغة الفرنسية، وفي الجامعة تخصّصت في تدريس الأدب الفرنسي لمدّة تربو على الأربعين عاماً. لم أتلفّظ خلالها يوماً بكلمة عربية واحدة أمام طلبتي، لم أذكر كذلك اسماً واحداً لكاتب عربي، وطلبتي لم يرتأوا التحدّث معي بالدّارجة المغربية. واصلنا التكلّم بالفرنسية خارج قاعة الدّرس — كان اتّفاقاً ضمنيا أبرمناه ربّما للحفاظ على مسافة ما بيننا. لم أضع في سجلّ ما أيّاً من محاضراتي التي قدّمتها في الجامعة؛ كنت أمزّق الأوراق التي أعدّها عند نهاية الدّرس. لا أثر لكلّ هذه السنوات من الدّروس، ونادراً ما حاولت نشر أيّ شيء عن الأدب الفرنسي. كنت على دراية أن لا شيء ذا قيمة يمكن أن يُضاف إلى ما سبق للفرنسيين أن كتبوه. في كلّ الأحول — وهذه هي الجزئية الأكثر الأهمية — لم يكن الفرنسيون يتطلّعون أن أحدّثهم عن أدبهم. أدبهم ليس في حاجة إليّ.
الأدب العربي في حاجة إليّ، بقدر ما أنا في حاجة إليه. هذه كانت قناعة راسخة عندي؛ لم أكن، بدونها، لأكتب أيّ شيء. كان لديّ على الدوام شعور غامض بإمكانية إضافة شيء ما للأدب العربي. هذا الشعور انحدر إليّ، بصورة مباشرة، من دراستي للأدب الأوروبي، بل يمكن القول — وللمفارقة — إنّي تعلّمت الفرنسية لأتمكّن من الكتابة بالعربية.
ذات مرّة، عزمت على كتابة مقالة عن فلوبير لفائدة أنطولوجيا قيّمة كانت ستصدر في إيطاليا. غير أنّني تلكّأت معتقداً أنّي ربّما غير مؤهّل لذلك، وفي النهاية تخلّيت عن إعداد تلك المساهمة. خاب أمل الباحث الإيطالي المكلّف بالمشروع، وصرّح أنّه كان يأمل أن ألقي، على الروائي، إضاءة جديدة. استشعرت عضّة في قلبي: تخيّلْ أنّ ما تقوله — أو ما كان في إمكانك أن تقوله ولم تقله — سيكون مختلفاً عن كلّ ما قيل من قبل. كان في إمكاني أن أقدّم عرضاً تأويلياً، شيئاً لم يكن فلوبير ليتلقّاه إلّا من قبل قارئ أجنبي غير أوروبي — شيء عربي بصورة خالصة — وحتى الآن، أفكّر مليّاً في هذا العمل الملفت للانتباه والمميّز الذي لم أشرع أبداً في إنجازه، وليس لديّ أيّ تصوّر عن مسوّغاته واستنتاجاته (1). بل إنّي، بالأحرى، مسرور من العمل الكبير الذي لم أباشره على الإطلاق — كما هي حال كلّ دراساتي التي لم أحقّقها والتي تظلّ مراوغة، مرغوباً فيها. كم هو جميل، كلّ ما لم أكتبه أبداً بعد!
لمّا صدر كتابي L’auteur et ses doubles (2)، تفاجأ البعض من أن يكون مكتوباً بالفرنسية، مع أنّ موضوعه كان متعلّقاً بالأدب العربي القديم. معتقداً إمكانية تصحيح «هذا الانحراف»، نشرت كتابي التالي بالعربية (3). لقد كُتب، بالطبع، من أجل العرب، ولكن أيضاً من أجل الطلبة والباحثين في هذا الميدان الذين يعيشون خارج العالم العربي. بعثت بنسخة منه إلى باحث فرنسي من أصل عربي كان قد نشر دراسات حول الأدب العربي باللغة الفرنسية. أجابني بالفرنسية، شاكراً إيّاي ومعبّراً عن إعجابه بعملي. كان واضحاً أنّه لم يقرأه، ثمّ إنّه نصحني أن أكتب، الآن وأبداً، بالفرنسية. بعبارة أخرى، شيء رائع أن تدرس ميراث أجدادك، لكن قمْ به بالفرنسية، في ذلك تحقيق لكلّ الأمور الجيّدة، اكتبْ بالفرنسية وسأقرؤك ربّما لاحقاً. بعد ذلك بمدّة من الزّمن، أمضيت بضعة أيّام في عاصمة أوروبية بدعوة من أستاذة متخصّصة في الأدب العربي المعاصر وإن كانت، هي بذاتها، ليست عربية. تعرّضنا بالضرورة إلى الكتب المكتوبة بالعربية وأسرّت إليّ ضاحكة أنّ الشعراء يمنحونها كتبهم ويقولون لها: «تَرْجِمِينَهَا!» كما لو أنّ قدرهم كان بين يديها. كنّا نتحدّث بالعربية، لغة تتكلّمها بكثير من الاقتدار، عند لحظة، قالت بأنّها لا تحبّ، في الحقيقة، أن تقرأ بالعربية، بالنسبة إليها، كانت العربية «لغة العمل». فهمت عندئذ لماذا لم يقرأ أستاذ الفرنسية كتابي.
كانت أوّل طبعة لهذا الكتاب بالفرنسية، لكنّني أعدت كتابته بالعربية، لا أدري لماذا، لأيّة غاية — وفاء لأيّ مبدأ ما دمت ناقلاً وعابراً بين لسانين. ربّما فعلت ذلك للدفاع عن لغة كنت أشعر أنّها تتعرّض للهجوم. فعلت ذلك، ربّما، تضامناً مع الكتّاب الذين أحببتهم في طفولتي؛ كتّاب من أمثال توفيق الحكيم وطه حسين الذين لم يخفوا حبّهم للأدب الفرنسي. غالباً ما تجادلت، في خضمّ المناقشات داخل الفصل الدراسي، باسمهم. ضدّ من؟ كنت أقرؤهم بالعربية، بينما ذهني ينساق مع الفرنسية.
لناتالي ساروت مسرحية تتعلّق بشخصين فشلت صداقتهما ويحاولان معرفة الأسباب. حصل الشرخ لمّا أخبر أحدهما الآخر بالنجاح الذي حقّقه في مشروع له، ولمّا قال له الآخر: «هذا هو... المطلوب..» (4) تشوّش مزاج الأول بسبب توقّف أو فاصل صمت بين «هذا هو» و«المطلوب»، اعتبر ذلك ازدراء. فهم التوقّفَ كدليل استهزاء. تذكّرت هذه اللمحة عندما قابلت في أحد الأيّام طالبة لي لم أرها منذ عشرين سنة. شرعنا، الطالبة وأنا، في التحدّث بالفرنسية كما كنّا دائماً نفعل. ثمّ ألقت عليّ السؤال المنتظر: «على ماذا تشتغلون؟». قلت لها إنّي أراجع كتاباتي. ابتسمت وبدت مغتبطة إلى أن أضفت «بالعربية». اختفت ابتسامة الطالبة وخبا حماسها. شيء من الكدر استقرّ بيننا. لم يكن نشر أعمالي بالعربية يثير مشاعرها. كان الأمر واضحاً. لم يكن ذلك يعني لها شيئاً. ربّما كان يغيظها. لم تكن لتضايق نفسها بالسؤال متى ستصدر أو من النّاشر. «هذا هو.. المطلوب..». أحسست، في لحظة خاطفة، أنّي في الواقع اخترت اللغة الخطأ، خجلت من كتاباتي بالعربية. وحينما عدت إلى نفسي، خجلت من خجلي.
* المقدمة التي وضعها عبد الفتاح كيليطو للترجمة الإنكليزية لكتابه «لسان آدم» التي هي من إنجاز روبين كريسويل ـــ 2016.
1- من المحتمل أن يكون كيليطو حقّق هذا المشروع في كتابه الأخير: «من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا»، دار توبقال، 2019.
2- الكتابة والتناسخ، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، المركز الثقافي العربي، 1985.
3- الغائب، دار توبقال، 1985.
4- انظر مسرحية ناتالي ساروت:
Pour un oui ou pour un non.
في المدرسة، وجدت مشقّة في تعلّم اللغة الفرنسية، وفي الجامعة تخصّصت في تدريس الأدب الفرنسي لمدّة تربو على الأربعين عاماً. لم أتلفّظ خلالها يوماً بكلمة عربية واحدة أمام طلبتي، لم أذكر كذلك اسماً واحداً لكاتب عربي، وطلبتي لم يرتأوا التحدّث معي بالدّارجة المغربية. واصلنا التكلّم بالفرنسية خارج قاعة الدّرس — كان اتّفاقاً ضمنيا أبرمناه ربّما للحفاظ على مسافة ما بيننا. لم أضع في سجلّ ما أيّاً من محاضراتي التي قدّمتها في الجامعة؛ كنت أمزّق الأوراق التي أعدّها عند نهاية الدّرس. لا أثر لكلّ هذه السنوات من الدّروس، ونادراً ما حاولت نشر أيّ شيء عن الأدب الفرنسي. كنت على دراية أن لا شيء ذا قيمة يمكن أن يُضاف إلى ما سبق للفرنسيين أن كتبوه. في كلّ الأحول — وهذه هي الجزئية الأكثر الأهمية — لم يكن الفرنسيون يتطلّعون أن أحدّثهم عن أدبهم. أدبهم ليس في حاجة إليّ.
الأدب العربي في حاجة إليّ، بقدر ما أنا في حاجة إليه. هذه كانت قناعة راسخة عندي؛ لم أكن، بدونها، لأكتب أيّ شيء. كان لديّ على الدوام شعور غامض بإمكانية إضافة شيء ما للأدب العربي. هذا الشعور انحدر إليّ، بصورة مباشرة، من دراستي للأدب الأوروبي، بل يمكن القول — وللمفارقة — إنّي تعلّمت الفرنسية لأتمكّن من الكتابة بالعربية.
ذات مرّة، عزمت على كتابة مقالة عن فلوبير لفائدة أنطولوجيا قيّمة كانت ستصدر في إيطاليا. غير أنّني تلكّأت معتقداً أنّي ربّما غير مؤهّل لذلك، وفي النهاية تخلّيت عن إعداد تلك المساهمة. خاب أمل الباحث الإيطالي المكلّف بالمشروع، وصرّح أنّه كان يأمل أن ألقي، على الروائي، إضاءة جديدة. استشعرت عضّة في قلبي: تخيّلْ أنّ ما تقوله — أو ما كان في إمكانك أن تقوله ولم تقله — سيكون مختلفاً عن كلّ ما قيل من قبل. كان في إمكاني أن أقدّم عرضاً تأويلياً، شيئاً لم يكن فلوبير ليتلقّاه إلّا من قبل قارئ أجنبي غير أوروبي — شيء عربي بصورة خالصة — وحتى الآن، أفكّر مليّاً في هذا العمل الملفت للانتباه والمميّز الذي لم أشرع أبداً في إنجازه، وليس لديّ أيّ تصوّر عن مسوّغاته واستنتاجاته (1). بل إنّي، بالأحرى، مسرور من العمل الكبير الذي لم أباشره على الإطلاق — كما هي حال كلّ دراساتي التي لم أحقّقها والتي تظلّ مراوغة، مرغوباً فيها. كم هو جميل، كلّ ما لم أكتبه أبداً بعد!
لمّا صدر كتابي L’auteur et ses doubles (2)، تفاجأ البعض من أن يكون مكتوباً بالفرنسية، مع أنّ موضوعه كان متعلّقاً بالأدب العربي القديم. معتقداً إمكانية تصحيح «هذا الانحراف»، نشرت كتابي التالي بالعربية (3). لقد كُتب، بالطبع، من أجل العرب، ولكن أيضاً من أجل الطلبة والباحثين في هذا الميدان الذين يعيشون خارج العالم العربي. بعثت بنسخة منه إلى باحث فرنسي من أصل عربي كان قد نشر دراسات حول الأدب العربي باللغة الفرنسية. أجابني بالفرنسية، شاكراً إيّاي ومعبّراً عن إعجابه بعملي. كان واضحاً أنّه لم يقرأه، ثمّ إنّه نصحني أن أكتب، الآن وأبداً، بالفرنسية. بعبارة أخرى، شيء رائع أن تدرس ميراث أجدادك، لكن قمْ به بالفرنسية، في ذلك تحقيق لكلّ الأمور الجيّدة، اكتبْ بالفرنسية وسأقرؤك ربّما لاحقاً. بعد ذلك بمدّة من الزّمن، أمضيت بضعة أيّام في عاصمة أوروبية بدعوة من أستاذة متخصّصة في الأدب العربي المعاصر وإن كانت، هي بذاتها، ليست عربية. تعرّضنا بالضرورة إلى الكتب المكتوبة بالعربية وأسرّت إليّ ضاحكة أنّ الشعراء يمنحونها كتبهم ويقولون لها: «تَرْجِمِينَهَا!» كما لو أنّ قدرهم كان بين يديها. كنّا نتحدّث بالعربية، لغة تتكلّمها بكثير من الاقتدار، عند لحظة، قالت بأنّها لا تحبّ، في الحقيقة، أن تقرأ بالعربية، بالنسبة إليها، كانت العربية «لغة العمل». فهمت عندئذ لماذا لم يقرأ أستاذ الفرنسية كتابي.
كانت أوّل طبعة لهذا الكتاب بالفرنسية، لكنّني أعدت كتابته بالعربية، لا أدري لماذا، لأيّة غاية — وفاء لأيّ مبدأ ما دمت ناقلاً وعابراً بين لسانين. ربّما فعلت ذلك للدفاع عن لغة كنت أشعر أنّها تتعرّض للهجوم. فعلت ذلك، ربّما، تضامناً مع الكتّاب الذين أحببتهم في طفولتي؛ كتّاب من أمثال توفيق الحكيم وطه حسين الذين لم يخفوا حبّهم للأدب الفرنسي. غالباً ما تجادلت، في خضمّ المناقشات داخل الفصل الدراسي، باسمهم. ضدّ من؟ كنت أقرؤهم بالعربية، بينما ذهني ينساق مع الفرنسية.
لناتالي ساروت مسرحية تتعلّق بشخصين فشلت صداقتهما ويحاولان معرفة الأسباب. حصل الشرخ لمّا أخبر أحدهما الآخر بالنجاح الذي حقّقه في مشروع له، ولمّا قال له الآخر: «هذا هو... المطلوب..» (4) تشوّش مزاج الأول بسبب توقّف أو فاصل صمت بين «هذا هو» و«المطلوب»، اعتبر ذلك ازدراء. فهم التوقّفَ كدليل استهزاء. تذكّرت هذه اللمحة عندما قابلت في أحد الأيّام طالبة لي لم أرها منذ عشرين سنة. شرعنا، الطالبة وأنا، في التحدّث بالفرنسية كما كنّا دائماً نفعل. ثمّ ألقت عليّ السؤال المنتظر: «على ماذا تشتغلون؟». قلت لها إنّي أراجع كتاباتي. ابتسمت وبدت مغتبطة إلى أن أضفت «بالعربية». اختفت ابتسامة الطالبة وخبا حماسها. شيء من الكدر استقرّ بيننا. لم يكن نشر أعمالي بالعربية يثير مشاعرها. كان الأمر واضحاً. لم يكن ذلك يعني لها شيئاً. ربّما كان يغيظها. لم تكن لتضايق نفسها بالسؤال متى ستصدر أو من النّاشر. «هذا هو.. المطلوب..». أحسست، في لحظة خاطفة، أنّي في الواقع اخترت اللغة الخطأ، خجلت من كتاباتي بالعربية. وحينما عدت إلى نفسي، خجلت من خجلي.
* المقدمة التي وضعها عبد الفتاح كيليطو للترجمة الإنكليزية لكتابه «لسان آدم» التي هي من إنجاز روبين كريسويل ـــ 2016.
1- من المحتمل أن يكون كيليطو حقّق هذا المشروع في كتابه الأخير: «من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا»، دار توبقال، 2019.
2- الكتابة والتناسخ، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، المركز الثقافي العربي، 1985.
3- الغائب، دار توبقال، 1985.
4- انظر مسرحية ناتالي ساروت:
Pour un oui ou pour un non.