من أقوال الجاحظ المشهورة: "المعاني مطروحةٌ في الطريق، يَعْرفُها العجميُّ والعربيُّ، والحضريُّ والبدويُّ، والقرويُّ والمدنيُّ. وإنّما الشأنُ في إقامةِ الوزن، وتخيُّرِ اللفظ، وسهولةِ المَخرج، وكثرةِ الماء، وفي صحّةِ الطبع، وجودةِ السَّبْك. فإنّما الشعرُ صناعةٌ، وضرْبٌ من النسْج، وجنسٌ من التصوير!" (كتاب الحيوان)
أتساءل: أنستطيع أن نطبّق قولَ الجاحظ في الشعْر على نشاطاتنا السياسيّة؟
نحن، معشرَ الناشطين في المجال الفلسطينيّ أو القوميّ أو اليساريّ في الوطن العربيّ، مُضجِرون، تقليديّون، في غالبيّتنا الساحقة، "نطلّع دينَ" القارئ والمُشاهدِ والمستمع. ألاحظُ ذلك في قلّة الشابّات والشباب الذين يأتون لحضور نشاطاتنا، وفي تململهم مِن خُطبنا، وفي خروجهم من القاعات قبل أن ننهي كلماتِنا (بذريعة "حصول أمرٍ طارئ"... أو لتدخين سيجارة!). ولا أقصد، بالضرورة، أنّ المشكلة هي في أفكارنا، أو لأنّ أفكارنا مطروقةٌ منذ عشرات السنين؛ فالتكرارُ، في ذاته، ليس أمرًا مستنكَرًا، خصوصًا إذا كان الاحتلالُ على حاله، والاستغلالُ على حاله، والاستبدادُ على حاله، والتشتّتُ العربيُّ على حاله. ما أقصدُه هو أنّ ثمّة حالاتٍ ومتغيّراتٍ، تتعلّق بإيقاع العصر السريع، وبانتشارِ وسائلِ التواصل الاجتماعيّ الرشيقةِ والملوّنةِ والتفاعليّة، تستدعي أن نتكيّفَ معها ـ أسلوبًا ـ كي نصل إلى جمهورٍ أوسع... والأهمّ: كي لا نخسرَه بعد برهةٍ قصيرة.
وإليكم اقتراحاتي المتواضعةَ في هذا المجال:
أولًا، ألّا تتجاوزَ مداخلاتُنا المقروءةُ 15 ـــ 20 دقيقة. وهذا يستلزم أن تكونَ مباشرةً، مسدَّدةً، جيّدةَ "السبْك" أو "النسْج" (كما كان أستاذُنا الجاحظ سيقول). الإيجاز وصْفةٌ رابحةٌ اليوم. قدرةُ غالبيّة الناس على الاستماع والقراءة إلى تضاؤلٍ متزايد. اسألوا دُور النشر والمكتباتِ وأصحابَ (ما تبقّى من) الأندية الثقافيّة. إيمانُهم بالكلمة، بالثقافة، بالمثقفين، إلى انحسارٍ مريع. أسبابُ ذلك كثيرة، وقد فصّلناها في غير مكانٍ من هذه المجلّة. لا طاقة لدى عامّة الناس بالاستماع إلى الإطنابِ أو اللغوِ أو الحشوِ (كما أفعلُ الآن). لا قدرةَ لديهم على أن يستمعوا في ندوةٍ أو تظاهرةٍ إلى ما كتبناه في البيت طوال ساعاتٍ أو أيّام، علمًا أنّه سيُنشر لاحقًا، ورقيًّا أو على صفحاتنا الفسبكيّة أو مدوَّناتِنا.
ثانيًا، أن تترافق بعضُ مداخلاتنا ــــ إنْ أمكن ــــ مع عرضٍ مصوَّرٍ (سلايدس أو باوِرْبوينت...)، بحيث تغدو "جِنسًا من التصوير" (باستعارةٍ أُخرى من الجاحظ): يسْمعها الحاضرون كأنّهم يشاهدونها، فتَعلقُ في أذهانهم أفكارُها الرئيسةُ (المكتوبةُ، ربّما، بخطٍّ مختلف)، أو تَرْسخُ صورةٌ محدّدةٌ تعبِّر أبلغَ تعبيرٍ عن هذه الأفكار.
ثالثًا، أن "نتخيّرَ" استخدامَ الألفاظِ السهلةِ الواضحةِ، لا أن نتفاصحَ أمام جمهورنا. فهدفُنا ليس إبهارَه بحذلقاتنا اللغويّة، وإنّما إقناعَه بمنطقِنا وحُججِنا. وهذا لا يعني، طبعًا، أن نتغاضى عن قواعدِ اللغة مثلًا، لا حرصًا على اللغة في ذاتها فحسب (وهي أحدُ مكوّنات هويّتنا وقوميّتنا الأساسيّة)، بل لأنّ جزءًا من جمهورنا هو من فئة الطلّاب والأساتذة الجامعيين والمهتمّين بالأدب واللغةِ أيضًا. وينبغي أن نضيفَ هنا، دفعًا لأيّ لبس، أنّ اهتمامَنا بإيصال "منطقِنا وحُججِنا" لا يعني إغفالَ بعض الجرعات العاطفيّة والشعوريّة في خطبنا ومقالاتنا.
رابعًا، وهو الأهمّ، ويُكمل النقطةَ الثانيةَ أعلاه. يُستحسن أن تأتي أنشطتُنا السياسيّة ضمن رزمةٍ متكاملة، تؤدّي فيها الفنونُ البصريّةُ والسمعيّةُ دورًا بارزًا. فلإيصال "الفكرة،" قد تكون الأغنيةُ والفيلمُ (التوثيقيُّ بشكلٍ خاصّ) والفنُّ التشكيليّ (والكاريكاتورُ بشكلٍ أخصّ) والملصقاتُ أهمَّ، في كثيرٍ من الأحيان، من الكلمة المنطوقة. ولأضربْ مثلًا على ذلك من تجربتنا في "حملة مقاطعة داعمي ‘إسرائيل’ في لبنان" وحملة "قاطِعْ": ففي حين أنّنا نكاد لا نبْلغ حفنةً من المناصرين والصحفيين عند إعلان مواقفنا في مؤتمرٍ صحافيٍّ ما، فقد بلغنا عدّةَ آلافٍ من الناس، ومن مختلف المشارب والأجناس، واقعيًّا وعلى الشبكة العنكبوتيّة، حين أقمنا قبل أيّامٍ مهرجانًا في مسرح المدينة في بيروت، لإطلاق "العريضة اللبنانيّة للمقاطعة الثقافيّة والأكاديميّة لإسرائيل" و"التطبيقِ الهاتفيّ" للشركات الداعمة للعدوّ. والسبب هو أنّنا أحطنا "العريضةَ" و"التطبيقَ" بجوٍّ فنّيًّ ثقافيّ، سمعيّ ـ بصريّ، اشتملَ على الصور والرسوم والفيديوهات، فضلًا عن مشاركة ستّة مغنّين معروفين.
هناك وسائلُ كثيرةٌ أخرى لبسط أفكارنا السياسيّة. المهمّ أن نَعْلمَ أن طريقة نشر هذه الأفكار هي في أهميّة أفكارِنا ذاتِها. وإذا كنّا ثوريين حقًّا، فعلى أدائنا أن يكون ثوريًّا هو الآخر.
بيروت
سماح إدريس
28-05-2016
أتساءل: أنستطيع أن نطبّق قولَ الجاحظ في الشعْر على نشاطاتنا السياسيّة؟
نحن، معشرَ الناشطين في المجال الفلسطينيّ أو القوميّ أو اليساريّ في الوطن العربيّ، مُضجِرون، تقليديّون، في غالبيّتنا الساحقة، "نطلّع دينَ" القارئ والمُشاهدِ والمستمع. ألاحظُ ذلك في قلّة الشابّات والشباب الذين يأتون لحضور نشاطاتنا، وفي تململهم مِن خُطبنا، وفي خروجهم من القاعات قبل أن ننهي كلماتِنا (بذريعة "حصول أمرٍ طارئ"... أو لتدخين سيجارة!). ولا أقصد، بالضرورة، أنّ المشكلة هي في أفكارنا، أو لأنّ أفكارنا مطروقةٌ منذ عشرات السنين؛ فالتكرارُ، في ذاته، ليس أمرًا مستنكَرًا، خصوصًا إذا كان الاحتلالُ على حاله، والاستغلالُ على حاله، والاستبدادُ على حاله، والتشتّتُ العربيُّ على حاله. ما أقصدُه هو أنّ ثمّة حالاتٍ ومتغيّراتٍ، تتعلّق بإيقاع العصر السريع، وبانتشارِ وسائلِ التواصل الاجتماعيّ الرشيقةِ والملوّنةِ والتفاعليّة، تستدعي أن نتكيّفَ معها ـ أسلوبًا ـ كي نصل إلى جمهورٍ أوسع... والأهمّ: كي لا نخسرَه بعد برهةٍ قصيرة.
وإليكم اقتراحاتي المتواضعةَ في هذا المجال:
أولًا، ألّا تتجاوزَ مداخلاتُنا المقروءةُ 15 ـــ 20 دقيقة. وهذا يستلزم أن تكونَ مباشرةً، مسدَّدةً، جيّدةَ "السبْك" أو "النسْج" (كما كان أستاذُنا الجاحظ سيقول). الإيجاز وصْفةٌ رابحةٌ اليوم. قدرةُ غالبيّة الناس على الاستماع والقراءة إلى تضاؤلٍ متزايد. اسألوا دُور النشر والمكتباتِ وأصحابَ (ما تبقّى من) الأندية الثقافيّة. إيمانُهم بالكلمة، بالثقافة، بالمثقفين، إلى انحسارٍ مريع. أسبابُ ذلك كثيرة، وقد فصّلناها في غير مكانٍ من هذه المجلّة. لا طاقة لدى عامّة الناس بالاستماع إلى الإطنابِ أو اللغوِ أو الحشوِ (كما أفعلُ الآن). لا قدرةَ لديهم على أن يستمعوا في ندوةٍ أو تظاهرةٍ إلى ما كتبناه في البيت طوال ساعاتٍ أو أيّام، علمًا أنّه سيُنشر لاحقًا، ورقيًّا أو على صفحاتنا الفسبكيّة أو مدوَّناتِنا.
ثانيًا، أن تترافق بعضُ مداخلاتنا ــــ إنْ أمكن ــــ مع عرضٍ مصوَّرٍ (سلايدس أو باوِرْبوينت...)، بحيث تغدو "جِنسًا من التصوير" (باستعارةٍ أُخرى من الجاحظ): يسْمعها الحاضرون كأنّهم يشاهدونها، فتَعلقُ في أذهانهم أفكارُها الرئيسةُ (المكتوبةُ، ربّما، بخطٍّ مختلف)، أو تَرْسخُ صورةٌ محدّدةٌ تعبِّر أبلغَ تعبيرٍ عن هذه الأفكار.
ثالثًا، أن "نتخيّرَ" استخدامَ الألفاظِ السهلةِ الواضحةِ، لا أن نتفاصحَ أمام جمهورنا. فهدفُنا ليس إبهارَه بحذلقاتنا اللغويّة، وإنّما إقناعَه بمنطقِنا وحُججِنا. وهذا لا يعني، طبعًا، أن نتغاضى عن قواعدِ اللغة مثلًا، لا حرصًا على اللغة في ذاتها فحسب (وهي أحدُ مكوّنات هويّتنا وقوميّتنا الأساسيّة)، بل لأنّ جزءًا من جمهورنا هو من فئة الطلّاب والأساتذة الجامعيين والمهتمّين بالأدب واللغةِ أيضًا. وينبغي أن نضيفَ هنا، دفعًا لأيّ لبس، أنّ اهتمامَنا بإيصال "منطقِنا وحُججِنا" لا يعني إغفالَ بعض الجرعات العاطفيّة والشعوريّة في خطبنا ومقالاتنا.
رابعًا، وهو الأهمّ، ويُكمل النقطةَ الثانيةَ أعلاه. يُستحسن أن تأتي أنشطتُنا السياسيّة ضمن رزمةٍ متكاملة، تؤدّي فيها الفنونُ البصريّةُ والسمعيّةُ دورًا بارزًا. فلإيصال "الفكرة،" قد تكون الأغنيةُ والفيلمُ (التوثيقيُّ بشكلٍ خاصّ) والفنُّ التشكيليّ (والكاريكاتورُ بشكلٍ أخصّ) والملصقاتُ أهمَّ، في كثيرٍ من الأحيان، من الكلمة المنطوقة. ولأضربْ مثلًا على ذلك من تجربتنا في "حملة مقاطعة داعمي ‘إسرائيل’ في لبنان" وحملة "قاطِعْ": ففي حين أنّنا نكاد لا نبْلغ حفنةً من المناصرين والصحفيين عند إعلان مواقفنا في مؤتمرٍ صحافيٍّ ما، فقد بلغنا عدّةَ آلافٍ من الناس، ومن مختلف المشارب والأجناس، واقعيًّا وعلى الشبكة العنكبوتيّة، حين أقمنا قبل أيّامٍ مهرجانًا في مسرح المدينة في بيروت، لإطلاق "العريضة اللبنانيّة للمقاطعة الثقافيّة والأكاديميّة لإسرائيل" و"التطبيقِ الهاتفيّ" للشركات الداعمة للعدوّ. والسبب هو أنّنا أحطنا "العريضةَ" و"التطبيقَ" بجوٍّ فنّيًّ ثقافيّ، سمعيّ ـ بصريّ، اشتملَ على الصور والرسوم والفيديوهات، فضلًا عن مشاركة ستّة مغنّين معروفين.
هناك وسائلُ كثيرةٌ أخرى لبسط أفكارنا السياسيّة. المهمّ أن نَعْلمَ أن طريقة نشر هذه الأفكار هي في أهميّة أفكارِنا ذاتِها. وإذا كنّا ثوريين حقًّا، فعلى أدائنا أن يكون ثوريًّا هو الآخر.
بيروت
سماح إدريس
28-05-2016