رجاء بسبوسي - عش البلبل

جارتي التي تركت الحي قبل بضع ساعات فقط، كانت توزع علينا نحن سكان البيت جميعا "عش البلبل". كان ذلك في الكثير من المناسبات، وأحيانا من دون مناسبة. وأعترف أن هذا ما حرك جرس الفضول بداخلي، وجعلني أحاول التقرب من هذه الجارة عل جرسي يتوقف عن الرنين صباح مساء ككنيسة مهجورة سقطت في يد أولاد صغار. كنت أريد أن أستكشف هذه المرأة التي مازالت تصنع أعشاش البلابل مع أن العصافير دمرتها القذائف، والسماء أكلتها الحرائق.
كنت العازب الوحيد بين سكان البيت، ولا أحد من الجيران تجرأ يوما ودق جرس شقتي، ولكن جارتي الجديدة في الشقة المقابلة فعلت ذات صباح، وعايدتني بابتسامة تقتلعك من قاع الموت وهي تقدم لي طبق حلوى "عش البلبل". كيف أمكنها أن تفعل؟ ألم تخبرها الجارات أنني شخص غريب الأطوار، منطو على نفسه ولا يلقي حتى التحية عند مصادفته على السلم؟ وقفتُ طويلا أمام باب الشقة أحاول أن أفهم تصرف الجارة وفي كف يدي المتصحرة أعشاش البلابل.
كنت أذكر أن أمي وأنا طفل صغير، لم تكن تعيد الأطباق فارغة لجاراتها اللواتي كن يطرقن بابنا في الأعياد محملات بما لذ وطاب، كانت تُرجع لهن أطباقهن ممتلئة بما أعدته بدورها للعيد. وعندما يكون طرق الباب مصحوبا بطبق دون أن تكون هنالك مناسبة، ولا يكون لدى أمي ما تقدمه بدورها، كانت ترسلني إليهم وقد وضعت في أطباقهم قطع السكر. هل أعيد لجارتي طبقها بعد أن فرغت من حلاوته وأضع السكر مكان أعشاش البلابل؟ أقنعت نفسي بأن هذا تصرف قديم ويليق بالنساء أكثر، وصرت كلما ضغطت على زر الجرس الخاص بجارتي، أعيد الأطباق فارغة ومفلسة كحاملها، وأثني على طعم أعشاش البلابل كي أقترب منها أكثر، وكي أنهل ما أمكن من تلك الابتسامة الصافية التي شاكست عزلتي.
أعترف لكم أنني قبل أن أقترب من جارتي بدافع الفضول لا أكثر، كنت خائفا. كنت خائفا من أن أضع قدمي في بركة دم متخثر ينزع عني النوم كل الليل، أنا الذي هرولت إلى داخل نفسي وانكمشت عليّ كي لا أتعثر بشيء تفوح منه رائحة الدم. قاطعت القنوات الإخبارية والجرائد الورقية والإلكترونية التي صار بها منظر القتلى وشتات الناس أمرا عاديا، قاطعت أي شيء سيخبرني أن عدّاد النازفين يتصاعد بجنون، حتى أصدقائي ومعارفي اللذين لا حديث لهم سوى عن ويلات الدمار التي أحدثها الإنسان بالجوار منذ سنة 2011، قاطعتهم. كان التوحش المفاجئ للإنسان منذ تلك السنة يرعبني، وبعدها ببضع سنوات أصبح يرعبني أكثر توحش الوطن كلما خرجنا للشارع، وكلما لمّح لنا رجال الربطات الأنيقة وراء الشاشات البائسة بأن مصيرنا إن نحن بقينا خارج جحورنا سيكون كمصير جارتي.
نعم، كنت خائفا ومرتبكا وأنا أخطو أول خطوة بشقتها. ولكن بيتها كان مريحا ومطليا بألوان الفرح كروضة أطفال، مع أن عيناها كانتا تضجان بأموات كثر لا يرقدون في سلام. وعندما صادفت وجهي بالمرآة المعلقة على جدار الصالون بدل التلفاز، اكتشفت أنني نشاز وأنني لا أناسب أبدا ديكور الشقة التي تضج بالحياة. بشعري ولحيتي اللذين يغطيان أكثر من نصف وجهي وبعيني المنطفئتين، بدوت بائسا، ورأيتني كهلا متلاشيا لن تسعفه قوته لتجاوز جسر الثلاثين بعد بضعة أيام. فجلست على الأريكة كي لا أواجه أكثر صورتي، وصرت أمعن النظر في بورتريهات معلقة على نفس الجدار بجانبيْ المرآة الكبيرة التي عكست قبل قليل انسحاقي. عبرت ببصري وجوها لأشخاص من مختلف الأعمار مبتسمين جميعهم ويتمتعون بألق الحياة. لم أتجرأ على سؤال جارتي من يكونون، خفت أن أنكأ جراحا طرية بسؤالي، فاكتفيت بشرب عصير الجَلاّب الذي تذوقته لأول مرة في حياتي. ولوهلة شعرت بقساوة أن لا تملك حتى ألبوم صور لمن أحببتهم، لمن كانوا جزءا منك وانتميت إليهم. وفهمت أن جارتي لم تعد تملك سوى قلم رسم، وذاكرة تمنح من خلالها وجودا لمن سقطوا في حفرة العدم غارقين في دمائهم. أعترف أنني في تلك اللحظة بالذات خفت كثيرا من جارتي، خفت أن تجيبني من يكونون وأنا أتمعن في وجوههم، وأن تنقل لي في حديثها عنهم دخان القذائف ورائحة الجثث المتعفنة وبكاء الرضع وصياح الأطفال، خفت أن تعرض أمامي تفاصيل خوفها وتشردها في عرض البحر الذي فتحت الحرب شهيته، أن تعري أمامي مشاعر الخوف والرهبة والحزن والتيه في كل تلك الممرات التي قطعتها مشيا وسط الغابات. خفت وخفت وخفت، ولكن جارتي لم تتعثر في حديثها. وأخبرتني أنها أحبت السماء دائما، وأن لون الستائر كان أزرقا سماويا في بيتها العريق الذي هشمته القذائف، وأن حجم نافورة المياه التي تتوسطه أغرتها وهي طفلة بأن تعلم بطاتها البلاستيكية السباحة بمياه النافورات. حدثتني عن شجرة البرتقال التي كانت تشرئب بعنقها لتسمع أحاديثهم الليلية وهم متحلقون حول كؤوس القهوة، عن ألوان الأصص الكبيرة والصغيرة التي حرصت دائما أن تضعها بمحاذاة الشجرة الوحيدة ببيتهم كي يؤنسوا وحدتها عندما تغيب العائلة عن مجلسهم المقابل للنافورة الكبيرة. عن بساطة الحياة في الأحياء العريقة بوطنها، وعن كل شيء من الممكن أن يغريني بالتخطيط لزيارة بلدها.
من يومها صرت في حاجة دائمة لرؤية جارتي، من يومها أحببت تلك المرأة التي لم تنس أن تحمل معها الفستق الحلبي وهي تخطو فوق الجثث والأشلاء، ولا رمته بعرض البحر عندما كان قاربهم على وشك الغرق. من يومها أحببت جارتي التي لم يمنعها أنين الموتى بعينيها أن تصنع شيئا بحلاوة أعشاش البلابل وأن توزع علينا الفرح. وصرت بشغف أنتظر موعد رد الأطباق الفارغة كي تدعوني جارتي للدخول وكي أقطف من وجهها طمأنينتي، وأحط على صدرها رأسي الثقيل لأسمع أحاديثها المطمئنة كطفل خائف من الظلام.
وهذا المساء، إلى وجهة جديدة رحلت جارتي، وتركتني أعزلا أمام خوفي. تمنيت لو أنها بقيت معي أكثر، ولكنها حلقت بعيدا وتركت لي وصفة تحضير أعشاش البلابل. وأنا أقرأ الوصفة بصفحة عينيها الدافئتين، كدت لبرهة أستجمع شجاعتي وأسألها من يكون أولئك الذين لا يرقدون في سلام خلف كحل عينيها، ولكني عدت وانكمشت على خوفي، فيما حلقت بعيدا جارتي.
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...