لا اكتب انطلاقا من اللغة، بل من عنصر خارجي يثير في الرغبة في الكتابة.
كاهنة عباس كاتبة تونسية من مواليد 1964 بتونس ، تلقت تكوينا حقوقيا ثم باشرت مهنة المحاماة ، بدأت مسيرتها الأدبية بنشر مقالات باللغتين العربية والفرنسية في الجرائد التونسية منذ سنة 1989 ، تحصلت على إجازة في الحقوق سنة 1992 .
كتبت الشعر والنثر ، صدرت لها عدة مؤلفات منها رؤى (نصوص شعرية عن دار سحر للنشر 1997) (غريبان رواية سنة 2003 عن دار سحر للنشر) ، (حديث الذاكرة نصوص شعرية سنة 2006 ) (عن دار كونتراست للنشر ) (كش مات مجموعة قصصية عن دار نيرفانا للنشر2015) (العنب في الليالي سنة 2021 عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع).
> حايسنت : ما هو الدور الذي لعبته مهنة المحاماة بالنسبة لكتابتك الأدبية، هل كانت لك مصدر إلهام ، هل مكنتك من اكتساب تلك الدقة التي تتميز بها نصوصك ؟
>> للإجابة على سؤالك ،لا بد من التعرض إلى مسائل ثلاث وهي : الأولى تتعلق بتكويني الأكاديمي الذي لم يقتصر على اكتساب المعارف والمعلومات بل وأيضا المنهجية في التفكير وطريقة ما لإدراك الواقع و فض النزاعات، وهو ما جعلني أكتسب أسلوبا لا يخلو من الصرامة والالتزام بالدقة .
أما المسألة الثانية، فإنها تخص الجانب العملي أي علاقتي بالآخر ، عند التواصل معه ، لفهم مشكلته والاستماع إليه ثم تشخيصها من الزاوية القانونية .
وأثناء ذلك التواصل، بتجاوزي الجانب المهني،يمكنني الحديث عن بروز بعد ثالث ، وهو اكتشاف جوانب أخرى، لدى كل إنسان: وهي التناقضات والشكوك وازدواجية الرغبات وحتى المواقف،التي جعلتني أدرك أن القيم مثل : الاحترام والمعاملة بالمثل وتحمل المسؤولية ليست بديهية كما نعتقد ، فكل شخص يرى العالم من وجهة نظره، بمعنى انطلاقا من طموحاته وانتظارا ته ورغباته ،مما ساعدني على تطوير رؤيتي الأدبية ككاتبة ومعرفة أسباب خلافاتنا واكتشاف موطن العظمة والهشاشة لدى كل منا .
> قد نقرأ لك مستقبلا باللغة الفرنسية سواء في مجلات أو في مؤلفات جماعية . متى سيصدر لك كتاب باللغة الفرنسية ، علما وأنك فرنكوفونية وقد كتبت بعض المقالات بلغة فولتار؟
>> يستهويني أدب الشذرات وكذلك الكتابة المكثفة القادرة على التفكير انطلاقا من تركيبتها ، وقد أكتب مستقبلا باللغة الفرنسية في هذا الجنس الأدبي بالذات .
لكن، بودي أن أوضح أمرا في هذا المجال،أنني أجد في كتابة الشعر والقصة والرواية باللغة العربية أكثر أريحية ، خاصة لاطلاعي على كبار الأدباء الفرنسيين من أمثال بلزاك وفلوبير وبروست وسيلين وكامو وساتر ودوراس ،لذلك أعتبر الكتابة بلغة فولتار طموحا يصعب تحقيقه ،كما أود أن أبين أيضا اكتسابي لثقافة مزدوجة إذ فتحت لي اللغة الفرنسية أفق الاطلاع لا على الثقافة الفرنسية فحسب، بل على ما يكتب وينتج في أنحاء العالم وأنا مدينة لها بالكثير، لكنني لست فرنكوفونية .
> حايسنت : تهتمين بالشأن العام انطلاقا من السياسة لتناول المشاكل الثقافية والارث الثقافي وإعادة قراءة التراث العربي الإسلامي ، ماذا يمكنك قوله في هذا الموضوع ؟
>> في الحقيقة ،تصب اهتماماتي على تنوعها في مفهوم واحد وهو الحداثة، باعتباره متعدد الفروع والاختصاصات ويتميز بالمرونة لاتساع مجالاته ، بما في ذلك إعادة النظر في الثقافة في معناها الواسع ،أي كرؤية للعالم وكذلك في السياسة كتنظيم للسلطة في مجتمع ما .
تاريخيا كانت الحداثة ابتكارا أنجزته الثقافة الغربية ، تمثل في الاعتماد على العقل ورد الاعتبار للإنسان بوصفه قيمة عليا ، لذلك ساهم هذا المفهوم في تطوير العلوم ونشأة التكنولوجيات الحديثة وامتلاك الإمكانيات المادية والتقنية التي سهلت حياة الإنسان .
إلا أن مجتمعنا اكتشف الحداثة عند مواجهة الاستعمار، أي بطريقة عنيفة، لذلك لم تفلح النخب العربية أثناء القرن التاسع عشر من خلال إشكاليات التي طرحتها، الخاصة بهذا الموضوع ، في التأسيس لفكر إنساني وتحقيق تطور مجتمعنا على الصعيد السياسي والاقتصادي ،إذ كان طرحها يستبطن جرحا نرجسيا ، أدى إلى صياغة خطاب هووي والانكماش على الذات لمواجهة الثقافة الغربية باعتبارها الثقافة المهيمنة والمتسلطة .
وقد أفضى هذا المسار إلى الرجوع إلى الدين أي الإسلام ، دون الأخذ بعين الاعتبار لا بعده التاريخي ولا الأنثروبولوجي .
كما تجدر الإشارة، أن التعرض المختصر للحركات الإصلاحية التي نشأت أثناء الفترة الاستعمارية بتنوعها سواء كانت محافظة أو ليبرالية، ليست بالمسألة الهينة، لما تتطلبه من تحليل عميق ، رغم ذلك يمكننا الرجوع إلى خيارات الدولة الوطنية بعد الاستقلال، التي أخذت بالتكنولوجيا الحديثة وبالإمكانيات العلمية الغربية، دون قيمه حداثية ،سواء تلك المتعلقة بالحريات الفردية أو بقيم النزعة الإنسانية ،نظرا لكونها لا تتلاءم مع الإسلام ولا مع التقاليد المحلية.
ثم توسع الشرخ الذي خلفته الحداثة، ليشمل جميع المجالات مثل الفن والأدب والشعر والسياسة والقيم الاجتماعية، بإعادة النظر في بعض القيم الموروثة وطرح بعض الأسئلة منها ما يلي : إن وجب الحفاظ على بحور الشعر العربي القديم أم تجاوزها ؟ إن لزم ضمان التعددية الحزبية أم الحفاظ على الحزب الواحد والقائد الواحد ؟ إن وجب الاعتراف بحرية المرأة وتمكينها من حق الشغل والعمل أم لا ؟ إن وجب تأسيس دولة بمؤسسات تخضع للقانون ولسيادة الشعب واختيار العلمانية أم لا ؟ وعلى الصعيد الاجتماعي السياسي: إن وجب ضمان الحريات الفردية وحرية التفكير أم الرجوع إلى التعاليم الدينية والى التقاليد ؟
من وجهة نظري ، لا وجود لحداثة واحدة غربية، بل لحداثة متعددة، لم تقطع كليا مع التراث الثقافي لمجتمع ما ،بل سعت إلى قراءته من زاوية مختلفة لاكتشاف رؤية للإنسان وإيجاد أجوبة تتعلق بالحرية ، الكرامة ،الإرادة الحرة و الغيرية .
فعلى سبيل المثال ، تشكل الأمثال والأساطير الشعبية مخزونا ثقافيا لا ينضب ، ليس ، لقدرتها على نقل تجارب الأجيال السابقة فحسب، بل لما تزخر به أيضا من فلسفة وفكر و رؤية للحياة و لمصير الإنسان عند مواجهته الشيخوخة والمرض والموت .فلكل شعب عبقريته وخصائصه وتاريخه وحدوده أيضا .
أن نكون "حداثيين" من وجهة نظري ، يعني أن نعيش الحاضر دون الخضوع إلى العادات والتقاليد، أن نفكر بأنفسنا أي بحرية ودون وصاية، لكي نحقق ذلك ، لا مانع من العودة إلى أدباء وشعراء مثل عمر الخيام ، أبي العلاء المعري ، قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى ، التوحيدي ، ابن المقفع، لأنهم كشفوا لنا جانبا من إنسانيتنا أي من ذواتنا، من هذا المنطلق يمكن اعتبارهم حداثيين .
وفي الختام ، أعتقد أنه يجب علينا تجاوز الخطاب الهووي المتصل بالدين وإعادة قراءة تراثنا الثقافي بجميع مصادره سواء المكتوبة أم الشفهية ، الرسمية أم الهامشية ،الفنية ،الدينية الروحية ،و إبراز جانبه العصري ،دون الانغلاق على الذات ، بل بالانفتاح التام على القيم الإنسانية المشتركة أي على ما هو عالمي .
. كما تجدر الإشارة ، إلى أن مطالب الثورة التونسية مثل الكرامة والحرية والشغل جعلتنا نتواصل من جديد مع قيم الأساسية للحداثة لكنها إما أولت تأويلا خاطئا أو أفرغت من معانيها ..
> حايسنت : كيف تكتبين ، هل لديك عادات معينة لممارسة الكتابة الأدبية وهل تؤمنين بالإلهام أم بالعمل ؟
>> أكتب انطلاقا من فكرة عابرة ، أو انفعال يغمرني ، أو ألم أصابني ، أو تجربة قصوى سواء كانت مؤلمة أو مفرحة ، لا انطلاقا من اللغة ، بل من عنصر خارجي يثير في الرغبة في الكتابة، اعتقادا مني ،أن لغتنا تتشكل من خلال ما نحياه ونعيشه وليس العكس ،على الأقل في المجال الأدبي .
ففي غياب هذه الرؤية ،أخشى اجترار ما أنتجته اللغة من تصورات للعالم ، من مخيال حتى وإن اتخذ أوصافا متعددة، وكذلك من أجواء ، بسرد نفس الحكايات واستعادة نفس الواقع .
في حين أن مهمة الكاتب ( إذا سلمنا جدلا أن للكاتب مهمة )هي اكتشاف ذلك الفضاء الذي يفصل اللغة عن لحظة زمنية معينة ،عن تجربة عشناها ،عن حدث ما ،عن واقعة ،عن حكاية، أن يسعى إلى أن ينفذ إليه وأن يحتله بفضل تجربته الشخصية، حتى يتسنى له التعبير عما قيل ووصف من قبل، بروح جديدة .
أعيش الكتابة داخل ذاتي ، أثناء قيامي بأنشطة متعددة مثل المشي والسباحة والتأمل ،أثناء حلمي بل حتى في لحظات صمتي ، ،بين فترتين أخلد فيهما إلى النوم وعندما أستيقظ ليلا.
أكتب إذا، أثناء انشغالي بالحياة، وأنا مسكونة بالبحث المستمر عن تصورات أخرى للعالم لاكتشاف جوانبه الأخرى، تلك التي تتعلق، بما هو سحري وغامض ،بما لا يوصف، بما لا يرى، بما لا يسمى ، بما لا يعرف ،بما لا يدرك ، بالضفة الأخرى ،بالمسكوت عنه ،بالصمت ، بالنسيان ، بالفقد ، بالغياب ،بالموت ، أي بكل ما يفوق إمكانيات اللغة ، رغم خضوعه لاستعمالها ،حتى تصبح قادرة على قول ما لا يمكن لها قوله ، وهي مهمة تتطلب مني الاشتغال عليها المستمر،أن أطالع دون انقطاع.
> حايسنت :لو وجب عليك ،أن تبدئي مسيرتي من جديد ، ماذا كنت ستختارين ؟ إذا كتب لك الحلول في كلمة أو حيوان أو شجرة ماذا ستكون ؟ وإذا أمكن ترجمة أحد نصوصك ، ما هي النصوص التي كنت ستخترينها ولماذا ؟
>> قطعا سأختار المحاماة مرة أخرى، أن أكون كاتبة ، لكنني سأسعى إلى دراسة الفلسفة لأنها ما انفكت تستهويني ،لو كتب لي الحلول في كلمة ستكون الحياة ، في شجرة ستكون الزيتونة ، في حيوان سيكون العصفور .
لو منحت لي فرصة اختيار نص واحد للترجمة إلى لغات أخرى، سأختار القصائد التي كتبتها على لسان ليلى العامرية، كما تخيلتها ،للرد على أشعار قيس ابن الملوح المعروف بمجنون ليلى ،وهو نص مقتطف من كتابي حديث الذاكرة، حتى يسمع صوتها الذي غيبته الأسطورة ، فلم تعد موجودة ،إذ تحولت إلى ذات ملهمة ، ظل يشير إلى الحرمان والغياب ، والحال أن مخيالنا الجماعي لا يحتاج إلى الاعتراف بحضور النساء فحسب، بل إلى تداول أقوالهن وما سعين إلى الافصاح عنه.
* نشر هذا الحوار باللغة الفرنسية بموقع Souffle inédit. بتاريخ 2021/10/14
وترجمته من اللغة الفرنسية الى العربية كاهنة عباس.
كاهنة عباس كاتبة تونسية من مواليد 1964 بتونس ، تلقت تكوينا حقوقيا ثم باشرت مهنة المحاماة ، بدأت مسيرتها الأدبية بنشر مقالات باللغتين العربية والفرنسية في الجرائد التونسية منذ سنة 1989 ، تحصلت على إجازة في الحقوق سنة 1992 .
كتبت الشعر والنثر ، صدرت لها عدة مؤلفات منها رؤى (نصوص شعرية عن دار سحر للنشر 1997) (غريبان رواية سنة 2003 عن دار سحر للنشر) ، (حديث الذاكرة نصوص شعرية سنة 2006 ) (عن دار كونتراست للنشر ) (كش مات مجموعة قصصية عن دار نيرفانا للنشر2015) (العنب في الليالي سنة 2021 عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع).
> حايسنت : ما هو الدور الذي لعبته مهنة المحاماة بالنسبة لكتابتك الأدبية، هل كانت لك مصدر إلهام ، هل مكنتك من اكتساب تلك الدقة التي تتميز بها نصوصك ؟
>> للإجابة على سؤالك ،لا بد من التعرض إلى مسائل ثلاث وهي : الأولى تتعلق بتكويني الأكاديمي الذي لم يقتصر على اكتساب المعارف والمعلومات بل وأيضا المنهجية في التفكير وطريقة ما لإدراك الواقع و فض النزاعات، وهو ما جعلني أكتسب أسلوبا لا يخلو من الصرامة والالتزام بالدقة .
أما المسألة الثانية، فإنها تخص الجانب العملي أي علاقتي بالآخر ، عند التواصل معه ، لفهم مشكلته والاستماع إليه ثم تشخيصها من الزاوية القانونية .
وأثناء ذلك التواصل، بتجاوزي الجانب المهني،يمكنني الحديث عن بروز بعد ثالث ، وهو اكتشاف جوانب أخرى، لدى كل إنسان: وهي التناقضات والشكوك وازدواجية الرغبات وحتى المواقف،التي جعلتني أدرك أن القيم مثل : الاحترام والمعاملة بالمثل وتحمل المسؤولية ليست بديهية كما نعتقد ، فكل شخص يرى العالم من وجهة نظره، بمعنى انطلاقا من طموحاته وانتظارا ته ورغباته ،مما ساعدني على تطوير رؤيتي الأدبية ككاتبة ومعرفة أسباب خلافاتنا واكتشاف موطن العظمة والهشاشة لدى كل منا .
> قد نقرأ لك مستقبلا باللغة الفرنسية سواء في مجلات أو في مؤلفات جماعية . متى سيصدر لك كتاب باللغة الفرنسية ، علما وأنك فرنكوفونية وقد كتبت بعض المقالات بلغة فولتار؟
>> يستهويني أدب الشذرات وكذلك الكتابة المكثفة القادرة على التفكير انطلاقا من تركيبتها ، وقد أكتب مستقبلا باللغة الفرنسية في هذا الجنس الأدبي بالذات .
لكن، بودي أن أوضح أمرا في هذا المجال،أنني أجد في كتابة الشعر والقصة والرواية باللغة العربية أكثر أريحية ، خاصة لاطلاعي على كبار الأدباء الفرنسيين من أمثال بلزاك وفلوبير وبروست وسيلين وكامو وساتر ودوراس ،لذلك أعتبر الكتابة بلغة فولتار طموحا يصعب تحقيقه ،كما أود أن أبين أيضا اكتسابي لثقافة مزدوجة إذ فتحت لي اللغة الفرنسية أفق الاطلاع لا على الثقافة الفرنسية فحسب، بل على ما يكتب وينتج في أنحاء العالم وأنا مدينة لها بالكثير، لكنني لست فرنكوفونية .
> حايسنت : تهتمين بالشأن العام انطلاقا من السياسة لتناول المشاكل الثقافية والارث الثقافي وإعادة قراءة التراث العربي الإسلامي ، ماذا يمكنك قوله في هذا الموضوع ؟
>> في الحقيقة ،تصب اهتماماتي على تنوعها في مفهوم واحد وهو الحداثة، باعتباره متعدد الفروع والاختصاصات ويتميز بالمرونة لاتساع مجالاته ، بما في ذلك إعادة النظر في الثقافة في معناها الواسع ،أي كرؤية للعالم وكذلك في السياسة كتنظيم للسلطة في مجتمع ما .
تاريخيا كانت الحداثة ابتكارا أنجزته الثقافة الغربية ، تمثل في الاعتماد على العقل ورد الاعتبار للإنسان بوصفه قيمة عليا ، لذلك ساهم هذا المفهوم في تطوير العلوم ونشأة التكنولوجيات الحديثة وامتلاك الإمكانيات المادية والتقنية التي سهلت حياة الإنسان .
إلا أن مجتمعنا اكتشف الحداثة عند مواجهة الاستعمار، أي بطريقة عنيفة، لذلك لم تفلح النخب العربية أثناء القرن التاسع عشر من خلال إشكاليات التي طرحتها، الخاصة بهذا الموضوع ، في التأسيس لفكر إنساني وتحقيق تطور مجتمعنا على الصعيد السياسي والاقتصادي ،إذ كان طرحها يستبطن جرحا نرجسيا ، أدى إلى صياغة خطاب هووي والانكماش على الذات لمواجهة الثقافة الغربية باعتبارها الثقافة المهيمنة والمتسلطة .
وقد أفضى هذا المسار إلى الرجوع إلى الدين أي الإسلام ، دون الأخذ بعين الاعتبار لا بعده التاريخي ولا الأنثروبولوجي .
كما تجدر الإشارة، أن التعرض المختصر للحركات الإصلاحية التي نشأت أثناء الفترة الاستعمارية بتنوعها سواء كانت محافظة أو ليبرالية، ليست بالمسألة الهينة، لما تتطلبه من تحليل عميق ، رغم ذلك يمكننا الرجوع إلى خيارات الدولة الوطنية بعد الاستقلال، التي أخذت بالتكنولوجيا الحديثة وبالإمكانيات العلمية الغربية، دون قيمه حداثية ،سواء تلك المتعلقة بالحريات الفردية أو بقيم النزعة الإنسانية ،نظرا لكونها لا تتلاءم مع الإسلام ولا مع التقاليد المحلية.
ثم توسع الشرخ الذي خلفته الحداثة، ليشمل جميع المجالات مثل الفن والأدب والشعر والسياسة والقيم الاجتماعية، بإعادة النظر في بعض القيم الموروثة وطرح بعض الأسئلة منها ما يلي : إن وجب الحفاظ على بحور الشعر العربي القديم أم تجاوزها ؟ إن لزم ضمان التعددية الحزبية أم الحفاظ على الحزب الواحد والقائد الواحد ؟ إن وجب الاعتراف بحرية المرأة وتمكينها من حق الشغل والعمل أم لا ؟ إن وجب تأسيس دولة بمؤسسات تخضع للقانون ولسيادة الشعب واختيار العلمانية أم لا ؟ وعلى الصعيد الاجتماعي السياسي: إن وجب ضمان الحريات الفردية وحرية التفكير أم الرجوع إلى التعاليم الدينية والى التقاليد ؟
من وجهة نظري ، لا وجود لحداثة واحدة غربية، بل لحداثة متعددة، لم تقطع كليا مع التراث الثقافي لمجتمع ما ،بل سعت إلى قراءته من زاوية مختلفة لاكتشاف رؤية للإنسان وإيجاد أجوبة تتعلق بالحرية ، الكرامة ،الإرادة الحرة و الغيرية .
فعلى سبيل المثال ، تشكل الأمثال والأساطير الشعبية مخزونا ثقافيا لا ينضب ، ليس ، لقدرتها على نقل تجارب الأجيال السابقة فحسب، بل لما تزخر به أيضا من فلسفة وفكر و رؤية للحياة و لمصير الإنسان عند مواجهته الشيخوخة والمرض والموت .فلكل شعب عبقريته وخصائصه وتاريخه وحدوده أيضا .
أن نكون "حداثيين" من وجهة نظري ، يعني أن نعيش الحاضر دون الخضوع إلى العادات والتقاليد، أن نفكر بأنفسنا أي بحرية ودون وصاية، لكي نحقق ذلك ، لا مانع من العودة إلى أدباء وشعراء مثل عمر الخيام ، أبي العلاء المعري ، قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى ، التوحيدي ، ابن المقفع، لأنهم كشفوا لنا جانبا من إنسانيتنا أي من ذواتنا، من هذا المنطلق يمكن اعتبارهم حداثيين .
وفي الختام ، أعتقد أنه يجب علينا تجاوز الخطاب الهووي المتصل بالدين وإعادة قراءة تراثنا الثقافي بجميع مصادره سواء المكتوبة أم الشفهية ، الرسمية أم الهامشية ،الفنية ،الدينية الروحية ،و إبراز جانبه العصري ،دون الانغلاق على الذات ، بل بالانفتاح التام على القيم الإنسانية المشتركة أي على ما هو عالمي .
. كما تجدر الإشارة ، إلى أن مطالب الثورة التونسية مثل الكرامة والحرية والشغل جعلتنا نتواصل من جديد مع قيم الأساسية للحداثة لكنها إما أولت تأويلا خاطئا أو أفرغت من معانيها ..
> حايسنت : كيف تكتبين ، هل لديك عادات معينة لممارسة الكتابة الأدبية وهل تؤمنين بالإلهام أم بالعمل ؟
>> أكتب انطلاقا من فكرة عابرة ، أو انفعال يغمرني ، أو ألم أصابني ، أو تجربة قصوى سواء كانت مؤلمة أو مفرحة ، لا انطلاقا من اللغة ، بل من عنصر خارجي يثير في الرغبة في الكتابة، اعتقادا مني ،أن لغتنا تتشكل من خلال ما نحياه ونعيشه وليس العكس ،على الأقل في المجال الأدبي .
ففي غياب هذه الرؤية ،أخشى اجترار ما أنتجته اللغة من تصورات للعالم ، من مخيال حتى وإن اتخذ أوصافا متعددة، وكذلك من أجواء ، بسرد نفس الحكايات واستعادة نفس الواقع .
في حين أن مهمة الكاتب ( إذا سلمنا جدلا أن للكاتب مهمة )هي اكتشاف ذلك الفضاء الذي يفصل اللغة عن لحظة زمنية معينة ،عن تجربة عشناها ،عن حدث ما ،عن واقعة ،عن حكاية، أن يسعى إلى أن ينفذ إليه وأن يحتله بفضل تجربته الشخصية، حتى يتسنى له التعبير عما قيل ووصف من قبل، بروح جديدة .
أعيش الكتابة داخل ذاتي ، أثناء قيامي بأنشطة متعددة مثل المشي والسباحة والتأمل ،أثناء حلمي بل حتى في لحظات صمتي ، ،بين فترتين أخلد فيهما إلى النوم وعندما أستيقظ ليلا.
أكتب إذا، أثناء انشغالي بالحياة، وأنا مسكونة بالبحث المستمر عن تصورات أخرى للعالم لاكتشاف جوانبه الأخرى، تلك التي تتعلق، بما هو سحري وغامض ،بما لا يوصف، بما لا يرى، بما لا يسمى ، بما لا يعرف ،بما لا يدرك ، بالضفة الأخرى ،بالمسكوت عنه ،بالصمت ، بالنسيان ، بالفقد ، بالغياب ،بالموت ، أي بكل ما يفوق إمكانيات اللغة ، رغم خضوعه لاستعمالها ،حتى تصبح قادرة على قول ما لا يمكن لها قوله ، وهي مهمة تتطلب مني الاشتغال عليها المستمر،أن أطالع دون انقطاع.
> حايسنت :لو وجب عليك ،أن تبدئي مسيرتي من جديد ، ماذا كنت ستختارين ؟ إذا كتب لك الحلول في كلمة أو حيوان أو شجرة ماذا ستكون ؟ وإذا أمكن ترجمة أحد نصوصك ، ما هي النصوص التي كنت ستخترينها ولماذا ؟
>> قطعا سأختار المحاماة مرة أخرى، أن أكون كاتبة ، لكنني سأسعى إلى دراسة الفلسفة لأنها ما انفكت تستهويني ،لو كتب لي الحلول في كلمة ستكون الحياة ، في شجرة ستكون الزيتونة ، في حيوان سيكون العصفور .
لو منحت لي فرصة اختيار نص واحد للترجمة إلى لغات أخرى، سأختار القصائد التي كتبتها على لسان ليلى العامرية، كما تخيلتها ،للرد على أشعار قيس ابن الملوح المعروف بمجنون ليلى ،وهو نص مقتطف من كتابي حديث الذاكرة، حتى يسمع صوتها الذي غيبته الأسطورة ، فلم تعد موجودة ،إذ تحولت إلى ذات ملهمة ، ظل يشير إلى الحرمان والغياب ، والحال أن مخيالنا الجماعي لا يحتاج إلى الاعتراف بحضور النساء فحسب، بل إلى تداول أقوالهن وما سعين إلى الافصاح عنه.
* نشر هذا الحوار باللغة الفرنسية بموقع Souffle inédit. بتاريخ 2021/10/14
وترجمته من اللغة الفرنسية الى العربية كاهنة عباس.