إن المنشيء أو المبدع يتحتاج في انتاج نصه الشعري أو الأدبي عامة إلى التناسب بين الألفاظ والمعاني، ليحقق بذلك زبدة البلاغة ومراعاة مقتضى الحال من ناحية، وليؤثر في متلقيه من ناحية أخرى. وقد عرف هذا الفن في ابلاغة بائتلاف اللفظ والمعنى. و درسه علماء البلاغة وحددوا معالمه؛ فنرى بشر بن المعتمر في صحيفته، يقول:"من أراغ معنى شريفا فليلتمس له لفظا كريما، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف" ويقرر الجاحظ ذلك بقوله: "ألا إني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني" ويضيف قائلا: "ومتى شاكل -أبقاك الله- ذلك اللفظ معناه وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقا ولذلك القدر لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قمينا بحسن الموقع وبانتفاع المستمع، وأجدر بأن يمنع الجانبه من تناول الظاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، وألّا تزال القلوب به معمورة، والصدور مأهولة، وقال:" ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكلنوع من المعاني تنوع من الأسماء، فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل".
وهذا هو التناسب بين اللفظ والمعنى، وقد سماه قدامة بن جعفر "ائتلاف اللفظ والمعنى" وتحدث فيه عن المساواة والإشارة والارداف والتمثيل. وشرحه الآمدي صاحب الموازنة، وتحدث عنه القاضي الجرجاني فقال: "ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحدا، ولا ان تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك، بل ترتب كل مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزّلتَ، وتفخّم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والبأس يتمز عن المدح باللباقة والظرف، وصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو املك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه".
أما المرزوقي شارح الحماسة، فقد عد "مشاكلة اللفظ للمعنى" أحد أبواب عمود الشعر، فعنده أن "عيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية طول الدربة ودوام المدارسة، فإذا حكما بحسن التباس بعضها ببعض لا جفاء في خلالهما ولا نبوّ ولا زيادة فيها ولا قصور، وكان اللفظ مقسوما على رتب المعاني قد جعل الأخص للأخص، والأخس للأخس فهو البري من العيب"
وقال ابن أبي الأصبع:"وتلخيص معنى هذه التسمية أن تكون أن ألفاظ المعنى المطلوب ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى" وعرف العلوي صاحب الطراز هذا الفن بقوله:"أن تكون الألفاظ لائقة بالمعنى المقصود ومناسبة له، فإذا كان المعنى فخما كان اللفظ الموضوع له جزلا، وإذا كان المعنى رقيقا كان اللفظ رقيقا فيطابقه في كل أحواله، وهما إذا خرجا هذا المخرج وتلاءما هذه الملاءمة وقعا من البلاغة أحسن موقع، وتألفا على أحسن شكل وانتظما في أوفق نظام، وهذا باب عظيم في علم البديع، وجاء القرآن الكريم على هذا الأسلوب"
ومثاله من القرآن الكريم، قوله تعالى: [إِنَّ مثلَ عيسى عند الله كمثلِ آدم خلقه من تراب] حيث عدل سبحتنه وتعالى عن ذكر الطين الذي هو مجموع التراب والماء إلى ذكر مجرد التراب لأنه أدنى العنصرين وأكثفهما ولما كان المقصود مقابلة من ادّعى في المسيح الإلهية بما يصغر أمر خلقه عند من ادّعى ذلك، فلهذا كان الاتيان بلفظة التراب أمتن بالمعنى من غيرها من العناصر، ولو كان موضعه غيره لكان اللفظ غير مؤتلف بالمعنى المقصود، ولما لأراد سبحانه الامتنان على بين إسرائيل بعيسى عليه السلام أخبرهم عنه أنه يخلق من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه بإذنه، إذ كان المعنى المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به.
زمن طريف هذا ما يتصل بهذا المعنى ما جاء عن بشار بن برد، فقد قيل له: إنك لتجيء بالشيء المتفاوت. قال: وما ذاك؟ قيل: بينما تقول شعرا تتثير به النقع وتخلع القلوب مثل قولك:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطّرت دما
إذا ما ما أعرنا سيدا من قبيلةٍ ذُرى منبرٍ صلّى علينا وسلّما
تقول:
رباة ربة البيتِ تصبُّ الخلِّ في الزيتِ
لها عشرُ دجاجاتٍ وديكٌ حَسَنُ الصوتِ
فقال بشار: لكل شيء وجه ووموضع، فالقول الأول جد، وهذا قلته في جارتي ربابة.
ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
أثافيّ سُعفا في معرّس مرجلٍ ونُؤياً كجِذم الحوضِ لم يتثلّمِ
فلّما عرفت الدار قُلتُ لربعها ألا أنعم صباحا أيها الربع اسلمِ
فإنه لما قصد الى تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى عربي لكن المعنى غريب ركبه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال، ولما قصد في البيت الثاني إلى معنى أبين من الأول وأعرف وإن كان غريبا- ركّبه من ألفاظ مستعملة معروفة.
ومن هذا الباب، ملاءمة الألفاظ في نظم الكلام على مقتضى المعنى لا مجرد جملة اللفظ، فإن الائتلاف من جهة ما تقدم من ملاءمة الغريب للغريب والمستعمل للمستعمل لا من جهة المعنى ، بل ذلك من جهة اللفظ. وأما الذي من جهة المعنى فقوله تعالى:[ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار] فإنه سبحانه نهى عن الركون للظالمين، وهو الميل لهم والاعتماد عليهم- وكان ذلك دون مشاركتهم في الظلم، أخبر أن العقاب على ذلك دون الظلم وهو مس النار دون الاحراق ولاصطلاء ، وإن كان المس قد يطلق ويراد الاستئصال بالعذاب وشمول الثواب أكبر مجازا، ولما كان المس أول ألم أو لذة يباشرها الممسوس، جاز أن يطلق ما يدل عليه استصحاب تلك احال مجازا، والحقيقة ما ذكر وهو في هذه الآية الكريمة على حقيقته.
نخلص مما سبق إلى القول: إن ائتلاف اللفظ والمعنى أساس الكلام البليغ، وهو سمة الشعراء الفحول، يتجلى في وضع الألفاظ الملائمة للمعاني التي يروم الشاعر أو المنشيء عموما إيصالها للمتلقي في صورة مقبولة ومعرض حسن.
المراجع:
احمد مطلوب، معجم النقد العربي القديم.
الجاحظ، البيان والتبيين.
الآمدي، الموازنة بين الطائين.
الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه.
المرزوقي ، شرح ديوان الحماسة.
العلوي، الطراز في علوم البلاغة وحقائق الإيجاز.
ابن أبي الأصبع، تحرير التحبير.
وهذا هو التناسب بين اللفظ والمعنى، وقد سماه قدامة بن جعفر "ائتلاف اللفظ والمعنى" وتحدث فيه عن المساواة والإشارة والارداف والتمثيل. وشرحه الآمدي صاحب الموازنة، وتحدث عنه القاضي الجرجاني فقال: "ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحدا، ولا ان تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك، بل ترتب كل مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزّلتَ، وتفخّم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والبأس يتمز عن المدح باللباقة والظرف، وصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو املك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه".
أما المرزوقي شارح الحماسة، فقد عد "مشاكلة اللفظ للمعنى" أحد أبواب عمود الشعر، فعنده أن "عيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية طول الدربة ودوام المدارسة، فإذا حكما بحسن التباس بعضها ببعض لا جفاء في خلالهما ولا نبوّ ولا زيادة فيها ولا قصور، وكان اللفظ مقسوما على رتب المعاني قد جعل الأخص للأخص، والأخس للأخس فهو البري من العيب"
وقال ابن أبي الأصبع:"وتلخيص معنى هذه التسمية أن تكون أن ألفاظ المعنى المطلوب ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى" وعرف العلوي صاحب الطراز هذا الفن بقوله:"أن تكون الألفاظ لائقة بالمعنى المقصود ومناسبة له، فإذا كان المعنى فخما كان اللفظ الموضوع له جزلا، وإذا كان المعنى رقيقا كان اللفظ رقيقا فيطابقه في كل أحواله، وهما إذا خرجا هذا المخرج وتلاءما هذه الملاءمة وقعا من البلاغة أحسن موقع، وتألفا على أحسن شكل وانتظما في أوفق نظام، وهذا باب عظيم في علم البديع، وجاء القرآن الكريم على هذا الأسلوب"
ومثاله من القرآن الكريم، قوله تعالى: [إِنَّ مثلَ عيسى عند الله كمثلِ آدم خلقه من تراب] حيث عدل سبحتنه وتعالى عن ذكر الطين الذي هو مجموع التراب والماء إلى ذكر مجرد التراب لأنه أدنى العنصرين وأكثفهما ولما كان المقصود مقابلة من ادّعى في المسيح الإلهية بما يصغر أمر خلقه عند من ادّعى ذلك، فلهذا كان الاتيان بلفظة التراب أمتن بالمعنى من غيرها من العناصر، ولو كان موضعه غيره لكان اللفظ غير مؤتلف بالمعنى المقصود، ولما لأراد سبحانه الامتنان على بين إسرائيل بعيسى عليه السلام أخبرهم عنه أنه يخلق من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه بإذنه، إذ كان المعنى المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به.
زمن طريف هذا ما يتصل بهذا المعنى ما جاء عن بشار بن برد، فقد قيل له: إنك لتجيء بالشيء المتفاوت. قال: وما ذاك؟ قيل: بينما تقول شعرا تتثير به النقع وتخلع القلوب مثل قولك:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطّرت دما
إذا ما ما أعرنا سيدا من قبيلةٍ ذُرى منبرٍ صلّى علينا وسلّما
تقول:
رباة ربة البيتِ تصبُّ الخلِّ في الزيتِ
لها عشرُ دجاجاتٍ وديكٌ حَسَنُ الصوتِ
فقال بشار: لكل شيء وجه ووموضع، فالقول الأول جد، وهذا قلته في جارتي ربابة.
ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
أثافيّ سُعفا في معرّس مرجلٍ ونُؤياً كجِذم الحوضِ لم يتثلّمِ
فلّما عرفت الدار قُلتُ لربعها ألا أنعم صباحا أيها الربع اسلمِ
فإنه لما قصد الى تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى عربي لكن المعنى غريب ركبه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال، ولما قصد في البيت الثاني إلى معنى أبين من الأول وأعرف وإن كان غريبا- ركّبه من ألفاظ مستعملة معروفة.
ومن هذا الباب، ملاءمة الألفاظ في نظم الكلام على مقتضى المعنى لا مجرد جملة اللفظ، فإن الائتلاف من جهة ما تقدم من ملاءمة الغريب للغريب والمستعمل للمستعمل لا من جهة المعنى ، بل ذلك من جهة اللفظ. وأما الذي من جهة المعنى فقوله تعالى:[ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار] فإنه سبحانه نهى عن الركون للظالمين، وهو الميل لهم والاعتماد عليهم- وكان ذلك دون مشاركتهم في الظلم، أخبر أن العقاب على ذلك دون الظلم وهو مس النار دون الاحراق ولاصطلاء ، وإن كان المس قد يطلق ويراد الاستئصال بالعذاب وشمول الثواب أكبر مجازا، ولما كان المس أول ألم أو لذة يباشرها الممسوس، جاز أن يطلق ما يدل عليه استصحاب تلك احال مجازا، والحقيقة ما ذكر وهو في هذه الآية الكريمة على حقيقته.
نخلص مما سبق إلى القول: إن ائتلاف اللفظ والمعنى أساس الكلام البليغ، وهو سمة الشعراء الفحول، يتجلى في وضع الألفاظ الملائمة للمعاني التي يروم الشاعر أو المنشيء عموما إيصالها للمتلقي في صورة مقبولة ومعرض حسن.
المراجع:
احمد مطلوب، معجم النقد العربي القديم.
الجاحظ، البيان والتبيين.
الآمدي، الموازنة بين الطائين.
الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه.
المرزوقي ، شرح ديوان الحماسة.
العلوي، الطراز في علوم البلاغة وحقائق الإيجاز.
ابن أبي الأصبع، تحرير التحبير.