«لم أحتفظ بما ألقيت من دروس، فما إن تنتهي الحصّة حتى أمزّق أوراق التحضير، لم يبق أيّ أثر لسنوات من الكلام الأكاديمي» (في جوّ من النّدم الفكري، المتوسط 2020، ص70).
بوح صاعق وعنيف!
من المعلوم أنّ عددا من الأساتذة الجامعيين يحرصون كثيرا على محاضراتهم التي يلقونها على الطلبة، فيجعلونها أحيانا كتبا منشورة على النّاس، أو على الأقل يحتفظون بها في أدراج مكاتبهم كإرث ثمين يمثّل كلّ ثمار المعرفة اللذيذة التي جنوها بكدّ وعناء على امتداد عمر كامل.
لكن الأديب عبد الفتاح كيليطو تصرّف خلاف هذه العادة بصورة قاسية : لم يتلف دروسه ولم يرمها في سلة مهملات، بل لم يهملها في مكان ما و«ينساها»؛ إنّما مزّقها. فعل التّمزيق يخفي في جوفه رغبة عميقة في المحو، في الإبادة، في عدم الإبقاء على أيّ أثر. لماذا يا تُرى؟
نحن نعلم أنّ دروس كيليطو في الجامعة لم تكن دروسا عادية، كانت دروسا شيّقة وشاقة (هذا ما يعلنه بعض طلبته)، خلاصة ساعات وساعات من الإعداد المضني، من المطالعات التي ليس لها من نهاية، من التأمّلات التي تستغرق وقتا لا حدّ له. هي لذلك دروس بالغة الإفادة سيما أنّ صاحبها يتميّز بالعناية الفائقة والحذر الشديد بما يقول (وبالطبع بما يكتب).
على ماذا كانت تنطوي هذه الدروس؟ هي بدءا دروس في الأدب الفرنسي، ولنا أن نتخيّل هنا المقدار الهائل من التفسيرات والتأويلات التي قاربت قمم هذا الأدب (مونتيني، فلوبير، بلزاك، بروست، مالارمي، بودلير.. وما لا يحصى من الأدباء) والتي ضاعت إلى الأبد. وهي ثانيا أنساق نقدية مختلفة ومناهج تحليل متباينة مترعة بالمعرفة الجديدة (بارط، جان بيير ريشار، فوكو، جونيت، مجلة بويتيك…) والتي بدورها تعرّضت للتّلف. وهي ثالثا، وهو الأمر الحاسم، تعبير أمين وصادق عن شخصية كيليطو الذهنية والنفسية، عن ذكاء حسّه الأدبي، عن تاريخ قراءاته، عن مزاجه الثقافي والسياسي، عن تفاعله مع لحظات التاريخ.
نعرف أنه مولع بالتخلّص من مسودّاته ومخطوطاته: «عند سنّ الثالثة والعشرين كتبت روايتين باللغة العربية، بل وفكّرت في نشرهما، إلاّ أنّني لم أجد من حولي إلاّ اللاّمبالاة، ممّا دفعني إلى إتلاف المخطوطين في ما بعد». واضح هنا أنّ وازع الإتلاف في هذه الحالة يحمل معه تبريره الشخصي، ونعرف كذلك تعلّقه بعبارة فولكنر «أقتلْ أحبّاءك» والتي فهم منها عدم التردّد في التضحية بما يُكتب وطرحه في سلّة المهملات بالرّغم من شدّة الحبّ له. لكن أن يتمّ قتل دروس أكاديمية قيّمة فور الانتهاء منها (لا جرم أنّ فائدتها ومتعتها لم تكونا أقلّ ممّا ينشره من كتب على النّاس)، فيحمل الكثير من عدم الفهم المشوب بشيء من الأسف.
في محاولة إعطاء مسوّغ لمسلكه هذا، وبصورة غير مباشرة، (لا ينبغي أن تغيب عنّا، في هذا السياق، الشخصيتان الأثيرتان لديه؛ التوحيدي وكافكا وكلاهما، لملابسات أخرى، عمدا إلى محاولة إعدام كتبهما) يتعرّض كيليطو لقضيّة تحتمل الجدل والنّقاش: «لن أضيف شيئا يذكر لما يكتبه الفرنسيون. (…) إنّهم، وهذا هو المهم، لا ينتظرون منّي أن أكتب عن أدبهم. أدبهم لا يحتاجني.» هذه القناعة التي، على ما يبدو، كانت راسخة لدى الكاتب، أملت عليه فعل التّمزيق لأنّ تلك الدّروس لم تهيّئ له كتابة متفرّدة عن أعمال أدبية فرنسية.
غير أنّ هذا «الوهم» قد يكون انجلى مؤخّرا حين انتبه إلى أنّه كان في مستطاعه أن يمنح لبعض النصوص الفرنسية «مسحة، لنقل عربية، نغمة مستطرفة مميّزة، شيء لا يمكن أن يأتي به إلاّ قادم من ثقافة مختلفة، غير أوروبية» لكن ماذا؟ بعد انصرام الزّمن. ولهذا السّبب استطرد كيليطو يقول بنبرة حنين مشوب بندم «وإلى اليوم أحنّ إلى هذا العمل الفريد النّادر الذي لم أنجزه».
إنّه ندم فكري أو ندم أدبي لا يشمل هذه الجزئية فحسب (لنرجعْ إلى «فنّ الخطأ» تمثيلا في الكتاب نفسه)؛ إنّه يسري في كتابات كيليطو، ولذلك ارتقى ليصير عنوانا «وما يلفت أكثر في العناوين أنّها تحمل في بعض الأحيان مفاجآت، ليس للقارئ فحسب، بل كذلك للمؤلّف الذي قام بصياغتها». ما يعني أن يتحوّل النّدم إلى موضوعة أثيرة عند الكاتب تستوجب الفحص إسوة بموضوعات الكتاب والباب والمفتاح وسوء الفهم واللّبس وغيرها. وما يؤيّد هذا الاحتمال عبارة كافكا التي تتصدّر رواية عبد الفتاح كيليطو الأخيرة «واللّه إنّ هذه الحكاية لحكايتي». يقول الاقتباس : «ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو».
https://www.alakhbar.press.ma/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7...
بوح صاعق وعنيف!
من المعلوم أنّ عددا من الأساتذة الجامعيين يحرصون كثيرا على محاضراتهم التي يلقونها على الطلبة، فيجعلونها أحيانا كتبا منشورة على النّاس، أو على الأقل يحتفظون بها في أدراج مكاتبهم كإرث ثمين يمثّل كلّ ثمار المعرفة اللذيذة التي جنوها بكدّ وعناء على امتداد عمر كامل.
لكن الأديب عبد الفتاح كيليطو تصرّف خلاف هذه العادة بصورة قاسية : لم يتلف دروسه ولم يرمها في سلة مهملات، بل لم يهملها في مكان ما و«ينساها»؛ إنّما مزّقها. فعل التّمزيق يخفي في جوفه رغبة عميقة في المحو، في الإبادة، في عدم الإبقاء على أيّ أثر. لماذا يا تُرى؟
نحن نعلم أنّ دروس كيليطو في الجامعة لم تكن دروسا عادية، كانت دروسا شيّقة وشاقة (هذا ما يعلنه بعض طلبته)، خلاصة ساعات وساعات من الإعداد المضني، من المطالعات التي ليس لها من نهاية، من التأمّلات التي تستغرق وقتا لا حدّ له. هي لذلك دروس بالغة الإفادة سيما أنّ صاحبها يتميّز بالعناية الفائقة والحذر الشديد بما يقول (وبالطبع بما يكتب).
على ماذا كانت تنطوي هذه الدروس؟ هي بدءا دروس في الأدب الفرنسي، ولنا أن نتخيّل هنا المقدار الهائل من التفسيرات والتأويلات التي قاربت قمم هذا الأدب (مونتيني، فلوبير، بلزاك، بروست، مالارمي، بودلير.. وما لا يحصى من الأدباء) والتي ضاعت إلى الأبد. وهي ثانيا أنساق نقدية مختلفة ومناهج تحليل متباينة مترعة بالمعرفة الجديدة (بارط، جان بيير ريشار، فوكو، جونيت، مجلة بويتيك…) والتي بدورها تعرّضت للتّلف. وهي ثالثا، وهو الأمر الحاسم، تعبير أمين وصادق عن شخصية كيليطو الذهنية والنفسية، عن ذكاء حسّه الأدبي، عن تاريخ قراءاته، عن مزاجه الثقافي والسياسي، عن تفاعله مع لحظات التاريخ.
نعرف أنه مولع بالتخلّص من مسودّاته ومخطوطاته: «عند سنّ الثالثة والعشرين كتبت روايتين باللغة العربية، بل وفكّرت في نشرهما، إلاّ أنّني لم أجد من حولي إلاّ اللاّمبالاة، ممّا دفعني إلى إتلاف المخطوطين في ما بعد». واضح هنا أنّ وازع الإتلاف في هذه الحالة يحمل معه تبريره الشخصي، ونعرف كذلك تعلّقه بعبارة فولكنر «أقتلْ أحبّاءك» والتي فهم منها عدم التردّد في التضحية بما يُكتب وطرحه في سلّة المهملات بالرّغم من شدّة الحبّ له. لكن أن يتمّ قتل دروس أكاديمية قيّمة فور الانتهاء منها (لا جرم أنّ فائدتها ومتعتها لم تكونا أقلّ ممّا ينشره من كتب على النّاس)، فيحمل الكثير من عدم الفهم المشوب بشيء من الأسف.
في محاولة إعطاء مسوّغ لمسلكه هذا، وبصورة غير مباشرة، (لا ينبغي أن تغيب عنّا، في هذا السياق، الشخصيتان الأثيرتان لديه؛ التوحيدي وكافكا وكلاهما، لملابسات أخرى، عمدا إلى محاولة إعدام كتبهما) يتعرّض كيليطو لقضيّة تحتمل الجدل والنّقاش: «لن أضيف شيئا يذكر لما يكتبه الفرنسيون. (…) إنّهم، وهذا هو المهم، لا ينتظرون منّي أن أكتب عن أدبهم. أدبهم لا يحتاجني.» هذه القناعة التي، على ما يبدو، كانت راسخة لدى الكاتب، أملت عليه فعل التّمزيق لأنّ تلك الدّروس لم تهيّئ له كتابة متفرّدة عن أعمال أدبية فرنسية.
غير أنّ هذا «الوهم» قد يكون انجلى مؤخّرا حين انتبه إلى أنّه كان في مستطاعه أن يمنح لبعض النصوص الفرنسية «مسحة، لنقل عربية، نغمة مستطرفة مميّزة، شيء لا يمكن أن يأتي به إلاّ قادم من ثقافة مختلفة، غير أوروبية» لكن ماذا؟ بعد انصرام الزّمن. ولهذا السّبب استطرد كيليطو يقول بنبرة حنين مشوب بندم «وإلى اليوم أحنّ إلى هذا العمل الفريد النّادر الذي لم أنجزه».
إنّه ندم فكري أو ندم أدبي لا يشمل هذه الجزئية فحسب (لنرجعْ إلى «فنّ الخطأ» تمثيلا في الكتاب نفسه)؛ إنّه يسري في كتابات كيليطو، ولذلك ارتقى ليصير عنوانا «وما يلفت أكثر في العناوين أنّها تحمل في بعض الأحيان مفاجآت، ليس للقارئ فحسب، بل كذلك للمؤلّف الذي قام بصياغتها». ما يعني أن يتحوّل النّدم إلى موضوعة أثيرة عند الكاتب تستوجب الفحص إسوة بموضوعات الكتاب والباب والمفتاح وسوء الفهم واللّبس وغيرها. وما يؤيّد هذا الاحتمال عبارة كافكا التي تتصدّر رواية عبد الفتاح كيليطو الأخيرة «واللّه إنّ هذه الحكاية لحكايتي». يقول الاقتباس : «ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو».
https://www.alakhbar.press.ma/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7...