في المدن التي تلفظ بقاياها وربما أوزراها... ستجدني. حيث تزكم الأنوف بروائح أصناف عديدة قد لا تحتملها... لن تفضل أن تجدني. على الطرقات السريعة التي لا تتوقف عن الركض... ربما ستحاول أن تجدني.
أقول ربما! فما هي إلا تكهنات تعبث بإنسانيتي التي تتضاءل هويتها يوماً بعد يوم، فالواقع الشاحب يبدو مثل صفعة مربكة، ويتناسى العابرون حقيقتي المطلقة إلا من رحم ربي. فمن ذا الذي يلتفت للمحمّصة جلودهم في الطرقات المتشربة برائحة الأتربة وعرق الشقاء إلا ما ندر؟ من أنضج اللهيب عظامهم، وغزاهم البرد، وتقاذفهم الهواء كغبار الطلع. الذين سحقتهم الظروف فأحالتهم إلى كائنات واهنة، لُفظت أجسادها في أزقة الحارات الضيقة، في الغرف الرطبة التي تجمع تنهدات العشرات أو المئات ممن افترشوا الأرض لنوم ساعة، وتأوهوا خلف أبواب الصبر المرهقة وفارقوا مرتع الحياة من أجل أفواه جائعة.
كنت أعتقد بأن الشمس التي تُفيق أهل قريتي لمزاولة نشاطهم في الحقول الخضراء، يغنون ويرقصون على أنغام شروقها حتى تثمر أشجار البابايا والمانجو، ويسقط شعاعها على وجوه النساء الجميلات فتنتصب سنابل القمح من حُسنهن، هي ذات الشمس في كل بقاع الأرض.
يا لسذاجتي!
فها هي تسطع ثائرة مغترة هنا بحرارتها دون رحمة، تشرب كل يوم جرعة من ماء شبابي حتى أصابني الهزال. بِت الآن هشاً كغصن شجرة عجفاء، جافاً كإناء فخاري قابل للكسر، لقد كبرت خمسين عاماً دفعة واحدة بعدد الأشهر التي تسلّمت فيها راتبي أو لم أتسلّمه.
لعل بضع جنيهات يجود بها بعض المارة تضمد حاجتي لشيء ما، للطعام مثلاً، فتأخذني إلى آفاق رفاهيتي لأشتري بها سندوتشات "البراتا" الساخنة والمحشوة بالجبن السائل اللذيذ، وأتناول شاي "الكرك" المهدئ للأعصاب وكل ذلك في يوم واحد. لكن! يزورني طيف أمي وحوالتي المالية التي تنتظرها بفارغ الصبر، فتشرع نفسي في معاتبتي، ويتبعني شبح الندم بعينين دائريتين تشبهان النقود المعدنية الصدئة، ولا ينفك يترصد لي حتى أتخلص منه بطلب الغفران وبتلاوة صلوات النجاة، فيتبخر أخيراً في الهواء.
عادة ما أنهمك في عملي، بل واستغرق استغراق العابد فيه لأتناسى تلك الأشباح المرعبة التي تلاحقني لأسباب مختلفة والكثير المرير مما يحدث لي. موحشة هي الغربة، مصاصة دماء، لا تذر الكثيرين على طبيعتهم البكر، تحوّلهم من حال إلى حال، تستهلك تفكيرهم، تُجهض إنسانيتهم، لا ينجو منها الضعفاء، والبقاء للأقوى!
بينما كنت أعمل على قارعة الطريق، إذا بعربة فخمة تقف قربي، يناديني سائقها، راجياً مني أن اقترب، ظننت أنه يريد الاستفسار عن شيء ما، وعندما اقتربت منه ناولني كيساً كبيراً وبينما تتحرك العربة صاح:
ارمه في سلة القمامة.
غادر مسرعاً مخلفاً وراءه سُحباً سامة من دخان يتشكل على هيئة شبح جديد... وغصة في حلقي!
تلاحقني الآن أشباح السيارات الفخمة، تستحيل أدخنتها إلى أفاعٍ تطاردني لتفرغ سمها ثم تتلوى وتنزوي هاربة، أو تعود لابتلاعي عندما تشعر بالجوع. حاولت أن أسابقها ذات مرة بسرعة الريح علّني أهرب منها، محاولة لا بأس بها لكنها تحولت إلى حماقة في اليوم الذي قررت أن أبرز فيه عنتريتي وأتحداها، طوقتني تلك الملعونة حتى كادت أن تسرق أنفاسي وتمحو اسمي من سجل الأحياء. لا أذكر كيف نجوت من هذه الحادثة سوى إني ركضت بعيداً عنها، لاهثاً، مستغيثاً في طريق ممتد إلى ما لا نهاية أو هكذا أحسبه من شدة الخوف والتعب وفي يدي... مكنسة!
المكنسة، رفيقتي الوفية التي لا غنى لي عنها، أنتم تربون قططاً وكلاباً وطيوراً وربما تماسيحاً لتأنسوا بها أو تتفاخرون باقتنائها وتتناسون أمثالها. كم أستأنس بها، فهي تمسح عني مشقة الأيام، وأهش بها على مخاوفي حين يتآكلني الصدأ، تدافع عني، وتدفع بأحلامي الصغيرة المسافرة لأطول مسافة ممكنة، آه كم اعشق الأحلام، يكفي أنها ليست مدفوعة الثمن!
وحين أكون منتشياً تراقصني كجنيّة في ليل مجنون، وقد تستحيل إلى آلة "سيتار" تحمل رسائلي وأغنياتي لحبيبتي "أناندا" حيث تعودنا اللقاء في "معابد خاجوراهو"، أو تثير مهرجاناً من ألوان نتراشق بها سوية في "عيد الهولي"... يغدو العالم بالألوان لي أنا وحبيبتي فقط.
لكن الألوان لا تثبت على حال، تختلط، تتغير، تجف، تختفي، أو يعريها الزمن فتتغطى الأرض بلون ترابي واحد. العالم الآن صحراوي تماماً إلا من نباتات صحراوية تقاوم القيظ، بضع جمال صابرة أو مواعز ضائعة ألتقيها في طريقي صدفة وهي تلهث من العطش، وأكياس قمامة تتوزع هنا وهناك. وها هي أعضائي تنحل مع الأيام عضواً، عضواً حتى عدت نطفة في رحم أمي.
أمي التي نسيت أن أذكر لها في رسالتي الأخيرة: ما من داعٍ لحرقي على ضفاف "نهر الغانج" المقدس فقد احترقت بما يكفي قبلاً لتحقيق الخلاص آلاف المرات، احترقت ولم يتبق شيئاً من أثري سوى... مكنستي. مكنستي التي احتفظت بها أمي في كوخنا الصغير، تحتضنها، تذرف الدمع السخين كلما اشتاقت لي، وتقدسها كإله ظناً بأن روحي تسكن بداخلها.
لازالت أمي تخبر الجميع بأنها تسمع هسيساً للمكنسة مع أوراق شجرة التين البنغالي كلما استيقظت صباحاً لتعجن خبز "البراتا" الشهي، وبأنها تكرر ذات أفعالي عندما أوبخ كلبنا المزعج الذي يوقظها من غفوة قيلولتها، ولا أحد يجادلها حين تصر على أن المكنسة تتحرك كالنحلة في الليل حيث يُذهل الجميع بنظافة منزلنا المدهشة في الصباح!
------------
سلمى صبحي
أقول ربما! فما هي إلا تكهنات تعبث بإنسانيتي التي تتضاءل هويتها يوماً بعد يوم، فالواقع الشاحب يبدو مثل صفعة مربكة، ويتناسى العابرون حقيقتي المطلقة إلا من رحم ربي. فمن ذا الذي يلتفت للمحمّصة جلودهم في الطرقات المتشربة برائحة الأتربة وعرق الشقاء إلا ما ندر؟ من أنضج اللهيب عظامهم، وغزاهم البرد، وتقاذفهم الهواء كغبار الطلع. الذين سحقتهم الظروف فأحالتهم إلى كائنات واهنة، لُفظت أجسادها في أزقة الحارات الضيقة، في الغرف الرطبة التي تجمع تنهدات العشرات أو المئات ممن افترشوا الأرض لنوم ساعة، وتأوهوا خلف أبواب الصبر المرهقة وفارقوا مرتع الحياة من أجل أفواه جائعة.
كنت أعتقد بأن الشمس التي تُفيق أهل قريتي لمزاولة نشاطهم في الحقول الخضراء، يغنون ويرقصون على أنغام شروقها حتى تثمر أشجار البابايا والمانجو، ويسقط شعاعها على وجوه النساء الجميلات فتنتصب سنابل القمح من حُسنهن، هي ذات الشمس في كل بقاع الأرض.
يا لسذاجتي!
فها هي تسطع ثائرة مغترة هنا بحرارتها دون رحمة، تشرب كل يوم جرعة من ماء شبابي حتى أصابني الهزال. بِت الآن هشاً كغصن شجرة عجفاء، جافاً كإناء فخاري قابل للكسر، لقد كبرت خمسين عاماً دفعة واحدة بعدد الأشهر التي تسلّمت فيها راتبي أو لم أتسلّمه.
لعل بضع جنيهات يجود بها بعض المارة تضمد حاجتي لشيء ما، للطعام مثلاً، فتأخذني إلى آفاق رفاهيتي لأشتري بها سندوتشات "البراتا" الساخنة والمحشوة بالجبن السائل اللذيذ، وأتناول شاي "الكرك" المهدئ للأعصاب وكل ذلك في يوم واحد. لكن! يزورني طيف أمي وحوالتي المالية التي تنتظرها بفارغ الصبر، فتشرع نفسي في معاتبتي، ويتبعني شبح الندم بعينين دائريتين تشبهان النقود المعدنية الصدئة، ولا ينفك يترصد لي حتى أتخلص منه بطلب الغفران وبتلاوة صلوات النجاة، فيتبخر أخيراً في الهواء.
عادة ما أنهمك في عملي، بل واستغرق استغراق العابد فيه لأتناسى تلك الأشباح المرعبة التي تلاحقني لأسباب مختلفة والكثير المرير مما يحدث لي. موحشة هي الغربة، مصاصة دماء، لا تذر الكثيرين على طبيعتهم البكر، تحوّلهم من حال إلى حال، تستهلك تفكيرهم، تُجهض إنسانيتهم، لا ينجو منها الضعفاء، والبقاء للأقوى!
بينما كنت أعمل على قارعة الطريق، إذا بعربة فخمة تقف قربي، يناديني سائقها، راجياً مني أن اقترب، ظننت أنه يريد الاستفسار عن شيء ما، وعندما اقتربت منه ناولني كيساً كبيراً وبينما تتحرك العربة صاح:
ارمه في سلة القمامة.
غادر مسرعاً مخلفاً وراءه سُحباً سامة من دخان يتشكل على هيئة شبح جديد... وغصة في حلقي!
تلاحقني الآن أشباح السيارات الفخمة، تستحيل أدخنتها إلى أفاعٍ تطاردني لتفرغ سمها ثم تتلوى وتنزوي هاربة، أو تعود لابتلاعي عندما تشعر بالجوع. حاولت أن أسابقها ذات مرة بسرعة الريح علّني أهرب منها، محاولة لا بأس بها لكنها تحولت إلى حماقة في اليوم الذي قررت أن أبرز فيه عنتريتي وأتحداها، طوقتني تلك الملعونة حتى كادت أن تسرق أنفاسي وتمحو اسمي من سجل الأحياء. لا أذكر كيف نجوت من هذه الحادثة سوى إني ركضت بعيداً عنها، لاهثاً، مستغيثاً في طريق ممتد إلى ما لا نهاية أو هكذا أحسبه من شدة الخوف والتعب وفي يدي... مكنسة!
المكنسة، رفيقتي الوفية التي لا غنى لي عنها، أنتم تربون قططاً وكلاباً وطيوراً وربما تماسيحاً لتأنسوا بها أو تتفاخرون باقتنائها وتتناسون أمثالها. كم أستأنس بها، فهي تمسح عني مشقة الأيام، وأهش بها على مخاوفي حين يتآكلني الصدأ، تدافع عني، وتدفع بأحلامي الصغيرة المسافرة لأطول مسافة ممكنة، آه كم اعشق الأحلام، يكفي أنها ليست مدفوعة الثمن!
وحين أكون منتشياً تراقصني كجنيّة في ليل مجنون، وقد تستحيل إلى آلة "سيتار" تحمل رسائلي وأغنياتي لحبيبتي "أناندا" حيث تعودنا اللقاء في "معابد خاجوراهو"، أو تثير مهرجاناً من ألوان نتراشق بها سوية في "عيد الهولي"... يغدو العالم بالألوان لي أنا وحبيبتي فقط.
لكن الألوان لا تثبت على حال، تختلط، تتغير، تجف، تختفي، أو يعريها الزمن فتتغطى الأرض بلون ترابي واحد. العالم الآن صحراوي تماماً إلا من نباتات صحراوية تقاوم القيظ، بضع جمال صابرة أو مواعز ضائعة ألتقيها في طريقي صدفة وهي تلهث من العطش، وأكياس قمامة تتوزع هنا وهناك. وها هي أعضائي تنحل مع الأيام عضواً، عضواً حتى عدت نطفة في رحم أمي.
أمي التي نسيت أن أذكر لها في رسالتي الأخيرة: ما من داعٍ لحرقي على ضفاف "نهر الغانج" المقدس فقد احترقت بما يكفي قبلاً لتحقيق الخلاص آلاف المرات، احترقت ولم يتبق شيئاً من أثري سوى... مكنستي. مكنستي التي احتفظت بها أمي في كوخنا الصغير، تحتضنها، تذرف الدمع السخين كلما اشتاقت لي، وتقدسها كإله ظناً بأن روحي تسكن بداخلها.
لازالت أمي تخبر الجميع بأنها تسمع هسيساً للمكنسة مع أوراق شجرة التين البنغالي كلما استيقظت صباحاً لتعجن خبز "البراتا" الشهي، وبأنها تكرر ذات أفعالي عندما أوبخ كلبنا المزعج الذي يوقظها من غفوة قيلولتها، ولا أحد يجادلها حين تصر على أن المكنسة تتحرك كالنحلة في الليل حيث يُذهل الجميع بنظافة منزلنا المدهشة في الصباح!
------------
سلمى صبحي