مع العصر، حيث تبدل السماء جلدها الأزرق لترتدي حلة الشفق الناري، تقلل العصافير الخفية زقزقتها. شوارع الأسفلت الممتدة من الشمال إلى الجنوب بلا نهاية تهمد كلسان بحري خنقته يابسة الجزر، يصبح المناخ ملتقى الموت والحياة. أغلب مشاكل النهار تكون قد بلغت نهايتها أو تأجل حلها إلى الغد، لتبدأ مشاكل الليل. وعلى جوانب الشارع الأسفلتي أبراج شاهقة لامعة، تعكس أشعة الشفق المتلألة في صمت غامض يثير الفضول حول من يقبعون الآن داخلها. إنهم آلاف من البشر، يفضلون هضم طعام الغداء. في هذه الساعة من العصر، تبدأ الطيور رحلة الأوبة إلى مألفها، ويخرج صبية للعب كرة القدم، لا هم ولا أحد غيرهم يكترث لذلك الرجل الغريب الذي يحاول قطع الأوتوستوراد بقدميه فقط. كما لا يلحظون حذائه الذي تطاير زوجاه كل إلى ناحية من نواحي الشارع. ولم يلاحظ أحد جمجمته المضرجة بالدماء، ولا جثته التي ترتعش لتتمكن من نفض الروح عنها إلى الفراغ بأسرع ما تقدر.
..ه..
ليس من الصعوبة وصف شعوري في مدينة أطأُ أرضها لأول مرة. من المطار إلى البرج خلف أوتوستوراد "ماجدوديان" الذي يقطع المدينة إلى نصفين؛ شرقي وغربي، ويمتد كالسكين على تورتة الزفاف ليقطع باقي أرض الدولة، وعلى جوانبه فروع شوارع وطرق جانبية، ومباني الجالية الهندية على الجانب الشرقي منه وقد انتصبت فوق أسقفها تماثيل للآلهة مخيفة الشكل.
..ه...
إنك كغريب لن تعاني في هذه المدينة، لأن الجميع على ما يبدو غرباء. إنك ستعاني كما يعانون، وستعتاد على تلك المعاناة، حتى تتبدد مع الزمن حين تصبح هويتك الملتصقة بوجهك. "إن الهويات حالة ذهنية" أقول ذلك لأتجاوز آلام الأسابيع الأولى في مدينة الغرباء أو "أن كانتوا" بلغة التاتستيريين أصحاب الجلود الشفافة، ذلك أنك لن تلتقي بهم كثيرًا في الواقع.
عندما ينخفض حضور الصحو العصري تحت ثقل الغروب، تضيء تلك الديناصورات العملاقة بالمصابيح الملونة، وتهبط برودة خفيفة فتزيد من كآبة "أن كانتوا"، وتسبح معها روائح القمامة التي تفوح من الصناديق الحديدية على الأطراف الخارجية للأزقة الساكنة.
من السيئ أن لا تمتلك من المال ما يسمح لك بدخول المقاهي الفاخرة، لأنك ستضطر للسير وحدك في شوارع ليس فيها وسيلة مواصلات عامة لأن كل من يقطنونها لديهم سيارات. ستضطر للسير دون إمكانية أن ترتاح في مقهى، إلا في مقاهي محطات البنزين الصغيرة ذات الخدمات ضعيفة الجودة. وعليك -حتى في تلك الحالة- أن تستعمل لغة الإشارة ليفهمك النادل الغريب بدوره.
مع تعدد الجنسيات لم تعد هناك لغة مشتركة بين قاطني مدينة الغرباء. المدينة التي بها أكبر سوق لتداول الأسهم في العالم. لكنه سوق لا مركزي. مجرد اسم وجنسية على الوثائق الثبوتية الرقمية فقط.
..ه..
هنا من المستحيل أن تغازل امرأة. ستكون تلك مخاطرة. عليك أن تحافظ على موقفك القانوني باستمرار. "عندما نمنحك الحرية والفرصة عليك أن تستعملهما بمسؤولية".
مدينة الغرباء هي منظومة.. سيستم رقمي ضخم. منظومة محكومة بقوة القانون، إذ لم تعد هناك من حكومة سياسية فجميع التاتستيريين يحكمون أنفسهم. التاتستيريون لا يشاهدهم أحد لذلك أطلق البعض عليهم أصحاب الجلود الشفافة، ويشعر جميع الغرباء بأنهم مراقبون من التاتستيريين أو كاميراتهم الرقمية لذلك تراهم حذرين في كل حركاتهم وسكناتهم.
..ه..
ثلاثة أحياء تضم جميع الجاليات ما عدا حي الهنود شرقي الأتوستوراد، وعلى أقصى الشمال هناك حي المجامع الوطنية حيث يقطن التاتستيريون، وهو أكبر الأحياء له سور ضخم يمتد ارتفاعه كالقلاع لعشرة أمتار، ولم ير أحد ما ما بداخله، إلا الخدم الذين تُسحب منهم جميع أوراقهم الثبوتية وتحفظ ليبقوا داخل المجامع بلا أي هوية. ربما يتعرضون للتعذيب، أو لانتهاك إنسانيتهم بشكل أو بآخر، لكن، لا أحد يعرف على وجه التحديد فلم يعد منهم أحد. إن إعلانات الوظائف تحدد مرتبات عالية لمن يقبل بالعمل داخل المجامع لأن من النادر أن يخاطر الغرباء بتجربة العمل فيه.
٠٠ه٠٠
"عندما نمنحك الحرية والفرصة عليك أن تستعملهما بمسؤولية"
هذا الشعار مكتوب في كل مكان. شعار مدينة "أن كانتوا" الذي يُعتمد عليه في تهديد الغرباء وفي توقيع عقوبة بشعة بمن ينتهك القانون..عقوبة واحدة فقط.
ففي منتصف الليل، انطلقت صافرات، كان رأس أحدهم يبرز من سور المجامع، ثم رمى بجسده من أعلى، ليقطع العشرة أمتار في ثلاث ثوانٍ.
أدرك الغرباء بأن هناك من فر من أصحاب الجلود الشفافة عندما ظهرت لوحة في السماء تصور لحظة الفرار وبرز مع اللوحة على الفور شعار المدينة: "عندما نمنحك الحرية والفرصة عليك أن تستعملهما بمسؤولية".
في مدينة الغرباء لا مكان لك للفرار. لقد أصبحت أكثر غربة بين الغرباء، إذ لن يقبل بك أحد، لن يقدم لك أحدهم شربة ماء تجنباً للمسؤولية، ولحماية حريته وفرصته. ستسير مشرداً ثم تنفق من الجوع والعطش واللا مأوى. إن القانون صارم جداً. لم يعرف أحد قصة الرجل، لم يتجرأ أي شخص ليقترب منه ناهيك عن سؤاله. لقد هام الرجل على وجهه.
حاول عبور الأتوستوراد وجسده محطم. كان العصر قد حلَّ دون أن يجرع شربة ماء واحدة، ومع العصر حيث تُبدل السماء جلدها الأزرق لترتدي حلة الشفق الناري، تقلل العصافير الخفية زقزقتها. شوارع الأسفلت الممتدة من الشمال إلى الجنوب بلا نهاية تهمد كلسان بحري خنقته يابسة الجزر، يصبح المناخ ملتقى الموت والحياة.
(تمت)
..ه..
ليس من الصعوبة وصف شعوري في مدينة أطأُ أرضها لأول مرة. من المطار إلى البرج خلف أوتوستوراد "ماجدوديان" الذي يقطع المدينة إلى نصفين؛ شرقي وغربي، ويمتد كالسكين على تورتة الزفاف ليقطع باقي أرض الدولة، وعلى جوانبه فروع شوارع وطرق جانبية، ومباني الجالية الهندية على الجانب الشرقي منه وقد انتصبت فوق أسقفها تماثيل للآلهة مخيفة الشكل.
..ه...
إنك كغريب لن تعاني في هذه المدينة، لأن الجميع على ما يبدو غرباء. إنك ستعاني كما يعانون، وستعتاد على تلك المعاناة، حتى تتبدد مع الزمن حين تصبح هويتك الملتصقة بوجهك. "إن الهويات حالة ذهنية" أقول ذلك لأتجاوز آلام الأسابيع الأولى في مدينة الغرباء أو "أن كانتوا" بلغة التاتستيريين أصحاب الجلود الشفافة، ذلك أنك لن تلتقي بهم كثيرًا في الواقع.
عندما ينخفض حضور الصحو العصري تحت ثقل الغروب، تضيء تلك الديناصورات العملاقة بالمصابيح الملونة، وتهبط برودة خفيفة فتزيد من كآبة "أن كانتوا"، وتسبح معها روائح القمامة التي تفوح من الصناديق الحديدية على الأطراف الخارجية للأزقة الساكنة.
من السيئ أن لا تمتلك من المال ما يسمح لك بدخول المقاهي الفاخرة، لأنك ستضطر للسير وحدك في شوارع ليس فيها وسيلة مواصلات عامة لأن كل من يقطنونها لديهم سيارات. ستضطر للسير دون إمكانية أن ترتاح في مقهى، إلا في مقاهي محطات البنزين الصغيرة ذات الخدمات ضعيفة الجودة. وعليك -حتى في تلك الحالة- أن تستعمل لغة الإشارة ليفهمك النادل الغريب بدوره.
مع تعدد الجنسيات لم تعد هناك لغة مشتركة بين قاطني مدينة الغرباء. المدينة التي بها أكبر سوق لتداول الأسهم في العالم. لكنه سوق لا مركزي. مجرد اسم وجنسية على الوثائق الثبوتية الرقمية فقط.
..ه..
هنا من المستحيل أن تغازل امرأة. ستكون تلك مخاطرة. عليك أن تحافظ على موقفك القانوني باستمرار. "عندما نمنحك الحرية والفرصة عليك أن تستعملهما بمسؤولية".
مدينة الغرباء هي منظومة.. سيستم رقمي ضخم. منظومة محكومة بقوة القانون، إذ لم تعد هناك من حكومة سياسية فجميع التاتستيريين يحكمون أنفسهم. التاتستيريون لا يشاهدهم أحد لذلك أطلق البعض عليهم أصحاب الجلود الشفافة، ويشعر جميع الغرباء بأنهم مراقبون من التاتستيريين أو كاميراتهم الرقمية لذلك تراهم حذرين في كل حركاتهم وسكناتهم.
..ه..
ثلاثة أحياء تضم جميع الجاليات ما عدا حي الهنود شرقي الأتوستوراد، وعلى أقصى الشمال هناك حي المجامع الوطنية حيث يقطن التاتستيريون، وهو أكبر الأحياء له سور ضخم يمتد ارتفاعه كالقلاع لعشرة أمتار، ولم ير أحد ما ما بداخله، إلا الخدم الذين تُسحب منهم جميع أوراقهم الثبوتية وتحفظ ليبقوا داخل المجامع بلا أي هوية. ربما يتعرضون للتعذيب، أو لانتهاك إنسانيتهم بشكل أو بآخر، لكن، لا أحد يعرف على وجه التحديد فلم يعد منهم أحد. إن إعلانات الوظائف تحدد مرتبات عالية لمن يقبل بالعمل داخل المجامع لأن من النادر أن يخاطر الغرباء بتجربة العمل فيه.
٠٠ه٠٠
"عندما نمنحك الحرية والفرصة عليك أن تستعملهما بمسؤولية"
هذا الشعار مكتوب في كل مكان. شعار مدينة "أن كانتوا" الذي يُعتمد عليه في تهديد الغرباء وفي توقيع عقوبة بشعة بمن ينتهك القانون..عقوبة واحدة فقط.
ففي منتصف الليل، انطلقت صافرات، كان رأس أحدهم يبرز من سور المجامع، ثم رمى بجسده من أعلى، ليقطع العشرة أمتار في ثلاث ثوانٍ.
أدرك الغرباء بأن هناك من فر من أصحاب الجلود الشفافة عندما ظهرت لوحة في السماء تصور لحظة الفرار وبرز مع اللوحة على الفور شعار المدينة: "عندما نمنحك الحرية والفرصة عليك أن تستعملهما بمسؤولية".
في مدينة الغرباء لا مكان لك للفرار. لقد أصبحت أكثر غربة بين الغرباء، إذ لن يقبل بك أحد، لن يقدم لك أحدهم شربة ماء تجنباً للمسؤولية، ولحماية حريته وفرصته. ستسير مشرداً ثم تنفق من الجوع والعطش واللا مأوى. إن القانون صارم جداً. لم يعرف أحد قصة الرجل، لم يتجرأ أي شخص ليقترب منه ناهيك عن سؤاله. لقد هام الرجل على وجهه.
حاول عبور الأتوستوراد وجسده محطم. كان العصر قد حلَّ دون أن يجرع شربة ماء واحدة، ومع العصر حيث تُبدل السماء جلدها الأزرق لترتدي حلة الشفق الناري، تقلل العصافير الخفية زقزقتها. شوارع الأسفلت الممتدة من الشمال إلى الجنوب بلا نهاية تهمد كلسان بحري خنقته يابسة الجزر، يصبح المناخ ملتقى الموت والحياة.
(تمت)